الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما الثاني: فجوابه: إنما يمتنع أنه لو لم يجز عليه البداء، لكان فعله على نمط واحد، وهذا لأنه يجوز أن يختلف فعله بحسب اختلاف المصلحة والمفسدة بالنسبة إلى الأوقات كما تقدم.
سلمنا: الملازمة لكن لا نسلم أن ذلك ينافي كونه فاعلا مختارا، وهذا لأن المعني من كونه فاعلا مختارا، هو أنه إن شاء فعل وإن شاء ترك، فإن ذلك محال (لا أنه بعد مشيئة الفعل وإرادته إن شاء فعل وإن شاء ترك، فإن ذلك محال)، لأن مشيئة الترك مع مشيئة الفعل محال، وكذا بعدها في حق من تكون مشيئته وإرادته قديمة.
وأما الرد على اليهود فسيأتي في مسألة منفردة بعد هذا إن شاء الله تعالي.
المسألة الخامسة
في إثبات النسخ على منكريه
النسخ جائز عقلا واقع سمعًا عند أكثر المتكلمين.
خلافا لليهود فإن منهم من أنكر جوازه عقلا، ووقوعه شرعًا ومنهم
من أنكر وقوعه فقط.
وذهبت العيسوية منهم، وهم أصحاب أبي عيسي الأصفهاني، المعترفون بصحة نبوة نبينا لكن إلى بني إسماعيل وهو العراب خاصة إلى جوازه عقلا ووقوعه سمعا.
وهؤلاء وإن لم يكونوا مخالفين فلا يحسن ذكرهم في معرض ذكر المخالفين، لكن إنما ذكرناهم لئلا يتوهم أن جميع اليهود مخالفون في ذلك.
وروى عن بعض المسلمين إنكاره، مع اعترافه بأن شرعنا يخالف شرع
من قبلنا في كثير من الأحكام، لكن بالتأويل الذي سبق.
واعلم أنا مهما دللنا على الوقوع، فقد دللنا على الجواز العقلي، إذ لا
يجوز أن يقع ما لا يكون جائزا عقلا، لكن مع ذلك يستدل على الجواز العقلي بدليل يخصه من جهة العقل، والشرع ليكون مدلولا عليه/ (352/ ب) بصريح الدلالة، فإن على الطريقة الأولى، إنما يكون مدلولا عليه بطريق الالتزام.
فنقول: لو لم يكن النسخ جائزا لكان ممتنعا، إذ لا قائل بوجوبه (و) لو قيل به لكان الغرض حاصلا، إذ كل واجب جائز بالمعنى العام، فامتناعه، إما لذاته وصورته، وإما لغيره.
والأول: باطل، لأنه لا يلزم من فرض وقوعه محال، لا بمعنى الرفع، ولا بمعنى انتهاء الحكم، أما بالمعني الثاني: فظاهر إذ لا إشكال عليه.
وأما بالمعني الأول: فلما تقرر من قبل من تحقيق معنى الرفع على الوجه المعقول.
وأما الثاني: فإما أن يكون لاستلزامه البداء وهو باطل لما بينا أنه لا يستلزمه، أو لأنه يستلزم أن يكون الشيء الواحد حسنًا وقبيحًا معا وهو محال.
وهو أيضا باطل، لأنا بينا أن ذلك جائز بالنسبة إلى الوقتين، وإن أكثر الأفعال كذلك، أو لأنه يستلزم الإخلال بحكمة فاعله من حيث إنه إن لم يكن أمره ونهيه لحكمه لزم العبث، وإن كان لحكمه وجب أن يحسن أحدهما دون الآخر، وهو أيضا باطل، لأنا لا نسلم وجوب تعليل أفعال الله تعالى.
ولئن سلم: لكن لا نسلم أن اللازم إذ ذاك حسن أحدهما، وهذا لأنه يجوز أن يحسن كلاهما في وقتين لما سبق، أو بمعني آخر والأصل عدمه إلا إذا بينه الخصم.
