الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الرابعة
انقراض العصر ليس بشرط في انعقاد الإجماع عند الأكثرين من الفرق
. خلافًا للإمام أحمد والأستاذ أبي بكر بن فورك منا.
ومنهم من فصل بين الإجماع السكوتي وغيره، فشرط في السكوتي دون غيره وهو مذهب الأستاذ أبي إسحاق.
وفصل إمام الحرمين بوجه آخر وهو: أنه إن علم أن متمسكهم ظني فليس بحجة حتى يطول الزمان، وتتكرر الواقعة، ومقتضى هذا: أنهم لو
انقرضوا عقيب الإجماع لا تستقر حجته، ولو بقوا بعد التكرر وتطاول الزمان يكون حجة وإن كان قطعيًا فلا يعتبر الانقراض ولا التطاول [وإن كان الثالث فهو باطل].
لنا: أدلة الإجماع: فإنها بإطلاقها تدل على حجية الإجماع من غير فصل بين انقراض العصر، وعدم انقراضه. فوجب أن يكون حجة مطلقًا، وإلا لزم تقييد تلك الأدلة وأنه خلاف الأصل.
واستدل بوجهين آخرين:
أحدهما: أن الإجماع بعد انقراض العصر حجة وفاقًا، فأما أن يكون لنفس الإجماع، أو لنفس الانقراض، أو للأول بشرط حصول الثاني.
فإن كان الأول فهو المطلوب؛ لأنه يلزم أن يكون الإجماع حجة قبل انقراض العصر لحصوله فيه.
وإن كان الثاني فهو باطل، وإلا لكان انقراض العصر بدون الاتفاق حجة وهو باطل وفاقًا.
وإن كان الثالث فهو باطل أيضًا، لأنه يقتضي أن يكون الموت شرطًا في
حجية قولهم، وهو باطل؛ لأن الموت لا يكون شرطًا في حجية قول هو حجة كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم. وهو ضعيف، أما أولاً: فلأن الجامع وصف طردي لا يصلح للعلية فلا يصح القياس به.
وأما ثانيًا: فلأن حجية قول الرسول وإن لم يتوقف على الموت، لكن استقرار حجيته يتوقف على الموت، فلم لا يجوز أن يكون استقرار حجية الإجماع كذلك؟ والمعنى من كون انقراض العصر شرطًا في انعقاد الإجماع: استقرار حجيته عليه.
وثانيهما: أنه لو اعتبر انقراض العصر في حجية الإجماع لم يتصور إجماع بات مقطوع بحرمة المخالفة، لاحتمال أن يحدث قبل انقراض أهل العصر الأول من له أهلية الاجتهاد، ويحدث قبل انقراضه مجتهد آخر، وقبل انقراضه مجتهد آخر، وهلم جرا إلى يوم القيامة. فمهما أراد مجتهد مخالفته لم يحرم عليه، لعدم حصول شرط حرمتها، وهو انقراض العصر وهو خلاف الإجماع، ولا يدفع هذا بأن المعتبر انقراض عصر من كان مجتهدًا عند حدوث الحادثة، لا من يتجدد بعد ذلك فلا يلزم اشتراط انقراض الجميع، لأن هذا الاحتمال بعينه آت بالنسبة إلى اشتراط انقراض عصر من كان مجتهدًا عند حدوث الواقعة، فإنه يمكن أن يقال: أنه ربما يحدث مجتهد قبل انقراض ذلك اللاحق، وهلم جرا فلم يحصل إجماع بات مقطوع بحرمة المخالفة. وهو أيضًا ضعيف، أما إن قيل: بأن فائدة اشتراط انقراض العصر إنما يرجع إلى المجمعين لا غير، أي يجوز لهم الرجوع عن الحكم ما داموا أحياء ولا يجوز لغيرهم مخالفتهم وإن لحقهم أحياء كما هو مذهب أحمد فظاهر.
وأما إن لم تقتصر الفائدة عليه بل تظهر فائدته في حقهم وفي حق من
لحقهم من أهل العصر الثاني فكذلك، لاحتمال أن يعتبر الانقراض بالنسبة إلى المجمعين وإلا من لحقهم لا بالنسبة إلى لاحق اللاحق وما بعده.
