الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الرابعة
في الفرق بين النسخ والبداء
اعلم أن النسخ غير البداء وغير مستلزم له.
أما الأول: فلأن النسخ عبارة عما سبق لغة، واصطلاحًا.
وأما البداء: فهو عبارة عن الظهور بعد أن أن لم يكن كذلك، قال الله تعالى:{وبدا لهم سيئات ما عملوا} ، وقوله:{وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} أي ظهر لهم من الله ما لم يكن كذلك.
ويقال: في عرف الاستعمال: بدا لنا وجه الرأي، وبدا لنا سور المدينة أي ظهر بعد أن لم يكن كذلك، وإذا كان كذلك كان النسخ غير البداء، إذ لا يتفقان في الدلالة على مسمى واحد، لا بحسب اللغة، ولا بحسب الاصطلاح.
وأما الثاني: فلأنه يجوز أن يكون فعل المأمور مصلحة في وقت، ومفسدة في وقت، فيحس الأمر به في وقت يكون مصلحة فيه، ويحسن النهي عنه في وقت يكون مفسدة فيه، ولا ننكر جواز ذلك، فإن أكثر
الأفعال العادية كذلك.
ألا ترى أن الأكل والشرب حالة الجوع والعطش مصلحة، وحالة الشبع والري مفسدة فلا يلزم من نسخ ما كان مطلوبًا فعله أن يكون ذلك لظهور مفسدة فيه، لما سبق من الاحتمال.
وهذا على رأي من لم يجوز نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به، وأما من يجوز ذلك فيعلل بأن الأمر بالشيء في وقت قد يكون مصلحة، والنهي عنه (قبيح) فيه وفي وقت آخر يصير الأمر به (فيه) قبيحًا ويصير النهي عنه فيه حسنًا، كما سيأتي تمام تقريره في مسألة جواز نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به، وحينئذ ينبغي أن يحسن الأمر والنهي كلاهما بحسب وقتين مختلفين، فلا يكون النهي عما أر به أولا قبل حضور وقت عمله مستلزما للبداء، إذ لا يكون دالا على ظهور مفسدة
فيه، فظهر أن النسخ غير البداء وغير مستلزم له.
وذهبت الروافض، واليهود: إلى أن النسخ يستلزم البداء فلزمهم التسوية بينهما في الجواز وعدم الجواز.
فذهبت اليهود إلى عدم جوازهما، وقالوا: لا يجوز النسخ من الله تعالى لاستحالة البداء عليه.
وذهبت الروافض إلى جوازهما وقالوا: بجواز البدء على الله تعالى لجواز النسخ منه.
فكل واحدًا من المذهبين، وإن كان كفرًا.
إذ الأول يقتضي إنكار نبوة نبينا عليه السلام.
والثاني: يقتضي جواز الجهل على الله تعالى، وكونه محلًا للحوادث.
لكن الثاني: كفر صريح لا يمكن أن يحمل على وجه لا يلزم منه الكفر/ (351/ ب)(بخلاف الأول: فإنه يمكن أن يحمل على وجه لا يلزم منه الكفر)، وذلك بأن يقال: ليس من ضرورة القول بصحة نبوة نبينا عليه
السلام القول بصحة النسخ حتى يلزم من إنكار النسخ إنكار النبوة، وذلك لاحتمال أن يقال: أن شرع من قبله كان مغيا إلى غاية ظهوره عليه السلام في اللفظ فعند ظهوره عليه السلام زال التعبد بشرع من قبله لانتهاء الغاية وليس ذلك من النسخ في شيء، بل هو جارى مجرى قوله:{ثم أتموا الصيام إلى الليل} وحينئذ لا يلزم من إنكار النسخ إنكار نبوته عليه السلام، وبهذا التأويل أنكر بعض المسلمين النسخ.
ثم كذبت الروافض وبهتوا في نسخة تجويز البداء على الله تعالي إلي أهل البيت حيث نقلوا عن علي رضي الله عنه أنه قال: "لولا البداء لحدثتكم بما هو كائن إلى يوم القيامة".
ونقلوا عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال:"البداء ديننا ودين أبائنا في الجاهلية".
ونقلوا عنه أيضا أنه قال: "ما بدأ الله في شيء كما بدأ له في إسماعيل" أي في أمره بذبحه.
واتخذوا هذه الأكاذيب المخترعة من بعضهم مستندا لمذهبهم الباطل.
وربما استدلوا عليه من جهة نص الكتاب بقوله: {يمحو الله ما يشاء ويثبت} .
واستدلوا عليه من المعقول: بأنه إن علم خلو الفعل من المفسدة حسن الأمر به فقبح النهي عنه، وإن علم اشتماله على المفسدة قبح الأمر به وحسن النهى عنه، فأحدهما حسن والآخر قبيح لا محالة ولم يحسن الأمران معا إلا بحسب اختلاف العلم بذلك.
وأيضا: لو لم يجز عليه البداء لكان فعله على نمط واحد كفعل الطبائع، وذلك ينافي كونه فاعلا مختارا تعالي عن ذلك، إذ الفاعل المختار ما يمكنه الفعل والترك على حسب ما يشاء.
وفي هذا المعني قال قائلهم:
ولولا البداء سميته غير هائب
…
وذكر البداء نعت لمن يتقلب
ولولا البداء ما كان فيه تصرف
…
وكان كنار دهرها يتلهب
وكان كضوء مشرق بطبيعة
…
وبالله عن ذكر الطبائع يرغب
واعلم أن نصوص الكتاب، نحو قوله تعالي {[و] ما يعزب" عن ربك" [من] مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء} ، ونحو قوله:{عالم الغيب والشهادة} ، وقوله:{وهو بكل شيء عليم} ، وقوله:{ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} ، ونحو قوله:{وما تسقط من ورقة إلا يعلمها} وغيرها من النصوص التي تدل على أن علمه تعالي محيط بجميع الأشياء والأدلة/ (352/ أ) القاطعة العقلية الدالة عليه (و) كلاهما يدل على فساد
هذا المذهب وليس له مستند، ولا بحسب العقل، ولا بحسب العقل، ولا بحسب النقل سوى تلك الأكاذيب المخترعة.
وأما قوله: {يمحو الله ما يشاء ويثبت} فهو لا يدل عليه، لأن المراد منه المحو والإثبات بطريق النسخ لا بطريق البداء، ويحتمل أيضا أن يكون المراد منه (محو) السيئات بالحسنات، كما قال تعالى:{إن الحسنات يذهبن السيئات} ،أو محو السيئات بالتوبة، ومحو الحسنات بالردة، كما قال تعالي:{ومن يرتد [د] منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم} وغيرها من الاحتمالات التي ذكر المفسرون في تفسيرها.
وأما الوجه الأول من المعقول: فقد عرفت جوابه.