الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعروقا، فكانت أجسادا، ثم نادى: أيتها الأرواح، إنّ الله تعالى يأمرك أن تعودى فى أجسادك. فقاموا جميعا عليهم ثيابهم التى كانوا فيها، وكبّروا تكبيرة واحدة.
قال: وزعم منصور بن المعتمر عن مجاهد أنهم قالوا حين أحيوا: سبحانك ربّنا وبحمدك لا إله إلا أنت، فرجعوا إلى قومهم بعد ما أحياهم الله- عز وجل وعاشوا دهرا يعرفون أنهم كانوا أمواتا، سحنة الموت على وجوههم، لا يلبسون ثوبا إلا عاد رميما مثل الكفن، حتى ماتوا لآجالهم التى كتب الله لهم. وقال ابن عباس- رضى الله عنهما- فإنها لتوجد اليوم فى ذلك السّبط من اليهود تلك الريح.
قال قتادة: مقتهم الله- عز وجل على فرارهم من الموت فأماتهم عقوبة لهم، ثم بعثهم إلى بقيّة آجالهم ليستوفوها، ولو كانت آجال القوم جاءت ما بعثوا بعد موتهم. فلمّا أحياهم الله- عز وجل قال: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
«1» . ثم تلا الثعلبىّ هذه القصّة بقصّة إلياس؛ وذكرها الكسائىّ تلو قصّة العيزار. والله الموفق للصواب.
ذكر خبر إلياس عليه السلام
قال الله عز وجل: وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
«2» . قال الكسائىّ- رحمه الله تعالى- قال كعب «3» : لمّا ولد إلياس- عليه السلام ونسبه أنه إلياس ابن سباسبا «4» بن العيزار بن هارون. قال: وأمّه صفّوريّة، وجدّته أمّ أبيه
صفّوريّة «1» بنت موسى بن عمران- عليه السلام ظهر ليلة مولده أنوار أضاءت منها محاريب بنى إسرائيل. فلما نظرت ملوك بنى اسرائيل ذلك علموا أنه قد حدث حادث، فتعرّفوا الخبر، فقيل لهم: ولد مولود من ولد هارون ابن عمران.
قال: وكان إلياس على صورة موسى وقوّته، ونشأ أحسن نشأة.
وبنو إسرائيل يقولون: هذا الذى بشّرنا به العيزار، أن الله يهلك الملوك والجبابرة على يديه.
قال: فلمّا بلغ سبع سنين- وكان يحفظ التوراة- قال: يا بنى إسرائيل، إنى أريكم من نفسى عجبا. فصاح بهم صيحة انتشرت فيهم فأرعبت قلوبهم. فلما سكنت روعتهم همّوا بقتله، وقال بعضهم: هو ساحر، فهرب منهم وصعد إلى جبل وهم يتبعونه. فلمّا قربوا منه انفرج له الجبل فدخل فيه، وانصرف القوم.
فنمى الخبر إلى بعض ملوكهم فعذّبهم، ثم انفرج الجبل، وأقام إلياس به يأكل من المباحات حتى استكمل أربعين سنة، والناس قد أخذوا فى عبادة الأصنام وخاضوا فى المعاصى، فبعثه الله تعالى نبيّا ورسولا، وجاءه جبريل بالوحى، وأمره عن الله تعالى أن يتوجّه إلى الملوك والجبابرة الذين يعبدون الأصنام ويدعوهم إلى طاعة الله تعالى وعبادته، وأن يرسلوا معه بنى إسرائيل وأعطاه القوّة، وأمر النار والجبال والوحش بطاعته. فانطلق إلياس إليهم وهم فى سبعين قرية، كلّ قرية منها مدينة، فى كلّ مدينة جبّار يسوسهم، وكلّهم يعبدون صنما يدعى «بعلا» وهو على صورة امرأة، فصار إلياس إلى قرية من قراهم، وكان فيها ملك يقال له
«آجاب» «1» ، فوقف بالقرب من قصره، وقرأ التوراة بأطيب نغمة، فسمعه الملك، فقال لامرأته: ألا تسمعين؟ ما أطيب هذا الصوت! فقامت المرأة إليه وأشرفت عليه من أعلى القصر وسألته عن حاله وخبره، فأخبرها أنه رسول الله. قالت:
