الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
فيما يصدر عنه الإجماع
وفيه مسائل:
المسألة الأولى
مذهب الجماهير أنه لا يجوز حصول الإجماع إلا عن مستند شرعي
نحو الأدلة، والأمارة.
وقول قوم يجوز أن يحصل بالبخت والمصادفة.
وقد تترجم المسألة بأنه لا يجوز حصول الإجماع إلا عن توقيف.
وقال قوم يجوز أن يحصل عن توفيق.
لنا وجوه:
أحدها: أن القول في الدين بغير دلالة/ (41/ أ) وأمارة خطأ، فلو اتفقت الأمة عليه لكانوا قد اتفقوا على الخطأ، وأدلة الإجماع تنفيه.
فإن قلت: متى يكون ذلك خطأ، إذا لم تتفق الأمة عليه، أم مطلقًا سواء اتفقت عليه أم لم تتفق؟
والأول مسلم والثاني ممنوع؛ وهذا لأن من يجوز ذلك مع القول بأن الأمة معصومة عن الخطأ يمنع أن يكون ذلك خطأ عند الاتفاق فتكون دعواه دعوى محل النزاع.
قلت: القول في الدين بغير دليل وأمارة باطل قطعًا في الأصل ولذلك لو لم يحصل الإجماع عليه كان ذلك باطلاً وفاقًا، والإجماع لا يصير الباطل حقًا بل غاية تأثيره أن يصير المظنون مقطوعًا به.
وأيضًا: إما أن يقال: كل مجتهد مصيب، أو يقال المصيب واحد فعلى الأول الحكم يتبع الاجتهاد، فحيث لا اجتهاد لا حكم يعتبر، فما حكموا به من غير اجتهاد غير معتبر، فيكونون مخطئين فيه، إذ لا نعني به إلا أنهم أثبتوا حكمًا غير معتبر، وعلى الثاني المصيب هو الذي صادف ذلك الحكم بناء على طريق، بدليل أنه لو أصاب ذلك الحكم بطريق الاتفاق فإنه غير مصيب وفاقًا، والمجموع ينتفي بانتفاء أحد جزئيه، فتنتفي الإصابة حيث لا طريق فيكون خطأ، ولا يمكن جعل الإجماع طريقًا إليه، لأنه متأخر عن التأدية، التي هي متأخرة عن الاجتهاد، الذي هو متأخر عن الطريق، فلو كان طريقًا إليه لزم تقدم الشيء على نفسه بمراتب وهو محال.
وثانيها: أن الأمة ليسوا بآكد حالاً من النبي المعصوم، لأن عصمتهم مستفادة من عصمته، فإذا لم يجز للنبي عليه السلام أن يحكم من غير دليل لم يجز للأمة ذلك أيضًا بل أولى.
لا يقال: أن ذلك لدليل آخر [نحو] قوله تعالى: {وما ينطق عن
الهوى إن هو إلا وحي يوحى}. ولم يدل مثله في حقهم، وإلا فمقتضى العصمة أن كل حكم يحكم به المعصوم ولو بغير دليل كان صوابًا، لأنا نقول: القياس عليه أو ما يدل على وجوب التأسي به يدل على ثبوت هذا الحكم في حقهم.
وثالثها: لو جاز انعقاد الإجماع من غير دليل لم يكن الاجتهاد شرطًا في القول بالحكم؛ لأن الإصابة حينئذ لا تتوقف على الاجتهاد وما هذا شأنه لا يكون شرطًا، لكن الأمة قبل ظهور المخالف مجمعة على اشتراطه مطلقًا من غير تفصيل بين حالة الإجماع، وغير حالة الإجماع فلا يجوز انعقاده بدونه.
وقد استدل في المسألة بوجوه أخر ضعيفة.
أحدها: أن عند فقد الدليل والاجتهاد الوصول إلى الحق غير لازم وحينئذ لم يمكن القطع بالإصابة.
ووجه ضعفه: أن دعواه عند الإجماع دعوى حل النزاع، وعند عدمه لا يصير.
سلمناه لكنه منقوض بما إذا وجد الدليل والاجتهاد، فإن الإصابة أيضًا غير لازم، لجواز الخطأ مع هذا فإنه عند الإجماع نقطع بالإصابة.
وثانيها: أنه لو جاز أن يحكم الجميع من غير دليل وأمارة لجاز ذلك لكل واحد منهم، لأنهم إنما يجمعون على الحكم بأن يقول كل واحد منهم به، لكن اللازم باطل بالإجماع فكذا الملزوم.
وجوابه: مع أنه إنما يجمعون على الحكم بأن يقول كل واحد منهم به
على الانفراد، بل جاز أن يحصل معًا كما فيما إذا كان المجتهدون منحصرين يشاهدون بعضهم البعض.
سلمناه، لكن لا يلزم منه أن يجوز لكل واحد منهم ذلك وإن لم ينضم إليه الباقون، لجواز أن يكون جوازه له مشروطًا بضم الباقين إليه، فإنه يجوز أن يكون حكم المجموع الحاصل من الأفراد مخالفًا لها، كالخبر المتواتر، والإجماع الحاصل عن مستند فإنه إنما يحصل بأن يقول كل واحد منهم به، ومع ذلك لا يلزم أن يكون قول كل واحد منهم صحيحًا مقطوعًا به مع أن قول الكل كذلك.
وثالثها: أن الحكم إذا لم يستند إلى دليل لا ينسب إلى الشارع وما يكون كذلك لا يجوز الأخذ به.
ووجه ضعفه: أنه إن عنى بقوله: لا ينسب إلى الشارع أنه غير مستفاد من دليل من أدلته فهذا مسلم، لكن لا نسلم أن ما يكون كذلك لا يجوز الأخذ به، فإن عندنا ينقسم ذلك إلى ما يكون مجمعًا عليه فيجوز أخذه، وإلى ما لا يكون مجمعًا فلا يجوز أخذه، وإن عنى به أنه لا يصاب الحكم، فهذا غير مسلم بل دعواه دعوى محل النزاع.
واحتجوا بوجهين:
أحدهما: أنه لو لم ينعقد الإجماع إلا عن دليل - أعنى به القطعي والظني - لكان ذلك الدليل هو الحجة، وحينئذ لا تبقى فائدة في جعل الإجماع حجة شرعية.
وجوابه: أنه يقتضي منع انعقاد الإجماع عن دليل وهو خلاف الإجماع.
سلمنا سلامته عن النقض لكن لا نسلم أنه لا فائدة فيه، بل فيه فائدتان
وهما: جواز الأخذ بالحكم المجمع عليه من غير بحث عن وجود ذلك الدليل، وعن كيفية دلالته عليه، وحرمة المخالفة الجائزة قبله.
وثانيهما: أنه وقع ذلك كإجماعهم على بيع المراضاة، وأجرة الحمام والحلاق والدلاك.
وجوابه: منع أنه انعقد الإجماع على ذلك من غير دليل، وغاية ما يستدل عليه إنما هو بعدم الوجدان، لكنه لا يدل عليه، لجواز أن كان أنه دليل لكنه لم ينقل إلينا استغناء بالإجماع.