الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال فى صياحه: يا غافلين اذكروا الله. ثم قال: يا نبىّ الله، إنى كنت مع أبيك آدم وكنت أوقظه أوقات الصلوات، ومع نوح فى الفلك، ومع أبيك إبراهيم وكنت أسمعه يقول:«اللهمّ مالك الملك تؤتى الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعزّ من تشاء، وتذّل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شىء قدير» . واعلم يا نبىّ الله أنى ما صحت صيحة إلا أفزعت بها الجن والشياطين.
ففرح سليمان به وأمره أن يكون معه حيثما كان. ووقف كل طير بين يديه، وفرغ من حشر الطيور وعرفها بأسمائها ومنطقها، وكانوا يعبدون الله بالليل والنهار، وكذلك الوحوش والسباع، حتى عرف كل واحد منهم باسمه وصفته ونعته «1» .
ذكر خبر العنقاء فى القضاء والقدر
قال أبو إسحاق الثعلبىّ- رحمه الله تعالى- بسند رفعه الى جعفر بن محمد الصادق قال: عاتب سليمان الطير فى بعض عتابه فقال لها: إنك تأتين كذا، وتفعلين كذا، فقالت له: والله ربّ السماء والثّرى، إنا لنحرص على الهدى، ولكن قضاء الله يأتى إلى منتهى علمه وقدره. قال سليمان: صدقت، لا حيلة فى القضاء. فقالت العنقاء: لست أومن بهذا. قال لها سليمان: أفلا أخبرك بأعجب العجب؟ قالت بلى. قال: إنه ولد الليلة غلام فى المغرب، وجارية فى المشرق، هذا ابن ملك
وهذه بنت ملك، يجتمعان فى أمنع المواضع وأهولها على سفاح بقدر الله تعالى فيهما. قالت العنقاء: يا نبىّ الله، وقد ولدا؟ قال: نعم الليلة. قالت:
فهل أخبرت بهما؟ من هما وما اسمهما واسم أبويهما؟ قال: بلى، اسمهما كذا وكذا، واسم أبويهما كذا وكذا. قالت: يا نبىّ الله، فإنى أفرّق بينهما وأبطل القدر. قال: فإنك لا تقدرين على ذلك. قالت بلى. فأشهد سليمان عليها الطير وكفلتها البومة. ومرّت العنقاء وكانت فى كبر الجمل عظما، ووجهها وجه إنسان، ويداها وأصابعها كذلك؛ فحلّقت فى الهواء حتى أشرفت على الدنيا وأبصرت كل دار فيها، وأبصرت الجارية فى مهدها قد احتوشتها الظئور والخول، فآختلست المهد والجارية وطارت، ومرّت حتى انتهت بها إلى جبل شاهق فى السماء، أصله فى جوف البحر، وعليه شجرة عالية فى السماء، لا ينالها طائر إلا بجهد، لها ألف غصن، كل غصن كأعظم شجرة فى الأرض، كثيرة الورق، فاتخذت لها فيه وكرا عجيبا واسعا وطيئا، وأرضعتها واحتضنتها تحت جناحها، وصارت تأتيها بأنواع الأطعمة والأشربة، وتكنّها من الحرّ والبرد، وتؤنسها بالليل، ولا تخبر أحدا بشأنها، وتغدو إلى سليمان وتروح إلى وكرها. وعلم سليمان بذلك ولم يبده لها، وبلغ الغلام مبلغ الرجال، وكان ملكا من ملوك الدنيا، وكان يلهو بالصيد ويحبّه ويطلبه حتى نال منه عظيما. فقال يوما لأصحابه: كل صيد البر وفلواته ومفازاته قد تمكنت من صيده، فلو ركبت البحر لأنال من صيده فإنه كثير الصيد كثير العجائب!. فقال وزير من وزرائه:
نعم ما رأيت، وهو أكثر ما خلق الله صيدا. فأمره بجهازه، وهيأ السفن وجعل يختار من كل شىء يملكه، وأخذ من الوزراء والندماء والمشيرين والجوارى والغلمان والطباخين والخبازين والبزاة والصقور وغير ذلك مما يريده ويشتهيه من الملاهى
والشراب، وركب ومرّ فى البحر يتصيّد ويتلذذ لا يعرف شيئا غير ذلك، حتى سار مسيرة شهر، فأرسل الله تعالى على سفينته ريحا عاصفا خفيفة ساقتها حتى وصلت بها الى جبل العنقاء الذى فيه الجارية، وذلك مسيرة خمسين سنة فى خمسين ليلة، ثم ركدت سفينته بإذن الله تعالى، وأصبح الغلام فرأى سفينته راكدة، فأخرج رأسه من السفينة، فرأى الجبل وهو فى لون الزعفران [صفرة «1» ] ، وطوله لا يدرى أين منتهاه ولا عرضه، ورأى الشجرة فإذا هى كثيرة الأغصان والورق، ورقها عرض آذان الفيلة ليس لها ثمر، بيضاء الساق، فقال: إنى أرى عجبا، أرى جبلا شاهقا لم أر مثله، وأرى شجرة حسنة قد أعجبنى منظرها.
