الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ
قال: واختلفوا فى القليل الذين لم يشربوا؛ فقال السّدّىّ: كانوا أربعة آلاف. وقال غيره: كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر؛ وهو الصحيح، لقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم لأهل بدر:«أنتم اليوم على عدّة أصحاب طالوت حين عبروا النهر» وكان أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر.
قالوا: فلم يزد هؤلاء على الغرفة فكانت كفاية لهم ولدوابّهم؛ فمن اغترف غرفة، كما أمر الله، نوّر الله قلبه وصحّ إيمانه، وعبر النهر سالما. والذين شربوا وخالفوا أمر الله- عز وجل اسودّت شفاههم وغلبهم العطش فلم يرووا وبقوا على شطّ النهر وجبنوا عن لقاء العدوّ؛ فقال طالوت للذين عصوا ربهم: ارجعوا فلا حاجة لى بكم فرجعوا. قال الله تعالى: فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ
«1» وإنّما قال ذلك الذين عصوا وشربوا قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
«2» .
ذكر خبر داود حين قتل جالوت الملك
قال الله تعالى: وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ
«3» .
قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله: قال المفسّرون بألفاظ مختلفة ومعان متفقة: عبر النهر مع طالوت إيشى أبو داود فى ثلاثة عشر ابنا له، وكان داود
أصغرهم، فأتاه ذات يوم فقال: يا أبتاه، ما أرمى بقذّافتى «1» شيئا إلّا صرعته. فقال:
أبشر يا بنىّ فإن الله- عز وجل جعل رزقك فى قذّافتك؛ ثم أتاه مرّة أخرى فقال: يا أبتاه، لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا، فركبته وأخذت بأذنيه فلم يهجنى «2» ، فقال: أبشر يا بنىّ فإنّ هذا خير يريده الله بك. ثم أتاه يوما آخر فقال: يا أبتاه، إنى لأمشى بين الجبال فأسبّح فما يبقى جبل إلّا سبّح معى.
فقال: أبشر يا بنىّ فإنّ هذا خير أعطاكه الله عز وجل.
قالوا: فأرسل جالوت إلى طالوت، أن ابرز إلىّ أو أبرز إلىّ من يقاتلنى، فإن قتلنى فلكم ملكى، وإن قتلته فلى ملككم. فشقّ ذلك على طالوت، فنادى فى عسكره: من قتل جالوت زوّجته ابنتى وناصفته ملكى. فهاب الناس جالوت فلم يجبه أحد؛ فسأل طالوت نبيّهم- عليه السلام أن يدعو، فدعا الله- عز وجل فى ذلك، فأتى بقرن فيه دهن القدس، وتنّور من حديد، فقيل له:
إنّ صاحبكم الذى يقتل جالوت هو الذى يوضع هذا القرن على رأسه فيغلى الدّهن ثم يدهن به رأسه ولا يسيل على وجهه، يكون على رأسه كهيئة الإكليل، ويدخل فى هذا التنّور فيملأه لا يتقلقل فيه؛ فدعا طالوت بنى إسرائيل، فجرّبهم فلم يوافقه منهم أحد، فأوحى الله- عز وجل إلى نبيّهم أن فى ولد إيشى من يقتل الله به جالوت، فدعا طالوت إيشى وقال له: اعرض علىّ بنيك. فأخرج له اثنى عشر رجلا أمثال السوارى، وفيهم رجل فارع عليهم؛ فجعل يعرضهم على القرن فلا يرى شيئا، فيقول لذلك الجسيم: ارجع فيردّده على التنّور. فأوحى الله- عز وجل إليه:
إنّا لا نأخذ الرجال على صورهم، ولكنّا نأخذهم على صلاح قلوبهم. فقال لإيشى:
هل بقى لك ولد غيرهم؟ فقال لا. فقال النبىّ: ربّ إنه زعم أن لا ولد له غيرهم.