وأما الدليل على جوازه بحسب الدليل الشرعي.
فاعلم أن الأصحاب اعتمدوا في ذلك على قوله تعالي: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} .
وزعموا أن هذه الآية بظاهرها تدل على جواز النسخ منه تعالي فهي حجة على من أنكر من المسلمين جوازه شرعا.
وأما على اليهود المنكرين له شرعا.
فحجتهما إنما ثبتت بعد إثبات نبوته عليه السلام، فإنه إذا ثبت نبوته امتنع عليه الفرية والكذب، فيثبت كون الآية من كلام الله تعالي، ضرورة أنه ادعى ذلك وقد ثبت ذلك في الكلام بأدلة قاطعة، فوجب أن يكون حجة عليهم ولا يقال الاحتجاج بالقرآن يتوقف على صحة النسخ، ضرورة أنه متى ثبت أنه كلام الله تعالى لزم نسخ ما تقدم من الشرع، إما كله أو بعضه، إذ أحكامه مخالف لأحكام الشرع المتقدم فإثبات صحة النسخ به دور، لأنا نمنع ذلك وسنده الاحتمال المتقدم، ولو سلم التوقف فيستدل على صحة النسخ بما أنه ثبتت بالأدلة القاطعة كونه كلام الله فيلزم صحة النسخ.
ومنهم من استدل بوجهين آخرين:
أحدهما: أن الأدلة القاطعة دالة/ (353/ أ) على صحة نبوة نبينا عليه السلام، وصحة نبوته لا تثبت إلا مع القول بنسخ شرعه شرع من قبله، (فوجب القول به. وهو ضعيف.
لأنا نمنع أن صحة نبوته عليه السلام لا تثبت إلا بنسخ شرعه شرح من قبله) وسنده ما سبق من الاحتمال، ولا يدفع بأن الأصل عدم التقييد؛ لأن المسألة قطعية والتمسك بالأصل لا يفيد إلا الظن.
وثانيهما: أن الأمة مجمعة على وقوع النسخ، وهذا إنما يصح لو ادعى الإجماع قبل ظهور المخالف، وإلا فمع الخلاف كيف يصح ادعاء الإجماع.
وأما حجيته على اليهود، فيتوقف على إثبات النبوة، وقد ثبت ذلك فيكون حجة عليهم أيضا.
وأما الوقوع فاستدل الأصحاب على اليهود بإلزامين:
أحدهما: أنه جاء في التوراة أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام عند
خروجه من الفلك: أني قد جعلت كل دابة مأكلا لك ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم، كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه.
ثم إن الله تعالى حرم على موسى عليه السلام وبني إسرائيل كثيرا من الحيوانات.
وثانيهما: أنه تعالى أباح لأدم عليه السلام أن يزوج الأخت من الأخ، وقد تواتر ذلك في شرعه، ثم أن تعالى حرم ذلك في شريعة موسى وغيره.
وهما ضعيفان لما سبق من الاحتمال.
لا يقال: لو كان التقييد مذكورا مع الحكم إما مع الاتصال، أو بجملة،
مستقلة لنقل كأصل الحكم، لأنا نقول: إن ذلك غير لازم، لأن توفر الدواعي على نقل الأصل أكثر، ولهذا نقل كثير من كليات الأحكام ولم ينقل شيء من كيفياته وأوصافه ولو لم يكن كذلك لا نتقص بها.
فالأولى أن يستدل على الوقوع بما وقع من النسخ في القرآن، وهو ينتهض دليلا عليهم، كما هو دليل على من أنكر من المسلمين النسخ، لكن بعد إثبات أنه كلام الله تعالى بالدليل القاطع، وقد ثبت ذلك.
فتقول: الدليل على أنه واقع، هو أنه وقع النسخ في القرآن وبيانه بصور: أحدها: أنه نسخت أية الاعتداد بالحول في حق المتوفى عنها (زوجها) بقوله تعالى} والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا {.