فحرّك سفينته نحو الجبل، فسمعت الجارية التى فى عشّ العنقاء صوت الماء وكلام الناس، ولم تكن سمعت قبل ذلك شيئا من ذلك؛ فأخرجت رأسها من العشّ، فتطلّعت فرأى الملك صورتها فى الماء، ورأى عجبا من جمالها وكثرة شعرها وذوائبها؛ فرفع رأسه إلى الشجرة فرأى الجارية، فأبصر أمرا عظيما فأخذه القلق، فناداها: من أنت؟ فأفهمها الله تعالى لغته وقالت: لا أدرى ما تقول ولا من أنت إلا أنى أراك يشبه وجهك وجهى وكلامك كلامى، وإنى لا أعرف شيئا غير العنقاء، وهى أمى التى ربّتنى وتسمينى بنتها. فقال لها الغلام: وأين العنقاء أمك؟ قالت: فى نوبتها. قال: وما نوبتها؟
قالت: تغدو كل يوم إلى ملكها سليمان فتسلّم عليه وتقيم عنده إلى الليل، ثم تروح وتجيئنى وتحدّثنى بما فعل سليمان وبما حكم وقضى، وإنه لملك عظيم، على ما تصف أمى العنقاء، وإنها تخبرنى أنه يشبهنى إلا أنها تخبر أنه أحسن وجها وأتمّ منى.
قال: فآنذعر الغلام وفزع، ثم قال: قد عرفته، هو الذى قتل أبى وسبى ذرّيته، وإنى لمن طلقائه وممن يؤدّى إليه الخراج، ورسله الطير والرياح، ثم بكى الغلام. فقالت الجارية: وما يبكيك؟ قال: أبكى على وحدتك فى مثل هذا الموضع الذى ليس به أنيس ولا أحد، وإن مثلك فى الدنيا عدد الشجر والمدر، وكلهم فى مقاصير الذهب والفضة والعيش الهنئ والّلذة الحسنة مع الأزواج يتعانقون ويتنّعمون، ويتوالدون أولادا مثل خلقتك وخلقتى، أرأيت إن هاجت الريح وأزعجتك من وكرك من يمسكك أن تقعى فى البحر؛ فإن وقعت فى البحر فمن ذا الذى يخرجك.
