الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الرابعة
في أن الحكم الثابت بالإجماع لا ينسخ به ولا بغيره
، والحكم الثابت بغير الإجماع وبه لا ينسخ به أيضًا: ولتعلم أن الإجماع لا ينعقد دليلا إلا بعد وفاة الرسول، لأنه لو انعقد دليلاً في حياته عليه السلام فمن الظاهر أنه لا ينعقد بدون قوله: لأنه عليه السلام سيد المجتهدين والعلماء/ (371/ ب) فكيف ينعقد الإجماع بدون قوله ولا مع قوله "لأن قوله عليه السلام" وحده حجة ولا عبرة بقول الغير في ذلك ويعتبر في حجية الإجماع اجتماع الأقوال مع وجود أهل القول وفاقًا، فحجية قوله، وإن كان مع غيره من الأقوال على خلاف حجية الإجماع، ولأن منكر حكم الرسول الثابت بطريق القطع كافر وفاقًا، ومنكر حكم الإجماع ليس بكافر فليس حجية قوله مع غيره من الأقوال بطريق الإجماع بل حجيته إذ ذاك بحجيته وحده إذا عرفت
هذا فنقول: لو انتسخ الحكم الثابت بالإجماع فإما أن ينسخ بالنص: وهو باطل، لأن ذلك النص، إما أن يقال: إنه كان حاصلاً قبل حصول الإجماع، أو حصل بعده. والأول: باطل.
أما أولاً: فلأن شرط الناسخ أن يكون متراخيًا في الورود على ما عرفت ذلك، فالمتقدم في الورود يستحيل أن يكون ناسخًا.
وأما ثانيًا: فلأن ذلك الإجماع، حينئذ يكون على خلاف النص ضرورة أن المنسوخ مناف للناسخ، وهو خطأ ممتنع الصدور من أهل الإجماع.
والثاني: أيضًا باطل، إذ يستحيل ورود النص بعد وفاة الرسول عليه السلام. أو بالإجماع: وهو أيضًا: باطل، لأن ذلك الإجماع.
إما أن لا يكون عن دليل، أو يكون عن دليل. والأول: باطل، لأن القول أو الاعتقاد بغير دليل باطل، فكان الإجماع باطلاً ممتنع الصدور من أهل الإجماع.
ولقائل أن يقول: من يجوز صدور الإجماع عن تبخيت اندفع هذا عنه ويلزمه أن يجوز نسخ الإجماع بالإجماع، لأنه يجوز أن يحصل الإجماع الأول عن تبخيت ويصادف ما هو حكم الله تعالى على المكلفين في ذلك الزمان عن تبخيت ناسخ لحكم الإجماع الأول، وهذا الاحتمال أظهر لو قيل معه أنه ليس لله تعالى في كل واقعة حكم معين، بل هو ما ذهب إليه المجتهد.
إما بالتوفيق، أو بالتوقيف "وفيه نظر أن إختلاف حكم الله تعالى بحسب زمانيين بعد انقطاع الوحي يقتضي تكليف ما لا يطاق".
والثاني: أيضًا باطل، لأن ذلك الدليل يستحيل حدوثه إذ ذاك نصًا كان، أو قياسًا.
وأما القياس: فلأنه يستدعى أصلاً ثابتًا بالنص الحاصل من قبل، لاستحالة حدوث الأقيسة، وحدوث النص، وإذا استحال حدوث ذلك الدليل كان موجودًا من قبل، وهو أيضًا: باطل لما تقدم.
فإن قلت: أليس أن الأمة إذا إختلفت في مسألة على قولين:
فقد جوزت للعامي الأخذ بأيهما شاء، فإذا اتفقت بعد ذلك على أحد القولين، أو اتفق/ (371/ أ) أهل العصر الثاني: على أحد القولين، فقد منعت العامي من ذلك، وأوجبت عليه الأخذ بأحد القولين عينًا، وهو نسخ الإجماع بالإجماع. وهذا مستند المخالف في هذه المسألة إذ نقل فيه خلاف بعض الناس.
قلت: من منع من حصول هذا الإجماع فقد سقط عنه هذا السؤال، ومن جوز، فيقول: لا نسلم أنه نسخ، بل هو زوال حكم لزوال شرطه، فإن جواز الأخذ بكلا القولين على البدلية مشروط عنده بعدم حصول الإجماع على أحد
القولين، فإذا حصل ذلك فقد زال شرطه، وزوال الحكم لزوال شرطه ليس هو من النسخ في شيء على ما عرف ذلك والاستدلال على عدم شرطيته بما سيأتي في الإجماع إن شاء الله تعالى، خروج عن المسألة وانتقال عنها إلى غيرها، وهو غير مسموع عند أهل النظر.
أو بالقياس، وهو أيضًا: باطل.
أما أولاً: فلما سبق.