لا يقال: إن الاعتداد بالحول ما زال بالكلية في حق المتوفى زوجها يعني حتى يكون نسخا، بل زال في بعض الأحوال فيكون تخصيصاً لا نسخاً.
بيان الأول: أن المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملة ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولا كاملا. لأنا نقول: الاعتداد بالحول زائل كلية، لأن عدة الحامل تنقضي بوضع الحمل سواء/ (353/ب) كانت متوفى عنها زوجها أو لم يكن وسواء كانت مدة الحمل سنة أو لم يكن، وإنما يكون تخصيصا لو بقى الاعتداد بالحول بخصوصيته في صورة ما في حقها وليس كذلك، ولأنه لو كان مخصصا لما جاز تأخيره عن وقت العمل بالمخصص وفاقا.
وثانيهما: أنه تعالى أمر أولا بثبات الواحد للعشرة في قوله تعالى} إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين {ثم نسخ ذلك بقوله} الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين {.
فإن قلت: لا نسلم نسخه، وهذا لأن حكمه باق فيما إذا قصد الكفار المسلمين وهم عشرهم، فإنه يجب عليهم الثبات إذ ذاك.
قلت: ذاك في الجهاد الذي هو فرض عين والثبات فيه واجب على كل واحد من المسلمين، سواء كانوا عشر الكفار، أو أكثر، أو أقل، ووجوب ثبات الواحد للعشرة بخصوصيته إنما هو الجهاد الذي هو فرض
على الكفاية وهو زائل بالكلية، فلأنه (قد) عمل بمقتضى الأول مدة ثم نزل آية التخفيف وتأخير بيان التخصيص عن وقت العمل غير جائز.
وثالثهما: أن التوجيه إلى بيت المقدس في الصلاة كان واجبا في أو الأمر بدليل قوله تعالى} سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها {، وجوب هذا التوجيه وإن لم يكن مذكورا في القرآن ولكنه معلوم بالتواتر وبدلالة القرآن فهو كالحكم المذكور في القرآن، ثم نسخ بقوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} .
وكون التوجه إليه واجبا عند الاشتباه عندما يؤدي إليه الاجتهاد ولا يقتضي بقاء حكمه في صورة ما حتى يقال: إنه تخصيص لا نسخ، لأن ذلك من خصوصية الاشتباه والاجتهاد لا من خصوصية بيت المقدس، فكان (وجوب) التوجيه إليه زائلا بالكلية، وأيضا فإنه باطل بما سبق من الطريق.
ورابعها: أنه تعالى: أمر بتقديم الصدقة بين يدي الرسول عليه وسلم حيث قال تعالى:} يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة {. نسخ ذلك بقوله:} فإذا لم تفعلوا وتاب الله عليكم {.
وليس زواله لزوال سببه، وهو تميز المنافقين عن المؤمنين من حيث إن المنافقين ما كانوا يتصدقون على المؤمنين، لأن ذلك يقتضي أن من لم يتصدق يكون منافقا.
ولكنه باطل لما روى أنه لم يتصدق غير علي رضي الله عنه.
ويؤكده ناسخه، فإن قوله} فإذ لم تفعلوا {خطاب مع المؤمنين،
بدليل قوله تعالى:} وتاب الله عليكم {.
وخامسها: قوله تعالى:} كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين {، فإنه يدل على وجوب الوصية لهم، ثم أنه نسخ بآية المواريث.
فإن قلت: إنه ليس بنسخ، بل هو تخصيص، لأنه بقي الحكم معمولا به في الجملة وهو حيث يوصي بقدر أنصبائهم.
قلت: لو سلم ذلك مع فساده لما سبق، فإنه لا يقدح في نسخ وجوبه الذي هو المدعي، بل في نسخ جوازه الذي هو غير مدعي في هذا المقام.
وسادسها: قوله تعالى:} وإذا بدلنا آية مكان آية الله أعلم بما ينزل {.
