الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع من القسم الثالث من الفن الخامس فى قصة ذى النّون يونس بن متّى عليه السلام وخبر بلوقيا
ذكر قصة ذى النّون يونس بن متّى عليه السلام
قال الكسائىّ رحمه الله قال وهب بن منبّه: كان متّى رجلا صالحا من أهل بيت النبوّة، ولم يرزق الولد الى آخر عمره بعد أن أسنّ هو وزوجته، فسأل الله تعالى الولد، فنودى: إنّ الله قد استجاب دعاءك، فانطلق إلى حضيرة التوبة، وهو الموضع الذى أمر الله تعالى بنى إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم فيه لمّا عبدوا العجل. فصار إلى هناك وإذا بملك قد هبط من السماء فضرب قبة على باب حضيرة التوبة، وذلك فى ليلة عاشوراء، وأمرهما أن يدخلاها فدخلا وواقعها، فحملت بيونس، ثم انصرفا إلى منزلها. فلمّا صار لها أربعة أشهر توفّى متّى وبقيت امرأته أرملة ليس لها إلّا قصعة كانت لآل هارون، فكانت تصيب رزقها فى المساء والصباح من عند الله. فلمّا وضعت يونس لم يكن لها لبن يكفيه، فكانت أمّه تأتى إلى الرّعاة وتسألهم اللبن فلا يجيبونها، فكانت تقول: اللهمّ هذا الولد هبتك فلا تهلكه جوعا، فكانت المواشى تأتيه وتمجّ «1» عليه بضرعها حتى يشبع، فإذا شبع يقول: الحمد لله «2» ، فآمن به جماعة من الرّعاة، فبقى كذلك حتى فطمته أمه،
وكان يسمّى يتيم بنى إسرائيل، حتى أتت عليه سبع سنين، فأقبل على أمه فقال:
يا أمّاه، لا ينبغى أن تذهب أيّامى بالبطالة، وأريد أن تلبسينى ثوبا من الصوف حتى ألحق بالعبّاد وأكون معهم. فقالت: يا بنىّ، أنت صغير ولم يأن لك أن تسيح.
فلم يزل بأمّه حتى أجابته إلى ذلك ولحق بالعبّاد واشتهر ذكره فيهم بكثرة العبادة حتى استكمل من العمر خمسا وعشرين سنة، فرأى فى منامه: إنّ الله يأمرك أن تمضى الى مدينة الرّملة «1» فإنّ فيها وليّا من أوليائى وله ابنة عفيفة فتزوّجها منه. فلمّا أصبح عزم على المسير، وصحبه جماعة من بنى إسرائيل من أصحابه، وسار حتى دخل مدينة الرّملة، وسأل عنه فقيل: إنه فى السّوق يبيع ويشترى. فعجب يونس من ذلك وجاء الى السّوق فرآه وهو يبيع الطّيب ويكثر الضّحك. فقال يونس: ليس هذا من صفات الأولياء والعبّاد. فنظر إليه زكريّا «2» وقام إليه وصافحه وسلّم عليه باسمه واسم أبيه. قال: وكيف عرفتنى؟ قال: رأيتك فى المنام وأمرت أن أزوّج ابنتى منك. وتوجّه به إلى منزله وقدّم له الطعام فأكلا، وذكر له رؤياه وأنها سبب مسيره الى الرملة، ثم سأله عن مكسبه بالبيع والشراء فقال: أمّا البيع والشراء فمباح، والتاجر فاجر إلّا من أخذ الحقّ وأعطاه، واتقى الله ولم يمدح سلعته.
فلمّا أقبل الليل نزع زكريّا ما كان عليه من الثياب ولبس الصوف ودخل محرابه ولم يزل فى صلاته ودعائه وتضرّعه حتى أصبح، فنزع الصوف ولبس ما كان عليه بالأمس وبرز إلى السوق ويونس معه، فكان ذلك دأبه.
ثم زوّج ابنته من يونس ووهب لها بعض ماله. وأقام يونس عنده، ورزق الله يونس من زوجته ولدين ومات زكريّا، فاحتمل يونس زوجته إلى بيت
المقدس وأقام هناك يعبد الله تعالى. وشعيا يومئذ بيت المقدس وهو نبىّ فى بنى إسرائيل إلى أن بعث الله تعالى يونس نبيّا.
