الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة
[في نسخ السنة المتواترة بالكتاب]
يجوز نسخ السنة المتواترة بالكتاب عند جماهير الفقهاء والمتكلمين وهو واقع. وهو أحد قولي الشافعي رضي الله عنه.
ونقل عنه قول آخر أنه لا يجوز.
احتج الجماهير على جوازه أولاً.
ثم على وقوعه ثانيًا.
أما على الجواز فلما تقدم في المسألة السالفة، بل هنا أولى إذ ليس فيه اتهام ولا نفرة.
وأما على الوقوع فبوجوه:
أحدها: أن تحريم المباشرة/ (371/ ب) في ليالي الصيام كان ثابتًا بالسنة إذ لا يوجد في القرآن ما يدل عليه، ثم أنه نسخ بقوله تعالى:{فالآن باشروهن} .
وثانيها: أن التوجه إلى بيت المقدس في الصلاة كان واجبًا بالسنة إذ ليس في القرآن ما يدل على وجوب التوجه إليه على سبيل "الخصوص".
ثم أنه نسخ بالقرآن، وهو قوله:{فول وجهك شطر المسجد الحرام} .
وثالثها: أنه نسخ صلح الرسول مع المشركين عام الحديبية على رد من جاءه منهم مسلمًا بقوله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} وكان ذلك الصلح ثابتًا بالسنة إذ ليس في القرآن ما يدل على شرعيته.
ورابعها: أنه نسخ وجوب صوم عاشوراء بوجوب صوم رمضان الثابت
بالقرآن قال الله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} .
وليس في القرآن ما يدل على وجوب صوم عاشوراء، فكان "ثابتًا" بالسنة.
وخامسها: أن تأخير الصلاة عن وقتها بعذر القتال كان جائزًا في أول الأمر. ولهذا أخر الظهر والعصر في يوم الخندق عن وقتهما وقال في قتلاهم "حشى الله قبورهم نارًا" لحبسهم له عن الصلاة.
وهو ثابت بالسنة إذ ليس في القرآن ما يدل عليه، ثم نسخ بقوله:{فإن خفتم فرجالاً أو ركبانًا} أو بقوله: {وإذا كنت فيهم} الآية.
فإن قلت: لعل هذه الأحكام كانت ثابتة بقرآن نسخ تلاوته، أو وإن ثبت بالسنة، لكن لعلها نسخت أيضًا بالسنة، لكنها لم تنقل، إما لدلالة القرآن على هذه الأحكام، أو لحصول الإجماع عليها.
قلت: الأصل عدم ذلك لا سيما مع عدم الوجود بعد التفتيش والبحث التام، فإن دواعي الخصوم متوفرة على الطلب والبحث عن ذلك، لدفعهم حجاج خصومهم عليهم ولا مانع لهم عنه، فوجب حصول التفتيش والطلب، والمسألة اجتهادية فيكفينا فيها التمسك بالأصل، وكيف لا وفتح هذا الباب يقتضى أن لا يتعين ناسخ ولا منسوخ، لاحتمال أن يقال: في كل ناسخ يعين أنه ليس بناسخ، بل غيره وفي كل منسوخ يعين ذلك، وفي عدم تعين المنسوخ نظر.
فإن قلت: إنه غير لازم، لأنا إنما نحيل النسخ هنا إلى غيره لقيام الدليل على أنه لا يجوز أن يكون ناسخًا وأنه لا يجوز أن يكون منسوخًا به، وهذا غير حاصل في كل ناسخ ومنسوخ.
قلت: سنجيب عن تلك الأدلة فلا يكون ذلك مانعًا من إحالة النسخ إليه.
سلمنا: ذلك لكن لا يلزم من عدم الدليل على شيء عدم ذلك الشيء فيم يبقى هذا الاحتمال ثمة.
واحتجوا بوجوه:-
أحدها: قوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} .
ووجه الاستدلال به: وهو أنه تعالى جعل كلامه بيانًا للقرآن، فلو كان القرآن/ (371/ أ) ناسخًا له، فإما أن يكون بمعنى الإبطال وهو باطل لأن المبين "لا يكون" مبطلاً للمبين، وإما أن يكون بمعنى البيان، وهو أيضًا: باطل، لأن المبين يصير مبينًا للمبين فيلزم أن يكون كل واحد منهما بيانًا للآخر.
وجوابه: أن المراد من البيان التبليغ والإظهار دون بيان المراد "لأن في" الحمل على الأول: إجراء كلمة "ما" على العموم.
وأما في الحمل على الثاني: فليس كذلك، ضرورة أن كل ما نزل إليهم لا يحتاج إلى البيان، فحينئذ يلزم، إما الإجمال، أو التخصيص، وهما على خلاف الأصل. فما يستلزمه أيضًا كذلك، وحينئذ لا يكون في الآية دلالة على أن القرآن لا ينسخ السنة.
سلمنا: أن المراد منه بيان المراد، لكن ما ينسخه القرآن من السنة ليس هو بيانًا لناسخه حتى يلزم ما ذكروه من المحذور بل يغيره، وحينئذ لا يلزم ذلك.
سلمنا: أن ما ينسخه القرآن من السنة فهو بيان له، لكن على تقدير أن يكون قوله:{لتبين} ، يدل على أن كلامه لا يكون إلا بيانًا. وهو ممنوع وهذا لأن قول القائل: بعثت إليك الكتاب لتبينه، لا يدل على أنه لا يصدر
منه إلا البيان.
وثانيها: أن تجويز نسخ السنة بالقرآن يوهم عدم رضا الله بما سنه الرسول عليه السلام وهو مناقض لمقصود البعثة، فموهمه أيضًا باطل.
وجوابه: لأن الإيهام إنما يلزم أن لو كان النسخ عبارة: عن الرفع وهو ممنوع، أما إذا كان عبارة عن: بيان انتهاء المدة فلا.
سلمنا: لزومه مطلقًا، لكنه زائل بما أنه لا ينطق عن الهوى {إن هو إلا وحي يوحى} ولأن هذا الإيهام حاصل في تجويز نسخ القرآن بالقرآن، والسنة بالسنة، مع أنه جائز بالاتفاق.
وثالثها: أن السنة ليست "من" جنس القرآن، لكونه معجزًا، ومتلوًا، ومحرمة تلاوته على الجنب والحائض.
وكونه لا يمسه إلا المطهرون، وكونه يتوقف على قراءته صحة الصلاة، لم يجز نسخها به كما لا يجوز نسخها بالقياس، وكما لا ينسخ حكم العقل بالقرآن والسنة.
وجوابه: أن نسخ السنة بالقياس، إنما امتنع للضعف، لا لاختلاف الجنس وحكم العقل زال بهما، وإنما لا يسمى ذلك نسخًا، لأنه ما كان "ثابتًا" بطريق شرعي وهو معتبر في النسخ على ما تقدم في تفريعه، وهو آيل إلى أنه لا يسمى نسخًا بحسب الاصطلاح وإن سمي به لغة.
.......................................................................
...........................................................................