الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة
يجوز حصول الإجماع في المسألة بعد الخلاف فيها
، سواء كان قبل استقرار الخلاف، وتفصيل المذاهب، ومضى أربابها عليها مدة، أو بعد ذلك كله.
أما الأول، ففيه خلاف الصيرفي.
لنا: إجماع الصحابة على دفنه عليه السلام حيث توفي بعد الاختلاف فيه، وإجماعهم على إمامة أبي بكر رضي الله عنه بعد
اختلافهم فيها.
وإجماعهم على قتال مانعي الزكاة بعد اختلافهم فيه، والوقوع دليل الجواز وزيادة.
واحتج الصيرفي على امتناعه بوجهين:
أحدهما: بأنهم أجمعوا حالة الخلاف على أنه يجوز الأخذ في المسألة بكل ما أدى إليه اجتهاد المجتهد، فلو حصل الإجماع بعد ذلك على حكم واحد، فإن لزم المصير إليه لزم بطلان الإجماع/ (25/ أ) الأول، وإن لم يلزم بل يقال حكم الأول باق لزم بطلان الإجماع الثاني، ولأنه ليس بطلان أحدهما بالآخر أولى من العكس، فإما أن يبطلا معًا وهو محال، أما أولاً: فلأنه
يلزم منه الخروج من النقيضين.
وأما ثانيًا: فلأنه ليس علة بطلان أحدهما إلا صحة الآخر فلو بطلا معًا لصحا معًا، أو يصحا معًا وهو أيضًا باطل، لاستحالة اجتماع النقيضين، ولما لم ينفك حصوله عن أحد هذه الأقسام الباطلة كان حصوله باطلاً.
وجوابه من حيث النقض، والتفصيل.
أما من حيث النقض، فلأنه يقتضي امتناع حصول الإجماع على حكم كان غير مجمع عليه غير الإجماع على تسويغ الاجتهاد في كل ما ليس مجمعًا عليه إذ أمكن أن يقال: إنهم أجمعوا على أن كل ما ليس مجمعًا عليه فيما بينهم فإنه يسوغ فيه الاجتهاد، ويجوز الأخذ فيه بكل ما أدى إليه اجتهاد المجتهد، فلو انعقد الإجماع على حكم كان غير مجمع عليه لزم تعارض الإجماعين.
وأما من حيث التفصيل: فهو أنا نقول: إن ذلك الإجماع كان مشروطًا بعدم الإجماع على قول واحد، فإذا حصل ذلك زال الحكم لزوال شرطه. وهذا وإن اقتضى إمكان اعتبار هذا الشرط في الإجماع على الحكم الواحد، وحينئذ يخرج أن يكون شيء من الإجماعات حجة دائمة وهو خلاف الإجماع لكن أهل الإجماع أجمعوا على عدم اعتباره فلا يمكن اعتباره.
وثانيهما: أنه لا يجوز حصول الإجماع بعد استقرار الخلاف وتمهيد المذاهب فكذا قبله، والجامع دفع ما ذكرنا من المحذور.
وجوابه: منع الحكم في الأصل ثم بالفرق على ما ستعرف ذلك إن
شاء الله تعالى في الكلام الذي نذكره بعد هذا.
وأما الثاني فيقع على أنحاء:
أحدها: أن يختلف أهل العصر الأول في المسألة على قولين، ثم يتفق أهل العصر الثاني على أحد ذينك القولين، وفيه خلاف الإمام أحمد رحمه الله والصيرفي وغيره من أصحابنا: كأبي علي ابن أبي هريرة، وأبي علي الطبري، وأبي حامد المروروذي، وإمام الحرمين، والغزالي
وكثير من الحنفية، وكثير من المتكلمين كالشيخ أبي الحسن الأشعري.
