الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة السابعة
قال مالك رضي الله عنه: إجماع أهل المدينة وحدها حجة خلافًا للباقين
.
واختلف أصحابه في قوله:
فالأكثرون على إجرائه على ظاهره.
ومنهم من أوله وحمله على أن روايتهم راجحة على رواية غيرهم.
ومنهم من حمل ذلك على إجماع الصحابة والتابعين دون علماء سائر الأعصار.
ومنهم من حمل ذلك على المنقولات المستمرة كالأذان والإقامة.
ومنهم من حمل على أن موافقة إجماعهم أولى وإن كان لا يمتنع مخالفته.
ثم ممن خالفه ذهب إلى أن إجماع أهل الحرمين، أعني مكة والمدينة
والمصرين أعنيك الكوفة والبصرة حجة.
فقيل المراد منه: أن هذه البقاع في الزمان الأول جمعت أهل [الحل] والعقد فكان إجماعهم حجة ضرورة أنهم كل أهل الحل والعقد.
والأكثرون على أن المراد منه ما أشعر به ظاهره، وهو أن إجماع أهل هذه البقاع في كل زمان حجة.
واحتج الجماهير: بأن الأدلة الدالة على كون الإجماع حجة، إما المنقول، وإما المعقول.
أما المنقول: فوارد بلفظ المؤمنين، والأمة، وهما متناولان للكل بطريق الحقيقة لا غير، وليس المؤمنون منحصرين في أهل المدينة، والحرمين والمصرين حتى يكون إجماعهم إجماع كل الأمة، فإنه لو فرض كذلك ليست المسألة مسألتنا، لأنا حينئذ نساعدكم على أن إجماعهم إذ ذاك حجة، وإذا كان كذلك فلا يكون إجماعهم حجة ضرورة أنهم بعض المؤمنين حينئذ، وإجماع البعض ليس بحجة.
وأما المعقول فهو أيضًا: لا إشعار له بخصوصية أهل المدينة دون مدينة على ما عرفت ذلك منه، وحينئذ يلزم أن لا يكون إجماعهم حجة.
وهذا المسلك ضعيف؛ لأنه لا يلزم من عدم دلالة دليل معين على المطلوب عدمه، لجواز أن يكون له دليل آخر، وأدلة الإجماع وإن لم تثبته لكن لا شك في أنها لا تنفيه إلا بطريق مفهوم العدد الذي هو ضعيف لم يقل به محصل.
وإذا كان كذلك، فالأولى أن تحرر الدلالة هكذا: وهو أنه لو كان إجماعهم حجة فإما أن يكون ذلك لدليل، أو لا لدليل، والثاني باطل؛ لأن القول في الدين بغير دليل باطل، فيتعين أن يكون لدليل [وهو إما أدلة الإجماع، أو غيرها، والأول باطل، لأنه لا دلالة لها على المطلوب]
وهو ظاهر لا يمكن إنكاره، والثاني خلاف الأصل، إذ الأصل عدم ذلك الدليل ثم إذا ذكروا عليه دليلاً اعترضنا عليه وبينا وجه عدم دلالته عليه، وحينئذ يلزم أن لا يكون إجماعهم حجة.
واستدل للجماهير أيضًا بوجهين آخرين:
أحدهما: أن الأماكن لا تؤثر في كون أقوال ساكنيها حجة للاستقراء.
وثانيهما: أنه لو كان أقوال أهلها حجة فيها، لكانت أيضًا حجة إذا خرجوا منها، كالرسول عليه السلام.
وهما ضعيفان، لأن الجامع فيهما وصف طردي لا يصلح للعلية، ويخص الأول: الفرق بين أهلها وبين أهل سائر الأماكن على ما ستعرف ذلك.
واحتج لمالك بالمنقول، والمعقول:
أما المنقول: فما روي عنه عليه السلام أنه قال: "إن المدينة طيبة تنفي خبثها، كما ينفي الكير خبث الحديد"، والخطأ خبث فوجب أن
يكون منفيًا عنها، وإنما يكون منفيًا عنها أن لو كان منفيًا عن أهلها إذا لو كان في أهلها لكان فيها فما كان منفيًا عنها.
لا يقال: ظاهر الحديث متروك؛ لأنه يقتضي أن يكون كل من خرج عنها فإنه [من] خبثها الذي تنفيه المدينة. لكن ليس كذلك، إذ خرج عنها الطيبون: كعلي، وعبد الله بن عباس، وغيرهما من الصحابة الذين خرجوا منها إلى العراق والشام، وهم أمثل ممن بقي فيها كأبي هريرة وأمثاله، وإذا كان كذلك وجب صرفه عن الظاهر، وليس بعض المجازات أولى من البعض فيكون الخبر مجملاً فلا يجوز التمسك به، ولو سلم أن البعض أولى من البعض، لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك الأولى الذي هو محمول عليه، نوعين:
أحدهما: الكفار، ولهذا لا يقيم/ (33/ أ) كافر بها.
وثانيهما: هو من كره المقام بها مع أن في المقام بها بركة عظيمة، بسبب جوار الرسول عليه السلام، وجوار مسجده، ومع ما ورد من الثناء الكثير على المقيمين بها، لأن الكاره للمقام بها - مع هذه الأحوال - لا بد وأن يكون ضعيف الدين. ومن كان كذلك فلا شك في أنه خبث؟
سلمنا أن هذا ليس أولى من غيره، لكن لا نسلم أن الأولى ما يلزم منه المطلوب.
