الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
في الناسخ والمنسوخ
وفيه مسائل:
المسألة الأولى
القائلون بجواز نسخ القرآن: اتفق أكثرهم على أنه يجوز نسخ القرآن بالقرآن لتساويهما في إفادة العلم ووجوب العمل به
، وقد وقع ذلك كما تقدم ذكره.
واتفق القائلون بجواز النسخ على أنه: يجوز نسخ المتواترة بالسنة المتواترة، ونسخ الآحاد منها بالمتواترة والآحاد.
نحو نهيه عليه السلام عن ادخار لحوم الأضاحي: بقوله: "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي، والآن كلوا وادخروا".
ونحو نهيه عن زيارة القبور بقوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها".
ونحو ما روى عليه السلام أنه قال في شارب الخمر: "فإن شربها
الرابعة فاقتلوه".
"ثم روي" أنه حمل إليه من شربها في الرابعة فلم يقتله".
وأما نسخ المتواتر منها الآحاد: فاتفقوا: على جوازه عقلا.
واختلفوا: في جوازه شرعًا ووقوعه".
فذهب الأكثرون: إلى أنه غير واقع.
خلافًا لبعض أهل الظاهر.
وكذا نسخ القرآن بخبر الواحد لم يقع ولا يجوز شرعًا عند الجماهير.
خلافًا لهم.
وفصل بعضهم: كالشيخ الغزالي رحمه الله تعالى: بين زمان الرسول، وبين ما بعده/ (365/ ب) فجوزه، وقال: بوقوعه في زمانه عليه السلام دون ما بعده جمعًا بين الدليلين، كما سيأتي ذلك.
احتج الأكثرون بوجهين:
أحدهما: الإجماع: وتقديره أن الصحابة كانت تترك خبر الواحد إذا رفع حكم الكتاب والسنة المعلومة.
قال عمر في خبر فاطمة بنت قيس: (لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا
بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت).
وقال علي رضي الله عنه في خبر أبي سنان الأشجعي "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول أعرابي بوال على عقبيه".
وكان ذلك مشهورًا فيما بينهم، ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعًا.
وثانيهما: وهو الوجه المعقول: أن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن، والمتواتر يفيد القطع، وترجيح الأضعف على الأقوى غير جائز.
ولقائل: أن يقول: الوجهان ضعيفان.
أما الأول: فلأن ما ذكرتموه لا يدل على عدم قبولهم خبر الواحد إذا رفع حكم المعلوم؛ وهذا لأنه يحتمل أن يكون ردهما الخبرين لعدم إفادتهما ظن الصدق بهما بسبب عدم تحفظ الراوي وسقوط مروءته وهو الظاهر، ولذلك قال عمر رضي الله عنه:"لا ندري أصدقت أم كذبت" وقال علي رضي الله عنه: "بوال على عقبيه".
سلمناه: لكنه منقوض بما أنه يجوز تخصيصهما به.
فإن قلت: لم يقبل في التخصيص في رفع الحكم، ضرورة أنه لم يرفع الحكم، بل يبين المراد.
قلت: إنما يصح هذا الفرق أن لو صح قبوله في التخصيص، فإن بتقدير أن لا يقبل في التخصيص كان الحكم ثابتًا فإثبات صحة قبوله في التخصيص بهذا الفرق دور.
"أما" الثاني: فإنه يقتضي نفي الجواز العقلي أيضًا، لأن ترجيح المرجوح على الراجح ممتنع في العقول، وأنتم لا تقولون به فيكون منقوضًا.
وأجيب بوجهين آخرين:
أحدهما: تمنع أنه يلزم ترجيح الأضعف على الأقوى، وهذا لأن الكتاب والسنة متواترة وإن كان مقطوعي المتن، لكنهما مظنونى الدلالة، وخبر الواحد وإن كان مظنون المتن، لكنه مقطوع الدلالة خاصًا لكونه فاستويا، بل خبر الواحد الخاص أقوى دلالة على مدلوله، لأن تطرق الضعف إلى مدلول خبر الواحد الخاص، إنما هو من احتمال الكذب والغلط، وتطرق الضعف إلى مدلول الكتاب العام، إنما هو من جهة تخصيصه وإرادة بعض مدلولاته دون بعض، ومعلوم أن تطرق التخصيص إلى العام أكثر من تطرق الكذب والغلط إلى العدل المتحفظ.
وثانيهما: النقض بجواز تخصيصهما به.
وهما ضعيفان.
أما الأول: / (266/ أ) فلأنه ليس من شرط المنسوخ من الكتاب أو السنة المتواترة أن يكون عامًا وناسخه من خبر الواحد خاصًا حتى يتأتى ما ذكروه، بل قد يكونا عامين، أو خاصين، والمنسوخ خاصًا، والناسخ عامًا، على رأي من يرى أن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم، وحينئذ لا يتأتى ما ذكروه من المنع، فيلزم ترجيح الأضعف على الأقوى فلم يجز النسخ في هذه الصور، وإذا لم يجز في هذه الصور لم يجز في تلك الصور لعدم القاتل بالفصل "ولا يعارض مثله.
بأن يقال: إذا جاز النسخ في تلك الصورة لتساويهما جاز في هذه الصور، لعدم القائل بالفصل" لأن إلحاق الفرد بالأكثر أولى، ولأن تحقق المفسدة في صور عديدة أشد محذورًا من تحققها في صورة واحدة.
