الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر خبر سليمان وبلقيس وسبب زواجه بها
قال: وكان سبب اتّصال خبرها بسليمان عليه السلام أنه بينما هو يسير على بساطه، وكان الهدهد دليله على الماء لأنه يراه من عدّة فراسخ، فارتفع فى الهواء لطلب الماء، فنظر الى هدهد قد أقبل من ناحية اليمن، فالتقيا. فقال له الهدهد السليمانىّ: من أين أنت؟ قال: من اليمن. وسأله الآخر فقال: أنا من الشام من طيور الملك سليمان. قال: ومن سليمان؟ قال: نبىّ الله ملك الجنّ والإنس والطير وجميع المخلوقات. قال: إنّ هذا ملك عظيم. قال: وهل فى اليمن ملك؟ قال:
نعم، ملكة يقال لها «بلقيس» تحت يدها عشرة آلاف قائد، تحت يد كلّ قائد كذا وكذا ألفا من العساكر.
وحكى الثعلبىّ أنه قال لمّا أخبره بملك سليمان: إن لصاحبكم ملكا عظيما، ولكن ليس ملك بلقيس دونه، فإنها ملكة اليمن وتحت يدها اثنا عشر ألف قيل مع كل قيل مائة ألف مقاتل- والقيل هو القائد بلغة أهل اليمن- فهل أنت منطلق معى حتّى تراها؟ قال نعم. فانطلق الهدهدان حتى أتيا بلاد اليمن وصارا إلى قصرها؛ فنظر إليها [الهدهد «1» السليمانىّ] وإلى قصرها وملكها. وحضر وقت الصلاة لسليمان فلم يجد الهدهد، فقال ما أخبر الله به عنه: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ* لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ «2»
أى بحجة بيّنة. ثم دعا العقاب وقال: أنت عريف الطير، فتعرّف لى خبر الهدهد.
فطار فى الشرق والغرب، وإذا هو بالهدهد قد أقبل من جهة اليمن، فجاء به إلى سليمان.
فاستخبره عن سبب غيبته فقال: «أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبإ
يقين. إنى وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كلّ شىء ولها عرش عظيم» .
وذكر صفة عرشها وما فيه من أصناف الجواهر وغيرها ثم قال: «وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله» وخرّ ساجدا لله، ثم رفع رأسه وقال:«ألّا يسجدوا لله الذى يخرج الخبء «1» فى السّموات والأرض» . قال سليمان: «سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين» !. ثم سأله عن الماء فقال: هو تحت قائمة كرسيّك.
فأمر سليمان بتحويل البساط، فحوّل ونقر الهدهد بمنقاره فخرج الماء، فشرب الناس وصلّوا. ثم قال لهدهد:«اذهب بكتابى هذا فألقه إليهم ثم تولّ عنهم فانظر ماذا يرجعون» وأقبل سليمان على آصف بن برخيا وقال: أكتب إلى هذه المرأة كتابا لطيفا. فدعا بصحيفة من فضّة وكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم. إنه من سليمان. ألّا تعلوا علىّ وأتونى مسلمين» . وختم الكتاب وبعثه مع الهدهد فى زمرة من الطير، فأقبلوا نحو اليمن وانقضّوا على قصرها، ودخل الهدهد إلى قبّتها من كوّة «2» من كوى القبّة وهى نائمة، وقد وضعت خاتم ملكها على صدرها، فوضع الكتاب على نحرها وطار. فلما استيقظت أخذت الكتاب وجمعت قومها ثم قالت:«إنّى ألقى إلىّ كتاب كريم» وفتحته وقالت: إنه من سليمان، وقرأته عليهم وعلمت أنه من قبل رجل عظيم. وجمعت أكابر قومها وأهل العقل والعلم الذين فى مملكتها و «قالت يأيها الملأ أفتونى فى أمرى ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون. قالوا نحن أولو قوّة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظرى ماذا تأمرين» . فعلمت عند ذلك أنهم قد أخطلوا الرأى فى عزمهم على الحرب و «قالت إنّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذلّة وكذلك يفعلون. وإنّى مرسلة إليهم بهديّة فناظرة بم يرجع المرسلون» .
قال: وأرادت أن تختبر حال سليمان عليه السلام فقالت: إن طلب الدنيا أرضيناه بالمال وصرفنا أذاه عنّا، وإن كان من الأنبياء ولم ترغّبه الدنيا لم يكن لنا أمر إلا الطاعة له، فمضوا على رأيها، فأمرت باتّخاذ الهدايا. فعاد الهدهد إلى سليمان وأخبره بما كان من أمرها مع قومها. فأمر سليمان أن يفرش ميدانه بلبن الذهب والفضّة، وأن يبنى حول الميدان حائط من الفضة شرفاته من الذهب، على كل شرفة تاج من الذهب مرصّع بالجوهر، وأمر الجنّ أن يأتوا بأولادهم من الذكور والإناث، وأمر بإحضار كل فرس عجيب الخلق.
