الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة
إجماع غير الصحابة حجة خلافًا لأهل الظاهر
، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين.
لنا: أدلة الإجماع، فإنها تدل على أن الإجماع حجة من غير فصل بين إجماع الصحابة وغيرهم، فوجب أن يكون الإجماع حجة مطلقًا من غير تقييد بإجماع مخصوص جريًا على إطلاق الأدلة.
فإن قلت: لا نسلم أن أدلة الإجماع تتناول إجماع الصحابة وغير الصحابة حتى تكون دالة على حجيته مطلقًا؛ وهذا لأن أدلة الإجماع وارده بلفظ المؤمنين والأمة، وهما إنما يتناولان الموجودين فقط لما عرفت غير مرة، ولما لم يكن التابعون ومن بعدهم موجودين في ذلك الوقت لم تكن تلك الأدلة متناولة لهم فلا تكون دالة على أن إجماعهم حجة.
لا يقال: ما ذكرتم يقتضي أن لا يكون إجماع الصحابة بعد موتهم حجة؛ لأن لفز المؤمنين والأمة لا يصدقان عليهم بعد موتهم كما لا يصدقان على من سيوجد بعد ورودهما، فإذا لزم من عدم صدقهما على من سيوجد بعد ورودهما عدم حجية إجماعهم، لزم من عدم صدقهما عليهم بعد موتهم أن لا يكون إجماعهم حجة وهو خلاف الإجماع.
لأنَّا نقول: إن أدلة الإجماع دلت على أن إجماع الصحابة حجة في حال حياتهم، ولا يستفاد من تلك الأدلة سوى هذا، فأما حجية إجماعهم بعد موتهم فمستفاد من إجماعهم على أن ما أجمعوا عليه حين يصدق عليهم لفظ المؤمنين والأمة وهو حال حياتهم فإنه حق واجب الاتباع في ذلك الزمان وفي سائر الأزمنة فوجب أن يكون ذلك كذلك، وإلا لزم أن لا يكون إجماعهم حال حياتهم واجب الاتباع وهو خلاف أدلة الإجماع، ولا نعني بكون إجماعهم حجة بعد موتهم سوى أنه واجب الاتباع بعد موتهم.
قلت: المراد من المؤمنين والأمة الواردين في أدلة الإجماع الموجودين في كل عصر لا الموجودين وقت ورودهما فقط، بدليل أنه لا يشترط في المجمعين أن يكونوا جميع أولئك الذين كانوا موجودين عند ورود أدلة الإجماع وفاقًا، ولو كان المراد منه الموجودين وقت ورودهما فقط وجب أن يشترط ذلك، وحينئذ يلزم أن لا يقطع بحجيته إجماع من بقى من الصحابة بعد وفاة الرسول عليه السلام لأنه لم يعرف بقاء أولئك بأعيانهم إلى ما بعد وفاته عليه السلام، بل الذي يعلم موت بعضهم قبل وفاته عليه السلام فإن لم يكن هذا فلا أقل من الشك في ذلك، والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط، وهذا يقتضي أن لا يكون إجماع الصحابة حجة أيضًا وهو خلاف الإجماع.
واحتج الخصم بوجوه:
أحدها: أن أدلة الإجماع منحصرة في الأدلة النقلية نحو قوله تعالى: {كنتم خير أمة} وقوله: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} وغيرهما من الآيات التي تلوناها، والأخبار التي رويناها، وهي بأسرها لا تتناول إلا الصحابة، لأنهم هم المخاطبون وهم المؤمنون والأمة إذ ذاك وحينئذ يلزم أن لا يكون إجماع غيرهم حجة، وإلا لكان ذلك قولاً في الدين من غير حجة ودليل وهو باطل.
وجوابه ما سبق من قبل.
وثانيها: أن العلم بإجماع غير الصحابة متعذر، لتفرق المجتهدين في الأطراف بعد عصرهم، هذا إن قيل: أنه لا يعتبر في الإجماع إلا قول المجتهدين، وأما إن قيل المعتبر فيه قول الجميع من المجتهدين والعوام فالعلم به أظهر وما يتعذر/ (46/ أ) العلم به يستحيل أن يجعل حجة لعدم الفائدة فيه.
وجوابه: أن النزاع في حجيته أن لو حصل، وحصل العلم به، وما ذكرتم لا ينفيه.
وثالثها: أن الصحابة أجمعوا: على أن كل مسألة لا يكون مجمعًا عليها فيما بينهم - فإنه يجوز الاجتهاد فيها، فلو كان إجماع غيرهم حجة أيضًا لزم جواز الاجتهاد، وعدم جوازه في المسألة التي لم يكن مجمعًا عليها فيما بينهم، ويكون مجمعًا عليها فيما بين غيرهم وأنه باطل، لأنه جمع بين النقيضين.
وجوابه: أنا لا نسلم أن ذلك الإجماع كان مطلقًا بل هو مشروط بعدم حصول الإجماع عليها، ويجب المصير إلى ذلك جمعًا بين الدليلين.
