الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
المسألة الأولى"
في إمكان وقوع الإجماع، وإمكان الإطلاع عليه:
اعلم أن من الناس من أحاله عادة.
ومنهم من قال بإمكانه بغير إحالة بوجه ما، لكن قال: لا سبيل إلى الاطلاع عليه.
أما الأولون، فقالوا: إن كل ما لا يكون معلومًا بالضرورة فإنه يستحيل اتفاق الخلق العظيم والجم الغفير عليه، كما يستحيل اتفاقهم في الساعة الواحدة، على المأكول الواحد، واللبس الواحد، وكيف لا وتراهم يختلفون في الضروريات والبديهيات: فمنهم من اعترف بها، ومنهم من أنكرها أصلاً ورأسًا، مع أن طريقها واحدة لا فكر فيها ولا روية، فالنظريات القطعيات بذلك أجدر لافتقارها إليهما وافتقارها إلى النظر والناس مختلفون فيه فإن منهم من [أنكر] كون النظر يفيد العلم بل لا يفيد إلا الظن الغالب والظنيات بذلك أولى من القطعيات؛ لأن طرائقها كثيرة، وطباع الخلق الكثير وأذهانهم مختلفة عادة، فمن الممتنع تطابقها على طريقة واحدة.
وجوابه: منع استحالة اتفاق الخلق الكثير، والجم الغفير على الشيء الواحد الذي لا يكون معلومًا بالضرورة إذا كان له دليل قاطع، أو شبهة أو أمارة مغلبة للظن؛ وهذا لأنه وجد ذلك؛ فإنا نعلم اتفاق الخلق الكثير والجم الغفير في شرق البلاد وغربها على نبوة محمد عليه السلام بسبب معجزته القاطعة، واتفاق أهل الشبه على مقتضاها كأهل البدع والكفر.
وكذلك نعلم اتفاق الخلق العظيم على فساد بيع المضامين والملاقيح مع أن الموجب له ليس إلا ما يوجب الظن من خبر واحد، أو قياس.
وإنما عدلنا عن العبارة المشهورة في ذلك، وهي: أنا نعلم اتفاق المسلمين
مع أن كثرتهم لا تحصى على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
ونعلم اتفاق اليهود والنصارى على إنكار نبوته.
واتفاق الشافعية على أقواله الصادرة عن الأمارة، إلى ما ذكرنا ليندفع ما يقال عليها وهو: أنك إن عنيت بالمسلم المعترف بنبوته كان ذلك جاريًا مجرى قولنا المعترف بنبوته معترف بنبوته وذلك معلوم بالضرورة، وإن عنيت به غيره فلا نسلم اتفاقهم عليها، وكذا الكلام في المثالين الأخيرين، فإن هذا لا يتأتى على عبارتنا، وما ذكروه من الصور، فإنما امتنع فيه الاتفاق، لانتفاء ما شرطنا في حصول الاتفاق وهو الدليل القاطع، أو الأمارة المغلبة للظن.
وما ذكروه من اختلاف الناس في الاعتراف بالبديهيات، والضروريات، والنظريات فإنما يقدح فيما نحن فيه أن لو ادعينا اتفاق جميع الأمم على شيء واحد، وليس كذلك، بل ندعي اتفاق بعض من اعترف بكلها وهم المجتهدون.
وقوله: الظنيات طرائقها كثيرة، وأذهان الناس مختلفة، فمن الممتنع عادة اتفاقهم على واحدة منها.
قلنا: وإن كان كذلك لكن قد يكون البعض منها أرجح من البعض فلا يمتنع اتفاقهم عليه.
سلمناه [لكنه] منقوض بما تقدم من أنا نعلم اتفاق الخلق الكثير على عدم جواز بيع المضامين والملاقيح مع أن الدليل الدال عليه ظني نحو الخبر
المروي بالآحاد، أو القياس.
وأما الآخرون الذين قالوا: بإمكان وقوعه لكن زعموا أنه لا طريق لنا إلى معرفته.
فقد احتجوا عليه بأن قالوا: إن من الظاهر أنه لو أمكن أن يحصل العلم به فإنما يحصل من جهة السمع لا غير، بأن يسمع من/ (3/ أ) أهل الاتفاق أنهم اتفقوا عليه، أو يسمع منهم ما يجري [مجراه] فإن ما عداه من الطرائق نحو الوجدان والإحساس [بغير حس السمع، وحكم العقل إما بالبداهة، أو بالنظر فيما لا يمكن اكتسابه به] لكن ذلك متعذر، لأن سماع كلام الغير مع العلم بكونه كلامه يتوقف على معرفته بعينه، وذلك معلوم بالضرورة، فأذن العلم باتفاق المجتهدين على حكم يتوقف على معرفة أعيانهم، لكنه متعذر لتفرقهم شرقًا وغربًا.
لا يقال: يمكن ذلك بطريقين:
أحدهما: أن يطوف عليهم شرقًا وغربًا ويسمع منهم ذلك.
وثانيهما: أن يجمعهم سلطان قاهر فحينئذ يمكن الاطلاع عليه، لأنا نقول: أما الأول، فباطل، لأنه لم يوجد إلى الآن من طاف المشرق والمغرب وعرف المجتهدين بأعيانهم، وأخبر عنهم اتفاقهم على حكم ما.
سلمنا ذلك، لكن من أين نعلم أنه لم يغادر أحدًا منهم لم يجتمع به، وكيف الخلاص من وجود خامل منهم لا يعرف؟
سلمناه، لكن من أين نعلم أن ما أفتاه، أو أخبره من اعتقاده من أنه يعتقد ذلك الحكم أفتاه من صميم قلبه، أو كان صادقًا فيما أخبره؟
فلعله أفتاه بذلك خوفًا وتقية، أو لأسباب أخر وهو لا يعتقد ذلك. وكذا الكلام فيما إذا أخبره عن اعتقاده.
سلمناه لكن لا يمكن ذلك في زمان واحد ضرورة تفرقهم في شرق البلاد وغربها، بل في مدة متطاولة وحينئذ لم يمكن القطع بحصوله؛ لاحتمال أن يكون الذي أفتاه أولاً. فقد رجح عنه بعد ارتحال المستفتى عنه قبل إفتاء الآخرين، وحينئذ لا يحصل الإجماع، لعدم حصول الاتفاق في زمان ما.
وأما الثاني فهو باطل أيضًا بأكثر ما سبق، ولا ينقض ذلك لما أنا نعلم من اتفاق المسلمين على نبوة محمد عليه السلام مع تفرقهم في شرق البلاد وغربها.
وكذلك نعلم اتفاق اليهود والنصارى على إنكار نبوته عليه السلام مع تفرقهم في الآفاق.
وكذلك نعلم اتفاق الشافعية على فساد النكاح بلا ولي، واتفاق الحنفية على صحته، وإن لم نعرفهم بأعيانهم.
ولا ينقض أيضًا: بما أن نعلم باستيلاء بعض المذاهب والملل على بعض النواحي كما نعلم باستيلاء الإسلام في بلاد الحجاز واليمن، واستيلاء الملة النصرانية في جزائر الإفرنج وإن كنا لا نعرفهم بأعيانهم لأنا نقول:
أما الجواب عن الأول فقد سبق.
وأما عن النقضين الباقيين فعلى نحوه بأن يقال: إن أريد باليهودي المعترف
بنبوة موسى عليه السلام المنكر لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فإن ذلك جار مجرى قولنا: المعترف بنبوة موسى عليه السلام المنكر لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم منكر لنبوته وهو ضروري.
وإن أريد به غيره فلا نسلم حينئذ اتفاقهم على إنكار نبوته عليه السلام وعلى هذا المنوال الجواب في اتفاق الشافعية والحنفية.
فأما النقض الأخير فالجواب عنه: أنا إنما نعلم ذلك بالنسبة إلى أكثر من في البلاد بخبر التواتر، أو المشاهدة بناء على رؤية شعار الإسلام والتنصر، ومعرفة علامتها، نحو الأذان والمساجد للمسلمين، والكنائس والناقوس للنصارى، فأما أن نعلم ذلك بالنسبة إلى كل واحد من أهل تلك البلاد فذلك مما لا سبيل إليه.
الجواب عنه: أنه يمكن الاطلاع عليه، أما إذا كان المجتهدون قليلين بحيث يمكن معرفتهم بأعيانهم كما كان في زمان الصحابة. فبمراجعتهم ومشافهتهم وإن كانوا كثيرين بحيث لا يمكن لواحد أن يعرفهم بأعيانهم فبمشافهة بعضهم والنقل المتواتر عن الباقين بأن ينقل من أهل كل قطر من يحصل التواتر بقولهم عمن فيه من المجتهدين مذاهبهم، وخمول المجتهد بحيث لا يعرفه أهل بلدته مستحيل عادة.