لا يقال: فعلى هذا يلزم [اعتبار] انقراض بعض أهل العصر لا كلهم؛ لأنا لا نسلم ذلك؛ وهذا لأنا اعتبرنا مخالفة اللاحق، ولكن لم نعتبر مخالفة من لحقه وهو ليس من أهل العصر الأول حتى تعتبر مخالفته، بل هو لاحق بمن هو لاحق بأهل العصر الأول، وليس لاحق اللاحق كاللاحق، ولأنا نعني بانقراض أهل العصر انقراض المجمعين أو من لحقهم وحينئذ يسقط ما ذكروه بالكلية.
واحتج المخالف بوجوه:
أحدها: قوله تعالى: {لتكونوا شهداء على الناس} ، ولو كان إجماعهم حجة عليهم لا يجوز لهم مخالفته لكانوا شهداء على أنفسهم وهو خلاف دلالة الآية.
وجوابه من وجوه:
أحدها: أنه مخالف مفهوم الآية لا مخالف منطقوها وهو ليس بحجة.
سلمنا حجيته لكن وجد من القرينة المعنوية ما يدل على عدم إرادته وهو: أنه إذا كانت شهادتهم مقبولة على غيرهم مع احتمال تطرق التهمة إلى تلك الشهادة، فلأن تكون شهادتهم على أنفسهم مقبولة بطريق الأولى، ولهذا
يقبل إقرار المرء على نفسه وإن لم تقبل شهادته على غيره.
فإن قلت: فعلى هذا فأي فائدة في تخصيص شهادتهم على غيرهم؟
قلت: الفائدة فيه التنبيه بالأدنى على الأعلى كقوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} فإن قتلهم عند خوف الفقر إذا كان منهيًا عنه، فلأن يكون عند عدمه بطريق الأولى.
وثانيها: أن قوله: {شهداء على الناس} يتناول شهادتهم على أنفسهم وهذا لأنهم/ (28/ أ) من جملة الناس فيدخلون تحت قوله: {شهداء على الناس} فتكون شهادتهم على أنفسهم مدلول الآية لا مخالفًا لمدلولها.
وثالثها: أن شهادتهم على الغير، إنما تكون مقبولة؛ لأن ما أجمعوا عليه حق وصواب، فإذا كان حقًا وصوابًا بالنسبة إلى غيرهم [كان] حقًا وصوابًا بالنسبة إليهم أيضًا، ضرورة أن كونه حقًا وصوابًا لا يختلف.
وفيه نظر، فإن الشيء قد يكون صوابًا وحقًا بالنسبة إلى شيء دون شيء، وكذلك قد يكون الشيء مقبولاً بالنسبة إلى شيء دون شيء.
وثانيها: ما روي عن النبي عليه السلام[أنه قال:]"لا يخلو عصر من الأعصار من قائم لله بحجة" وهو بمفهومه يدل على خلو بعض
العصر منه، وحينئذ لا يكون الإجماع فيه حجة.
وجوابه: أن المفهوم ليس بحجة.
سلمناه لكن المراد منه وقت من الأوقات، بدليل قوله:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم"، وأمثاله من الأحاديث.
وثالثها: "ما روي أن عليًا رضي الله عنه سئل عن بيع أمهات الأولاد فقال: "كان رأيي ورأي عمر أن لا يبعن* فرأيت الآن بيعهن" فقال له عبيدة السلماني: رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك،
فدل قول عبيدة على أن الإجماع كان حاصلاً، مع أن عليًا خالفه، لأنه لم ينقرض العصر، لأنه كان من جملة المجمعين.
وجوابه: أنه ليس في قول على ولا في قول عبيدة ما يدل على أن الإجماع كان حاصلاً، بل غاية ما يدل عليه هو أن اتفاق جماعة كان حاصلاً في ذلك، ولا يلزم منه اتفاق الأمة، لجواز أن يكون ذلك رأي بعضهم الذين يصدق عليهم أنهم جماعة.
فإن قلت: فكان ينبغي أن يقول: رأيك مع جماعة ولا يقول مع الجماعة لأنه ظاهر في العموم.
قلت مطلقًا أم بتقدير عدم العهد؟
والأول ممنوع، وقد عرفت سنده في باب العموم.
والثاني مسلم، لكن لا يفيد، لاحتمال أن العهد كان حاصلاً، فإن الجماعة الذين اتفقوا على الحكم ربما كانوا معينين معروفين عندهما فلذلك عرف لفظ الجماعة، ثم الذي يدل على أن التعريف ليس باعتبار العموم أن جماعة من الصحابة كانوا يرون جواز بيعهن.
نقل عن جابر بن عبد الله أنه كان يرى جواز بيعهن في زمان عمر
رضي الله عنهما.
ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يرى جواز بيعهن وكان يقول: "ما هي إلا كشاتك وبعيرك".
وكذا نقل عن ابن الزبير أنه كان يرى جواز بيعهن، ومع المخالفة يستحيل انعقاد الإجماع، هذا لو صح رؤية الجماعة.
أما إذا لم يثبت ذلك على ما يقال أنه قال: "رأيك مع عمر أحب إلينا
من رأيك وحدك" فيسقط الاستدلال بالكلية، وهذا أولى لمطابقة الكلامين اللهم إلا إذا روي كلام علي رضي الله عنه على نحو قوله: "كان رأيي ورأي الجماعة" وقد روي بذلك فإنه لا يتأتى هذا الترجيح، وأيضًا فإنه روي "رأيك في الجماعة" فعلى هذا يحتمل أن يكون المراد منه: رأيك في زمن الجماعة والألفة والطاعة للإمام قبل ظهور الفتن والمخالفة، أحب إلينا من رأيك في زمن الفتنة، لكنه بعيد لمقابلة قوله: "من رأيك وحدك" اللهم إلا إذا روي ذلك هكذا: "من رأيك في الفرقة" وقد روي ذلك أيضًا فإنه حينئذ بيان التأويل المذكور.
سلمنا دلالة ما ذكرتم على مخالفة علي رضي الله عنه للإجماع قبل انقراض العصر لكن [لعله] كان مذهبًا له فلا يكون حجة على غيره.
ورابعها: أن الصديق رضي الله عنه كان يرى التسوية في "القسم"، ولم يخالفه أحد في زمانه، ثم أن عمر رضي الله عنه خالفه بعد وفاته، ولم ينكر عليه ذلك. فدل ذلك على انعقاد الإجماع
على جواز مخالفة الإجماع قبل انقراض العصر.
وجوابه: منع حصول الإجماع على ذلك، إذ روى مخالفة عمر له في زمانه.
واحتج عليه في ذلك بقوله: "أتجعل من جاهد في سبيل الله بنفسه وماله كمن دخل في الإسلام كرهًا؟ " ولم ينقل رجوعه عنه بعد ذلك، والأصل استمراره، وسكوته عن جواب استدلال أبي بكر رضي الله عنه لو ثبت، لا يدل على رجوعه عنه، لاحتمال أنه رآه دليلاً صحيحًا لكنه لم ير رجحانه على دليله.
وخامسها: أن عمر رضي الله عنه حد الشارب ثمانين، وخالف ما كان أبو بكر والصحابة عليه من حده أربعين.
وجوابه: منع إجماع الكل عليه، وهذا لأنه لم يثبت خوض الكل فيه بل الظاهر عدمه، لعدم تعلق غرضهم به، إذ لم يسألوا عنه، وعلمهم بمن يعتني به وهو الإمام.
سلمناه لكن كان لمصلحة وقد تغيرت تلك المصلحة في زمن عمر رضي الله عنه، فزال الحكم لزوالها، وليس هو من مخالفة الإجماع في شيء.
ثم أن الذي يدل على أن حد الشارب إنما كان بناء على المصلحة: أنه كان يضرب في زمان الرسول بأطراف الثياب والنعال والجريد، فضرب أبو بكر أربعين، بناء على أنه قدر ذلك به، وضرب عمر ثمانين، بناء على أن ذلك القدر من الجلد ما كان يزجر الناس عنه، وإقامة لمظنة الشيء مقامه، ولولا عرفوا أن الحكم فيه للمصلحة ما كان يجوز لهم مخالفة الرسول عليه السلام بالاجتهاد، فإن شرط الاجتهاد [أن] لا يكون منصوصًا عليه من جهته عليه السلام.
سلمناه لكن لو دل على اعتبار انقراض العصر فإنما يدل في الإجماع السكوتي دون القولي وربما يلتزم ذلك فيه.
وسادسها: أن قول مجموع الأمة لا يزيد على قول الرسول، لأنه اختلف في حجيته دون حجية قول الرسول، ولأن حجيته مستفادة من حجية قول الرسول، فإذا كان موت الرسول شرطًا في استقرار حجية قوله، فلأن يكون موتهم شرطًا في استقرار حجية قولهم أولى.
وجوابه: منع الجامع المعتبر./ (29/ أ).
سلمناه لكن الفرق بينهما حاصل، وهو أن عدم استقرار حجية قوله عليه السلام مادام حيًا إنما يكون؛ لأنه يحتمل النسخ من جهته تعالى، وأما الإجماع فلا يحتمل ذلك، لما تقدم، ولا يتصور أن ينعقد على خلاف دليل راجح حتى يقال عند الاطلاع عليه يزول الحكم عنه ويجعل ذلك كالنسخ في حقه.