قال: وكان فى بلاد نينوى «1» ملك «2» وكانت جيوشه كثيرة، قيل: إنها كانت تزيد على عشرة آلاف قائد «3» . وكان إذا غزا تكون معه تماثيل من الأسود والفيلة متّخذة من النحاس والحديد، يخرج من أفواهها لهب النّيران، ومعه رجال يلعبون بالنيران.
فغزا هذا الملك بنى إسرائيل على هذه الصورة، فقتل من بنى إسرائيل وسبى، ثم عاد الى بلاد نينوى، وغزاهم ثانية وتكرّرت غزواته فيهم. فأوحى الله تعالى إلى شعيا نبىّ بنى إسرائيل أن يختار من عبّاد بنى إسرائيل أمينا قويّا يبعثه إلى بلاد نينوى رسولا إلى من بها من الملوك وغيرهم؛ فإنهم قد جحدوا حقّى وأنكروا معرفتى. فدخل شعيا على حزقيّا الملك وأمره أن ينادى فى عبّاد بيت المقدس، وبها يومئذ عشرة آلاف عابد، لباسهم الشعر والصوف ونعالهم الخوص، فنادى فيهم بالاجتماع فاجتمعوا، فآختار منهم ثلاثة واختار من الثلاثة يونس بن متّى، ثم قال له حزقيّا: إن الله أوحى إلى نبيّه شعيا أن يختار من جملة هؤلاء العبّاد والزّهّاد أعبدهم وأتقاهم، وقد وقع اختياره عليك لتبعث [إلى أهل «4» ] بلاد نينوى. قال يونس: إن فى بنى إسرائيل من هو أعبد منّى وأزهد، فابعث أيها الملك غيرى. قال: لا أبعث سواك، فانهض
ولا تخالفنى فإنّ هذا عن أمر الله. فانصرف يونس إلى أمّه وأخبرها الخبر واستشارها، فقالت: إن الله أنطق الملك فى حقّك بالرسالة فسر كما أمرت ولا تعص الله ونبيّنا شعيا وملكنا حزقيّا. فعزم على المسير وودّع أمّه وحمل أهله حتى بلغ شاطئ دجلة، فنزل هناك وفكّر فى أمره وضعفه وعياله وقال: كيف لى بمطاولة الجبابرة والفراعنة! وأقبل على أهله وقال: قد عزمت على الفرار، فنهاه أهله عن ذلك. فسكت وقام ليعبر دجلة إلى بلاد نينوى فعبر بولده الأكبر، ثم رجع وأخذ ولده الثانى.
فلمّا توسّط دجلة زاد الماء فغرق ابنه الذى كان معه، وكان فى يده نقرة»
من الذهب كان قد ورثها من حميه فغرقت، وجاء ذئب إلى ولده الذى عبربه فاحتمله.
فصاحت المرأة: يا يونس، إن ابنك أخذه الذئب. فخرج من الماء يعدو خلف الذئب فالتفت إليه وقال: ارجع يا يونس فإنى مأمور، فرجع يونس باكيا على ولديه.
فلمّا بلغ الشطّ لم ير أهله، فجلس يبكى. فأوحى الله إليه: إنك شكوت كثرة العيال، وقد أرحتك منهم، فاذهب الآن إلى قومك فإنى سأردّ عليك أهلك وولديك وأنا على كل شىء قدير. فطابت نفسه وسار حتى بلغ بلاد نينوى فتوسّط سوقها ونادى: يا قوم، قولوا بأجمعكم: لا إله إلا الله وأنّى يونس عبده ورسوله.
فلمّا سمعوا ذلك أقبلوا على ملكهم وأخبروه به وبمقالته. فأحضره الملك وقال له: من أين أنت؟ قال: رسول الله إليك وإلى أهل مملكتك فآمنوا بى تنجوا من النار. فأمر الملك بحبسه ثم بعث إليه وزيره، وهو من أهل بيت المقدس، واسمه سنجير «2» ، فقال له: ادخل على هذا الرجل يونس وتعرّف أمره. فدخل عليه وسأله عن اسمه واسم أبيه، ومن أين أقبل وفيماذا جاء. فذكر له أنه رسول الله
إليهم. فقال له الوزير: أرى أن ترفق فإنى أخشى عليك من هذا الملك فإنه جبّار.
