الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال موسى بن نصير: بعثت فى أيّام الوليد إلى مدينة تدمر ومعى العباس بن الوليد بن عبد الملك، فجاء مطر عظيم فانهار بعض حائط المدينة، فانكشفت عن تابوت طوله ستون ذراعا وعرضه أربعون ذراعا متّخذ من حجر كالزّعفران مكتوب عليه:«هذا تابوت بلقيس الصالحة أسلمت لثلاث عشرة سنة خلت من ملك سليمان، وتزوّج بها يوم عاشوراء سنة أربع عشرة خلت من ملكه، وتوفّيت يوم الاثنين من ربيع الأوّل سنة إحدى وعشرين مضت من ملكه، وقد دفنت ليلا فى حائط مدينة تدمر، ولم يطّلع على دفنها إنس ولا جنّ ولا شيطان» . قال:
فرفعنا غطاء التابوت واذا هى غضّة كانها دفنت ليلتها. فكتبتا بذلك إلى الوليد فأمر بتركه فى مكانه، وأن يبنى عليه بالصخر والمرمر، ففعلنا ذلك.
ذكر خبر وفاة سليمان بن داود عليهما السلام
قال الكسائىّ: ملك سليمان شرق الأرض وغربها وطاف أقطارها حتى انتهى إلى السّدّ «1» الذى هو بالقرب من جبل قاف «2» ، فوقف هناك ثم قال للريح: هل
جريت هاهنا قطّ؟ قالت: لا يا نبىّ الله، وإنه آخر الدنيا وليس وراءه إلا علم الله تعالى. ثم أمر الريح فاحتملته حتى نظر إلى التّنّين المحدق بالعالم، فسار أياما على طرف من أطرافه فإذا هو بملك، فقال: يابن داود إن هذا التّنين محيط بالعالم الذى هو مسيرة خمسائة عام. ثم ارتفع إلى مستقرّ الغام ونظر إلى مجمع القطر، ونزل من هناك إلى مسكن الليل والنهار فاذا هو بملك يقول: اللهم أعط كل منفق خلفا وكل ممسك تلفا. ثم أمر الريح أن تحطّ بساطه إلى الأرض المقدّسة، وكانت مدّة غيبته مائة وثلاثين يوما. وكان فى طول سفرته هذه يرى شخصا بين يديه يسبق كل شىء، فسأله من هو؟ فأخبره أنه ملك الموت، فوقعت عليه الرّعدة وتغيّر لونه وجعل ابنه رحبعم خليفته، وأوصى الناس بالسمع والطاعة له. وأخذ فى الصوم والصلاة طول ليله، فإذا أصبح خرج من محرابه إلى روضة هناك فيها نبات حسن يتسلّى به. فخرج فى بعض الأيام فرأى نبتا غريبا لم يكن قد رآه قبل ذلك اليوم. فقال: أيها النبت ما أنت؟ قال: أنا الخرنوب الذى لا أنبت فى موضع إلا خرّبته. فقال سليمان: فما تصنع هاهنا فلست من نبات الرياض بل من نبات البرارى؟ قال: قد أمرت أن أنبت هاهنا. فعاد سليمان من الغد وهو على حاله وقد زاد نباته. فقال له سليمان: ألم آمرك أن تلحق بموضعك من البرراى!. قال الخرنوب: يا نبىّ الله. إنّ هذا الموضع سيخرب عن قريب، فسكت سليمان. فلما ضعف عن العبادة توكأ على عصاه. فبينا هو فى محرابه متوكئا قائما يتلو الزّبور والتوراة إذ أتاه ملك الموت، فرفع رأسه إليه فناوله شمّة فشمّها فمات.
وبقى سليمان على حالته لم يسقط إلى الأرض ولم يتحرّك ولا مال. فهابوه وما جسروا أن يتقدّموا إليه. وقالوا: إنه لم يمت، ولم تزل الإنس والجنّ والشياطين والوحش
والطير فى الطاعة والأعمال حتى مضت سنة، ثم وقعت الأرضة فى أسفل العصا؛ فذلك قوله تعالى: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ
. فخرّ سليمان عند ذلك كالخشبة اليابسة، وكانت الجنّ قبل ذلك تدّعى علم الغيب؛ قال الله تعالى: فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ «1»
أى فى تلك السنة فى نقل الصخور والبنيان وغير ذلك.