لنا وجوه: أحدها: أنه لو وقع لم يلزم من فرض وقوعه محال لا بحسب العقل وهو ظاهر، ولا بحسب الشرع؛ لأن المحال الذي يظن أنه يلزم بحسب الشرع ليس إلا ما تقدم ذكره، وهو غير لازم، لما تقدم من الاحتمال، وحينئذ يلزم جواز وقوعه، فبعد وقوعه يكون حجة لاندراجه تحت أدلة الإجماع.
وثانيها: أنه إجماع حصل بعد ما لم يكن، فيكون حجة كالإجماع الحاصل بعد التردد قبل استقرار الخلاف.
والجامع بينهما اندراجهما تحت أدلة الإجماع، وعدم استلزامهما مخالفة إجماع آخر.
وهذا الدليل إنما هو دليل على [غير الصيرفي.
ولقائل أن يقول: الفرق بينهما ظاهر فإن حصول الإجماع على]
أحد القولين بعد استقرار الخلاف يقتضي بطلان القول الآخر الثابت المفتى به المحتج عليه وبه، بخلاف الإجماع حالة التردد وقبل استقرار الخلاف، فإنه لا يقتضيه فلا يلزم من عدم جوازه ثمة عدم جوازه هنا.
وثالثها: أنه وقع ذلك، فإن الصحابة كانوا مختلفين في بيع أمهات الأولاد ثم اتفق التابعون على عدم جواز بيعهن. وهو أحد أقوالهم. والقول القديم للشافعي فيه عير معتبر؛ لأن أقواله القديمة مرجوع عنها غير معتد بها إلا على الندور، وأيضًا فإنه يحتمل أنه إنما قال ذلك بناء على أنه لم
يصح عنده إذ ذاك الإجماع، فلما صح ذلك رجع عنه، أو يقال: أنه وإن صح عنده الإجماع لكنه لم ير أن مثله حجة، وهو العذر بعينه عن مذهب الشيعة. وحينئذ لا يكون الخلاف فيه بعد عصر التابعين قادحًا في إجماع التابعين الذي هو المدعى، وإذ صح وقوعه وجب أن يكون حجة لاندراجه تحت أدلة الإجماع.
احتجوا بوجوه:
أحدها: قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} ، أوجب الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله عند التنازع، وهو حاصل في الحال، لأن حصول الاتفاق فيه لا ينافي ما تقدم من الخلاف فوجب الرد فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله.
وجوابه: منع أن التنازع حاصل في الحال وحصول الاتفاق في الحال وإن كان لا ينافي الخلاف السابق لكنه ينافي التنازع والخلاف في الحال.
سلمناه لكن الرد إلى الإجماع رد إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله على ما تقدم تقريره.
وثانيها: قوله عليه السلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" ظاهره يقتضي جواز الأخذ بقول كل واحد من الصحابة، من غير فصل بين ما حصل الإجماع بعده وبين ما لم يحصل.
وجوابه من وجوه:
أحدها: أنه خطاب مع العوام، بدليل ما يذكر أن مذهب الصحابي ليس بحجة، وإذا كان كذلك كان جواز الاقتداء به مشروطًا بجواز الافتاء بقوله، ضرورة أنه لا يجوز للعامي العمل به ما لم يفت به مفت، فللاستدلال بجواز الاقتداء به على جواز الإفتاء بقوله دور.
وثانيها: أنه خص عنه جواز الاقتداء بهم في التوقف حال الاستدلال والنظر فكذا جواز الاقتداء بهم في القول الذي انعقد الإجماع في العصر الثاني على خلافه، والجامع بينهما تصحيح الإجماع الذي انعقد أخيرًا.
ولقائل أن يقول: الفرق بينهما حاصل وهو أن الاقتداء بهم في التوقف مخل بمقصود التكليف [بخلاف الاقتداء في القول الآخر فإنه/ (26/ أ) لا يخل بمقصود التكليف] فلا يلزم من تخصيصه تخصيص هذا.