ووجه الاستدلال بها أن التبديل يستدعي إثباتًا ورفعًا والمرفوع إما التلاوة، وإما الحكم وأياما كان يلزم وقوع النسخ.
وفي الاستدلال بهذه الآية على الوقوع أو على الجواز نظر: إذ الملازمة بين الشيئين لا يدل على وقوعهما، ولا على جواز وقوعهما، إذ الملازمة قد ثبتت بين الممتنعين، كما نقول إن اجتمع السواد والبياض فهما ليسا بضدين.
وبهذا أيضا يعرف ضعف دلالة قوله:} ما ننسخ من آية أو ننساها نأت بخير منها أو مثلها {على جواز وقوع النسخ، اللهم إلا إذا ضم إليه ما قيل في سبب نزوله، لكن قد عرفت أن العبرة بعموم اللفظ لا
بخصوص السبب.
وعند هذا يعرف أنه لا دليل على جواز وقوع النسخ بحسب السمع إلا وقوعه، فإن الوقوع دليل الجواز وزيادة.
واحتج المنكرون للنسخ عقلا بوجوه:
أولها: لو جاز النسخ فإما أن يجوزك بمعني الرفع، وهو باطل لما تقدم من الوجوه، أو بمعني انتهاء الحكم غايته، وهو أيضا باطل، لأنه إن كان ذلك مصرحا به فاللفظ لم يكن نسخا، وإن لم يكن مصرحا به فاللفظ، إما يفيد التكرار، أو لم يفد، فإن لم يقد لم يجز نسخه، أما قبل وقت العمل به، فلما يأتي في مسألة أنه لا يجوز نسخ الشيء قبل حضور
وقت العمل به، وأما بعده فلانقطاع التكليف (به) وإن أفاد لم يجز أيضا لما سيأتي في دليل المانعين منه سمعا.
وجوابه: أن نقول: لم لا يجوز النسخ بمعني الرفع، وما ذكر من الوجوه في إبطاله فقد تقدم إبطاله.
سلمنا: أنه لا يجوز بمعني الرفع، فلم لا يجوز بمعني انتهاء الحكم.
قوله: إن كان فيما لا يفيد التكرار ولا يجوز قبل الوقت.
قلنا: ممنوع وسيأتي تقريره.
والجواب: عن أدلتهم وأن كان بعد حضور وقت العمل فيما يفيد التكرار فلا يجوز لما ذكره.
قلنا: سيأتي الجواب عنها / (254/ب)، فحينئذ لا يلزم امتناعه.
وثانيها: النهي عن الشيء بعد الأمر به إن لم يكن لحكمة لزم العبث، وهو على الحكيم محال، وإن كان لحكمه ظهرت لزم البدء وهو على الله تعالى محال، إن كان لحكمة كانت معلومة حالة الأمر (وجب أن لا يحسن الأمر.
وجوابه: لحكمة كانت معلومة حالة الأمر) حصولها في وقت
النهي دون وقت الأمر، وحينئذ لا يلزم قبح الأمر.
وثالثها: أن نسخ الحكم بمعني انتهائه خلاف ظاهر اللفظ، إذ اللفظ يفيد الدوام فلا يصار إليه، لأنه خلاف الظاهر وبمعني الرفع ممتنع، لأن المرفوع إن كان ثابتًا استحال رفعه (وإن كان نافيًا محضًا سواء كان ذلك قبل الوجود أو بعده استحال رفعه) أيضا لاستحالة رفع ما ليس بشيء.
ولو سلم إمكانه، لكن اللازم بعده ثبوت الحكم ضرورة أن رفع العدم ثبوت وليس ذلك هو اللازم بعد النسخ.
وجوابه: النقض بالإيجاد والإعدام، فإن ما ذكرتم آت فيه، إذ يمكن أن يقال: الإيجاد إن كان للموجود لزم تحصيل الحاصل وهو محال، وإن كان للمعدوم لزم إيجاد المعدوم وهو محال فما هو جوابكم عنه فهو جوابنا عن الرفع.