وما حجّتك على دعواك؟ فاستدعى النار فجاءت إليه وشهدت بنبوّته وصدّقته، فأخبرت المرأة زوجها بما رأت منه، فجاء إليه وآمن به هو وامرأته، وأوصاه بالصبر والجهاد، وانصرف إلياس. حتى إذا كان يوم اجتماع القوم وقد خرجوا بزينتهم ونصبوا صنمهم بعلا وقف عليهم ودعاهم إلى الإيمان، فقال فيما أخبر الله تعالى به عنه: وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ* أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ «2» * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ
«3» . فقالوا له: من أنت؟
فقال: أنسيتمونى بعد أن كنت فيكم ومعكم! أنا إلياس. فحثوا فى وجهه التراب ورموه بالحجارة من كلّ جانب. وكان ملكهم الأكبر يقال له «عاميل» ، فأمر بزيت فغلى فى قدر نحاس وقال لإلياس «4» : إن رجعت وإلّا طرحتك فيه!. فقال:
أنا وحيد فى أرضكم، فريد فى جمعكم، ولكنّى أريكم آية تدلّ على صدق دعواى أنّى رسول الله إليكم. فقال له الملك نعم. فقال إلياس: أيّتها النار اخمدى
بإذن الله تعالى، فخمدت وسكن غليان الزيت، فعجب الناس من ذلك.
قال الملك: قد أتيت بحجّة، ولكن أمهلنا يومنا لننظر فى أمرك. ففارقهم وأتاهم من الغد ودعاهم، فجمع الملك ملوك قومه وعلماءهم وقال: ما تقولون فى هذا الرجل؟ فقال العلماء: إنّا نرى فى التوراة صفة هذا الرجل أنّه يبعث نبيّا تسخّر له النار والأسود والجبال، وأنه لا يسمع أحد صوته إلّا ذلّ وخضع له. فقال بعض علمائهم: أيها الملك، كذب هؤلاء فيما ذكروه، وهذا ساحر، فلا يهولنّك أمره.
فبسط العذاب على أولئك النفر، فاشتدّ ذلك على إلياس، وخالفه الملك «آجاب» الذى كان قد آمن به؛ ففارقته زوجته ولحقت بإلياس؟ وكانت من الصالحات.
قال: واتّخذ إلياس عريشا بالقرب من قصر الملك «عاميل» ، فأشرفت امرأة عاميل عليه فى بعض الليالى وهو يعبد الله تعالى، فنظرت الى عمود من نور من لدن العريش فى السماء، فآمنت ولحقت به، فأمر زوجها أن تلقى فى النار، فألقيت فيها، فدعا إلياس- عليه السلام الله تعالى لها، فلم تعمل النار فيها شيئا، فأطلقها الملك، فلحقت بإلياس. ثم مات ولد لعاميل الملك فجزع عليه وتضرّع إلى صنمه فلم يغن عنه شيئا، فغضب وقال لإلياس: إن ابنى قد مات وعجز إلهى عن إحيائه، فهل تقدر أن تحييه؟ فقال: هذا على ربّى هيّن، ودعا الله تعالى، فقام الغلام يشهد أن لا إله إلا الله، وأن إلياس عبده ورسوله، فآمن الملك وخرج عن الملك وتبع إلياس ولبس الصوف وعبد الله تعالى حتى مات، وماتت زوجته وابنه.
واستمرّ القوم فى ضلالهم وكفرهم ما شاء الله، وإلياس يدعوهم فلا يجيبونه، فأوحى الله تعالى إليه أن ادعهم وأنذرهم، فإن آمنوا وإلّا حبست عنهم الغيث وابتليتهم.
بالقحط. فدعاهم فقالوا: إنّا لا نؤمن بك ولا بربّك، فاصنع ما أنت صانع.
فحبس الله- عز وجل عنهم المطر، وغارت العيون وجفّت الأشجار، فأكلوا
ما عندهم حتى نفد، ثم أكلوا المواشى حتى أكلوا الكلاب والسنانير والفيران، وبلغ بهم الجوع حتى كانوا يأكلون من مات منهم، وإلياس بينهم وهم لا يرونه، ويدعونه وهو لا يجيبهم، وكان الله تعالى قد جعل أمر أرزاقهم إليه، فأوحى الله إليه أن السماء والأرض ومن عليها قد بكت على هؤلاء، وقد هلك كثير من خلقى بسببهم، وكلّ يدعوك ولا ترحمهم، فأنصف خلقى يا إلياس، فإنى أعصى فأرزق، وأكفر فأحلم. ففزع إلياس وقال: يا ربّ ما غضبت إلّا لك، وأنت أعلم بمصالح عبادك.
فأوحى الله اليه أن سر إليهم وادعهم، فإن آمنوا وإلّا كنت أرأف بهم منك.
قال: فانطلق إلياس حتى صار إلى أوّل قرية من قرى مدينتهم، فمرّ بعجوز فقال لها: هل عندك طعام؟ فقالت: وحقّ إلهى بعل ما ذقت الخبز منذ مدّة. قال:
فهلّا تؤمنين بالله! فقالت: إنّ ابنى اليسع على دين إلياس، ولا أراه ينتفع به وقد أشرف على الموت من الجوع. فقال له إلياس: يا اليسع، أتحبّ أن تأكل الخبز؟
فصاح: كيف لى بالخبز! ومات؛ فبكت العجوز ولطمت. فقال لها: إن أحياه الله وجاءك بما تأكلين أتؤمنين بالله؟ قالت نعم. فدعا الله تعالى، فقام اليسع وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن إلياس رسول الله، ورزقهم الله تعالى خبزا ولبنا، فأكلوا، وآمنت العجوز، وخرجت تنذر قومها، فخنقوها فماتت، فاغتمّ اليسع لذلك.
فقال له إلياس: إن الله سيحييها ويجعلكما آية لقومكما. وخرج إلياس إلى قومه وقد اجتمعوا عليها يريدون أكلها؛ فصاح بهم، فتفرّقوا عنها وقالوا: إنك أنت إلياس حقّا، فدعا الله تعالى فأحياها، فأقبل القوم عليه وقالوا: ألا ترى ما نحن فيه منذ سبع سنين! قال: فهلّا دعوتم صنمكم بعلا ليكشف عنكم! قالوا: قد دعوناه فلم يغن شيئا. قال: فإن أغاثكم الله تعالى أتؤمنون؟ قالوا نعم. فسأل الله تعالى فأمطرهم، وجرت أنهارهم وأنبتت أرضهم، وأحيا الله من مات منهم من الجوع،
فازدادوا كفرّا وعتوّا، فحذّرهم إلياس وأنذرهم وذكّرهم بنعمة الله عليهم. فقالوا:
إنّ القحط قد ارتفع عنّا وهيهات أن يعود أبدا، وإن عاد فلا نبالى، قد جمعنا فى منازلنا ما يكفينا زمنا طويلا. فدعا الله عليهم واعتزلهم، وقال: قد بلّغت الرسالة وأنك لا حق بالملائكة. فاستخلف اليسع على المؤمنين «1» ؛ فقال اليسع: يا نبىّ الله، إنى ضعيف بين قوم كافرين. فأوحى الله تعالى الى اليسع بذلك، وخرج إلياس عن ديار قومه فى يوم جمعة، فإذا هو بفرس يلتهب نورا، وله أجنحة ملوّنة، فناداه:
أقبل يا نبىّ الله. فاستوى على ظهره، وجاءه جبريل فقال: يا إلياس طرمع الملائكة حيث شئت، فقد كساك الله الريش، وقطع عنك لذّة المطعم والمشرب وجعلك آدميّا ملكيّا سماويّا أرضيّا.
قال: ونشر الفرس أجنحته فهو يطير مع الملائكة. ثم أرسل الله- عز وجل العذاب على قومه، فأحدقت بهم سحابة من جهنّم، واعتزلهم المؤمنون، فأحدقت السحابة بالكفرة، فأمطرت عليهم حجارة من العذاب. قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ
«2» . قال: ثم انكشفت عن ديارهم وقد صاروا حمما سودا؛ قال الله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ
«3» .
قال: وأقام اليسع مع بنى إسرائيل حتى قبضة الله تعالى.
هذا ما أورده الكسائىّ فى أخبار إلياس واليسع عليهما السلام.