وانصرف الوزير إلى الملك وقال له: قد عرفت الرجل، وقد ذكر أنه رسول من إله السماء. فهمّ الملك بقتله، فآستوهبه الوزير منه على أن يكون فى البلد ولا يقول مثل مقالته. فاستدعى الوزير يونس وذكر له ذلك. فقال له: أمّا القتل فلا أخشى منه، والرسالة فلا أتركها حتى يحكم الله بينى وبينه. ثم إنّ الملك خلّى سبيله على أنه مجنون. فلم يزل يونس يدعوهم إلى طاعة الله تعالى فى كل يوم عامّة نهاره، حتى إذا جاء المساء أتى شطّ دجلة فيصلّى حتى يصبح، ثم يعود إليهم والناس يضربونه ويرجمونه ويسبّونه حتى ضجر فاستغاث إلى ربّه. فأوحى الله تعالى إليه: يا يونس، إنك دعوت القوم فلا تعجل عليهم وادعهم أربعين يوما، فإن آمنوا وإلّا جاءهم العذاب. فدعاهم حتى استكمل العدّة ولم يؤمنوا. فأوحى الله إليه أن اخرج من بين أظهرهم، فخرج حتى بلغ شاطئ دجلة، فقعد ينظر إلى العذاب كيف ينزل بالقوم.
فأمر الله تعالى جبريل أن يرسل على قوم يونس سحابة فيها ألوان العذاب؛ فانطلق إلى مالك وأمره بذلك، فأخرج شرارة من الحطمة «1» على مثال سحابة سوداء مظلمة.
فجاءت بها الزبانية حتى بلغت بلاد نينوى وانبسطت حتى أظلّت عليها، فظنّ القوم أنها مطر. فنظر وزير الملك إلى السحابة يخرج من أطرافها شرر النار، فدخل على الملك وقال: الحذر الحذر! فليست هذه سحابة مطر بل هى سحابة عذاب، وأخشى أن يكون ذلك لتكذيبنا يونس نبىّ الله. ثم قال: انظروا إلى يونس إن كان معكم فى بلدكم فلا تخافوا، وإن كان قد خرج عنكم فقد هلكتم. فطلبوا يونس فلم يجدوه.
وجعلت السحابة تدنو حتى قربت منهم ورمتهم بشرر كالرّماد الأحمر لا يقع على
شىء إلّا أحرقه. فبينا الناس يقولون: أين نطلب يونس إذا هم بالملك قد خرج عليهم وجميع أصحابه وهم يقولون: أين أنت يا يونس! فإنا لا نعود إلى مخالفتك، فلم يجدوه. فأقبل عليهم سنجير الوزير وقال: أيها الملك، إن يكن يونس قد غاب عنّا فإن إلهه لم يغب، فتعالوا حتى نتضرّع إلى الله لعلّه يرحمنا. فخرجوا بأجمعهم ونسائهم وأطفالهم إلى ظاهر البلد يبكون ويتضرّعون، فقام سنجير فيهم وقال:
إلهنا إنك أمرتنا أن نعتق رقاب عبيدنا وإمائنا ونحن عبيدك وإماؤك فأعتقنا.
إلهنا إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا فاغفر لنا واعف عنا. اللهم أعتقنا من عذابك فإنّا قد آمنا بنبيّك يونس وبجميع النبيّين فاغفر لنا ذنوبنا، ثم خرّوا سجّدا بأجمعهم.
فأوحى الله تعالى إلى ملائكة العذاب أن ارجعوا، فانصرفت السحابة عنهم، وسمعوا صوتا: أبشروا يأهل نينوى برحمة من ربكم؛ فرجعوا إلى المدينة وقد آمنوا.