وحكى أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله تعالى فى خبر وفاة سليمان عليه السلام:
قال أهل التاريخ: لبث سليمان فى ملكه بعد أن ردّه الله عليه تعمل له الجنّ ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابى وقدور راسيات وغير ذلك، ويعذّب من الشياطين من يشاء، ويأمرهم بحمل الحجارة الثقيلة ونقلها إلى حيث أحبّ. فأتاهم إبليس وهم فى العمل فقال: كيف أنتم؟ فقالوا: ما بنا طاقة لما نحن فيه. فقال لهم: تذهبون تحملون الحجارة وترجعون فرّاغا لا تحملون شيئا؟
قالوا نعم. قال: فأنتم فى راحة. فأبلغت الريح ذلك سليمان، فأمرهم أن يحملوا ذاهبين وراجعين. فقال لهم إبليس: تعملون بالليل؟ قالوا لا. قال: فأنتم فى راحة. فأبلغت الريح ذلك سليمان، فأمرهم أن يعملوا بالليل والنهار. فأتاهم إبليس فسألهم فشكوا إليه أنهم يعملون بالليل والنهار. فقال لهم إبليس: وفعلها؟ قالوا:
نعم. قال: فتوقّعوا الفرج، فقد بلغ الأمر منتهاه. فما لبثوا إلا يسيرا حتى مات سليمان.
قال ابن عبّاس وغيره: كان سليمان يتحنّث «1» فى بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقلّ من ذلك وأكثر، يدخله ومعه طعامه وشرابه، فدخله فى المرّة التى مات فيها. قال: وكان بدء ذلك أنه لم يكن يوما يصبح فيه إلا نبت فى بيت المقدس شجرة فيسألها سليمان ما اسمك؟ فتقول الشجرة: اسمى كذا وكذا.
فيقول: لأى شىء تصلحين؟ فتقول: لكذا وكذا؛ [فيأمر «2» بها فتقطع] ، فإن كانت تنبت لغرس غرسها، وإن كانت لدواء كتب عليها لكذا وكذا. فبينا هو يصلّى ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه، فقال لها: ما اسمك؟ فقالت: الخرنوبة.
قال: ولأىّ شىء نبتّى؟ قالت: لخراب هذا المسجد. فقال سليمان: ما كان الله ليخربه وأنا حىّ، أنت الذى على وجهك هلاكى وخراب بيت المقدس. فنزعها وغرسها فى حائط له، ثم قال: اللهمّ عمّ عن الجنّ موتى حتى يعلم الإنس أنّ الجنّ لا يعلمون الغيب. وكانت الجنّ يخبرون الإنس أنهم يعلمون الغيب وأنهم يعلمون ما فى غد.
قال: ثم دخل سليمان المحراب فقام يصلّى متكئا على عصاه، فمات على تلك الحالة، ولم يعلم بذلك أحد من الشياطين، وهم فى ذلك يعملون له يخافون أن يخرج فيعاقبهم.
قال وقال عبد الرحمن [بن زيد «3» ] قال سليمان لملك الموت: إذا أمرت بى فأعلمنى. قال: فأتاه فقال: يا سليمان قد أمرت بك وقد بقيت لك سويعة.
فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب، فقام يصلّى واتكأ على عصاه، فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متكئ على عصاه.
قال وفى رواية أخرى: أنّ سليمان قال ذات يوم لأصحابه: قد آتانى الله من الملك ما ترون، وما مرّ علىّ يوم فى ملكى بحيث صفا لى من الكدر، وقد أحببت أن يكون لى يوم واحد يصفولى إلى الليل ولا أغتمّ فيه، وليكن ذلك غدا. فلما كان من الغد دخل قصرا له، وأمر بإغلاق أبوابه ومنع الناس من الدخول عليه ورفع الأخبار إليه لئلا يسمع شيئا يسوءه، ثم أخذ عصاه بيده وصعد فوق قصره واتكأ عليها ينظر فى ممالكه، إذ نظر إلى شابّ حسن الوجه، عليه ثياب بيض قد خرج عليه من جانب قصره فقال: السلام عليك يا سليمان. فقال سليمان: وعليكم السلام، كيف دخلت هذا القصر وقد منعت من دخوله؟ أما منعك البوّاب والحجّاب!.
أما هبتنى حين دخلت قصرى بغير إذنى!! فقال: أنا الذى لا يحجبنى حاجب، ولا يمنعنى بوّاب، ولا أهاب الملوك، ولا أقبل الرّشا، وما كنت لأدخل هذا القصر بغير إذن. فقال سليمان: فمن أذن لك فى دخوله؟ قال: ربّه. فارتعد سليمان وعلم أنه ملك الموت. فقال له: أنت ملك الموت؟ قال نعم. قال: فيم جئت؟
قال: جئت لأقبض روحك. قال: يا ملك الموت، هذا يوم أردت أن يصفو لى وما أسمع فيه ما يغمّنى. قال له: يا سليمان، إنك أردت يوما يصفو لك فيه عيشك حتى لا تغتمّ فيه، وذلك اليوم لم يخلق فى الدنيا، فارض بقضاء ربك فإنه لا مردّ له. قال: فاقبض كما أمرت، فقبض ملك الموت روحه وهو متكئ على عصاه.
قال الثعلبىّ قالوا: وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه ومصلّاه أينما كان.
وكان للمحراب كوى بين يديه ومن خلفه، فكان الشيطان الذى يريد أن يدخل يقول: ألست جليدا إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب، فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر. فدخل شيطان من أولئك فمرّ، ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان
فى المحراب إلا احترق، فمرّ ولم يسمع صوت سليمان، ثم رجع ولم يسمع، ثم رجع فوقع فى البيت فلم يحترق، ونظر إلى سليمان عليه السلام قد سقط ميّتا، فخرج فأخبر الناس أنّ سليمان قد مات، ففتحوا عنه وأخرجوه ووجدوا منسأته- وهى العصا بلسان الحبشة «1» - قد أكلتها «2» الأرضة، فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولا كاملا، فأيقن الناس أنّ الجنّ كانوا يكذبونهم، ولو أنهم علموا الغيب لعلموا بموت سليمان، فلم يلبثوا فى العذاب سنة يعملون.
قال: ثم إنّ الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام لأتيناك بأطيب طعام، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب، ولكننا سننقل إليك الماء والطين. قال: فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت. قال:
ألم تر إلى الطين الذى يكون فى جوف الخشب فهو مما تأتيها به الشياطين شكرا لها؛ فذلك قوله تعالى: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ
وهى الأرضة، ويقال لها القادح أيضا، وهى دويبّة تأكل العيدان تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ
أى عصاه فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ
…
الآية.
قال أهل التاريخ: كان عمر سليمان ثلاثا وخمسين سنة، ومدّة ملكه أربعين سنة، وملّك يوم ملّك وهو ابن ثلاث عشرة سنة.
وقال الكسائىّ قال وهب: عاش سليمان ستين سنة، منها فى الملك والنبوّة أربعون سنة. قال: وتفرّقت الإنس والجنّ وغيرهم، فتفرّق بنو إسرائيل بعده
ثلاث فرق: فرقة كفروا واتبعوا السحرة، وفرقة اعتزلوا وقالوا: لا نطيع بعده أحدا، وفرقة اتبعوا ابنه رحبعم «1» .
قال الثعلبىّ: ملك بعد سليمان عليه السلام ابنه رحبعم، وكان قد استخلفه فنبّأه الله تعالى ولم يكن رسولا ثم قبض، وكان ملكه سبع عشرة سنة.
ثم ملك بعده ابنه أيشا «2» بن رحبعم، وكان ملكه ثلاثا وستين سنة. ثم ابنه أينا.
وقال الكسائىّ: ملك بعد رحبعم ابنه لايى، وملك بعد لايى ابنه أيشا بن لايى، ثم بعث الله تعالى بعد أن قبض أيشا، شعيا «3» وهو من ولد هارون بن عمران.
وقال الثعلبىّ فى سياقه: لمّا ملك أينا بن أيشا، وكان رجلا صالحا، وكان أعرج، وكان به عرق النّسا، فطمعت الملوك فيه لضعفه، وافترقت ملوك بنى إسرائيل، فغزاهم ملك من ملوك الهند يقال له «زرج «4» الهندىّ» فى جمع كثير، فبعث الله تعالى عليهم ملائكة فهزموهم، فقصدوا البحر حتى ركبوه جميعا، فبعث الله تعالى عليهم الرياح والأمواج حتى ضربت سفنهم بعضا ببعض، فتكسّرت وغرق زرج ومن كان معه، وألقت الأمواج أثقالهم وأموالهم وسلبهم إلى محلّة بنى إسرائيل، ونودوا أن خذوا ما غنمكم الله وكونوا فيه من الشاكرين. ثم لم يزل يغزوهم الملك بعد الملك من ملوك العراق وغيرهم، فيهلكهم الله تعالى الى أن ظهر فيهم الظلم والفساد، وفشت فيهم المعاصى، وعبد بعض ملوكهم الأصنام، فكان من أمرهم ما نذكره إن شاء الله تعالى.