قال الثعلبىّ: إنّ سليمان عليه السلام سأل الجنّ عن أحسن دوابّ رأوها فى البحر. قالوا: رأينا دوابّ فى بحر كذا وكذا منمّرة منقّطة مختلفة ألوانها، لها اجنحة وأعراف ونواص. قال: علىّ بها الساعة، فأتوه بها. قال: شدّوها عن يمين الميدان ويساره، ففعلوا. قالوا: وأمر سليمان الشياطين أن يظهروا من التهويلات ما لم يظهروه قبل ذلك اليوم.
قال الكسائىّ: وكانت بلقيس قد أعدّت مائة لبنة من الذهب، ومائة لبنة من الفضّة، ومائة غلام أمرد، لكل غلام ضفائر كضفائر النساء، ومائة وصيفة مضمومات الشعر.
قال الثعلبىّ: واختلفوا فى عددهم، فقال الكلبىّ: عشرة غلمان وعشر جوار.
وقال مقاتل: مائة وصيف ومائة وصيفة. وقال مجاهد: مائتا غلام ومائتا جارية.
وقال وهب: خمسائة غلام وخمسائة جارية. وألبست الغلمان ثياب الوصائف، وألبست الوصائف ثياب الغلمان.
وقال الثعلبىّ: قال وهب وغيره من أهل الكتب: عمدت بلقيس إلى خمسمائة جارية وخمسائة غلام، فألبست الجوارى لباس الغلمان، وألبست الغلمان
لباس الجوارى، وجعلت فى سواعدهم أساور من ذهب، وفى أعناقهم أطواقا من ذهب، وفى آذانهم أقراطا وشنوفا «1» من ذهب مرصّعات بألوان الجواهر، وحملت الجوارى على خمسمائة رمكة «2» ، والغلمان على خمسمائة برذون، على كل فرس لجام من ذهب مرصّع بالجواهر، وغواشيها من الدّيباج الملوّن، وبعث إليه خمسمائة لبنة من ذهب، وخمسمائة لبنة من فضة.
قالوا: وعمدت الىّ تاج من ذهب مرصّع بالجواهر، ومائة فرس من جياد خيول اليمن، عليها براقع الحرير وأجلّة الديباج، وبعث بحقّة من ذهب فيها درّة غير مثقوبة، وجزع يمانىّ مثقوب معوّج الثّقب، [وقارورة «3» ] وبعثت ذلك مع وزيرها، وكتبت جواب كتاب سليمان وقالت: قد بعثت إليك بمائتى وصيف ووصيفة على سنّ واحدة، وأحبّ أن تميّز ذكورهم من إناثهم من غير أن تكشف عنهم، ودرّة غير مثقوبة تأمر من يثقبها من غير أن تستعين بأحد من الإنس والجنّ والشياطين، وجزع مثقوب تدخل فيه خيطا، وقارورة تملؤها ماء ما نزل من السماء ولا نبع من الأرض.
فلمّا جاء الرسول ونظر الىّ ميدان سليمان وحيطانه وما على شرفاتها من التّيجان والخيول حول الميدان، دخل على سليمان بالجوارى والغلمان والحقّة والقارورة، ولم يظهر الذهب والفضة والخيل لأنه استحقرها بالنسبة إلى ما رآه.
وقال الثعلبىّ: إنه كان مما بعثته خمسمائة لبنة من ذهب، وخمسمائة لبنة من فضة. قال: فلمّا دنا القوم من الميدان ونظروا الى ملك سليمان ورأوا الدوابّ تروث على لبن الذهب والفضة رموا ما معهم من الهدايا. قال: وفى بعض الروايات أنّ سليمان لمّا أمر بفراش الميدان بلبن الذّهب والفضّة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعا على قدر اللّبنات التى معهم. فلمّا رأت الرسل موضع اللّبنات خاليا وكل الأرض مفروشة خافوا أن يتّهموا بذلك، وطرحوا ما معهم فى ذلك المكان.
قال: ثم مرّوا على الشياطين، فلمّا نظروا إليهم فزعوا. فقيل لهم: جوزوا فلا بأس عليكم. وكانوا يمرّون على كردوس «1» كردوس من الجنّ والإنس والطير والسباع والوحش حتى وقفوا بين يدى سليمان عليه السلام.
قال الكسائىّ: فقدّم الكتاب إلى سليمان، فأخبر سليمان الرسول بما فيه قبل فتحه وقراءته، وميّز الوصفاء من الوصائف، وأمر دودة فثقبت الدّرّة وأدخلت الخيط فى الجزع، وأمر أن تساق الخيل حتى تعرق وتملأ القارورة من عرقها، وأقبل على وزير بلقيس وقال: ارجع إلى صاحبتك بما جئت به من الهديّة وقل لها: «أتمدّوننى بمال فما آتانى الله خير ممّا آتاكم بل أنتم بهديّتكم تفرحون.