وجاء يونس لينظر إلى ما نزل بهم من العذاب، فلقيه إبليس فى صورة شيخ. فقال له يونس: من أين أقبلت أيها الشيخ؟ [قال «1» ] : من نينوى. قال: فما نزل بهم اليوم؟ قال: ما نزل بنا إلّا سحابة بيضاء أمطرت مطرا جودا «2» ، وكان يونس قد وعدنا بالعذاب فلم يكن وعلمنا كذبه. فغضب يونس وقال: لا أعود إلى قوم كذّبونى، وسار. قال الله تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ «3»
. قال مجاهد وقتادة والضّحاك والكلبىّ: معناه أن لن نقضى عليه بالعقوبة، وهى رواية العوفىّ عن ابن عبّاس؛ ودليل ذلك قراءة عمر بن عبد العزيز والزّهرىّ «فظنّ أن لن نقدّر عليه» بالتشديد. وقال عطاء وكثير من العلماء: معناه نضيّق عليه الحبس.
قال الكسائىّ: فلم يزل يسير حتى لحق بساحل البحر، فإذا هو بسفينة مارّة فلوّح إليهم فدخلوا إليه فقال: احملونى معكم فإنّى رجل منقطع غريب من بيت المقدس. فحملوه فقعد على كوثل «1» السفينة. فلمّا توسّطوا البحر هبّت عليهم رياح كثيرة من جميع الجوانب وأشرفوا على الغرق، فأخذوا فى الدعاء والتضرّع ويونس لا يتكلّم، فأقبل أهل السفينة عليه وقالوا: لم لم تدع أنت معنا؟ قال: لأنى مغموم لذهاب الأهل والولد. فلم يزالوا به حتى دعا، فازداد البحر هيجانا. قال يونس:
اطرحونى فى البحر فإنّ هذا من أجلى. قالوا: ما نفعل. قال: فاقترعوا. فاقترعوا فوقعت القرعة عليه. فقالوا: إنّ القرعة تخطئ وتصيب، ولكن تعالوا حتى نتساهم.
فجعل كل واحد منهم لنفسه سهما ثم رموابها فى البحر، فغرقت إلّا سهم يونس فإنه بقى على وجه الماء. قال الله عز وجل: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
«2»
. ثم أقبل حوت عظيم من بحر الهند حتى بلغ جانب السفينة، فقام يونس ليرمى بنفسه، فتعلّق القوم به وقالوا: ألا ترى هذه الأمواج وهذا الحوت العظيم! فأقعدوه والبحر يزيد عيلهم بكثرة أمواجه وأهواله، فصار إلى جانب السفينة ليرمى بنفسه، فإذا بالحوت قد دار إلى الجانب الذى قصد أن يرمى نفسه منه، فعلم يونس أنه هو المراد، فغطّى وجهه بكسائه ورمى نفسه فى البحر «3» فابتلعه الحوت. قال الله تعالى: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ «4»
معناه يلوم نفسه على ما فعله. وبقى فى جوف الحوت وهو يسمع
تسبيح الحيتان بلغاتهم، فلم يزل كذلك حتى بلغ [الى موضع يسمع فيه صريف الأقلام «1» ] .
وهو اذا سجد يكون سجوده على كبد الحوت وهو يقول له: يا يونس، أسمعنى تسبيح المغمومين المحبوسين فى حبس لم يحبس فيه أحد من الآدميّين، ويونس يقول:
لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ
، وكانت الملائكة تقول: إلهنا إنّا نسمع تسبيح مكروب كان لك شاكرا، اللهمّ ارحمه فى غربته. قال الله تعالى: فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ «2»
الآية. قيل: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت. قال الله تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ «3»
أى المصلّين لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «4»
. واختلف فى مدّة لبثه، فمنهم من قال: لبث أربعين يوما، وقيل: ثلاثة أيام. فلمّا انقضت المدّة التى قدّر الله عليه ألهم الله الحوت أن يرجع إلى الموضع الذى ابتلعه فيه. فشقّ ذلك على الحوت لأنه كان قد أنس به وبتسبيحه، فناداه الملك أن اقذفه من بطنك فليس هو مطعم لك. فتقدّم الحوت إلى الساحل وقذفه. قال الله تعالى: فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ «5» .