وأمّا ما حكاه الثعلبىّ- رحمه الله فى هذه القصة، فإنه قال:
قال ابن إسحاق والعلماء من أصحاب الأخبار: لمّا قبض الله حزقيل النبىّ- عليه السلام عظمت الأحداث فى بنى إسرائيل وظهر فيهم الفساد، ونسوا عهد الله تعالى إليهم فى التوراة حتى نصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله- عز وجل فبعث الله تعالى اليهم إلياس نبيّا. قال الثعلبىّ: وهو إلياس ابن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون عليه السلام.
قال: وإنما كانت الأنبياء بعد موسى- عليه السلام يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا وضيّعوا من أحكام التوراة، وبنو إسرائيل يومئذ متفرّقون فى أرض الشأم وفيهم ملوك كثيرة. وذلك أن يوشع لمّا فتح أرض الشأم بوّأها بنى إسرائيل وقسمها بينهم، فأحلّ سبطا منهم بعلبكّ ونواحيها، وهم سبط إلياس، فبعثه الله تعالى إليهم نبيّا، وعليهم يومئذ ملك يقال له «آجاب» «1» قد أضلّ قومه وجبرهم على عبادة الأصنام، وكان يعبد هو وقومه صنما يقال له «بعل» وكان طوله عشرين ذراعا، وكانت له أربعة وجوه، فجعل إلياس يدعوهم إلى عبادة الله تعالى وهم فى ذلك لا يسمعون منه شيئا إلّا ما كان من أمر الملك الذى كان ببعلبكّ فإنه صدّقه وآمن به، وكان إلياس- عليه السلام يقوّم أمره ويسدّده ويرشده، وكان لآجاب الملك هذا امرأة يقال لها «أرايل «2» » ، وكان يستخلفها على رعيّته إذا غاب عنهم فى غزاة
أو غيرها، فكانت تبرز للناس كما يبرز زوجها وتركب كما يركب، وتجلس فى مجلس القضاء فتقضى بين الناس، وكانت قتّالة للانبياء، وكان لها كاتب وهو مؤمن حكيم يكتمها إيمانه، وكان الكاتب قد خلّص من يدها ثلاثمائة نبىّ كانت تريد قتل كلّ واحد منهم إذا بعث، سوى الذين قتلتهم ممن يكثر عددهم؛ وكانت فى نفسها غير محصنة ولم يكن على وجه الأرض أفحش منها، وهى مع ذلك قد تزوّجت سبعة ملوك من ملوك بنى إسرائيل وقتلتهم كلّهم بالاغتيال؛ وكانت معمّرة حتى يقال: إنها ولدت سبعين ولدا. وكان لآجاب هذا جار من بنى إسرائيل رجل صالح يقال له «مزدكى» وكانت له جنينة يعيش منها ويقبل على عمارتها ومرمّتها، وكانت الجنينة إلى جانب قصر الملك وامرأته، فكانا يشرفان على تلك الجنينة ويتنزّهان فيها، ويأكلان ويشربان ويقيلان فيها، وكان «آجاب» فى ذلك يحسن جوار «مزدكى» صاحبها ويحسن إليه، وامرأته «أرايل» تحسده على ذلك لأجل تلك الجنينة، وتحتال فى أن تغتصبها منه لمّا تسمع الناس يذكرون»
الجنينة، ويتعجّبون من حسنها ويقولون: ما أحرى أن تكون هذه الجنينة لأهل هذا القصر، ويتعجّبون من الملك وامرأته كيف لم يغصباها صاحبها. فلم تزل المرأة تحتال على العبد الصالح «مزدكى» أن تقتله وتأخذ جنينته، والملك ينهاها عن ذلك. ثم اتفق خروج الملك إلى سفر بعيد وطالت غيبته، فاغتنمت المرأة غيبة الملك واحتالت على «مزدكى» صاحب الجنينة، وهو غافل عما تريد مقبل على عبادة ربه وإصلاح جنينته، فجمعت «أرايل» جمعا من الناس وأمرتهم أن يشهدوا على «مزدكى» أنه سبّ زوجها الملك «آجاب» ، فأجابوها إلى ملتمسها من الشهادة عليه، وكان حكمهم فى ذلك
الزمان على من سبّ الملك القتل إذا قامت البيّنة عليه بذلك. فأحضرت «مزدكى» وقالت: بلغنى أنك سببت الملك وعبته، فأنكر ذلك. فقالت: إنّ عليك شهودا، وأحضرت الشهود فشهدوا عليه بحضرة الناس، فأمرت بقتل «مزدكى» ، فقتل وأخذت جنينته غصبا، فغضب الله- عز وجل عليهم للعبد الصالح. فلمّا قدم الملك من سفره قال لها: ما وفّقت وما أصبت، ولا أرانا نفلح بعده أبدا، وإن كنّا عن جنينته لأغنياء، قد كنّا نتنزّه فيها، وقد جاورنا وتحرّم بنا منذ زمان طويل، فأحسنّا جواره، وكففنا عنه الأذى لوجوب حقّه علينا، فختمت أمره بأسوأ حال الجوار. وما حملك على اجترائك عليه إلّا سفهك وسوء رأيك وقلّة عقلك وقلّة تفكّرك فى العواقب. فقالت: إنما غضبت لك وحكمت بحكمك. قال: أو ما كان يسعه حلمك ويحدوك عظم خطرك على العفو عن رجل واحد فتحفظين له جواره!.