فقال كذب. فقال النبىّ: إن ربّى كذّبك. قال: صدق الله يا نبىّ الله، إنّ لى ابنا صغيرا يقال له داود استحييت أن يراه الناس لقصر قامته وحقارته، فخلّفته فى الغنم يرعاها وهو فى شعب كذا. وكان داود- عليه السلام رجلا قصيرا مسقاما «1» مصفارّا أزرق أشقر. فدعاه طالوت. ويقال: بل خرج طالوت إليه فوجد الوادى قد حال بينه وبين الزّربية التى كان يريح إليها، فوجده يحمل شاتين شاتين فيجيزهما السّيل ولا يخوض بهما الماء؛ فلمّا رآه [أشمويل «2» ] قال:
هذا هو لا شكّ فيه، هذا يرحم البهائم فهو بالناس أرحم. فدعاه ووضع القرن على رأسه ففاض؛ فقال له طالوت: هل لك أن تقتل جالوت وأزوّجك ابنتى وأجرى حكمك فى ملكى؟ قال نعم. قال: وهل أنست من نفسك شيئا تتقوّى به على قتله؟ قال: نعم، أنا أرعى فيجىء الأسد أو النّمر أو الذئب فيأخذ شاة فأقوم له فأفتح لحييه عنها وأخرقهما إلى قفاه. فردّه إلى عسكره؛ فمرّ داود- عليه السلام فى الطريق بحجر فناداه: يا داود، احملنى فإنى حجر هارون الذى قتل بى ملك كذا، فحمله فى مخلاته. [ثم مرّ بحجر آخر فناداه: يا داود، احملنى فإنى حجر موسى- عليه السلام الذى قتل به ملك كذا وكذا، فحمله فى مخلاته «3» ] . ثم مرّ بحجر آخر فقال:
احملنى فإنى حجرك الذى تقتل به جالوت، وقد خبأنى الله لك، فوضعه فى مخلاته.
فلما تصافّوا للقتال وبرز جالوت وسأل المبارزة، انتدب له داود، فأعطاه طالوت فرسا ودرعا وسلاحا، فلبس السلاح وركب الفرس، وسار قريبا، ثم انصرف فرجع إلى الملك، فقال من حوله: جبن الغلام. فجاء فوقف على الملك فقال:
ما شأنك؟ قال: إنّ الله- عز وجل إن لم ينصرنى لم يغن عنّى هذا السلاح شيئا، فدعنى أقاتل كما أريد. قال نعم. فأخذ داود مخلاته فتقلّدها، وأخذ المقلاع ومضى نحو جالوت، وكان جالوت من أشدّ الناس وأقواهم؛ وكان يهزم الجيوش وحده، وكان له بيضة فيها ثلاثمائة منّ حديدا، فلمّا نظر إلى داود ألقى فى قلبه الرّعب، فقال له: أنت تبرز لى؟ قال نعم- وكان جالوت على فرس أبلق، عليه السلاح التامّ- قال: تأتينى بالمقلاع والحجر كما يؤتى الكلب؟
قال: نعم، لأنت شرّ من الكلب. قال: لا جرم لأقسّمنّ لحمك بين سباع الأرض وطير السماء. فقال داود: [باسم «1» الله و] يقسّم الله لحمك. وقال: بسم إله إبراهيم، وأخرج حجرا، ثم أخرج الآخر وقال: باسم إله إسحاق، ووضعه فى مقلاعه، ثم أخرج الثالث وقال: باسم إله يعقوب، ووضعه فى مقلاعه، فصارت كلّها حجرا واحدا، ودوّر المقلاع ورماه به، فسخّر الله تعالى له الريح حتى أصاب الحجر أنف البيضة وخالط دماغه فخرج من قفاه، وقتل من ورائه ثلاثين رجلا، وهزم الله تعالى الجيش وخرّ جالوت قتيلا، فأخذه داود فجرّه حتى ألقاه بين يدى طالوت.