سلمنا إرادة الحقيقة منها لكن ليس في قوله "تنفي خبثها" ما يدل على العموم.
سلمنا ذلك، لكنه خبر واحد فلا يجوز التمسك به في المسألة العلمية، لأنا نقول: لا نسلم أن ظاهر الحديث متروك، وهذا لأنه ليس ظاهره أن من خرج عنها فهو خبثها حتى يلزم الترك بالظاهر، بل ظاهره أن ما فيها من الخبث فإنها تنفيه، وهو غير الأول، وغير مستلزم له، فإن الموجبة الكلية لا تستلزم عكسها كليًا، وحينئذ لا يلزم ترك ظاهره فتسقط بقية الأسئلة المتفرعة على هذا السؤال.
وأما قوله: أنه ليس في قوله: "تنفي خبثها" ما يدل على العموم.
فجوابه: منعه، وهذا لأن قوله "تنفي خبثها" يقتضي نفي ماهية الخبث، وإنما تنتفي ماهية البحث بانتفاء أفرادها، فلو بقى فرد من أفراد الخبث في المدينة لما نفت المدينة خبثها.
وعن الثالث منع أن المسألة علمية، بل هي ظنية، فإن أصل الإجماع عندنا ظني فكيف هذا الإجماع؟
وجوابه: هب أن الحديث يدل على أنهم مصيبون فيما يتفقون عليه لكن لا يلزم منه أن يكون قولهم واتفاقهم حجة على غيرهم من المجتهدين، ألا ترى أنه يجوز للمجتهد أن يخالف مجتهدًا آخر وإن كان يقطع بإصابته على قولنا: أن كل مجتهد مصيب؟
سلمنا لزوم ذلك لكنه منقوض بقول الواحد منهم فإنه بالاتفاق ليس
بحجة مع أن الحديث بعينه يدل على انتفاء الخطأ عن قوله أيضًا، لأن انتفاء ماهية الخبث عنها لا يكون إلا بانتفاء جميع أفراد الخبث عن جميع أفراد ساكنيها، إذ لو بقى الخطأ في فرد من أفراد ساكنيها لما انتفى جميع أفراد الخبث عنها.
وأما التمسك بمثل قوله: "إن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها".
وقوله عليه السلام: "لا يكايد أحد أهل المدينة إلا انماع كما ينماع الملح في الماء" فساقط جدًا، إذ لا إشعار له ولا مثاله على أن إجماعهم
حجة.
وأما المعقول فمن وجهين:
أحدهما: أن المدينة مهبط الوحي، ودار الهجرة، (و) أكثر أحكام الشرع شرع فيها، وأهلها صحابة الرسول عليه السلام شاهدوا التنزيل، وسمعوا التأويل، وأعرف الناس بأحوال الدليل من كونه ناسخًا، أو منسوخًا، أو عامًا، أو خاصًا، وغيرها من الأحوال، والعادة تقضي بأن مثل هؤلاء العلماء الأحقين بالاجتهاد لا يجمعون إلا عن دليل راجح.
وجوابه: أنه إن عنى بالراجح الراجح في ظنهم فمسلم، لكن ذلك لا يدل على كونه راجحًا في نفس الأمر، لاحتمال أن يعتقدوا ما ليس براجح راجحًا، ولا يمكن إثبات امتناعه الخطأ عليهم، لأن ذلك إنما يثبت إن لو كان إجماعهم حجة، فإثبات كون إجماعهم حجة بهذا دور ممتنع.
وإن عنى به الراجح في نفس الأمر فنحن نمنعه، وهذا لأنه إنما يثبت ذلك أن لو أحاط علمهم بجميع الأدلة وأن لا يجوز عليهم الخطأ، وهما ممنوعان، أما الأول، فلأن صحابة الرسول عليه السلام بعد وفاته الذي هو وقت إمكان حصول الإجماع تفرقوا في البلاد والأطراف، وكان مع كل منهم من الدليل ما ليس مع الآخر، فلم ينحصر الدليل الراجح في سكان المدينة، فلم يمكن إحاطة علمهم بجميع الأدلة.
وأما الثاني فلما تقدم.
وثانيهما: أن رواية أهل المدينة مقدمة على رواية غيرهم، فكان حكمهم راجحًا على حكم غيرهم، فيكون إجماعهم حجة.
وجوابه: منع صحة القياس، لعدم الجامع، ولوجود الفارق بعد تسليمه وهو من حيث الإجمال والتفصيل:
أما الأول فمن وجهين:
أحدهما: أن الرواية يجب فيها الاتباع والحكم المثبت بالاجتهاد لا يجب فيه ذلك بل لا يجوز عند الأكثرين.
وثانيهما: أن الرواية ترجح بكثرة الرواة، وبزيادة اطلاع الرواي على أحوال المروى عنه، وغير ذلك مما يخالف طريق الرواية طريق الاجتهاد، والاختلاف في الحكم دليل الاختلاف في الحكمة.
وأما الثاني: فهو أن النظر في الرواية: إنما هو في تصحيح المتن فكان رواية من هو أخبر بوقوع القضية، راجحة على رواية من ليس كذلك، بخلاف [النظر] في إثبات الحكم، فإنه يتعلق في وجه دلالة الدليل، ولا يختلف ذلك بالقرب والبعد، وبزيادة الاطلاع على أحوال من ينقل عنه ذلك الدليل. وإنما يختلف ذلك بالفطانة والذكاء، وبسبب كثرة حصول شرائط الاستدلال وقلته.