الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة
في أن نسخ أصل القياس هو نسخ للفرع أم لا
؟
المشهور من أصحابنا أنه نسخ له.
والمشهور من الحنفية أنه ليس بنسخ له. وقد تقدم ذكره.
والذي نزيده هنا هو أن الحنفية قالوا: إن هذا نسخ بالقياس، إذ لم يرد ناسخ للفرع، وإنما أثبتم ذلك بالقياس على الأصل.
أجاب المثبتون: أن هذا ليس نسخًا بالقياس، إذ ليس يحتاج فيه إلى معنى جامع هو علة النسخ، ولو كان قياسًا لاحتيج إليه بل هو زوال الحكم عن
الفرع لزوال أصله، فإن الحكم في الفرع مبني على العلة، والعلة فرع الحكم في الأصل، لأنها مستنبطة من الأصل بحسب الحكم، فإذا بطل الحكم في/ (380/ أ) الأصل بطلت العلة، فإذا بطلت العلة زال الحكم المبني عليها.
وعند هذا ظهر أن هذا النزاع ليس نزاعًا في أنه نسخ حقيقة، فإن زوال الحكم لزوال علته ليس بنسخ، إذ لا يجعل زوال التحريم عن الخمر لزوال الإسكار عنها نسخًا. بل هو نزاع في أنه هل يزول الحكم عن الفرع إذ ذاك أم لا؟
قالت الحنفية: قولكم: إذا بطلت العلة بطل الحكم المبني عليها حتى إذا كان الحكم مفتقرًا إليها دوامًا أم مطلقًا.
فالأول: مسلم، والثاني ممنوع.
وهذا لأن الباقي غير مفتقر إلى العلة حالة البقاء عندنا وحينئذ لا نسلم أنه يلزم من زوال العلة زوال الحكم.
أجاب المثبتون: بأن زوال الحكم لزوال علته ثابت بالاستقراء في مسائل من غير نقض يوجد لذلك، وذلك يغلب على الظن أنه سبب لزوال الحكم ولو سلم وجود النقض، لكان أفراد الدائر أكثر وإلحاق الفرد بالأكثر أقوى.
خاتمة: في طريقة معرفة الناسخ والمنسوخ:
اعلم أن التعارض: إذا وقع بين معلومين، أو مظنونين، أو بين معلوم ومظنون.
فإما أن يمكن الجمع بينهما: نحو الخاص مع العام، والمقيد مع المطلق، وقد تقدم الكلام في هذا النوع فيما سلف.
أو لا يمكن وحينئذ إما أن لا يعلم تقدم أحدهما على الآخر منهما لا بصراحة اللفظ ولا بغيره، أو يعلم ذلك.
فإن كان الأول: فحكمه العمل بالراجح إن ظهر الترجيح وستعرف طريقه إن شاء الله تعالى "وإلا فحكمه التوقف والتخيير على ما سيأتي ذلك في التراجيح إن شاء الله تعالى".
وإن كان الثاني: فالمتأخر ناسخ للمتقدم إن كانا متساويين في القوة والضعف، أو كان المتأخر أقوى من المتقدم، وعكسه غير متصور عند من لا يجوز نسخ المعلوم بالمظنون، ثم كونه متأخرًا وناسخًا يعلم تارة بصريح اللفظ، نحو أن يقال: هذا متأخر عن ذلك وهذا ناسخ لذاك، وذاك متقدم على هذا ومنسوخ بهذا، ويلحق بهذا القسم: ما إذا كان في اللفظ ما يدل على التقدم والتأخر نحو قوله عليه السلام: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها"، ونحو قوله تعالى:{الآن خفف الله عنكم} ، فإنه يدل
على أنه بعد التثقيل المذكور من قبل فهو ناسخ له.
وتارة يعلم بغير صراحة اللفظ، وهذا ينقسم إلى ما لا يعلم بدلالة حال الراوي، نحو أن يقال: ورد هذا في سنة كذا، وهذا في سنة كذا، ويقال: ورد هذا في غزوة بدر، وورد هذا في غزوة أحد، وهذا إنما يفيد لو علم تقدم إحدى الغزوتين على الأخرى.
إما بالطريق الأول/ (380/ ب)، أو بغيره نحو التصريح بتقدم أحدهما على الآخر من غير أن يعلم وقوعها في سنة معينة، بهذا ظهر الفرق بين هذه الطريقة المذكورة من قبل.
وإلى ما يعلم بدلالة حاله نحو: أن يروي أحد الخبرين رجل متقدم الصحبة للرسول عليه السلام، ويروي الخبر الآخر رجل متأخر الصحبة له، بحيث يكون ابتداء صحبته عند انقطاع صحبة الأول، ويكون كلاهما يرويان عنه عليه السلام من غير واسطة، فإنه إذ ذاك يدل على أنه متأخر عنه، أما إذا لم يكن بهذه الحيثية فلا يجوز أن سمع متقدم الصحبة الخبر الذي رواه بعد سماع متأخر الصحبة الخبر الذي رواه. ويجوز أن يروي متأخر الصحبة عمن تقدمت صحبته ويروي متقدم الصحبة عمن تأخرت صحبته.
ومن هذا يعلم أنه لا يثبت النسخ بكون روى أحد الخبرين من أحداث الصحابة. أو يكون إسلامه متأخرًا عن إسلام راوي الآخر.
وأما قول الصحابي: كان هذا الحكم ثم نسخ أو هذا الخبر منسوخ، أو هذا الخبر ينسخ هذا الحكم، فليس يعرف به النسخ، لأنه يجوز أن يكون قاله اجتهادًا فلا يثبت به النسخ في حق الكل.
وعن الكرخي: الفرق بين ما إذا قال هذا منسوخ، وبين ما إذا قال هذا منسوخ بهذا.
فأوجب قبول قوله في الأول دون الثاني، زعمًا منه أنه لولا ثبوت النسخ وظهوره ما أطلق النسخ إطلاقًا، بخلاف ما إذا عين الناسخ، فإنه يجوز أن يكون قاله اجتهادًا.
وهو ضعيف.
لأنا وإن سلمنا: أن ذلك يدل على الظهور، لكن بالنسبة إلى ظنه واجتهاده، لا بالنسبة إلى ما في نفس الأمر إذ ليس فيه دلالة على ذلك، وحينئذ لا يجب قبوله كما في الأول.
ولا بكون إحدى الآيتين مثبتة في المصحف بعد الأخرى، فإن قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر
وعشرًا} مثبتة قبل آية الاعتداد بالحول، وهو ناسخ لها، ولأن ترتيب الآيات والسور في المصحف ليس على ترتيبها في النزول، فلا يكون تأخرها في الإثبات دليلاً "على تأخرها في النزول، فلا يكون" دليلاً على النسخ.
وأما إذا قال الصحابي: في أحد الخبرين المتواترين أنه كان قبل الآخر.
فهل يقبل ذلك أم لا؟
فالأكثرون على أنه لا يقبل، لأنه يتضمن نسخ المعلوم بالمظنون، وهو غير جائز إذ الكلام في هذه المسألة تفريعًا عليه.
وقال القاضي عبد الجبار: يقبل وإن لم يقبل المظنون في نسخ المعلوم إذ الشيء [يقبل] بطريق التضمن والتبع، ولا يقبل بطريق الأصالة "كما يقبل بطريق الضمن والتبع، ولا يقبل بطريق/ (381/ أ) الأصالة" كما تقبل شهادة القابلة في كون الولد من إحدى المرأتين، وإن كان يترتب على
ذلك ثبوت النسب للولد من صاحب الفراش مع أن شهادة النساء لا تقبل في النسب وكما تقبل شهادة الاثنين في الإحصان الذي يترتب عليه الرجم، وإن كان لا تقبل شهادتهما في إثباته.
قال أبو الحسين البصري: هذا يقتضي الجواز العقلي في قبوله لا في وقوعه ما لم يثبت أنه يلزم من ثبوت أحد الحكمين ثبوت الأمر، والجواز العقلي لا نزاع فيه، فإنا بينا أنه لا نزاع في أنه يجوز أن ينسخ المقطوع بالمظنون، فإذا لم يكن في قبول المظنون في أصل النسخ نزاع، فلأن يكون نزاع في قبوله بالنسبة إلى شرطه بطريق الأولى. والله أعلم "وأحكم".
النوع الثاني عشر
الكلام في الإجماع