وقال الكسائىّ فى هذه القصة: كان مع طالوت سبعة إخوة لداود، وكان داود عند أبيه وهو صغير، فقال له أبوه: قد أبطأ علىّ خبر إخوتك مع طالوت، فاحمل إليهم طعاما وتعرّف لى خبرهم. فمضى داود ومعه مخلاة له فيها الطعام، وقد شدّ وسطه بمقلاع؛ فبينا هو يسير إذا ناداه حجر من الأرض: خذنى فأنا حجر أبيك إبراهيم. فأخذه؛ ثم ناداه حجر آخر: خذنى فأنا حجر أبيك إسحاق. فأخذه؛
ثم ناداه حجر آخر: خذنى فأنا حجر أبيك يعقوب. فأخذه وسار حتى أتى العسكر، فنزل على إخوته، فلمّا كان من الغد تهيّأ الجيشان للمحاربة، فقال طالوت:
أيها الناس، من كفانى منكم أمر جالوت زوّجته ابنتى، وأشركته فى ملكى، وجعلته خليفتى من بعدى. فلم يجبه أحد إلّا داود؛ فخلع عليه وأركبه وطاف به فى معسكره؛ فلمّا كان من الغد ركبوا، وأقبل جالوت بجيوشه وهو على فيل، وكان طوله ثمانية عشر ذراعا، وطول داود عشرة أذرع، فقال المؤمنون: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً
«1» الآية.
فبرز جالوت بين الصفّين فبرز له داود، فقال له جالوت: إنك صغير ولا سلاح معك فارجع، فأبى ذلك، وأخذ تلك الأحجار فوضعها فى مقلاعه ورمى بها، فوقع أحدها بميمنة جالوت فهزمها، والثانى فى الميسرة فانهزموا، والثالث وقع على أنف بيضة جالوت فخرج من قفاه، فسقط جالوت ميّتا، وانهزم أصحابه.
قالوا: ولمّا قتل داود جالوت ذكر الناس داود وعظم فى أنفسهم، فجاء إلى طالوت وقال له: أنجز لى ما وعدتنى، وأعطنى امرأتى. فقال له طالوت: أتريد ابنة الملك بغير صداق، عجّل صداق ابنتى وشأنك بها. فقال له داود: ما شرطت علىّ صداقا، وليس لى شىء، فتحكّم فى الصداق «2» ما شئت وأقرضنى مهرها وعلىّ الأداء والوفاء لك. فقال طالوت: أصدقها نصيبك من الملك. فقالت بنو إسرائيل:
لا تظلمه وأنجز له ما وعدته به.
فلمّا رأى طالوت ميل بنى إسرائيل إلى داود وحسن رأيهم فيه قال:
لا حاجة لابنتى فى المال، ولا أكلّفك إلّا ما تطيق، أنت رجل جرىء، وفى جبالنا
أعداء من المشركين غلف «1» فانطلق وجاهدهم، فإذا قتلت منهم مائتى رجل وجئتنى برءوسهم زوّجتك ابنتى. فأتاهم داود، وجعل كلّما قتل منهم رجلا احتزّ رأسه ونظمه فى خيط حتى نظم رءوسهم فجاء بها إلى طالوت، فألقاها إليه وقال: ادفع إلىّ امرأتى، فزوّجه ابنته وأجرى خاتمه فى ملكه، فمال الناس إلى داود وأحبّوه وأكثروا من ذكره، فوجد طالوت من ذلك فى نفسه وحسده وأراد قتله.
قال وهب بن منبّه: وكانت الملوك يومئذ يتوكّأون على عصىّ فيغرزون فى أطرافها أزجة من حديد، وكان بيد طالوت منها واحدة، فى رأسها رمّانة من ذهب وفى أسفلها زجّ من حديد، وداود جالس قريبا منه فى ناحية البيت، فرماه بها بغتة ليقتله بها، فلمّا أحسّ داود بذلك حاد عن طريقها، وأمال نفسه عنها من غير أن يبرح من موضعه، فارتكزت فى الجدار، فقال له داود: عمدت إلى قتلى؟
قال طالوت: لا، ولكن أردت أن أقف على ثباتك فى الطّعان وربط جأشك للاقران. قال داود: فألفيته على ما قدّرته فىّ؟ قال: نعم، ولعلك فزعت. قال:
معاذ الله أن أخاف إلّا الله تعالى وأرجو إلا الله، ولا يدفع الشرّ إلا الله. فانتزعها من الجدار ثم هزّها هزّة منكرة وقال له: أثبت كما ثبتّ لك، فأيقن طالوت بالهلاك؛ فقال له: أنشدك الله والحرمة التى بينى وبينك إلّا ما صفحت؛ فقال داود: إن الله تعالى كتب فى التوراة أن اجز السيئة مثلها، واحدة بواحدة والبادى أظلم؛ فقال طالوت: ألا تقول قول هابيل لأخيه قابيل: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ
«2» . قال داود:
قد عفوت عنك لوجه الله تعالى.