ارجع إليهم فلنأتينّهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنّهم منها أذلّة وهم صاغرون» .
قال: فعاد الوزير إليها بما جاء به من الهديّة وأخبرها بما كان من أمر سليمان.
فقالت لقومها: هل علمتم الان أنّ رأيى كان أصوب من رأيكم فى ترك المحاربة؟
ومن أين لنا طاقة بحرب نبىّ!! ثم جمعت أموالها وكنوزها واستصحبت ذلك معها
إلّا عرشها فإنّها تركته بقصرها وأغلقت عليه سبعة أبواب وسارت إلى سليمان ومعها ملوك اليمن وأكابرها وساداتها، فبلغ ذلك سليمان.
قال أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله تعالى: شخصت بلقيس إلى سليمان عليه السلام فى اثنى عشر ألف قيل من ملوك اليمن، تحت يد كل قيل منهم مائة ألف. قال ابن عبّاس رضى الله عنهما: وكان سليمان رجلا مهيبا، لا يبتدأ بشىء حتى يكون هو الذى يسأل عنه. فخرج يوما فجلس على سرير ملكه فرأى رهجا «1» قريبا منه، فقال: ما هذا؟ قالوا: بلقيس. قال: وقد نزلت منّا بهذا المكان؟ قالوا نعم. قال ابن عبّاس رضى الله عنهما: كما بين الكوفة والحيرة قدر فرسخ.
قال: فأقبل حينئذ سليمان على جنوده فقال: «يأيها الملأ أيّكم يأتينى بعرشها قبل أن يأتونى مسلمين. قال عفريت من الجنّ أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإنّى عليه لقوىّ أمين» قال: أريد أسرع من ذلك. «قال الّذى عنده علم من الكتاب- وهو آصف بن برخيا- أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك» . قال:
وكان عنده اسم الله الأعظم. «فلمّا رآه مستقرّا عنده قال هذا من فضل ربّى ليبلونى أأشكرأم أكفر ومن شكر فإنّما يشكر لنفسه ومن كفر فإنّ ربّى غنىّ كريم» . ثم قال سليمان: «نكّروا لها عرشها ننظر أتهتدى أم تكون من الذين لا يهتدون» . فأقبل عفريت من الجنّ وقال: يا نبىّ الله، إنّ رجليها كحافر حمار. قال له سليمان: إن كان ذلك كما قلت وإلا عاقبتك. قال: يا نبىّ الله، أريد أن أتّخذ لك صرحا «2» من قوارير، وأجرى فيه ماء، وأنزل فيه الحيتان والسمك، فلا يشكّ من رآه أنه
ماء جار، فاتّخذه كذلك. فلمّا فرغ منه شكره. فقال: يا نبىّ الله، أعف عنّى فإنّى كذبت على بلقيس فى رجليها، فعفا سليمان عنه.
وأقبلت بلقيس فجعلت تنظر إلى الجنّ والإنس والطير والوحش وغيرهم، وهم قيام لا يضرّ بعضهم بعضا. فلما قاربت الصّرح الممرّد إذا بعرشها، فتعجّبت.
فقيل: أهكذا عرشك؟ قالت: كأنه هو، وعلمت أنّه هو، وأنه من قدرة الأنبياء.
قال: فلمّا أقبلت إلى الصرح حسبته لجّة وكشفت عن ساقيها. فناداها سليمان:
إنه صرح ممرّد من قوارير. فأرسلت ثوبها على ساقيها حياء من سليمان، ثم «قالت ربّ إنّى ظلمت نفسى وأسلمت مع سليمان لله ربّ العالمين» ثم أسلم قومها.
قال الثعلبىّ: اختلف العلماء فى أمرها بعد إسلامها، فقال أكثرهم: لمّا أسلمت بلقيس أراد سليمان أن يتزوّجها. فلمّا همّ بذلك كره ما رأى من كثرة شعر ساقيها وقال: ما أقبح هذا!. فسأل الإنس: بم يذهب هذا؟ فقالوا: بالموسى.
فقالت المرأة: لم يمسّنى الحديد قطّ، فكرهه سليمان. فسأل الجنّ، فقالوا: لا ندرى.
فسأل الشياطين فمكروا عليه، فلمّا ألحّ عليهم قالوا: نحن نحتال عليه حتى يكون كالفضّة البيضاء، فآتّخذوا لها النّورة «1» والحمّام. قال ابن عبّاس رضى الله عنهما:
هو أوّل يوم اتّخذت فيه النّورة. وقال الكسائىّ فى سياقة خبره: ثم قالت بلقيس: يا نبىّ الله، أرى خاتمك منقوشا، فما الذى عليه؟ قال:«لا إله إلا الله محمد رسول الله» . قالت: ومن محمد؟ قال: نبىّ يخرج فى آخر الزمان، فآمنت