ورابعها: أن إجماع التابعين على مسألة لا بد وأن يكون لدليل لما سبق أن الإجماع من غير دليل غير متصور، وذلك الدليل ليس هو الإجماع وإلا لكانت تلك المسألة ثابتة بإجماع الصحابة لا التابعين، وليس هو القياس أيضًا، لأنه مختلف فيه فيما بينهم فيستحيل أن يكون متمسك الكل في إثبات الحكم وليس هو النص؛ لأنه لا يصل إليهم إلا من جهة الصحابة فلو كان ذلك نصًا معمولاً به لاستحال أن يتركه الصحابة بأسرهم ولا يعمل واحد منهم به.
وجوابه: أن نقول: لم لا يجوز أن يكون دليلهم على ذلك الحكم هو القياس؟
قوله القياس مختلف فيه.
قلنا لا نسلم ذلك في العصر الأول من التابعين بل ذلك الخلاف حصل فيما بعد فجاز أن يكون متمسك الكل إذ ذاك.
سلمناه لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك لنص؟
قوله: لو كان ذلك للنص لاستحال أن لا يعمل واحد منهم به.
قلنا: متى يستحيل ذلك، عند تنبههم لذلك النص ووجه دلالته ووقوع الواقعة أم مطلقًا؟
والأول مسلم، والثاني ممنوع فلعلهم لم ينتبهوا لوجه دلالة النص، لعدم احتفائهم لاستنباط تلك الدلالة، لعدم وقوع تلك الواقعة في زمانهم وإن
تنبهوا لمتنه، أو وإن تنبهوا لوجه دلالته أيضًا لكن ربما لم تقع تلك الواقعة إذ ذاك فلم يتعرضوا لحكمها، وعادتهم ما كانت جارية بالتفريع وتقرير حكم الوقائع قبل وقوعها، كما هي عادة الأئمة الأربعة، ومن يجري مجراهم حتى يوجب ذلك التعرض للحكم وإن لم تقع الواقعة.
سلمنا استحالته مطلقًا لكن جاز أن عمل به بعضهم دون الآخرين ثم أن التابعين اتفقوا على قول أولئك البعض الذين قالوا به، فإن منعوا مثل هذا في الإجماع فقد تقدم تقريره، وليس الواجب اتفاق كلهم على الحكم بمقتضى تلك الدلالة، فإن الدلالة الظنية لا يجب اتفاق كلهم على الحكم بمقتضى تلك الدلالة، فإن الدلالة الظنية لا يجب اتفاق الكل عليها.
وخامسها: المسألة التي أجمع التابعون عليها إن كان مجمعًا عليها للصحابة كانت الحجة في إجماع الصحابة لا في إجماعهم، وإن لم يكن كذلك فإما أن تكون مختلفًا فيها، أو لم ينقل عنهم فيها قول.
فإن كان الأول لم ينعقد إجماع التابعين على أحد ذينك القولين، لما تقدم من أنه لا ينعقد إجماع مع تقدم الخلاف، وإن كان الثاني وجب أيضًا [أن] لا ينعقد إجماعهم في تلك المسألة؛ لأنه يحتمل أن يكون لبعضهم فيها قول يخالف قول التابعين وإن لم ينقل إلينا، وشرط انعقاد الإجماع أن لا يتقدمه خلاف لما تقدم، وحينئذ لم ينعقد إجماعهم إذ الشك في الشرط يوجب الشك في المشروط.
وجوابه: أنا لا نسلم أنه لا ينعقد الإجماع مع تقدم الخلاف، وهذا لأنا بينا انعقاده وحجته.
سلمناه لكنه منقوض بإجماع الصحابة بعد موت بعضهم فإنه يحتمل أن
يكون للميت فيها قول وإن لم ينقل قوله إلى الباقين، ولا يقال: أن عدم النقل مع قرب العهد احتمال بعيد؛ لأن قرب العهد يعارضه عدم الحاجة إليه فإنه لا حاجة للباقين منهم إلى قول الماضين منهم حتى ينقل إليهم بخلاف النقل إلى التابعين فإنه وإن بعد العهد، لكن الحاجة ماسة إلى النقل إليهم، لأنه بالنسبة إليهم حجة أو هو مرجح لمأخذهم.
وسادسها: الميت كالغائب، فإذا لم ينعقد إجماع مع الغائب وإن لم يكن [له] في المسألة قول، فكذا في صورة الميت وإن لم يكن له فيها قول.
وجوابه: منع أنه كالغائب؛ وهذا لأن الغائب له أهلية القول والحكم موافقة ومخالفة ويمكن الرجوع إليه بخلاف الميت.
سلمناه لكنه منقوض بإجماع الباقين منهم بعد موت واحد منهم فإنه بالاتفاق حجة مع أن الاحتمال المذكور قائم بعينه.
الفصل الخامس
في بقية مسائل الإجماع
وفيه مسائل: