الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
المسألة الثانية"
القائلون بأنه لا ينعقد الإجماع إلا عن مستند اتفقوا على جواز وقوعه عن دلالة
.
واختلفوا في جواز وقوعه عن أمارة:
فجوزه الجماهير لكن اختلفوا في وقوعه: فمنهم من قال بوقوعه أيضًا وهم الجماهير.
ومنهم من لم يقل به.
والقائلون بالوقوع، اختلفوا في أنه هل تحرم مخالفته أم لا؟ مع إطباقهم على أنه حجة:
فذهب الجماهير/ (42/ أ) إلى أنه تحرم مخالفته، ومنهم من نفى ذلك.
وذهب الشيعة، وداود الظاهري، ومحمد بن جرير الطبري إلى امتناعه.
ومنهم من فصل فجوز بالجلية، دون الخفية.
والمختار أنه وقع، وأنه تحرم مخالفته.
أما الأول فهو أن الصحابة أجمعت في زمان عمر رضي الله عنه على أن حد الشارب ثمانون وهو بطريق الاجتهاد، إذ روي أن عمر رضي الله عنه شاور الصحابة في ذلك فقال علي رضي الله عنه: (أنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وحد المفترى ثمانون" وهذا تصريح منهم بأنهم إنما أثبتوا ذلك الحكم بالاجتهاد، وضرب من القياس، إذ مع وجود النص لا يتشبث بمثله، وحينئذ يعرف اندفاع ما يقال عليه: لعلهم أجمعوا عليه لنص لكنه لم ينقل استغناء بالإجماع.
وأجمعوا أيضًا على إمامة أبي بكر رضي الله عنه بالأمارة، إذ ليس ذلك لا عن دليل لما تقدم، ولا عن دليل هو نص، وإلا لأظهروه كما أظهروا قوله عليه السلام:"الأئمة من قريش" بل ذلك أولى بصراحة دلالته على التعيين، كيف وقد صرح في بعض ما نقل بالقياس والاجتهاد
بعضهم: "رضيه رسول الله عليه السلام لديننا" يعني به تقديمه إياه في الصلاة "أفلا نرضاه لدنيانا؟ " وقال الآخر: إن تولوها أبا بكر - تجدوه قويًا في أمر الله ضعيفًا في بدنه" وإذا لم يكن بهاتين الطريقتين تعين أن يكون لأمارة وهو المطلوب.
وأجمعوا أيضًا على جزاء الصيد بالاجتهاد وضرب من القياس، فإنهم إنما عينوه للتشبه إما في الصورة، أو في المعنى وكل ذلك قياس، بل أضعف من القياس الذي وقع النزاع فيه وهو قياس المعنى.
وأما التمسك بمثل أن الأمة مجمعة على تحريم شحم الخنزير قياسًا على تحريمه، وأجمعت على إراقة الأدهان والسيالة إذا ماتت فيها فأرة قياسًا على السمن ففيه نظر، لأنه ليس بقياس ظني الذي وقع فيه النزاع، بل هو قياس قطعي وليس فيه النزاع.
واحتجوا بوجوه:
أحدها: أن الأمة مع كثرتها، واختلاف دواعيها - لا يجوز أن تجمعها الأمارة مع خفائها، كما لا يجوز أن تجمعهم شهوة طعام واحد في الساعة الواحدة على أكله، وكذا التكلم بالكلمة الواحدة على تكلمها، وهذا بخلاف إجماعهم على مقتضى الدليل والشبهة، لأن الدليل قوي لا تختلف دلالته لغاية ظهورها، فلا تختلف فيها الأذهان فجاز أن تجمع، وهذا بخلاف الأمارة، فإنها تضطرب فيها الأذهان، والشبهة، وإن كانت دلالته ليست حقيقة لكنها شبيهة بالدلالة فلذلك اعتقدت دليلاً فكانت جارية مجراها.
وجوابه: أن ذلك إنما يمتنع فيما يتساوى فيه الاحتمال، فأما فيما ظهر
فلا نسلم امتناعه فيه.
سلمناه لكنه منقوض بالخبر الواحد، فإنه أيضًا غير مقطوع به مع أنه يجوز حصول الإجماع على مقتضاه.
وثانيها: أن في الأمة من لا يعتقد جواز الحكم بالأمارة، فهو لا يستحيل أن لا يجمعوا على الحكم بسببها.
وجوابه: أن الخلاف في جواز الحكم بالأمارة حادث لم يكن في العصر [الأول] لما سيأتي في القياس إن شاء الله تعالى أن العمل به كان مجمعًا عليه فيما بين الصحابة رضي الله عنهم.
سلمناه لكنه يجوز أن لا يوجد واحد منهم في بعض الأعصار فيتصور انعقاد الإجماع به.
سلمنا عدم خلو الزمان عنهم لكنه يجوز أن تشتبه الأمارة بالدلالة فيثبت بها بناء على أنه أثبته بالدلالة.
سلمنا عدم جواز اشتباه الأمارة بالدلالة، لكنه منقوص بخبر الواحد فإنه أيضًا مختلف فيه مع أنه يجوز أن يحصل الإجماع به وفاقًا: سلمنا سلامته عن هذا النقض لكنه منقوض بعموم المقطوع به فإنه أيضًا مختلف فيه مع أنه يجوز حصول الإجماع على مقتضاه وفاقًا.
وثالثها: أن تجويزه يقتضي الجمع بين أحكام متنافية، لأن الحكم من حيث أنه صدر عن الاجتهاد يجوز مخالفته، ولا يفسق مخالفه، ولا يبدع ويحكم
عليه بأنه غير مقطوع به.
ومن حيث أنه مجمع عليه بالضد من هذه الأحكام، فلو جاز حصول الإجماع عنه لزم حصول هذه الأحكام فيه، وأنه جمع بين الأحكام المتنافية فلا يجوز.
وجوابه: أن الأحكام المترتبة على الاجتهاد مشروطة بأن لا تصير المسألة إجماعية، فإذا صارت إجماعية زالت تلك الأحكام لزوال شرطها.
سلمنا أنها غير مشروطة به، لكنه منقوض بالإجماع الصادر عن خبر الواحد، فإن جميع ما ذكروه ثابت فيه بعينه مع أنه يجوز ذلك وفاقًا.
ورابعها: أن الإجماع أصل من أصول الأدلة، وهو معصوم عن الخطأ، والغلط والقياس فرع وعرضة للخطأ والغلط، فلا يجوز إسناده إليه.
وجوابه: أنه إن عنى بقوله: أنه أصل من أصول الأدلة، أي هو دليل بنفسه من غير إسناد إلى شيء آخر فهذا باطل، بل حجيته مستفادة من الكتاب والسنة كالقياس، وهو محتاج إلى دليل في انعقاده في آحاد الصور لما تقدم أنه لا يجوز أن ينعقد عن تبخيت.
وإن عنى به أنه أصل بالنسبة إلى الأحكام الفرعية فهذا مسلم، لكن القياس أيضًا أصل بهذا المعنى، وإنما هو فرع الكتاب والسنة، والإجماع أيضًا كذلك.
وأما قوله: القياس عرضة للخطأ والغلط.
قلنا: إن عنيتم به: أنه كذلك قبل الإجماع على القول بمقتضاه فهذا مسلم، لكن لم قلتم أنه لا يجوز إسناد الإجماع إليه فإن هذا أول المسألة.
ثم ليس هو إسناد للمعصوم إلى المعرض للخطأ، لأنا إذا ذاك تبينا أنه أسند الحكم إلى قياس صحيح مقطوع بصحته لا يجوز أن يكون خطأ فيكون ذلك إسناد لما لا يحتمل أن يكون خطأ/ (43/ أ) إلى ما لا يحتمل أن يكون خطأ.
وإن عنيتم به: أنه كذلك مطلقًا سواء كان قبل الإجماع أو بعده فهذا ممنوع، وهذا لأنه عندنا غير محتمل للخطأ بعد الإجماع.