قال: ففزعت من قوله وقالت: وكيف لى أن يكون معى إنسىّ مثلك يحدّثنى مثل حديثك، ويحفظنى من خوف ما ذكرت. فقال لها الغلام: أولا تعلمين أن الله الذى اتخذ سليمان نبيّا وسخّر له الطير والرياح هو الذى رحمك وساقنى إليك إلفا وصاحبا وأنيسا، وأنى من أبناء الملوك. قالت الجارية: وكيف تصير إلىّ وأصير إليك، وهذه العنقاء تنام وتحضننى إلى صدرها بين جناحيها؟ قال الغلام: تكثرين جزعك ووحشتك وبكاءك على العنقاء ليلتك هذه إذا انصرفت إليك، فإذا قالت لك: ما تخشين وما شأنك، فأخبريها بحديثك، ثم انظرى إلى ما يكون ردّها عليك فتخبرينى به. فراحت العنقاء فوجدتها حزينة كئيبة. فقالت لها: يا بنيّة، ما شأنك؟
قالت: الوحدة والوحشة، وإنى لجزعة على نفسى لذلك. فقالت لها: يا بنيّة لا تخافى ولا تحزنى، فإنى أستأذن سليمان أن آتيه يوما وأتخلّف عنه يوما. فلمّا أصبحت أخبرت الغلام بجوابها. فقال لها: لا تريدى هذا، ولكن سأنحر من دوابّى هذه فرسا وأبقر بطنه وأخرج ما فى جوفه وأقيّره وأطيّنه وأدخل أنا فى جوفه، وألقيه على قرقور «1» سفينتى هذه، فإذا جاءتك العنقاء فقولى لها: إنى
أرى عجبا، خلقة ملقاة على هذه السفينة، فلو اختطفتيها وحملتيها إلى وكرى هذا، فأنظر وأستأنس بها، كان أحبّ إلىّ من كينونتك عندى نهارا وإمساكك عنى خبر سليمان. فرجعت العنقاء فوجدتها فى مثل حالها، وشغل سليمان عنها، فلم تصل إليه فى استئذانها إيّاه بالمقام يوما فى منزلها. فقالت لها: إن نبىّ الله شغل عنى اليوم بالحكم بين الآدميين فلم أصل اليه. قالت لها: فإنّى لا أريد أن تتخلّفى عنه نهارا لمكان أخبار سليمان، وإنى أرى فى البحر عجبا، شيئا مرتفعا ما هو؟ قالت العنقاء:
هذه سفينة قوم سيّارة ركبوا البحر. قالت: فما هذا الذى أرى ملقى على رأس هذه السفينة؟ قالت: كأنه ميتة رموها. قالت: فاحمليها إلىّ لأستأنس بها وأنظر إليها.
فانقضّت العنقاء فاختطفت الفرس والغلام فى بطنها فحملتها إلى عشّها. فقالت:
يا أمّاه، ما أحسن هذا! وضحكت، ففرحت العنقاء بذلك وقالت: يا بنيّة، لو علمت لقد كنت آتيك بمثل هذا منذ حين. ثم طارت العنقاء إلى نوبتها إلى سليمان، وخرج الغلام من جوف الفرس فلاعبها ومسّها ولا مسها وافتضّها فأحبلها، وفرح كل واحد منهما بصاحبه واستأنس به.
وجاء الخبر إلى سليمان باجتماعهما من قبل الريح، ووافت العنقاء، وكان مجلس سليمان يومئذ مجلس الطير؛ فدعا بعرفاء الطير وأمرهم ألّا يدعوا طائرا إلا حشروه، ففعلوا؛ ثم أمر عرفاء الجنّ فحشروا الجنّ من ساكنى البحار والجزائر والهواء والفلوات والأمصار، ففعلوا وحشروهم، وأحضروا الإنس وكل دابّة، واشتدّ الخوف وقالوا: نشهد بالله أن لنبىّ الله أمرا قد أهمّه. فأوّل سهم خرج فى تقديم الطير سهم الحدأة، وكانت الطير لا تتقدّم إلا بسهام، فتقدّمت الحدأة واستعدت على زوجها، وكان قد جحدها ولدها، فقالت: يا نبىّ الله، إنه سفدنى، حتى احتضنت بيضى وأخرجت ولدى جحدنى. فأمر سليمان بولدها فأتى به، فوجد الشبه واحدا،
فألحقه بالذكر وقال لها: لا تمكّنيه من السّفاد أبدا حتى تشهدى على ذلك الطير لكيلا يجحدك بعدها أبدا. فإذا سفدها ذكرها صاحت وقالت: يا طيور «1» سفدنى اشهدى، يا معشر الطير اشهدى.