ورابعها: أن الفعل الواحد إما أن يكون حسنًا أو قبيحًا، وعلى الأول: يحسن الأمر دون النهي (و) على الثاني: عكسه، وحينئذ يلزم أن لا يحسن الأمران معًا.
وقريب من هذا ما يقال: إنه من حيث أنه مأمور به مراد، ومن حيث أنه منهي عنه مكروه (فلو حسن الأمران لزم أن يكون الشيء الواحد مرادًا أو
مكروهًا) وهو محال.
وجوابه: أنه يحسن في وقت ويقبح في وقت، فلا جرم يحسن الأمران في وقتين.
وكذا يجوز أن يكون مرادًا في وقت ومكروهًا في وقت، فلا جرم يحسن أن يكون مأمورا به ومنهيًا عنه بحسب الوقتين.
واحتج المنكرون له سمعًا:
أما الذين أنكروا من المسلمين فقد احتجوا: بأنه لو جاز النسخ مطلقًا لجاز نسخ القرآن إذ لا قائل: بالفصل إذ لم يعرف من جواز النسخ في الجملة، وأنكر نسخ القرآن، لكن لا يجوز نسخ القرآن لقوله تعالى:} لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه {ولو نسخ لكان قد أتاه الباطل.
وجوابه: أنا لا نسلم أن بتقدير النسخ يكون قد أتاه الباطل، وهذا لأن النسخ بيان انتهاء الحكم، وذلك ليس إبطالًا له بل بيان له وبيان الشيء لا يعد إبطالًا له، ولو فسر النسخ برفع الحكم لم يكن إذ ذاك قد أتاه الباطل أيضًا، لأن الباطل مطلقًا هو الذي ليس بحق أصلا والحكم المنسوخ ليس كذلك فإنه كان حقا قبل النسخ / (355/أ) وقد يكون حقا أيضا بعده، وإنما نسخ
تخفيفا عن العباد.
ولهذا قد يتقرب به بعد النسخ كوجوب صوم عاشوراء.
سلمنا: أن النسخ إبطال لكن ليس ذلك مرادا لقرينة قوله:} من بين يديه {إذ النسخ لا يأتي كذلك.
بل المراد منه: أن هذا الكتاب لم يتقدمه من كتاب بما يبطله ولا يأتيه من بعده ما يبطله.
فأما الذين أنكروه من اليهود سمعًا فقد احتجوا بوجهين:
أحدهما: أنه تعالى لما بين شرع موسى عليه السلام، فلا يخلوا إما أن يكون قد بينه بلفظ يفيد الدوام، أو بلفظ لا يفيد الدوام وأللا دوام.
فإن كان الأول: فإن لم يضم إليه ما يدل على أنه سينسخه لم يجز نسخه لوجوه:
أحدها: أن تجويزه يوجب تجويز التلبيس والتجهيل من الله تعالى، لأن ذكر لفظ يفيد الدوام مع انه لا دوام تلبيس وتجهيل، وهو عليه محال.
وثانيها: أن تجويزه يرفع الثقة عن وعده ووعيده، وجميع كلامه لاحتمال أن يقال: المراد منه غير ما دل عليه بظاهرة، وفيه من الفساد ما فيه.
وثالثهما: أن تجويزه يوج توجيه نسخ شرعنا، وأن لا يبقى لنا طريق إلى معرفة الدوام وتعريفه، لأنه لا طريق إلى معرفة دوامه، إلا أن يقول الشارع: هذه الشريعة دائمة مؤبدة لم يتطرق إليها النسخ أو ما يجري مجراها، فإذا جاز مع ذلك النسخ لزم تجويز نسخ شرعنا، وأن لا يكون لنا طريق إلى معرفة دوامه، وذلك مما لا يقولون به.