قالت: قد كان ما كان.
فبعث الله تعالى إلياس- عليه السلام إلى «اجاب» الملك وقومه، وأمره أن يخبرهم أنّ الله تعالى قد غضب لوليّه حين قتلوه بين أظهرهم ظلما، وآلى على نفسه أنهما إن لم يتوبا عن صنيعهما ولم يردّا الجنينة على ورتة «مزدكى» أن يهلكهما، يعنى «آجاب» وامرأته، فى جوف الجنينة أشرّ ما يكون بسفك دمهما، ثم يدعهما جيفتين ملقاتين فيها حتى تتعرّى عظامهما من لحومهما، ولا يمتّعان بها إلا قليلا.
قال: فجاء إلياس- عليه السلام إلى الملك وأخبره بما أوحى الله- عز وجل إليه فى أمره وأمر امرأته والجنينة. فلمّا سمع الملك ذلك اشتدّ غضبه عليه، ثم قال له: يا إلياس، والله ما أرى ما تدعونا إليه إلّا باطلا، والله ما أرى فلانا وفلانا- سمّى ملوكا منهم قد عبدوا الأوثان- إلّا على مثل ما نحن عليه، يأكلون ويشربون
ويتنعّمون مملّكين، ما ينقص من دنياهم أمرهم الذى تزعم أنه باطل، وما نرى لنا عليهم من فضل.
قال: وهمّ الملك بتعذيب إلياس وقتله. فلمّا سمع إلياس- عليه السلام ذلك وأحسّ بالشّر، رفضه وخرج عنه. فلحق بشواهق الجبال، ودعا الملك «1» الناس إلى عبادة بعل، وارتقى إلياس- عليه السلام أصعب جبل وأشمخه، فدخل مغارة فيه. فيقال: إنه بقى فيه سبع سنين شريدا طريدا خائفا، يأوى الشّعاب والكهوف، ويأكل من نبات الأرض وثمار الشجر وهم فى طلبه قد وضعوا عليه العيون يتوكّفون «2» أخباره ويجتهدون فى أخذه، والله تعالى يستره ويدفع عنه. فلمّا تمّت له سبع سنين أذن الله تعالى فى إظهاره عليهم، وشفا غيظه منهم، فأمرض الله تعالى ابنا لآجاب الملك وكان أحبّ ولده إليه وأعزّهم عليه وأشبههم به، فأدنف «3» حتى يئس منه، فدعا صنمه بعلا؛ وكانوا قد فتنوا به وعظّموه حتى «4» جعلوا له أربعمائة سادن وكّلوهم به وجعلوهم أنبياءه، وكان الشيطان يوسوس إليهم بشريعة من الضلالة، فيبيّنونها للناس فيعملون بها، ويسمّونهم الأنبياء. فلمّا اشتدّ مرض ابن الملك طلب إليهم أن يشفعوا إلى بعل، ويطلبوا لابنه من قبله الشفاء والعافية، فدعوه فلم يجبهم، ومنع الله تعالى بقدرته الشيطان عن صنمهم فلم يمكنه الولوج فى جوفه، وهم مجتهدون فى التضرّع إليه، وهو لا يزداد مع ذلك إلّا خمودا «5» . فلمّا طال عليهم ذلك قالوا لآجاب: إن فى ناحية الشأم آلهة أخرى، وهى
فى العظم مثل إلهك، فابعث إليها أنبياءك فليشفعوا لك إليها، فلعلها أن تشفع لك إلى إلهك بعل فإنه غضبان عليك، ولولا غضبه عليك لقد كان أجابك وشفى لك ابنك.