فلبث طالوت زمنا يريد قتل داود، فعزم على أن يأتيه ويغتاله فى داره، فأخبر بذلك بنت طالوت رجل يقال له: ذو العينين، فقالت لداود: إنك مقتول الليلة؛ قال: ومن يقتلنى؟ قالت: أبى، وأخبرته الخبر وقالت: لا عليك أن تغيب الليلة حتى تنظر مصداق ذلك. فأخذ داود زقّ خمر فوضعه فى مضجعه على السّرير وسجّاه ودخل تحت السّرير ودخل طالوت نصف الليل، فعمد إليه فضربه ضربة بالسيف فسالت الخمر، فلمّا وجد ريحها قال: رحم الله داود، ما كان أكثر شربه للخمر، وخرج، فلمّا أصبح علم أنه لم يصنع شيئا، فقال: إنّ رجلا طلبت منه ما طلبت لخليق ألّا يدعنى حتى يطلب منى ثأره؛ فاشتدّ حجّابه وحرّاسه وأغلق دونه الأبواب، فأتاه داود ليلة وقد هدأت العيون وأعمى الله الحجّاب عنه وفتح له الأبواب، ودخل عليه وهو نائم على فراشه فوضع سهما عند رأسه وسهما عند رجليه وسهما عن يمينه وسهما عن شماله ثم خرج. فلمّا استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها، فقال: رحم الله داود فهو خير منّى، ظفرت به فقصدت قتله، وظفر بى فكفّ عنّى، لو شاء لوضع هذا السهم فى حلقى وما أنا بالذى آمنه. فلمّا كانت الليلة القابلة أتاه ثانيا، وأعمى الله الحجّاب، فدخل وهو نائم، فأخذ إبريق طالوت الذى كان يتوضّأ به وكوزه الذى يشرب منه، وقطع شعرات من لحيته وشيئا من هدب ثيابه، ثم خرج وهرب وتوارى؛ فلمّا أصبح ورأى ذلك نصب على داود العيون وطلبه أشدّ الطلب فلم يقدر عليه، ثم ركب طالوت يوما فوجد داود يمشى فى البرّيّة فقال: اليوم أقتل داود، وكان داود إذا فرّ لم يدرك، فركض داود حتى دخل غارا، فأمر الله العنكبوت أن تنسج، فنسجت عليه بيتا، وجاء طالوت إلى الغار فنظر الى بيت العنكبوت فقال: لو كان هاهنا لخرق بيت العنكبوت، فتركه ومضى، وانطلق داود إلى الجبل ومعه المتعبّدون، فجعل يتعبّد فيه.
وطعن العلماء والعبّاد على طالوت فى شأن داود؛ فجعل طالوت لا ينهاه أحد عن داود إلّا قتله. وأغرى بقتل العلماء، فلم يكن يقدر فى بنى إسرائيل على عالم [ويطيق قتله إلّا قتله «1» ] ولم يكن طالوت يحارب جيشا إلّا هزمه، حتى أتى بامرأة تعلم اسم الله الأعظم، فأمر جبّاره بقتلها، فرحمها الجبّار وقال: لعلّنا نحتاج إلى عالم فتركها.