وإن ضم إليه ما يدل على أنه سينسخه، فإما أن تكون الغاية معينة، أو لم تكن معينة وعلى التقديرين: البيان، إما منفصل مستقل، أو متصل غير مستقل، فهذه أقسام أربعة:
أحدها: أن تكون الغاية معينة، والبيان بجملة مستقلة، نحو أن يقول: هذا الشرع دائم مؤبد معمولا به.
ثم يقول: أنا نسخة بعد عشر سنيين.
فهذا باطل.
أما أولا: فلأنه متناقض.
وأما ثانيا: فلأنه كان يجب أن ينقل ذلك كأصل الشرع إذ لو لم يجب ذلك لزمنا تجويز نسخ شرعنا لاحتمال أن يقال إنه عليه السلام نص على نسخه بعد مدة معينة، لكنه لم ينقل إلينا ولأنه مما تتوفر الدواعي على نقله، وما كان ذلك يجب نقله واشتهاره وإلا فلعل القرآن عورض ولم ينقل، ولعل ما
جاء به الرسول عليه السلام من الشرع غير هذا الشرع، ولم ينقل وإذا كان كذلك وجب أن يكون العلم بتلك الكيفية كالعلم بأصل الشرع، وحينئذ يجب أن يعلم الكل بالضرورة / (355/ب)(بأن من دين موسى عليه السلام أن شرعه سينسخ وحينئذ يستحيل اتفاقهم على إنكاره، إذ يستحيل اجتماع الجمع العظيم على إنكار الضروريات).
وثانيها: أن تكون الغاية غير معينة والبيان بجملة مستقلة نحو أن يقول: هذه الشريعة دائمة مؤيدة.
ثم يقول: وأنا أنسخة بعد مدة.
فهذا أيضا باطل لما سبق من الوجهين:
وثالثها: أن تكون الغاية معينة والبيان متصل غير مستقل نحو أن يقول: هذه الشرعية دائمة مؤبدة، إلا أن بعد الزمان الفلاني لا تبقى معمولة بها، أو إلا أن بعد المدة الفلانية سأنسخه.
فهذا لا نسلم أنه نسخ، بل هو جاري مجرى قوله تعالى:} ثم أتموا الصيام إلى الليل {، ولو سلم ذلك لكنه باطل بالوجه الثاني بل ها هنا أظهر، لأنه إذا كان متصلا كان يجب نقله مع ما هو متصل به.
ورابعها: أن تكون الغاية غير معينة، والبيان متصل غير مستقل نحو أن
يقول: هذه الشريعة دائمة مؤيدة إلا أنها لا تبقى بعد مدة معمولة بها وترتفع أحكامها، أو سأنسخ أحكامها فهذا لا نسلم أنه نسخ لما سبق وإن كان كونه نسخا أقرب من السابق عليه.
سلمناه: ولكنه باطل لما سبق.
هذا كله إذا بينه بلفظ يفيد الدوام.
إما إذا بينه بلفظ يفيد اللادوام، فإما أن لا يفيد التكرار، أو يفيده.
فإن كان الأول: فلا يحتمل النسخ، أما بعد العمل به فظاهر، وأما قبل حضور وقت العمل (به) فلما سيأتي في مسألة أنه لا يجوز نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به.
وإن كان الثاني: فاحتمال النسخ إنما يكون فيما يفيد فيه التكرار دون ما لا يفيد فيه ذلك، وحينئذ يعود فيه ما سبق من الكلام.
وأما إن كان البيان بلفظ لا يفيد الدوام ولا اللادوام فهذا أيضا غير قابل للنسخ لما سبق في الأول من القسم الثاني.
وجوابه على رأي من يجوز تأخير بيان النسخ وهو أن يقول: لم لا يجوز أن يكون البيان بألفاظ تفيد الدوام، ولم يضم إليه ما يدل على أنه
سينسخه، وما ذكر من الأدلة على فساده فقد سبق أجوبتها في مسألة جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب.