ثم خرج سهم العنقاء فتقدّمت، فقال لها سليمان: ما قولك فى القدر؟ قالت:
يا نبىّ الله، إن لى من القوّة والاستطاعة ما أدفع الشر وآتى الخير. قال لها: وأين شرطك الذى بينى وبينك أنك تفرّقين بقوّتك واستطاعتك بين الجارية والغلام؟
قالت: قد فعلت. قال سليمان: الله أكبر! فأتينى بها الساعة والخلق شهود لأعلم تصديق ذلك، وأمر عريف الطير الّا يفارقها حتى يوافى بها. فمرّت العنقاء، وكانت الجارية اذا قربت منها العنقاء تسمع حفيف أجنحتها، فيبادر الغلام فيدخل جوف فرسه، فقالت كالفزعة: إن لك لشأنا إذ رجعت نهارا. قالت:
لعمرى إن لى لشأنا، إن سليمان قد أمرنى بإحضارك الساعة لأمر جرى بينى وبينه فى أمرك، فأنا أرجو نصرتى اليوم فيك. قالت: فكيف تحملينى؟ قالت: على ظهرى. قالت: وهل أستقرّ على ظهرك وأنا أرى أهوال البحر فلا آمن أن أزلّ وأسقط فأهلك! قالت: ففى منقارى. قالت: وهل أصبر فى منقارك! قالت:
فكيف أصنع؟ لابدّ من إحضارك إلى سليمان، وهذا عريف الطير معى، وقد دعا بكفيلى البومة. قالت: أدخل جوف هذا الفرس، ثم تحملين الفرس على ظهرك أو فى منقارك، فلا أرى شيئا ولا أسقط ولا أفزع. قالت: أصبت. فدخلت فى جوف الفرس واجتمعت مع الغلام، وحملت العنقاء الفرس بما فيه فى منقارها، وطارت حتى وقعت بين يدى سليمان، فقالت: يا نبىّ الله، هى الآن فى جوف الفرس، فأين الغلام! فتبسّم سليمان- عليه السلام طويلا وقال لها: أتؤمنين
بقدر الله تعالى وقضائه! إنه لا حيلة لأحد «1» فى دفع قضاء الله تعالى وقدره وعلمه السابق الكائن من خير وشرّ. قالت العنقاء: أومن بالله وأقول: إن المشيئة للعباد والقوّة، فمن شاء فليعمل خيرا ومن شاء فليعمل شرّا. قال سليمان: كذبت ما جعل الله من المشيئة إلى العباد شيئا، ولكن من شاء الله أن يكون سعيدا كان سعيدا، ومن شاء أن يكون كافرا كان كافرا، فلا يقدر أحد أن يدفع قضاء الله وقدره بحيلة ولا بفعل ولا بعلم، وإن الغلام الذى قد ولد بالمغرب والجارية التى ولدت بالمشرق قد اجتمعا الآن فى مكان واحد على سفاح، وقد حملت منه الجارية ولدا.
قالت العنقاء: لا تقل يا نبىّ الله هذا، فإن الجارية معى فى جوف فرسى هذا.
قال سليمان: الله أكبر! أين البومة المتكفّلة بالعنقاء؟ قالت: هأنا. قال سليمان:
على مثل قول العنقاء أنت؟ قالت نعم. قال سليمان: يا قدر الله السابق قبل الخلق أخرجهما على قضاء الله وقدره. قال: فأخرجهما جميعا من جوف الفرس.
فأما العنقاء فتاهت وفزعت فطارت فى السماء وأخذت نحو المغرب، واختفت فى بحر من بحار المغرب وآمنت بالقدر وحلفت لا ينظر «2» الطير فى وجهها أبدا استحياء منها.
وأمّا البومة فلزمت الآجام والجبال وقالت: أمّا بالنهار فلا خروج ولا سبيل إلى المعاش. فهى إذا خرجت نهارا وبّختها الطير واجتمعت عليها وقالت لها:
يا قدريّة، فهى تخضع لهذا.
هذا ما كان من شأن العنقاء فى القضاء والقدر. فلنرجع إلى أخبار سليمان عليه السلام.