وأما ثانيًا: فلأن شرط العمل بالقياس أن لا يكون مخالفًا للإجماع، فإذا حصل الإجماع على خلافه فقد زال شرط صحة العمل به، فلم يكن القياس صحيحًا فلم يجز النسخ به، وهذا الوجه آت أيضًا في أنه لا يجوز أن يكون القياس دليل الإجماع الثاني الناسخ للإجماع الأول، وإن "لم" يذكره ثمة هذا كله في أنه لا يجوز نسخ الحكم الثابت بالإجماع.
وأما أنه لا يجوز نسخ الحكم الثابت بالإجماع وتغير الإجماع به، فلأن ذلك الحكم، إما أن يكون ثابتًا بالنص، أو بالإجماع، أو بالقياس.
فإن كان الأول: فالإجماع الناسخ له إما أن يكون عن دليل، أو لا عن دليل.
فإن كان عن دليل، فذلك الدليل: إما أن يكون نصًا، أو قياسًا، إذ لا يتصور أن يكون إجماعًا، لأن الإجماع لا يكون دليلاً على الإجماع، ولو كان: كان الكلام فيه كالكلام في الإجماع الذي هو مدلوله الناسخ للحكم.
فإن كان نصًا: كان الناسخ لذلك الحكم النص لا الإجماع.
وإن كان قياسًا: كان القياس ناسخًا لحكم النص بالحقيقة.
وهو باطل إذ شرط القياس أن لا يرده النص [فإذا كان منافيًا لحكم النص كان مردودًا، وإن كان] لا عن دليل فيكون خطأ، وإن جوز صدوره عن تبخيت إذ الحق متعين هنا وهو مدلول النص فلا يمكن تصويب ما وقع على خلافه.
وإن كان الثاني: وهو أن ذلك الحكم ثابت بالإجماع فهاهنا أيضًا لا يجوز أن يكون الإجماع ناسخًا له لوجين:
أحدهما: ما سبق.
وثانيهما: أن الإجماع الثاني: لو رفع حكم الإجماع الأول: فلا يرفعه من أصله إذ ليس ذلك مقتضى الناسخ، بل وقت حصوله، وعند ذلك نقول الإجماع الأول لا يخلو إما أن يفيد الحكم إلى تلك الغاية فقط، أو يفيد مطلقًا.
فإن كان الأول: لم يكن الإجماع الثاني ناسخًا له، لأن انتهاء/ (372/ ب) الحكم إلى غايته المعلومة ليس بنسخ.
وإن كان الثاني: كان أحدهما خطأ، وحينئذ لا يتحقق النسخ.
وإن كان الثالث: فهو أن يكون ذلك الحكم ثابتًا بالقياس، فها هنا أيضًا:
لا يجوز أن يكون الإجماع ناسخًا له، وتقريره من حيث الإجمال، والتفضيل، أما الأول: فلأن المسألة لا تتصور إلا إذا اقتضى القياس حكمًا ثم يحصل الإجماع بعده، على خلاف ذلك الحكم فيزول وحكم القياس وهو ليس من النسخ في شيء، لأن شرط صحة العمل بالقياس، أن لا يحصل الإجماع، فإذا حصل الإجماع على الحكم فقد زال شرط صحة العمل بالقياس، وزوال الحكم لزوال شرطه ليس بنسخ.
وأما من حيث التفصيل: فلأن ذلك الإجماع الناسخ له إن لم يكن عن دليل كان خطأ، وإن كان عن دليل، فإن كان نصًا فالناسخ لحكم القياس هو النص لا الإجماع، وإن كان قياسًا إذ لا يمكن أن يكون إجماعًا لما سبق، فإن كان عن قياس راحج كان الحكم الأول باطلاً إذ العمل بالدليل المرجوح مع وجود الدليل الراحج باطل، وحينئذ [لم] يتحقق الناسخ، وإن لم يكن القياس راجح سواء كان لمرجوح أو لمساوي، فحينئذ يكون الإجماع على خلاف ذلك الحكم باطلاً، أما إذا كان القياس مرجوح فظاهر، وأما إذا كان لمساوى فكذلك لأن مقتضاه التخيير أو التساقط، وعلى التقديرين الجزم بمقتضى أحد المتساويين باطل.
واحتج المخالف فيه: وهو عيسى بن ابان وبعض المعتزلة:
فإنه نقل عنهم جواز النسخ بالإجماع بوجهين:
أحدهما: ما مضى بجوابه.
وثانيهما: أن الإجماع دليل شرعي لفظي فجاز النسخ به كغيره من الأدلة.
وجوابه: أنه إثبات لكونه ناسخًا بالقياس، وهو غير جائز، لأنه إذا لم يجز النسخ به على ما ستعرف ذلك، فلأن لا يجوز إثبات كون غيره ناسخًا به بالطريق الأولى.
سلمنا: التمسك به، لكن الفرق بينه وبين غيره من الأدلة قائم، وهو أن النسخ به يستلزم ما ذكرنا من المفاسد بخلاف غيره من الأدلة فإن ليس فيه ذلك.