الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر خبر عمارة بيت المقدس بعد أن خرّبه بختنصّر وخبر الذى مرّ على قرية
قال الله عز وجل: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ «1»
…
الآية.
قال أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله: اختلفوا فى ذلك المارّ من كان، فقال عكرمة وقتادة والرّبيع بن أنس والضحّاك والسّدّىّ وناجية بن كعب وسليمان بن بريدة «2» وسلم الخوّاص: هو عزير بن شرخيا. وقال وهب بن منبّه وعبد الله بن عبيد ابن عمير: هو إرميا بن حلقيّا، وكان من سبط هارون بن عمران، وقد تقدّم ذكره.
قال: واختلفوا أيضا فى القرية التى مرّ عليها، فقال وهب وعكرمة وقتادة والربيع: هى بيت المقدس. وقال الضحّاك: هى الأرض المقدّسة. وقال ابن زيد:
هى الأرض التى أهلك الله تعالى بها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت. وقال الكلبىّ: هى دير سابرا باذ. وقال السّدّىّ: هى سلماباذ. وقيل:
هى ذيرهزقل «3» . وقيل: هى قرية العنب، وهى على فرسخين من بيت المقدس.
قال فالذى يقول: إن المارّ إرميا وإنّ القرية بيت المقدّس، هو ما رواه محمد ابن إسحاق بن يسار عن وهب بن منبّه: أنه لمّا كان من أمر إرميا ما قدّمناه، وأنه طار لمّا التهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبواب بيت المقدس حتى خالط إرميا الوحش ودخل بختنصّر وجنوده بيت المقدس وخرّب كما تقدّم. فلمّا رجع بختنصّر عن بيت المقدّس أقبل إرميا على حمار له معه عصير عنب فى ركوة «1» وسلّة تين حتى غشى إيلياء «2» . فلمّا وقف عليها ورأى خرابها قال:«أنّى يحيى هذه الله بعد موتها» !. قال: ثم ربط إرميا حماره بحبل جديد، فألقى الله تعالى عليه النوم، فلمّا نام نزع منه الرّوح مائة عام وأمات حماره، وعصيره وتينه عنده، وأعمى الله تعالى عنه العيون فلم يره أحد وذلك ضحى، ومنع الله السباع والطير لحمه. فلمّا مضى من نومه سبعون سنة أرسل الله عز وجل ملكا إلى ملك عظيم من ملوك فارس يقال له:«بوسك «3» » فقال له: إن الله عز وجل يأمرك أن تنفر بقومك فتعمّر بيت المقدس وإيلياء وأرضها حتى تعود أحسن ما كانت، فانتدب الملك ألف قهرمان مع كل قهرمان ثلاثمائة ألف عامل، فجعلوا يعمّرونها فعمّرت، ونجّى الله تعالى من بقى من بنى إسرائيل ولم يمت ببابل أحد منهم وردّهم الله تعالى إلى بيت المقدس وعمّروها ثلاثين سنة حتى كانوا كأحسن ما كانوا عليه؛ وذلك بعد أن خرّبت سبعين سنة. فلمّا مضت المائة سنة أحيا الله عز وجل منه عينيه وسائر جسده ميّت، ثم أحيا جسده وهو ينظر، ثم نظر إلى حماره فإذا عظامه متفرّقة بيض تلوح، فسمع صوتا من السماء: أيّتها العظام البالية إن الله
يأمرك أن تجتمعى، فاجتمع بعضها إلى بعض واتّصل بعضها ببعض. ثم نودى:
إن الله يأمرك أن تكتسى لحما وجلدا فكان كذلك. ثم نودى: إن الله يأمرك أن تحيا، فقام بإذن الله ونهق. وعمّر الله تعالى إرميا، فهو الذى يرى فى الفلوات؛ فذلك قوله تعالى: فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ
أى أحياه قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ
وذلك أن الله تعالى أماته ضحى فى أوّل النهار وأحياه بعد مائة عام فى آخر النهار قبل غيبوبة الشمس، فقال:«لبثت يوما» ، وهو يرى أن الشمس قد غربت، ثم التفت فرأى بقيّة من الشمس فقال:«أو بعض يوم» ، بمعنى بل بعض يوم قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ
يعنى التّين وَشَرابِكَ
يعنى العصير لَمْ يَتَسَنَّهْ
أى لم يتغيّر وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
«1» .
قال وهب: ليس فى الجنة كلب ولا حمار إلا كلب أصحاب أهل الكهف وحمار إرميا الذى أماته الله مائة عام ثم بعثه. هذا قول من قال إنه إرميا بن حلقيّا.
وأمّا من قال إنه عزير، فإنه يقول: إنّ بختنصّر لمّا خرّب بيت المقدس قتل أربعين ألفا من قرّاء التوراة والعلماء، وقتل منهم أبا عزير وحده. وكان عزير يومئذ غلاما قد قرأ التوراة وتقدّم فى العلم، وأقدمه بختنصّر مع بنى إسرائيل إلى أرض بابل، وهو من ولد هارون. فلمّا نجا عزير من بابل ارتحل على حمار حتى نزل على دير هزقل على شطّ دجلة، وطاف فى القرية فلم يرفيها أحدا، وعامّة شجرها حامل، فأكل من الفاكهة واعتصر من العنب وشرب منه، وجعل فضل الفاكهة
فى سلّة وفضل العصير فى زقّ. فلمّا رأى خراب القرية وهلاك أهلها قال: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها
الآية، وساق فيه نحو ما تقدّم فى خبر إرميا.
وقال قوم فى قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ
إنّ الله تعالى لم يمت حماره فأحيا الله تعالى عينيه ورأسه وسائر جسده ميّت فقال له: «أنظر الى حمارك» فنظر الى حماره قائما كهيئته يوم ربطه حيّا، لم يطعم ولم يشرب مائة عام، ونظر الى الرّمّة فى عنقه جديدة؛ وهذا قول الضحّاك وقتادة. وقال الآخرون: أراد عظام حماره كما تقدّم فى قصّة إرميا. وقوله تعالى: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ
أى عبرة ودلالة على البعث بعد الموت. وقال الضحّاك: وهو أنه عاد إلى قريته وأولاده وأولاد أولاده شيوخ وعجائز وهو أسود الرأس واللّحية.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: أحيا الله تعالى عزيرا بعد مائة سنة، فركب حماره حتى جاء محلّته «1» ، فأنكره الناس وأنكر الناس ومنازله، فانطلق على وهم حتى أتى منزله، وإذا هو بعجوز عمياء قد أتى عليها مائة وعشرون سنة، وكانت أمة لهم، فخرج عنهم عزير وهى ابنة عشرين سنة، وكانت قد عرفته وعقلته؛ فلما أصابها الكبر والزّمن «2» قال لها عزير: يا هذه، هذا منزل «3» عزير؟ قالت: نعم هذا منزل عزير وبكت وقالت: ما رأيت أحدا من كذا وكذا سنة يذكر عزيرا وقد نسيه الناس. قال: فإنى عزير. قالت: سبحان الله! فإنّ عزيرا قد فقدناه من مائة سنة. قال: فإنّى أنا عزير، إنّ الله أماتنى مائة سنة ثم بعثنى. قالت: فإن عزيرا كان رجلا مجاب الدعوة، يدعو للمريض وصاحب البلاء بالعافية والشفاء، فادع الله
يردّ علىّ بصرى حتى أراك، فإن كنت عزيرا عرفتك. فدعا ربّه تعالى فاستجاب له ومسح بيده على وجهها وعينيها فصحّتا، وأخذ بيدها وقال لها: قومى بإذن الله تعالى، فأطلق الله رجليها، فقامت صحيحة كأنما نشطت من عقال، فنظرت اليه فقالت: أشهد أنك عزير. فانطلقت إلى محلّة بنى إسرائيل وهم فى أنديتهم ومجالسهم وابن لعزير شيخ ابن مائة سنة وثمانية عشر سنة وبنو ابنه شيوخ فى المجالس، فنادت: هذا عزير قد قدم وجاءكم، فكذّبوها. فقالت: وأنا فلانة مولاتكم دعا لى ربّه فردّ الله علىّ عبنىّ وأطلق رجلىّ، وزعم أنّ الله أماته مائة عام ثم بعثه. فنهض الناس وأقبلوا إليه، فقال ابنه: إنه كان لأبى شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه، فكشف عن كتفيه وإذا هو عزير.
وأمّا خبر فتنة اليهود به وقولهم عزير ابن الله، فقد روى عطيّة العوفىّ عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كان عزير من أهل الكتاب، وكانت التوراة عندهم، فعملوا بها ما شاء الله تعالى أن يعملوا، ثم أضاعوها وعملوا بغير الحقّ، وكان التابوت فيهم. فلمّا رأى الله تعالى أنهم قد أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء رفع عنهم التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم، وأرسل عليهم مرضا، فاستطلقت بطونهم، حتى إنّ الرجل يمسّ كبده، حتى نسوا التوراة وفيهم عزير.
فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا بعد ما نسخت التوراة من صدورهم. وكان عزير دعا الله وابتهل إليه أن يردّ إليه الذى نسخ من صدورهم. فبينما هو يصلّى ويبتهل إلى الله تعالى إذ نزل نور من السماء فدخل فى جوفه، فعاد إليه الذى كان ذهب من التوراة، فأذّن فى قومه فقال: يا قوم، قد أتانى الله التوراة وردّها إلىّ، فطفق يعلّمهم، فمكثوا ما شاء الله وهو يعلّمهم. ثم إنّ التابوت نزل بعد ذلك. فلمّا رأوا
التابوت عرضوا ما كان فيه على الذى كان يعلّمهم عزير فوجدوه مثله، فقالوا:
والله ما أوتى عزير هذا إلّا وهو ابن الله.
وقال السّدّىّ وابن عبّاس فى رواية عمّار بن ياسر: إنما قالت اليهود هذا لأنّ العمالقة ظهرت عليهم فقتلوهم وأخذوا التوراة وهرب علماؤهم الذين بقوا ودفنوا التوراة فى الجبال وغيرها، ولحق عزير بالجبال والوحوش، وجعل يتعبّد فى رءوس الجبال ولا يخالط الناس ولا ينزل إلّا يوم عيد، وجعل يبكى ويقول: يا ربّ تركت بنى إسرائيل بغير عالم، فبكى حتى سقطت أشفار عينيه، فنزل مرّة الى العيد، فلمّا رجع إذا هو بامرأة قد تمثّلت له عند قبر من القبور تبكى وتقول: يا مطعماه، ويا كاسياه!. فقال لها عزير: يا هذه اتقى الله واصبرى واحتسبى، أما علمت أنّ الموت مكتوب على الناس!. وقال لها: ويحك! من كان يطعمك ويكسوك قبل هذا الرجل؟ (يعنى زوجها التى كانت تندبه) . قالت له: الله تعالى. قال: فإن الله تعالى حىّ لا يموت. فقالت: يا عزير، من كان يعلّم العلماء قبل بنى إسرائيل؟
قال: الله. قالت: فلم تبكى عليهم وقد علمت أنّ الموت حقّ وأن الله حىّ لم يمت.
فلمّا علم عزير أنه قد خصم ولّى مدبرا. فقالت له: يا عزير، لست بامرأة ولكنّى الدنيا. أما أنه ستنبع لك فى مصلّاك عين وتنبت لك شجرة، فكلّ من ثمرة تلك الشجرة واشرب من ماء تلك العين واغتسل وصلّ ركعتين؛ فإنه سيأتيك شيخ، فما أعطاك فخذ منه. فلمّا أصبح نبعت العين فى مصلّاه ونبتت الشجرة، ففعل ما أمرته به، وجاء شيخ وقال له: افتح فاك، ففتح فاه فألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة العظيمة مجتمعا كهيئة القوارير ثلاث مرّات، ثم قال له: ادخل هذه العين فامش فيها حتى تبلغ قومك. قال: فدخلها فجعل لا يرفع قدمه إلّا زيد فى علمه، فرجع إليهم وهو أعلم الناس بالتوراة. فقال: يا بنى إسرائيل، قد جئتكم بالتوراة. فقالوا:
يا عزير، ما كنت كذّابا. فربط على كلّ إصبع له قلما وكتب بأصابعه كلها حتى كتب التوراة كلّها عن ظهر قلبه، فأحيا لبنى إسرائيل التوراة وأحيا لهم السّنّة.
فلمّا رجع العلماء استخرجوا كتبهم التى كانوا دفنوها، فعارضوا بها توراة عزير فوجدوها مثلها، فقالوا: ما أعطاه الله تعالى هذا إلّا أنه ابنه.
وقال الكلبىّ: إنّ بختنصّر لمّا ظهر على بنى إسرائيل وهدم بيت المقدس وقتل مرّة قرّاء التوراة، كان عزير إذ ذاك غلاما صغيرا، فاستضعفه فلم يقتله، ولم يدر أنه يقرأ التوراة. فلمّا توفّى مائة سنة ورجعت بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس منهم من يقرأ التوراة بعث الله عز وجل عزيرا ليجدّد لهم التوراة ويكون لهم آية، فأتاهم فقال: أنا عزير. فكذّبوه وقالوا: إن كنت عزيرا كما تزعم فاتل علينا التوراة. فكتبها وقال: هذه التوراة. ثم إنّ رجلا قال: إنّ أبى حدّثنى عن جدّى أن التوراة جعلت فى خابية ثم دفنت فى كرم. فانطلقوا معه حتى احتفروها وأخرجوا التوراة، فعارضوها بما كتب عزير فلم يجدوه غادر منها [آية ولا «1» ] حرفا، فعجبوا وقالوا: إن الله لم يقذف التوراة فى قلب رجل واحد منّا بعد ما ذهبت من قلوبنا إلّا أنه ابنه؛ فعند ذلك قالت اليهود: عزير ابن الله.