وأما الثاني: فلأن الخصم إنما يجوز التخصيص "به" لأنه لا يلزم ترجيح الأضعف على الأقوى لما ذكر من المعنى فلم يلزم ترجيح الأضعف على الأقوى، وهو غير متحقق في النسخ على ما عرفت فلا يلزم النقض.
احتجوا بوجوه:
أحدها: أن الرسول عليه السلام كان ينفذ آحاد الولاة إلى الأطراف وكانوا يبلغون الناسخ والمنسوخ.
وذلك يدل على قبول الناسخ والمنسوخ كيف كان.
وجوابه: أنه كان يبعث للفتوى، بدليل أن العوام فيهم أكثروا الحاجة إليه أمس.
سلمناه: لكن فيما يقبل فيه خبر الواحد، وأما على الإطلاق فممنوع.
وثانيها: أن وجوب التوجه إلى بيت المقدس كان ثابتًا بالسنة المتواترة، إذ ليس في الكتاب ما يدل عليه، وأهل قباء قبلوا خبر الواحد في نسخه، إذ روى أنهم كانوا يصلون متوجهين إليه فجاءهم منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرهم ألا إن القبلة حولت إلى الكعبة، فاستداروا لخبره، والرسول عليه السلام لم ينكر عليهم ذلك مع علمه به.
فدل ذلك على الجواز.
وجوابه: أنه خبر واحد ولا تثبت مثل هذه القاعدة به.
سلمنا: جواز إثبات مثل هذه القاعدة به، لكن لعل الرسول أخبرهم بذلك قبل وقوع الواقعة، فلذلك قبلوه.
سلمنا: أنه ما أخبرهم، لكن لعله لقرينة انضمت إليه نحو أنهم سمعوا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتجر على الرسول أحد بمثله، ونحو كون المسجد قريبًا وارتفاع ضجة في ذلك فيه.
وثالثها: أنه نسخت آية الوصية للوالدين والأقربين، بما روى عنه عليه السلام: أنه قال "لا وصية لوارث" إذ لم يوجد غيره ما يصلح أن يكون ناسخًا "لها" فيتعين أن يكون هو.
لا يقال/ (366/ ب): الناسخ له آية الميراث، ولهذا قال عليه السلام حين نزلت "إن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث".
لأن الجمع بينهما ممكن.
ولهذا جازت الوصية للأجنبي مع توريث الوارث.
وجوابه من وجهين:
أحدهما: أن الناسخ لها هو آية الميراث لا الخبر، وإنما هو مؤكد لها.
وقوله: الجمع بينهما ممكن.
قلنا: بين التوريث على ما فرض الله تعالى، وبين الوصية التي هي مدلول الآية، أو بينه وبين الوصية في الجملة، نحو الوصية الجائزة أو المقيدة بالثلث، كما هي في حق الأجنبي.
والأول: ممنوع ولا يمكن دعواه، لأن الوصية التي هي مدلول الآية هي الوصية بكل المال، وهي كانت واجبة بصراحة الآية، قال الله تعالى:{كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين} .
وآية التوريث منافية لهذا الوجوب، لأن وجوب صرف المال إليهم على وصية الله تعالى ينافي وجوب صرفه إليهم على وصية العبد، لأن وصية العبد إن كانت مخالفة لوصية الله تعالى فظاهر، وإن كانت موافقة فالعمل بوصية الله لا بوصيته ووصيته لاغية، ومنه يعرف عدم وجوب توصيته أيضًا إذ لا فائدة فيه على التقديرين "و" إذا كانت منافية لها كانت ناسخة لها ضرورة أنه لا يمكن الحمل على التخصيص.
والثاني: مسلم "لكنه" لا يضر إذ ليس هو مدلول الآية حتى يجعل الحديث ناسخًا له.
فإن قلت: لما دلت الآية على وجوب الوصية بكل المال، دلت على جواز الوصية في كل المال وفي الثلث، ضرورة أن الدال على الكل دال "على الجزء وذلك الجواز غير باق الآن للحديث لا للآية فيكون الحديث ناسخًا" لمدلول الكتاب.
قلت: لا نسلم أن الجواز غير باق الآن، وهذا لأن الوصية لهم تصح على الأظهر، ولكن يتوقف على إجازة الورثة، ولهذا يصح تقيدًا على الرأي الأظهر.
سلمنا: أنه غير باق لكن الوجوب إذا نسخ لم يبق الجواز، فيكون الناسخ للجواز ما هو الناسخ للوجوب.
سلمنا: أنه لم يوجد غيره ما يصلح أن يكون ناسخًا لها، لكن
"لا" نسلم أنه يلزم منه جواز نسخ المتواتر بالآحاد، وهذا لأنه [لا] يجوز إن كان الخبر مقطوعًا به عندهم.
ثم إنه ضعف نقله لإجماعهم على العمل بموجبه "و" هذا وإن كان خلاف الأصل لكنه يجب المصير إليه بين الدليلين.
ورابعها: أنه نسخ قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحى إلى محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دمًا مسفوحًا} .
بما روى عنه/ (367/ أ) عليه السلام: "أنه حرم كل ذي ناب من
السباع وكل ذي مخلب من الطيور".
وجوابه: أن الآية لم تتناول الوحي إلا إلى تلك الغاية التي نزلت الآية فيها فلا يتناول الوحي الذي يحصل بعدها.
فلم يكن الحديث رافعًا لشيء من مقتضاه فضلاً عن أن يكون ناسخًا.
سلمنا: عموم التناول لكنه يكون مخصصًا لا ناسخًا وهو ظاهر جدًا إذ لم يسقط حكمه بالكلية.
وخامسها: أنه نسخ قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} بما