الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر خلافة داود عليه السلام ونبوّته ومبعثه إلى بنى اسرائيل وما خصه الله عز وجل به
هو داود بن إيشى «1» بن عويل بن باعد بن سلمون بن يحسون بن عمى بن مارب ابن أرم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل- عليهم السلام قال الله تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ
«2» قال الكسائىّ: لمّا مات أشمويل تفرّق بنو إسرائيل واشتغلوا باللهو، فبعث الله تعالى داود- عليه السلام وأعطاه سبعين سطرا من الزّبور، وأعطاه حسن الصوت، فكان إذا سبّح سبّحت الجبال معه والطير والوحش؛ قال الله تعالى: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ* وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ
«3» أى مطيع، وقال أبو إسحاق الثعلبىّ: قالت العلماء بأخبار الأنبياء: لمّا استشهد طالوت أتى بنو إسرائيل إلى داود فأعطوه خزانة طالوت وملّكوه على أنفسهم، وذلك بعد قتل جالوت بسبع سنين، ولم يجتمع بنو إسرائيل بعد يوشع بن نون على ملك واحد إلّا على داود عليه السلام.
قال: وخصّ الله تعالى نبيّه داود بخصائص:
منها: أنه أنزل عليه الزّبور بالعبرانية خمسين ومائة سورة، فى خمسين منها ما يكون من بختنصر وأهل بابل؛ وفى خمسين ما يكون من أهل إبرون؛
وفى خمسين منها موعظة وحكمة؛ ولم يكن فيها حلال ولا حرام، ولا حدود ولا أحكام؛ وذلك قوله تعالى:(وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً «1» ) .
ومنها: الصوت الطيّب، والنغمة اللذيذة، والترجيع فى الألحان؛ ولم يعط الله تعالى أحدا من خلقه مثل صوته، فكان يقرأ الزّبور بسبعين لحنا بحيث يعرق المحموم ويفيق المغشىّ عليه.
وكان إذا قرأ الزبور برز إلى البرّيّة، فيقوم ويقرأ ويقوم معه علماء بنى إسرائيل خلفه، ويقوم الناس خلف العلماء، وتقوم الجنّ خلف الناس، وتقوم الشياطين خلف الجنّ، وتدنو الوحوش والسباع حتى تؤخذ بأعناقها، وتظلّه الطير مصيخة «2» ، ويركد الماء الجارى ويسكن الريح.
قال الثعلبىّ: وما صنعت المزامير والبرابط «3» والصّنوج إلّا على صوته، وذلك أنّ إبليس حسده واشتدّ عليه أمره، فقال لعفاريته: ترون ما دهاكم؟ فقالوا:
مرنا بما شئت. قال: فإنه لا يصرف الناس عن داود إلّا ما يضادّه ويحادّه «4» فى مثل حاله. فهيّأ المزامير والأعواد والأوتار والملاهى على أجناس أصوات داود- عليه السلام فسمعها سفهاء الناس فمالوا إليها واغترّوا بها.
ومنها: تسبيح الجبال والطير معه؛ قال الله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ «5» )
. وقوله تعالى: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ «6» )
. يقال: إن داود كان اذا تخلّل الجبال يسبّح الله تعالى جعلت الجبال
تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبّح. ثم قال فى نفسه ليلة من الليالى: لأعبدنّ الله عبادة لم يعبد مثلها، فصعد الجبل، فلمّا كان فى جوف الليل وهو على جبل داخلته وحشة، فأوحى الله إلى الجبال: أن آنسى داود، فاصطكّت الجبال بالتسبيح والتهليل. فقال داود فى نفسه: كيف يسمع صوتى مع هذه الأصوات؟ فهبط عليه ملك وأخذ بعضده حتى انتهى به إلى البحر، فوكزه برجله فانفرج له البحر، فانتهى إلى الأرض فوكزها برجله فانفرجت له الأرض، حتى انتهى إلى الحوت فوكزه برجله، فانتهى الى الصخرة، فوكز الصخرة برجله، فانفلقت فخرجت منها دودة تنشّ «1» ، فقال: إن الله تعالى يسمع نشيش هذه الدودة فى هذا الموضع. قال ابن عباس- رضى الله عنهما-: كان داود يفهم تسبيح الحجر والشجر والمدر.
