الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
به بعد النّكرة، وأكثّر به بعد القلّة، وأغنى به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة؛ وأؤلّف به قلوبا مختلفة، وأهواء متشتّتة، وأمما متفرّقة، وأجعل أمّته خير أمّة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، إيمانا بى، وتوحيدا لى، وإخلاصا بى «1» ، يصلّون قياما وقعودا، وركّعا وسجودا، ويقاتلون فى سببلى صفوفا وزحوفا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضوانى [ألوفا «2» ] . ألهمهم التكبير والتوحيد، والتسبيح والتحميد، فى مجالسهم ومسيرهم ومضاجعهم ومتقلّبهم ومثواهم؛ يكبّرون ويهلّلون ويقدّسون على رءوس الأشراف، ويطهّرون لى الوجوه والأطراف، ويعقدون الثياب إلى الأنصاف؛ قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم صدورهم؛ رهبان بالليل، ليوث بالنهار. ذلك فضلى أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم.
قال: فلمّا فرغ نبيّهم شعيا من مقالته عدوا عليه ليقتلوه فهرب منهم فانفلقت له شجرة فدخل فيها، فأدركه الشيطان فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إيّاها، فوضعوا المنشار فى وسطها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه فى وسطها.
ذكر قصة إرميا عليه السلام
قال أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله: استخلف الله تعالى على بنى إسرائيل بعد قتلهم شعيا عليه السلام رجلا منهم يقال له «ناشية بن آموص» ، وبعث لهم الخضر نبيّا. قال: واسم سمّى الخضر إرميا بن حلقيّا، وكان من سبط هارون ابن عمران. قال: وإنما سمّى الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فقام عنها وهى تهتزّ «3» خضراء. فقال الله عز وجل لإرميا حين بعثه إلى بنى إسرائيل: يا إرميا، من قبل أن خلقتك اخترتك، ومن قبل أن أصوّرك فى بطن أمّك قدّستك، ومن
قبل أن أخرجك من بطن أمّك طهّرتك، ومن قبل أن تبلغ السّعى نبّأتك، ولأمر عظيم اجتبيتك؛ فذكّر قومك نعمى، وعرّفهم أحداثهم، وادعهم إلىّ. وكانت الأحداث قد عظمت فى بنى إسرائيل فركبوا المعاصى واستحلّوا المحارم. فقال إرميا: إنى ضعيف إن لم تقوّنى، عاجز إن لم تنصرنى. فقال الله عز وجل:
أنا ألهمك. فقام إرميا فيهم ولم يدر ما يقول، فألهمه الله عز وجل خطبة طويلة بليغة، بيّن لهم فيها ثواب الطاعة وعقاب المعصية، وقال فى آخرها: وإنى أحلف بعزّتى لأقيّضنّ لهم فتنة يتحيّر فيها الحكيم، ولأسلّطنّ عليهم جبّارا قاسيا قلبه، ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة، يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم. ثم أوحى الله تعالى إلى إرميا: إنّى مهلك بنى إسرائيل بيافث، ويافث أهل بابل، وهم من ولد يافث بن نوح. فلمّا سمع ذلك إرميا صاح وبكى وشقّ ثيابه ونبذ الرّماد على رأسه.
فلمّا سمع الله عز وجل تضرّعه وبكاءه ناداه: يا إرميا، أشقّ عليك ما أوحيت إليك؟ قال: نعم يا ربّ، أهلكنى قبل أن أرى فى بنى إسرائيل ما لا أسرّ به.
فقال الله عز وجل: وعزّتى لا أهلك بنى إسرائيل حتى يكون الأمر فى ذلك من قبلك. ففرح بذلك إرميا وطابت نفسه وقال: لا والذى بعث موسى بالحقّ لا أرضى بهلاك بنى إسرائيل. ثم أتى الملك فأخبره بذلك، وكان ملكا صالحا، ففرح واستبشر وقال: إن يعذّبنا ربّنا فبذنوب كثيرة، وإن عفا عنا فبرحمته.