وسابعها: لو لم نعتبر انقراض العصر، لحصل الإجماع بموت المخالف لهم في حالة حكمهم؛ لأن من بقى بعد موته كل الأمة. وهو باطل، لأنه يصير القول بالموت حجة؛ ولأنه يلزم بطلان قول الميت.
وجوابه: أما بطلان قول الميت فلازم على المخالف أيضًا على تقدير انقراض العصر، فما هو جوابه عنه فهو جوابنا عنه قبل انقراضه. وأما لزوم حجية القول بالموت. فممنوع على ما عرفت أنه يصير حجة عنده لا به.
وثامنها: أن الإنسان مادام في قيد الحياة، فإنه في الفحص عن الأدلة والفكر فيها، والإجماع على الحكم الواحد قد يكون عن اجتهاد وظن فلو قلنا مجرد إجماعهم حجة لا تجوز مخالفته من غير انقراض العصر، لزم أحد المحذورين وهو: إما منعهم من الحكم إذا لاح لهم دليله، أو سد باب الطلب والفحص والفكر في الأدلة إذا لاح لهم دليل على الحكم.
فإن لم يقولوا بمقتضاه إلا إذا قطعوا بعدم دليل آخر أرجح منه لعلمهم أنهم إذا قالوا به لم يجز لهم الرجوع عنه وإن ظهر لهم دليل أرجح منه لزم الأمر الأول.
وإن قالوا بمقتضاه لزم الأمر الثاني؛ لأنه حينئذ لم يبق في الطلب والفكر فائدة، ضرورة أنه لا يجوز الرجوع عنه بحال.
وجوابه: أن طلب أدلة الحكم والفكر فيها بعد الحكم به، إن كان لاحتمال أن يوجد فيها ما يخالف الدليل الأول وهو أرجح منه، أو يوجد فيها وجه استدلال يخالف الاستدلال الأول وهو راجح، فهذا محال، لأن مجموع الأمة معصوم عن الخطأ فيستحيل منهم الحكم بالدليل المرجوح مع وجود الدليل الراجح لأن ذلك إن كان مع العلم به فظاهر، وإن كان مع الجهل به فكذلك، لأنه لا يجوز ذهولهم عن الحق فسد هذا الباب سد باب العناء وهو غير محذور، وإن كان الطلب والفكر لأغراض أخر نحو الظفر على ما يقوى ذلك الحكم من الدليل، أو وجه الاستدلال، فهذا ممكن الحصول لكن من المعلوم أن عدم اعتبار انقراض العصر لا يسد هذا الباب.
وتاسعها: أن الحكم الذي اتفقوا عليه إن كان دليله قطعيًا، فلا يعتبر فيه انقراض العصر، وإن كان ظنيًا وجب أن يعتبر فيه ذلك، وإلا لزم أن يقال الاجتهاد مانع من الاجتهاد، والحجر على المجتهد في أن لا يتغير اجتهاده.
وجوابه: منع لزوم ما ذكروه، وهذا لأن مجرد الاجتهاد السابق لا يمنع من الاجتهاد الثاني، وإنما يمنع منه اتفاقهم على مقتضاه، فإنه يصير إذ ذاك الحكم قطعيًا، [فلا يسوغ فيه الاجتهاد بعد ذلك، وكذا لا يلزم حجر المجتهد في أن لا يتغير اجتهاده، وإنما يلزم حجره عن العمل بمقتضى اجتهاده
بعد أن صار الحكم قطعيًا].
وعاشرها: أن السكوت عن حكم الحادثة ليس دليلاً على الرضا به لاحتمال أن يكون ذلك للتروي والفكر، فإذا مات على ذلك دل على الرضا به إذ لا تتمادى مدة النظر والفكر عن مدة الحياة فوجب اعتبار انقراض العصر في الإجماع السكوتي.
وما يقال في جوابه، أن السكوت إن دل على الرضا وجب أن يحصل ذلك قبل الموت، وإن لم يدل عليه لم يحصل ذلك أيضًا بالموت، لاحتمال أنه مات على ما كان عليه قبل الموت فضعيف، لأنه وإن احتمل ذلك لكنه احتمال مرجوح.
والأظهر إنما هو احتمال الرضا، لما تقدم أنه لا تتمادى مهلة النظر عن مدة العمر.