وسلمنا: فساد هذا القسم فلا يجوز أن يكون البيان على ما هو مذكور في القسم الثاني، وما ذكر من الوجهين على فساده.
فالوجه الأول: منها منقوض بالتخصيص فإنه يجوز أن يقول: اقتلوا المشركين كلهم أجمعين، ثم يقول اليهود لا تقتلوهم.
والتحقيق فيه هو أن التناقض إنما يتحقق على تقدير إدارة العموم / (356/أ) من العام، فأما إذا لم يرد ذلك، بل يرد منه بعض مدلولاته من الأزمان أو الأشخاص فلا، وتكون الجملة المخصصة قرينة إدارة ذلك.
وأما الوجه الثاني منهما فجوابه من وجهين:
أحدهما: أن يقول لا يجوز أن يكون البيان على وجه لا يظهر إلا بنظر دقيق وبحث عميق، وما كان كذلك لم يتصور فيه النقل المتواتر، لأن من شرطه تأخير التواتر أن يكون واقعا عما علم وجودة بالضرورة بخلاف أصل الشرع، فإنه ليس كذلك وبه خرج الجواب عما لزمنا من تجويز نسخ شرعنا، فأنه بيان: أنه لا نبي بعده.
وأنه خاتم النبيين، ما ورد على وجه يحتاج فيه إلى تدقيق النظر، وبه خرج الجواب عما ذكره من توفر الدواعي على نقله، لأن ذلك إنما يكون فيما علم وجوده بالضرورة.
وثانيهما: أنا لو سلمنا: أن البيان كان ظاهرا جليا، ومثله يجب تواتره ولكن إنما يجب ذلك أن لو بقي من اليهود في كل زمان ما يحصل به التواتر وهو ممنوع وهذا لأنهم انقطعوا في زمان بخت نصر، ولم يبق منهم عدد لا يمكن تواطؤهم على الكذب حتى يحصل بنقلهم التواتر، بخلاف شرعنا، فإن أهل شرعنا في كل عصر وزمان بالغين مبلغ التواتر.
فإن قلت: فكان يجب أن يكون العلم بأصل شرعهم غير ضروري لعدم ناقليه.
قلت: ذلك معلوم من القرآن وشرعنا لا من نقلهم، وبهذين الوجهين يجيب من لا يجوز تأخير بيان النسخ.
وثانيهما: قالوا: ثبت بالتواتر أن موسى عليه السلام قال: تمسكوا بالسبت أبدا ما دامت السموات والأرض.
ولا خلاف في أنه نبي صادق القول، وكان قوله حجة، وهو بظاهرة يمنع جواز النسخ.
وجوابه: أنا لا نسلم أنه قول موسى، وتواتره ممنوع لما سبق، بل هو
مختلف صريح بعد (موسى) ومحمد رسول الله عليهما السلام، إذ لم ينقل عن اليهود محاجتهما به، ولو كان ذلك قول موسى عليه السلام، أو كان مختلقا قبلهما مشهورا فيما بين اليهود، لكان ذلك أقوى حججهم.
وقد قيل: إن أبن الرواندي وضعه، ولقنهم بأصفهان.
سلمنا: صحته، لكنه محمول بشرط أن لا يرد ناسخ.
كما روي أنه جاء في التوراة في البقرة التي أمروا بذبحها، فيكون ذلك سنة أبداً.
ثم انقطع بذلك التعبد عندهم.
وكما جاء في قصة دم الفصح بأن يذبحوا الجمل ويأكل لحمه ملهوجا، ولا يكسروا منه عظما ويكون لهم هذا الجمل سنة أبدا.
ثم نسخ ذلك وهو كالخطاب المقترن بالأبد فإنه محمول بشرط الحياة.
كما / (356/ب) وروي أنه جاء في التوراة في العبد أنه يستخدم ست سنين ثم يعتق في السابعة، ثم إن أبى العتق فلتثقب أذنه ويستخدم أبداً.