ثم إنهم لبثوا بعد الوحى ثلاث سنين لم يزدادوا إلّا معصية وتماديا فى الشرّ، وذلك حين اقترب هلاكهم ودعاهم الملك إلى التوبة فلم يفعلوا، فسلّط الله عليهم بختنصّر فخرج فى ستمائة ألف رأية يريد بيت المقدس. فلمّا فصل «1» سائرا أتى الخبر الملك فقال لإرميا: أين ما زعمت أنّ الله أوحى إليك؟ فقال إرميا: إن الله عزّ وجلّ
لا يخلف الميعاد وأنا به واثق. فلمّا قرب الأجل وعزم الله عز وجل على هلاكهم بعث الله تعالى إلى إرميا ملكا فتمثّل له رجلا من بنى إسرائيل فقال له: يا نبىّ الله، أستفتيك فى أهل رحمى، وصلت أرحامهم ولم آت اليهم إلا حسنا، ولا يزيد إكرامى إيّاهم إلا إسخاطا لى، فأفتنى فيهم. فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله وصلهم وأبشر بخير. فانصرف الملك فمكث أياما ثم أقبل إليه فى صورة ذلك الرجل فقعد بين يديه، فقال له إرميا: أو ما ظهرت أخلاقهم لك بعد؟ فقال:
يا نبىّ الله، والذى بعثك بالحقّ ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى أهل رحمه إلا قدّمتها إليهم وأفضل. فقال له إرميا: ارجع إلى أهلك وأحسن إليهم، واسأل الله تعالى الذى أصلح عباده الصالحين أن يصلحهم. فقام الملك فمكث أيّاما وقد نزل بختنصّر وجنوده حول بيت المقدس بأكثر من الجراد، ففزع منهم بنو إسرائيل وشقّ عليهم. فقال ملكهم لإرميا: يا نبىّ الله، أين ما وعدك الله؟ قال: إنى بربّى واثق. ثم أقبل الملك إلى إرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس وهو يضحك ويستبشر بنصر ربّه الذى وعده، فقعد بين يديه وقال له: أنا الذى أتيتك فى شأن أهلى مرّتين. فقال إرميا: ألم يأن لهم أن يفيقوا من الذى هم فيه؟ فقال الملك:
يا نبىّ الله، كل شىء يصيبنى منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه، فاليوم رأيتهم فى عمل لا يرضى الله عز وجل. فقال إرميا: على أىّ عمل رأيتهم؟ قال: على عمل عظيم من سخط الله، فغضبت لله ولك وأتيتك لأخبرك. وإنى أسألك بالله الذى بعثك بالحقّ إلّا ما دعوت الله عليهم ليهلكهم. قال إرميا: يا ملك السموات والأرض إن كانوا على حقّ وصواب فأبقهم، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم. فلمّا خرجت الكلمة من فم إرميا أرسل الله عز وجل صاعقة من السماء فى بيت المقدس فالتهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبوابها.
فلمّا رأى ذلك إرميا صاح وشقّ ثيابه ونبذ الرّماد على رأسه وقال: يا ملك السموات والأرض، أين ميعادك الذى وعدتنى! فنودى: إنه لم يصبهم الذى أصابهم إلّا بفتياك ودعائك. فاستيقن إرميا أنها فتياه، وأن ذلك السائل كان رسول ربه.
فطار إرميا حتى خالط الوحوش. ودخل بخنتصّر وجنوده بيت المقدس ووطئ الشام وقتل بنى إسرائيل حتى أفناهم وخرّب بيت المقدس؛ ثم أمر جنوده أن يملأ كلّ رجل منهم ترسه ترابا ثم يقذفه فى بيت المقدس، فقذفوا فيه التراب حتى ملئوه؛ ثم أمرهم أن يجمعوا من كان فى بلدان بيت المقدس كلّهم، فجمعوا عنده كل صغير وكبير من بنى إسرائيل، فاختار منهم مائة ألف صبىّ، وقيل سبعين ألف صبىّ. فلمّا خرجت غنائم جنده لتقسم قال له الملوك الذين كانوا معه: أيها الملك، لك غنائمها كلها، فآقسم بيننا هؤلاء الصّبيان الذين اخترتهم من بنى إسرائيل، ففعل ذلك، فأصاب كلّ رجل منهم أربعة غلمة. وكان من أولئك الغلمان دانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل «1» ، وسبعة آلاف من أهل بيت داود عليه السلام، وأحد عشر ألفا من سبط يوسف ابن يعقوب، وأخيه بنيامين عليه السلام، وثمانية آلاف من سبط أشرس «2» بن يعقوب، وأربعة عشر ألفا من سبط ريالون «3» بن يعقوب ونفتالى «4» بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط يهوذا بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط روبيل «5» ولاوى ابنى يعقوب، ومن بقى من بنى إسرائيل.