وثالثها: أنه محمول على ما يرويه الصحابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو يخبر عنه بظنه الغالب دون ما يخبر عن اجتهاده حتى يعم ذلك بالنسبة إلى الصحابي وغيره، ولو كان ذلك محمولاً على القسمين لزم خروج الصحابي عنه؛ لأنه ليس مذهبه حجة بالنسبة إليه وفاقًا، وهو تخصيص بخلاف الأصل فيكون باطلاً.
ورابعها: أن قول المجتهدين لا يموت بموتهم [بل] يبقى كما كان في حال حياتهم، بدليل أنه تحفظ أقوالهم في المسائل يحتج بها وعليها ولذلك دونت كتب الفقه، ونقلت أقوالهم فيها، وإذا كان كذلك وجب أن لا ينعقد إجماع مع مخالفة من سبق من المجتهدين كما هو في حال حياتهم مع مخالفتهم.
وجوابه: أنه إن عنى بقوله: أن قول المجتهدين لا يموت بموتهم أنه لا يندرس بالكلية، ولا يجعل نسيًا منسيًا، لعدم تعلق الغرض به فهذا مسلم. لكن هذا القدر لا يقتضي أن لا ينعقد إجماع بدونه.
وإن عنى به: أنه يكون مانعًا من انعقاد الإجماع على خلافه، كما هو في حال حياة صاحبه فهو عين النزاع.
وإنما دونت كتب الفقه لمعرفة مواقع الخلاف والوفاق، وطرق الدلالة على المسائل، وما قيل فيها، فإن نظر المجتهد إذ ذاك لا شك أتم.
وخامسها: أنهم إذا اختلفوا في واقعة واستمروا عليها، وأفتوا بذلك فقد اتفقوا ضمنًا على جواز الأخذ بكلا القولين، فلو انعقد الإجماع على أحد القولين، فإما أن يكون ذلك مانعًا من جواز الإفتاء بالقول الآخر أو لا يكون. والقسمان باطلان، لبطلان أحد الإجماعين فما يفضى إليه أيضًا كذلك.
وجوابه: ما سبق، وأيضًا النقض بالإجماع بعد الخلاف وقبل استقراره وهذا يختص بمن سلم الحكم فيه، فأما من لا يسلم الحكم فيه كالصيرفي فلا يصح هذا الجواب بالنسبة إليه.
وسادسها: أنه قد مضى أن الأمة إذا اختلفت في المسألة على قولين فإنه لا يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث، والقطع على قول واحد غير القولين لهم، ضرورة أن كل واحد منهما غير مقطوع به فيكون غير جائز.
وجوابه: أنه غير باعتبار الصفة دون اعتبار الذات، والممنوع إنما هو الأول دون الثاني.
سلمناه لكن بينا أنه غير ممنوع عنه مطلقًا.
سلمناه، ولكن متى لم يجز إحداث قول ثالث إذا كان الإجماع منعقدًا على عدم جوازه مطلقًا، أم إذا كان مشروطًا بشرط؟
الأول مسلم، والثاني ممنوع، فلم لا يجوز أن يقال: إنه مشروط بعدم اتفاق الكل على قول واحد؟
وسابعها: لو كان قولهم إذا اتفقوا - بعد الاختلاف - حجة لكان قول إحدى الطائفتين إذا ماتت الأخرى حجة. وفيه كون القول بالموت حجة.
وجوابه: منع لزوم كون القول بالموت حجة. بل اللازم أنه يصير عنده حجة لاندراجه، تحت أدلة الإجماع لا به.
وثامنها: أنه لو كان اتفاقهم على القول الواحد من ذينك القولين حجة لكان ذلك لأن ذلك الاتفاق حاصل عن دليل بأن الاتفاق الحاصل لا عن دليل باطل وفاقًا، لكن ذلك باطل، إذ لو كان لما خفى على أهل العصر الأول.