ثم وقع فى قلب طالوت التوبة، وندم على ما فعل، وأقبل على البكاء حتى رحمه الناس، وكان كلّ ليلة يخرج إلى القبور ويبكى وينادى: أنشد الله عبدا يعلم لى التوبة إلّا أخبرنى. فلمّا كثر عليهم [بكاؤه «2» ] ناداه مناد من قبر: يا طالوت، أما ترضى [أنك «3» ] قتلتنا حتى تؤذينا أمواتا، فازداد بكاء وحزنا، فقال له الجبّار:
مالك أيها الملك؟ قال: هل تعلم لى فى الأرض عالما أسأله؟ هل لى من توبة؟
قال الجبّار: هل تدرى ما مثلك؟ إنما مثلك مثل ملك نزل قرية عشاء، فصاح ديك فتطيّر به، فقال: لا تتركوا فى هذه القرية ديكا إلّا ذبحتموه. فلمّا أراد أن ينام قال لأصحابه: إذا صاح الدّيك فأيقظونا حتى ندّلج. فقالوا له:
وهل تركت ديكا يسمع صوته؟ وأنت هل تركت فى الأرض عالما؟! فازداد طالوت حزنا وبكاء؛ فلمّا رأى الجبّار ذلك قال له: أرأيتك إن دللتك على عالم لعلّك أن تقتله؟ قال لا. فتوثّق منه الجبّار وأخبره أنّ المرأة العالمة عنده؛ قال:
فانطلق بى إليها حتى أسألها هل لى من توبة؟ - وكان إنما يعلم ذلك أهل بيت لهم علم بالاسم الأعظم «4» - فلمّا بلغ طالوت الباب قال له الجبّار: إنها إن رأتك فزعت، فخلّفه خلفه، ثم دخل عليها فقال لها: ألست أعظم عليك حرمة، أنجيتك من القتل وآويتك عندى؟ قالت بلى. قال: فإنّ لى إليك حاجة. قالت:
وما هى؟ قال: هذا طالوت يسأل هل له من توبة؟ فقالت: لا والله ما لطالوت من توبة، ولكن هل تعلمون مكان قبر أشمويل؟ قال نعم. قالت: فانطلقوا بى إلى قبره، ففعلوا، فصلّت ثم نادت: يا صاحب القبر أخرج. فخرج أشمويل من قبره ينفض رأسه من التراب. فلمّا نظر إليهم ثلاثتهم. المرأة والجبّار وطالوت قال: مالكم! أقامت القيامة؟ قالت: لا، ولكنّ طالوت يسألك هل له من توبة؟
قال أشمويل: يا طالوت، ما فعلت بعدى؟ قال: لم أدع من الشرّ شيئا إلّا فعلته، وقد جئت أطلب التوبة. قال: كم لك من الولد؟ قال: عشرة رجال. قال:
ما أعلم لك من توبة إلّا أن تتخلّى عن مالك وتخرج أنت وولدك فى سبيل الله، ثم تقدّم ولدك حتى يقتلوا بين يديك، ثم تقاتل أنت حتى تقتل آخرهم. ثم رجع أشمويل إلى القبر وسقط ميّتا، ورجع طالوت أحزن ما كان، رهبة ألّا يتابعه أولاده، وقد بكى حتى سقطت أشفار عينيه، ونحل جسمه. فدخل عليه أولاده فقال لهم: أرأيتم لو دفعت إلى النار هل كنتم تنقذوننى؟ قالوا: بلى، ننقذك بما قدرنا عليه. قال: فإنها النار إن لم تفعلوا ما أقول. قالوا: فاعرض علينا، فذكر لهم القصة. قالوا: فإنك لمقتول؟! قال نعم. قالوا: فلا خير لنا فى الحياة بعدك، قد طابت أنفسنا بالذى سألت. فتجهّز للغز وبماله وولده، فتقدّم ولده فقاتلوا بين يديه حتى قتلوا؛ ثم تقدّم فقاتل بعدهم حتى قتل. فجاء قاتله إلى داود يبشّره وقال: قد قتلت عدوّك. فقال داود: ما أنت بالذى تحيا بعده. فضرب عنقه.
وحكى الكسائىّ: أنّ طالوت لمّا حسد داود على ما أوتى من القوّة، وهمّ بالغدر مرارا فلم يظفر به وظفر به داود فأبقى عليه، اعتذر له طالوت واتفقا؛ ثم مات أشمويل، فانضمّ بنو إسرائيل إلى داود واختلفوا على طالوت وحاربوه؛ فاستقلّ داود بالملك، وجاهد ببنى إسرائيل وقهر الأعداء. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.