ومنها: أن الله تعالى أكرمه بالحكمة وفصل الخطاب. قالوا: والحكمة:
الإصابة فى الأمور. واختلفوا فى فصل الخطاب، قال ابن عباس- رضى الله عنهما-: بيان الكلام. وقال ابن مسعود والحسن: المعنى علم الحكم والنظر فى القضاء، كان لا يتتعتع «2» فى القضاء بين الناس. وقال علىّ بن أبى طالب- رضى الله عنه-: هو البيّنة على المدّعى واليمين على المدّعى عليه. وقال كعب:
الشهود والأيمان. وقال الشعبىّ: سمعت زيادا يقول: فصل الخطاب الذى أعطى داود: أمّا بعد. قال الأستاذ: وهو أوّل من قالها.
ومنها: السلسلة التى أعطاه الله إيّاها، ليعرف المحقّ من المبطل فى المحاكمة إليه. قال الثعلبىّ: روى الضحّاك عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال:
إنّ الله تعالى أعطى داود سلسلة موصولة بالمجرّة والفلك، ورأسها عند محراب داود
حيث يتحاكم إليه، وكانت قوّتها قوّة الحديد، ولونها لون النار، وحلقها مستديرة، مفصّلة بالجوهر، مدسّرة بقضبان اللؤلؤ الرّطب، فلا يحدث فى الهواء حدث إلّا صلصلت السلسلة، فيعلم داود ذلك الحدث؛ ولا يلمسها ذو عاهة إلّا برىء، وكان علامة دخول قومه فى الدّين أن يمسّوها بأيديهم ويمسحوا بأكفّهم على صدورهم. وكانوا يتحاكمون إليه، فمن تعدّى على صاحبه أو أنكره حقا أتوا السلسلة، فمن كان صادقا محقّا مدّ يده إلى السلسلة فنالها، ومن كان كاذبا ظالما لم ينلها؛ فكانت كذلك إلى أن ظهر فيهم المكر والخديعة.
قال: فبلغنا أن بعض ملوكهم أودع رجلا جوهرة ثمينة، فلمّا استردّها منه أنكره ذلك، فتحا كما إلى السلسلة، فعلم الذى كانت عنده الجوهرة أن يده لا تنال السلسلة، فعمد إلى عكّازة فنقرها ثم ضمّنها الجوهرة واعتمد عليها حتى حضر معه غريمه «1» عند السلسلة، فقال لصاحبها: ما أعرف لك من وديعة، إن كنت صادقا فتناول السلسلة، فتناولها بيده وقال للمنكر: قم أنت أيضا فتناولها، فقال لصاحب الجوهرة: إلزم عكّازتى هذه حتى أتناول السلسلة. فأخذها وقام الرجل وقال:
اللهم إن كنت تعلم أنّ هذه الوديعة التى يدّعيها علىّ قد وصلت إليه فقرّب منّى السلسلة. فمدّ يده وتناولها، فشكّ القوم وتعجّبوا، فأصبحوا وقد رفع الله تلك السلسلة.
وقال الكسائىّ فى خبر السلسلة: أوحى الله تعالى إلى داود أن ينصب سلسلة من حديد ويعلّق فيها جرسا، ففعل ذلك؛ وساق فى خبرها نحو ما تقدّم فى أمر المحقّ والمبطل.
قال: وجاء خصمان فادّعى أحدهما على الآخر أنه أودعه جواهرا؛ فاعترف به وقال: أعدته إليه، فتقدّم المدّعى وتناول السلسلة فدنت منه حتى تناولها، ثم قال للمدّعى عليه: تناولها. وكان قد أخذ الوديعة فجعلها فى قناة مجوّفة، فناولها للمدّعى وقال: الزم عصاى هذه، ومدّ يده إلى السلسلة فدنت منه حتى كاد يتناولها؛ ثم ارتفعت وتدلّت إليه مرارا، ثم تناولها، فقال داود للمدّعى: لعلّ هذا قد سلّم وديعتك لأهلك. فرجع وسأل أهله، فقالوا: ما دفع إلينا شيئا. فعاد وأعلم داود، فأخذ داود القناة وشقّها، فطلعت الوديعة منها؛ وارتفعت السلسلة من ذلك اليوم.
قال الثعلبىّ: وكان عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- إذا اشتبه عليه أمر الخصمين قال: ما أحوجكما إلى سلسلة بنى إسرائيل؟ كانت تأخذ بعنق الظالم فتجرّه إلى الحق جرّا. والله أعلم بالصواب.
ومنها: القوّة فى العبادة وشدّة الاجتهاد؛ قال الله تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ
«1» ، أى القوّة فى العبادة إِنَّهُ أَوَّابٌ
أى توّاب مطيع مسبّح.
وكان داود يقوم الليل، ويصوم يوما ويفطر يوما، وما مرّت ساعة من الليل إلّا وفيها من آل داود قائم يصلّى، ولا يوم من الأيام إلّا وفيه منهم صائم.
ومنها: قوّة المملكة. قال الله تعالى: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ
«2» أى قوّيناه، وقرأ الحسن:(وشدّدنا ملكه) بالتشديد. قال ابن عباس: كان أشدّ ملوك الأرض سلطانا؛ كان يحرس محرابه كلّ ليلة ثلاثة وثلاثون ألف رجل. وقال السّدّىّ:
كان يحرسه فى كل يوم وليلة أربعة آلاف.
وروى عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن رجلا من بنى إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم عند داود؛ فقال المستعدى: إن هذا قد غصبنى بقرى «1» . فسأل داود الرجل فجحده، وسأل الآخر البيّنة فلم تكن له بيّنة، فقال لهما داود: قوما حتى أنظر فى أمركما. فقاما من عنده، فأوحى الله تعالى إلى داود فى منامه أن يقتل الذى استعدى عليه، فقال: هذه رؤيا [ولست أعجل حتى أتبيّن «2» ] فأوحى الله تعالى إليه مرّة ثانية أن يقتله [فقال: هذه رؤيا، فأوحى الله تعالى إليه مرة ثالثة أن يقتله «3» ] أو تأتيه العقوبة من الله. فأرسل داود إلى الرجل فقال: إن الله تعالى قد أوحى إلىّ أن أفتلك. فقال: تقتلنى بغير بيّنة ولا تثبّت؟. فقال نعم، والله لأنفّذنّ أمر الله فيك. فلمّا عرف الرجل أنه قاتله قال: لا تعجل حتى أخبرك، إنّى والله ما أخذت بهذا الذنب، ولكنّى [كنت «4» ] اغتلت والد «5» هذا فقتلته. فأمر به داود فقتل؛ فاشتدّت هيبته عند بنى إسرائيل واشتدّ ملكه.
ويقال: كان لداود إذا جلس للحكم عن يمينه ألف رجل من الأنبياء، وعن يساره ألف رجل من الأحبار.
ومنها: شدّة البطش. فروى أنه ما فرّ ولا انحاز من عدوّ له قطّ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح عن داود عليه السلام:«كان يصوم يوما ويفطر يوما «6» » .
ومنها: إلانة الحديد له. قال الله تعالى: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ
«1» . قالوا: وكان سبب ذلك أنّ داود- عليه السلام لمّا ملك أمر بنى إسرائيل، كان من عادته أن يخرج للناس متنكّرا، فإذا رأى رجلا لا يعرفه تقدّم إليه وسأله، فيقول له: ما تقول فى داود واليكم هذا؟ أىّ رجل هو؟ فيثنون عليه ويقولون خيرا؛ فبينما هو ذات يوم إذ قيّض الله له ملكا فى صورة آدمىّ، فتقدّم داود إليه، فسأله على عادته، فقال له: نعم الرجل هو لولا خصلة فيه. فراع داود ذلك، فقال: ما هى يا عبد الله؟ قال: إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال.
قال: فتنبّه داود لذلك، وسأل الله تعالى أن يسبّب له سببا يستغنى به عن بيت المال، فألان الله له الحديد، فصار فى يده مثل الشّمع والعجين والطّين المبلول، فكان يصرّفه بيده كيف شاء من غير إدخال نار ولا ضرب بحديد.
وعلّمه الله تعالى صنعة الدروع فهو أوّل من اتّخذها وكانت قبل ذلك صفائح.
وقيل: إنه كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف، فيأكل ويطعم عياله ويتصدّق منها على الفقراء والمساكين، وذلك قوله تعالى: وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ
«2» الآية. وقوله: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ
أى دروعا كوامل واسعات وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ
، أى لا تجعل المسامير دقاقا فتنفلق، ولا غلاظا فتكسر الحلق.
فكان يفعل ذلك حتى جمع منه مالا.
وروى أنّ لقمان الحكيم رأى داود وهو يعمل الدّروع، فعجب من ذلك ولم يدر ما هو؟ فأراد أن يسأله، فسكت حتى فرغ داود من نسج الدروع، فقام وصبّها على نفسه وقال: نعم القميص هذا للرجل المحارب. فعلم لقمان ما يراد به، فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله. والله أعلم.