قال: خرج كالفرخ الذى لا ريش له، وهو لا يقدر على القيام، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين «6» كان لها ثلاثة أغصان: غصن قبل المشرق، وغصن قبل المغرب، والغصن الثالث على رأسه. وجاءه جبريل فقال: يا يونس، إن الله قد أعطاك من الجنة ما ترضى به، ثم أمرّ يده على رأسه وجسمه فأنبت الله شعره ولحيته، وأمر
الله ظبية فوقفت بين يدى يونس وكلّمته بإذن الله، فمصّ من لبنها فقوى عند شربه؛ ثم بشّرته بإيمان قومه وأخبرته بما كان من أمرهم وسبب إيمانهم وذكرت اشتياقهم إلى رؤيته. وكانت الظبية ترعى حول يونس فإذا جاع أو عطش أرضعته، فلم يزل كذلك أربعين يوما. فنام فى بعض الأيام ثم انتبه فرأى اليقطينة قد جفّت والظبية قد غابت، فاغتمّ لذلك، فعلم يونس أن الله ضرب له مثلا بقومه، ثم هبط عليه ملك وقال: قم إلى قومك فإنهم يتمنّون رؤيتك، وأتاه بحلّتين فأتزر بواحدة وارتدى بالأخرى، ثم سار حتى دخل قرية كثيرة الأشجار والخيرات وأهلها يقطعون تلك الأشجار ويلقون ثمارها فى الأرض، فقال: يا قوم، كيف تفعلون ذلك وتبطلون على أنفسكم ثمارها! فأوحى الله تعالى إليه: يا يونس، إنك أشفقت على قوم لا تعرفهم من قطعهم الأشجار ولم تشفق على قومك وهم مائة ألف أو يزيدون! فعلم يونس أنّ هذا مثل ضربه الله تعالى له، فقال: إلهى لا أعود إلى ذلك أبدا. ثم سار حتى دخل قرية أخرى وقت الماء، فتلّفاه رجل من أهل القرية وسأله أن ينزل عليه فنزل. فلمّا أكل وشرب نظر إلى بيت الرجل وفيه فخّار كثير يريد أن يوقد عليه.
فأوحى الله تعالى إليه: يا يونس، قل لهذا الفاخرانىّ أن يكسر الفخّار الذى قد عمله.
فقال يونس ذلك للفاخرانىّ، فقال: يا هذا أضفتك لما رأيت فيك من أثر الخير وإذا أنت رجل مجنون، تأمرنى أن أكسّر فخّارا قد أتعبت فيه نفسى لأنتفع بثمنه! قم الآن فاخرج من عندى، وأخرجه. فأوحى الله تعالى إليه: يا يونس، إنه أشفق على فخاره وسمّاك مجنونا وأخرجك من منزله حين أمرته بكسره، وأنت بعثت إلى مائة ألف أو يزيدون فدعوت عليهم ولم تفكّر فى هلاكهم فترحمهم!. قال: إلهى لا أعود إلى ذلك أبدا. فلمّا أصبح سار فإذا هو برجل يزرع زرعا، فقال له الرجل:
ادع الله عز وجل حتى يبارك لى فى زرعى، فدعا له فأنبته الله تعالى من ساعته
وقام على سوقه، ففرح الرجل وأتى بيونس إلى منزله. فأوحى «1» الله تعالى إليه:
يا يونس، قد حزنت على إرسال الجراد على الزرع ولم تزرعه، ولم تحزن على إرسال العذاب على مائة ألف أو يزيدون!. قال: إلهى تبت إليك من ذنبى لا أعود إليه أبدا. وسار حتى دخل قرية وهناك امرأة معها رجل وهو ينادى: من [يحمل «2» ] هذه المرأة إلى بلاد نينوى [ويردّها «3» ] إلى زوجها وله مائة مثقال من الذهب؟ فنظر إليها يونس فإذا هى امرأته، فقال: أيها الرجل، ما قصّة هذه المرأة؟ قال: إنها كانت قاعدة على شاطئ دجلة تنتظر زوجها يونس، فمرّ بها ملك من ملوك هذه القرية فاحتملها وأراد أن يفجر بها، فأيبس الله يديه ورجليه، فسألها أن تدعو له بالفرج ولا يعود إلى ذلك، فدعت له. فلمّا عافاه الله لوقته دفعها إلىّ وأعطانى مائة مثقال ذهبا على أن أحملها إلى بلاد نينوى، وما يمكننى ذلك. قال يونس:
أنا أحملها فأعطنى الذهب، فأعطاه إياه وسلم إليه المرأة. فسارا وقد فرحا حتى أتيا قرية أخرى، وإذا برجل يبيع سمكة، فاشتراها يونس وقعد ليصلحها فشقّ بطنها فوجد فيها تلك الصرّة الذهب التى وقعت منه فى دحلة، فقال: الحمد الله الذى ردّ علىّ أهلى ومالى، اللهمّ فاردد علىّ أولادى يا أرحم الرحمين، ثم سار فإذا هو برجل على دابّة ومن ورائه غلام، فإذا هو ولد يونس الصغير. فتعلّق به، فقال له الرجل: من أنت؟
قال: أنا يونس. فسلم اليه الغلام وقال: الحمد الله الذى ردّ الأمانة الى أهلها وخلّص ذمّتى. فسأله يونس عن قصّة الغلام فقال: أنا رجل صيّاد، وكنت قد ألقيت الشبكة فى طرف دجلة فوقع هذا الغلام فيها فأخذته، وإذا بها تف يقول:
يا صيّاد، احفظ هذا الغلام حتى يأتى اليك يونس فإنه أبوه فادفعه اليه. ثم قال له: يا نبىّ الله، أدع لى أن يغنينى الله عن صيد السمك، فدعا له فرزقه الله مالا وولدا. وسار يونس حتى قرب من بلاد نينوى، فإذا هو براع على قارعة الطريق يرعى غنما وهو يقول: اللهمّ اردد علىّ والدى، فرآه يونس فعرفه وهو ولده الأكبر، فتعانقا وبكيا طويلا، ثم قال له: يا أبت إنّ هذه الأغنام لرجل فى القرية فسر معى حتى أردّها اليه، فسارا إلى القرية وإذا بشيخ على باب داره، فقال له الغلام: هذا أبى. فقام الشيخ الى يونس وسلم عليه. فقال له يونس: هل تعرف قصّة هذا الغلام؟ قال الشيخ: نعم، كنت أرعى هذه الغنم، وإذا بهذا الغلام على ظهر ذئب فكلّمنى الذئب بقدرة الله وقال: إذا جاء اليك يونس فادفع إليه هذا الغلام. ثم قال له: يا نبىّ الله، أدع الله أن يغفر لى ذنوبى وأن يميتنى فى وقتى هذا، فدعا له فقبضه الله لوقته، فغسّله يونس وكفّنه وصلى عليه ودفنه. ثم سار حتى قرب من المدينة، فإذا هو بغلام يرعى غنما فوقف يونس عليه السلام وقال: يا غلام، هل من لبن؟ قال الغلام:
يا هذا، والذى بعث إلينا يونس نبيّا ما ذقت اللبن منذ غاب عنّا نبيّنا يونس. قال:
فأنا يونس نبىّ الله. فقبّل الغلام رأسه وقال: لو رأيتنا يا نبىّ الله ونحن نجول تحت العذاب لرحمتنا. قال: يا غلام، اذهب الآن الى المدينة وأخبر الناس أنك قد رأيتنى. قال: أخشى أن يكذّبونى. فقال: سر اليهم [وهذه الأغنام شهود «1» لك] .
فمضى حتى توسّط سوق المدينة وقال: أيها الناس، البشرى فقد رجع إلينا يونس نبيّنا وقد لقيته. فاتّصل الخبر بالملك فقام عن سريره وقال: علىّ بالغلام، فأتى به، فسأله فأخبره بمقدم يونس. ففرح وخرج الملك وأهل المدينة والتقوا بيونس وأدخلوه المدينة وأجلسه الملك فى موضعه، ووقف بين يديه، وفرح به أهل المدينة. فقام