وجوابه: أنه ما خفى على كل أهل العصر الأول، وإنما خفى على بعضهم والمحذور إنما هو الأول دون الثاني.
وتاسعها: أن أهل العصر الثاني بعض الأمة، وبعض المؤمنين، فلا يكون إجماعهم حجة كبعض أهل العصر.
وجوابه: منع الصغرى؛ وهذا لأنهم لو كانوا بعضهم لما انعقد إجماعهم فيما هو غير مسبوق بالخلاف، وأنه باطل إجماعًا.
وعاشرها: لو كان هذا الإجماع حجة لوجب ترك القول الآخر، فلو فرض حصول الإجماع على أحد القولين بعد قضاء القاضي بالقول الآخر لوجب أن ينقض، لكونه حاصلاً على مضادة الدليل القاطع، لكن ذلك باطل، أما أولاً فبالاتفاق، وأما ثانيًا: فلأن أهل العصر الأول أجمعوا على نفوذ مثل هذه القضايا فنقضه على خلاف الإجماع منهم.
وجوابه: أن الحكم حين اتصل بقضاء القاضي ما كان على مضادة الدليل القاطع. ونحن إنما ننقض الحكم الذي يكون على مضادة الدليل القاطع [حين اتصال قضاء القاضي به لا غير.
وحادي عشرها: القياس على الإجماع] على القول الواحد، فإنه لا يتصور بعده إجماع آخر فكذا بعد الإجماع على القولين، والجامع صيانة
الإجماع عن التعارض والنسخ.
وجوابه: ما تقدم في الكلام مع الصيرفي.
وثانيها: أن يختلف أهل العصر الأول في المسألة على قولين، ثم يموت أصحاب أحد القولين، أو يكفروا فهل يصير القول الآخر مجمعًا عليه أم لا؟
اختلفوا فيه على الخلاف المتقدم.
والمختار أنه يصير مجمعًا عليه لا بالموت والكفر، بل عندهما لاندراجه تحت أدلة الإجماع.
وثالثها: أن يختلف أهل العصر الأول في المسألة على قولين، ثم يرجع أصحاب أحد القولين إلى القول الآخر، فهل يجوز وقوع ذلك؟
وبتقدير وقوعه هل يصير إجماعًا متبعًا أم لا؟ اختلفوا فيه:
فمن اعتبر انقراض العصر في الإجماع جوز وقوع ذلك قطعًا، وقال بحجيته، إذ ليس فيه ما يوهم تعارض الإجماعين على هذا الرأي.
وأما من لم يعتبر انقراض العصر في الإجماع: فمن جوز منهم حصول الإجماع - في المسألتين السالفتين - وقال بحجيته جوزها هنا وقال بحجيته بطريق الأولى.
وسبب هذه الأولوية: أن القول الثاني فيما نحن فيه مرجوع عنه بالكلية، بخلاف - المسألتين السابقتين - فإن القول الثاني فيهما ما صار مرجوعًا
مرجوعًا عنه أصلاً. وأيضًا: فإنه قد يظن في/ (27/ أ) المسألتين السابقتين] أن المجمعين ليسوا كل الأمة بل بعضهم، - وها هنا - هذا الظن زائل؛ لأن جميع أهل العصر الزول قد اتفقوا عليه.
وأما من لم يجوز حصول الإجماع في المسألتين السالفتين - فهؤلاء اختلفوا:
فمنهم من جوزه لكنه قال ليس بحجة.
ومنهم من جوزه وجعله حجة.
ومنهم: من فصل فقال بجوازه فيما هو دليل خلافه الأمارة والاجتهاد دون ما هو دليل خلافه القاطع عقليًا كان أو نقليًا.
ومنهم: من أحاله مطلقًا.
والمختار: أنه يجوز وقوعه وأنه حجة. ودليله: ما مر والكلام فيه نفيًا وإثباتًا ما مر في المسألة المتقدمة فأغنى ذلك عن الإعادة.