قال آجاب: ومن أجل ماذا غضب علىّ وأنا أطيعه وأطلب رضاه منذ كنت لم أسخطه ساعة قطّ؟ قالوا: من أجل أنّك لم تقتل إلياس وفرّطت فيه حتى نجا سليما وهو كافر بإلهك يعبد غيره، فذلك الذى أغضبه عليك. قال آجاب:
وكيف لى أن أقتل إلياس يومى هذا وأنا مشغول عن طلبه بوجع ابنى وليس لإلياس مطلب، ولا يعرف له موضع فيقصد، فلو عوفى ابنى لتفرّغت لطلبه، ولم يكن لى همّ ولا شغل غيره حتى آخذه فأقتله فأريح إلهى منه وأرضيه.
قال: ثم اندفعت أنبياؤه الأربعمائة ليشفعوا الى إلأرباب التى بالشأم ويسألوها أن تشفع إلى صنم الملك ليشفى ابنه، فانطلقوا حتى إذا كانوا بحيال الجبل الذى فيه إلياس أوحى الله- عز وجل إلى إلياس أن يهبط من الجبل ويعارضهم ويستوقفهم ويكلّمهم، وقال له: لا تخف فإنّى سأصرف عنك شرّهم، وألقى الرعب فى قلوبهم.
فنزل إلياس- عليه السلام من الجبل، فلمّا لقيهم استوقفهم فوقفوا، وقال لهم: إنّ الله- عز وجل أرسلنى إليكم وإلى من وراءكم، فاستمعوا أيّها القوم رسالة ربكم لتبلغوا صاحبكم، فارجعوا إليه وقولوا له: إنّ الله تعالى يقول لك:
ألست تعلم يا آجاب أنّى أنا الله لا إله إلّا أنا إله بنى إسرائيل الذى خلقهم ورزقهم وأحياهم وأماتهم، أفجهلك وقلّة علمك حملك على أن تشرك بى وتطلب الشفاء لابنك من غيرى ممن لا يملكون لأنفسهم شيئا إلّا ما شئت. إنى حلفت باسمى لأغيظنّك فى ابنك ولأميتنّه فى فوره هذا حتى تعلم أنّ أحدا لا يملك له شيئا دونى.
فلمّا قال لهم إلياس هذا رجعوا وقد ملئوا منه رعبا. فلمّا صاروا إلى الملك قالوا له ذلك، وأخبروه أنّ إلياس انحطّ عليهم، وهو رجل نحيف طوال قد قشف
وقحل «1» وتمعّط «2» شعره وتقشّر «3» جلده، عليه جبّة من شعر وعباءة قد خلّها «4» على صدره بخلال، فاستوقفنا، فلمّا صار معنا قذفت فى قلوبنا الهيبة والرّعب، وانقطعت ألسنتنا، ونحن فى هذا العدد الكثير وهو واحد، فلم نقدر على أن نكلّمه ونراجعه ونملأ أعيننا منه حتى رجعنا إليك، وقصّوا عليه كلام إلياس عليه السلام. فقال آجاب: لا ننتفع بالحياة ما دام إلياس حيّا. ما الذى منعكم أن تبطشوا به حين لقيتموه وتوثقوه وتأتونى به، وأنتم تعلمون أنه طلبتى وعدوّى. قالوا: أخبرناك بالذى منعنا منه ومن كلامه والبطش به. قال آجاب: ما يطاق إدا إلياس إلّا بالمكر والخديعة. فقيّض له خمسين رجلا من قومه ذوى قوّة وبأس، وعهد إليهم عهده، وأمرهم بالاحتيال له والاغتيال به «5» وأن يطمعوه فى أنهم قد آمنوا به هم ومن وراءهم، ليستنيم إليهم ويغترّ بهم، فيمكّنهم من نفسه، فيأتوا به الملك. فانطلقوا حتى ارتقوا ذلك الجبل الذى فيه إلياس- عليه السلام ثم تفرّقوا [فيه] «6» وهم ينادونه بأعلى أصواتهم ويقولون: يا نبىّ الله، ابرز لنا وأنت آمن على نفسك [فإنا قد آمنا بك وصدّقناك، وملكنا آجاب «7» ]، وجميع بنى إسرائيل يقرءون عليك السلام ويقولون:
قد بلّغتنا رسالة ربّك، وعرفنا ما قلت، وآمنّا بك، وأجبناك إلى ما دعوتنا، فهلمّ إلينا فأنت نبيّنا ورسول ربّنا، [فأقم «8» ] بين أظهرنا واحكم فينا؛ فإنّا ننقاد لما أمرتنا، وننتهى عمّا نهيتنا، وليس يسعك أن تتخلّف عنّا مع إيماننا وطاعتنا، فتداركنا وارجع إلينا. وكلّ هذا كان منهم مما كرة وخديعة. فلمّا سمع إلياس- عليه
السلام- مقالتهم وقعت بقلبه وطمع فى إيمانهم وخاف الله تعالى وأشفق من سخطه إن هو لم يظهر لهم ولم يجبهم بعد الذى سمع منهم. فلمّا أجمع على أن يبرز لهم رجع إلى نفسه فقال: لو أنّى دعوت الله- عز وجل وسألته أن يعلمنى ما فى أنفسهم ويطلعنى على حقيقة أمرهم. فقال: اللهمّ إن كانوا صادقين فيما يقولون فأذن لى فى البروز إليهم، وإن كانوا كاذبين فاكفنيهم وارمهم بنار تحرقهم.
فما استتمّ قوله حتى حصبوا «1» بالنار من فوقهم، فاحترقوا أجمعين.
قال: وبلغ آجاب الخبر فلم يرتدع، واحتال ثانيا فى أمر إلياس، وجهّز فئة أخرى مثل عدد أولئك أقوى منهم وأمكن فى الحيلة والرأى، فأقبلوا حتى ارتقوا قلل تلك الجبال [متفرقين «2» ]، وجعلوا ينادون: يا نبىّ الله، إنّا نعوذ بالله وبك من غضب الله وسطواته. إنّا لسنا كالذين أتوك من قبلنا، إنّ أولئك فرقة نافقت وخالفتنا، فصاروا إليك ليكيدوك «3» من غير رأينا ولا علم منّا، وذلك أنهم حسدونا وحسدوك، وخرجوا إليك سرّا، ولو علمنا بهم لقتلناهم ولكفيناك مؤنتهم، والان فقد كفاك ربّك أمرهم وأهلكهم بسوء نيّاتهم وانتقم لنا ولك منهم. فلمّا سمع إلياس- عليه السلام مقالتهم دعا الله تعالى بدعوته الأولى، فأمطر الله عليهم النار، فاحترقوا عن آخرهم، كلّ ذلك وابن الملك فى البلاء الشديد من وجعه- كما وعده الله تعالى على لسان نبيّه إلياس- لا يقضى عليه فيموت، ولا يخفّف عنه من عذابه.
قال: فلمّا سمع الملك بهلاك أصحابه ثانيا ازداد غضبا إلى غضبه، وأراد أن يخرج «4» فى طلب إلياس بنفسه، إلّا أنه شغله عن ذلك مرض ابنه فلم يمكنه، فوجّه نحو إلياس الكاتب المؤمن الذى هو كاتب امرأته رجاء أن يأنس به إلياس فينزل
معه، وأظهر للكاتب أنه لا يريد بإلياس سوءا. وإنما أظهر له ذلك لما اطّلع عليه من إيمانه، وكان الملك مع اطّلاعه يغضّ عنه لما هو عليه من الكفاية والأمانة والحكمة وسداد الرأى، فوجّهه نحوه، وأرسل معه فئة من أصحابه، وأوعز إلى الفئة دون الكاتب أن يوثقوا إلياس ويأتوه به إن أراد أن يتخلّف عنهم، وإن جاء مع الكاتب واثقا به آنسا بمكانه لم يوحشوه ولم يروّعوه، ثم أظهر آجاب للكاتب الإنابة وقال: إنه قد آن لى أن أتوب وأتّعظ، وقد أصابتنا بلايا من حريق أصحابنا والبلاء الذى فيه ابنى؛ وقد عرفت أنّ ذلك بدعوة إلياس، ولست آمن أن يدعو على جميع من بقى منّا فنهلك بدعوته. فانطلق إليه وأخبره أنّا قد تبنا وأنبنا، وأنه لا يصلحنا فى توبتنا وما نريد من رضا ربّنا وخلع أصنامنا إلّا أن يكون إلياس بين أظهرنا يأمرنا وينهانا، ويخبرنا بما يرضى به ربّنا. وأمر الملك قومه فاعتزلوا الأصنام، وقال له: أخبر إلياس بأنّا قد خلعنا آلهتنا التى كنّا نعبد وأرجأنا «1» أمرها حتى ينزل إلياس إلينا، فيكون هو الذى يحرقها ويهلكها وكان ذلك مكرا من الملك. فانطلق الكاتب والفئة حتى علوا الجبل الذى فيه إلياس- عليه السلام ثم ناداه الكاتب، فعرف إلياس صوته، فتاقت نفسه إليه وأنس بمكانه وكان مشتاقا إلى لقائه، فأوحى الله تعالى إلى إلياس أن ابرز إلى أخيك الصالح فالقه وجدّد العهد به، فبرز إليه إلياس وسلّم عليه وصافحه، وقال له: ما الخبر؟ قال له المؤمن:
إنّه قد بعثنى إليك هذا الجبّار الطاغية وقومه، ثم قصّ عليه ما قالوا، ثم قال: وإنّى خائف إن رجعت إليه ولست معى أن يقتلنى، فمرنى بما شئت أن أفعله وأنتهى إليه، [إن شئت انقطعت إليك وكنت معك وتركته، وإن شئت جاهدته معك «2» ]
وإن شئت فأرسلنى إليه بما تحبّ فأبلّغه رسالتك، وإن شئت دعوت ربّك أن يجعل لنا من أمرنا فرجا ومخرجا.
قال: فأوحى الله- عز وجل إلى إلياس عليه السلام أنّ كلّ شىء جاءوك به مكر وخديعة ليظفروا بك، وأن «آجاب» إن أخبرته رسله أنّك قد لقيت هذا الرجل ولم يأت بك إليه اتّهمه وعرف أنه قد داهن فى أمرك، فلم يأمن أن يقتله، فانطلق معه فإنّ فى انطلاقك معه عذره وبراءته عند آجاب، وإنى سأشغل عنكما آجاب، وأضاعف على ابنه البلاء حتى لا يكون له همّ غيره، وأميته على شرّ حال، فإذا مات فارجع عنه ولا تقم. فانطلق معهم حتى قدموا على آجاب، فلمّا قدموا عليه شدّد الله تعالى على ابنه الوجع، وأخذه الموت، فشغل الله تعالى آجاب وأصحابه بذلك عن إلياس، فرجع إلياس سالما إلى مكانه. فلمّا مات ابن آجاب وفرغوا منه وقلّ جزعه، انتبه لإلياس وسأل عنه الكاتب الذى جاء به، فقال:
ليس لى به علم، وذلك أنّه شغلنى عنه موت ابنك والجزع عليه، ولم أكن أحسبك إلّا قد استوثقت منه. فأضرب عنه آجاب وتركه لما كان فيه من الحزن على ابنه.
فلمّا طال الأمر على إلياس ملّ الكمون فى الجبال والمقام بها واشتاق إلى العمران وإلى الناس فنزل من الجبل، وانطلق حتى نزل بامرأة من بنى إسرائيل، وهى أمّ يونس ابن متّى [ذى النون، فاستخفى عندها ستة أشهر «1» ] ، ويونس يومئذ مولود يرضع، وكانت أمّ يونس تخدمه بنفسها، وتواسيه بذات يدها، ولا تدّخر عنه كرامة تقدر عليها.
ثم إنّ إلياس سئم ضيق البيوت بعد مقامه بالجبال وسعتها، فأحبّ أن يلتحق بالجبال فخرج وعاد إلى مكانه، فجزعت أمّ يونس لفراقه وأوحشها فقده، ثم لم تلبث إلّا يسيرا حتى مات ابنها [يونس «2» ] حين فطمته، فعظمت مصيبتها فيه، فخرجت فى طلب إلياس، فلم تزل ترقى الجبال وتطوف [فيها «3» ] حتّى عثرت عليه ووجدته، فقالت: