الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد يطلق على الدليل الذي تضمن إثبات الحكم المنسوخ، إذ يقال خبر كذا، وإنه كذا منسوخ إذا كان حكمها منسوخًا.
المسألة الثالثة
ذهب كثير من المحققين كالقاضي والغزالي (إلى): أن النسخ رفع
.
ومعناه: أن خطاب الله تعالى بالفعل بحيث لولا طريان الناسخ لنفى إلا أنه زال لطريان الناسخ.
وقال الأستاذ والفقهاء أنه بيان.
ومعناه: أن الخطاب الأول انتهى بذاته في ذلك الوقت، "ثم" جعل بعده حكم، والدليل الذي يرد مثبتًا للحكم الجديد يعرف ذلك.
وهو كالخلاف في أن زوال الإعراض بالذات أو بالضد.
فإن من قال: ببقائها، قال: إنما ينعدم الضد المتقدم لطريان الطارئ ولولاه لبقي.
ومن لم يقل ببقائها قال: إنه ينعدم بنفسه، ثم يحدث الضد الطارئ وليس له تأثير في إعدام الضد الأول.
احتج القاضي بوجوه:
أحدها: أن النسخ في اللغة: عبارة عن الإزالة كما تقدم، فوجب أن
يكون الشرع كذلك، إذ الأصل عدم التغيير.
ولا يدفع "بما" أن التمسك بالأصل لا يفيد إلا الظن، والدلائل العقلية التي يذكرها الخصم تفيد اليقين، فلا يعارضها لأنا سنيين ضعفها.
وثانيهما: أن النسخ لو كان عبارة عن انتهاء الحكم، لم يبق فرق بينما إذا ورد الخطاب بالحكم مغيًا إلى غاية معينة، وبينما إذا ورد مفيدًا لشرعيته على الدوام، ثم يرد عليه النسخ إلا في اللفظ وهو كون الغاية مذكورة لفظًا في الأول دون الثاني، لكن ليس كذلك لأنا نجد تفرقة معنوية بين قول القائل: صل الظهر في كل يوم، ثم/ (349/ ب) ينسخه بعد شهر مثلا وبين قوله: صل الظهر في كل يوم إلى شهر.
وثالثهما: أن كل ما بقي بعد وجوده، فإن عدمه ليس لذاته، وإلا لما وجد، أو لما بقي فهو إذا المزيل وهو الناسخ.
فإن قلت: الملازمة مسلمة فيما يكون بقاؤه مطلقًا غير مقيد إلى وقت معين، فأما ما يكون كلك فالملازمة ممنوعة فيه، وهذا لأنه إذا كان بقاؤه مشروطًا إلى وقت، جاز أن يوجد ويبقى إلى ذلك الوقت، فإذا جاء ذلك الوقت ينعدم لفقد شرطه فلا يحتاج إلى مزيل.
قلت: إنه وإن كان محتملًا، لكنه خلاف ما دل عليه ظاهر اللفظ فلا يصار إليه إلا عند قيام دليل عليه، والأصل عدمه والمسألة ظنية [فيه]
فيكفينا هذا القدر.
ورابعهما: أنا سنبين إن شاء الله تعالي أنه يجوز نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به، وذلك يمنع من أن يكون النسخ عبارة عن بيان انتهاء مدة العبادة إنما يكون بعد حصول المدة، فقبل حصوله يستحيل بيان [انتهائها وفيه نظر فليتأمل الناظر].
فإن قلت: الحكم الشرعي عندكم قديم. فكيف يعقل رفعه، فإن رفع القديم غير معقول.
قلت: قد عرفت أن الحكم هو الخطاب الأزلي المتعلق "بالأفعال" وهو غير مرفوع عند النسخ، بل المرفوع إنما هو تعلقه، وهو حادث وليس رفعه يستلزم رفع الخطاب، إذ الخطاب كان حاصلا في الأزل وتعلقه بالفعل غير حاصل فلا يكون رفعه مستلزمًا لرفعه، وكذا يرتفع تعلق الخطاب بسبب الجنون والعجز.
ثم إذا "قال": يعود مع بقاء الخطاب في الحالتين في نفسه وعدم تغيره في ذاته، فعلم أن رفع التعلق لا يقتضي رفع الخطاب، ونحن لا نعني بنسخ الحكم الشرعي سوى نسخ تعلق الخطاب.
واحتج الخصم بوجوه:
أحدها: أنه ليس زوال الباقي لطريان الطارئ أولى من اندفاع الطارئ لبقاء الباقي فلا يحصل أحدهما بالآخر، وعند ذلك، إما أن يوجدا معا، وهو محال، لاستحال اجتماع الضدين أو يعدما معا، وهو أيضا محال، لأن علة
علة عدم كل واحد منهما هو وجود الآخر فلو عدما معا لوجدا معا وذلك محال.
وجوابه: أن زوال الباقي، لحدوث الحادث، أولى من العكس بدليل أن عند وجود العلة التامة لعدم الشيء، أو لوجوده المنافية لوجوده، أو لعدمه ضرورة أن علة عدم الشيء منافية لوجوده، وعلة وجود الشيء منافية لعدمه يحصل عدمه/ (350/ أ) أو وجوده قطعًا، ولولا الأولوية لامتنع حصوله وما ذكر من الوجهين في دفع الحادث أقوى من الباقي فضعيف.
أما الأول: وهو أن الباقي إن لم يحصل له أمر زائد على ما كان حاصلا له حالة الحدوث لزم أن يكون قوة الباقي مساوية لقوة الحادث، وحينئذ يمتنع رجحان الحادث عليه، وإن حصل له أمر زائد فذلك الزائد يكون حادثًا قطعا، فيكون مساويًا للضد الطارئ في الحدوث فيمتنع رجحان أحدهما على الآخر، وإذا امتنع عدم كيفية الباقي عدم الباقي وإلا لما امتنع (عدم) الكيفية.
فلأنه إن عني بقوله: إن لم يحصل للباقي أمر زائد على ما كان حاصلًا له حالة الحدوث (له) لأنه لم يحصل [له] أمر ما كان حاصلًا له حالة الحدوث، ولا زال عنه ما كان حاصلًا له فيها وهو الأظهر فحينئذ نمنع امتناع رجحان الضد الطارئ على الباقي على التقدير الثاني، وهذا لأن جهة الرجحان وهي الحدوث حاصلة لذات الضد الطارئ [وهي غير حاصلة لذات
الضد الباقي على التقدير الثاني، (بل لأن جهة الرجحان] وهي غير حاصلة لذات الضد الباقي على التقدير الثاني) بل الكيفية، والمنافاة بالذات إنما هو بين الضدين وأما بين الضد الطارئ وبين كيفية الضد الباقي فبالعرض من حيث إنه ينافي ما هو محل لها، وإذا كان كذلك لم يمتنع رجحان الطارئ بحدوثه على الباقي الذي هو فاقد له.
وإن عني به القسم الأول: فقط فحينئذ نمنع أن يكون قوة الباقي مساوية لقوة الحادث، لجواز أنه لم يحصل له أمر ما كان حاصلًا له، لكن زال عنه ما كان حاصلًا له.
وأما الثاني: وهو أن الحادث إن كان يمتنع عدمه حالة حدوثه، لكونه مع سببه فبالباقي أيضا يمتنع عدمه حالة بقائه لكونه مع سببه ضرورة أنه ممكن، وإذا امتنع العدم عليهما استويا في القوة فيمتنع رجحان أحدهما على الآخر، فلأنه مبني على أن علة الحاجة إلى السبب هي الإمكان، لأن بتقدير أن لا يكون ذلك علة الحاجة إلى المؤثر لم يجب أن يكون مع الباقي السبب، وهو ممنوع على ما عرف أن علة الحاجة عند المتكلمين هي الحدوث.
وثانيهما: أن الضد الطارئ إن طرأ حالة كون الضد الأول معدومًا لم يكن له تأثير في إعدامه، لأن إعدام المعدوم محال، وإن كان طرأ حالة وجوده فقد وجد مع وجوده، وإذا وجدا معا لم يكن بينهما منافاة وإذا لم يكن بينهما منافاة لم يكن أحدهما رافعًا للآخر.
فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون ذلك، كالكسر مع الانكسار؟
قلت: لانكسار/ (350/ ب) عبارة: عن زوال التأليفات الحاصلة لأجزاء المنكسر، والتأليفات أعراض غير باقية فلا يكون للكسر أثر في إزالتها، بل في دفع المثل.
وجوابه: أن تمام الضد الطارئ انعدام الضد الباقي، وذلك ليس إعدام المعدوم، بل هو إثبات العدم كإثبات الوجود ليس إيجاد الموجود.
وثالثهما: أن طريان الطارئ مشروط بزوال المتقدم، فلو كان زوال المتقدم معللًا بطريان الطارئ لزم الدور.
وجوابه: منع أنه مشروطة به، ولا يلزم من منافاة الشيء لغيره، أن يكون وجوده مشروطًا بزواله، فإن وجود العلة تنافي عدم معلوله، مع أنه ليس مشروطًا بزواله، وإلا لكان وجود المعلول متقدمًا على وجود العلة، ضرورة أن رتبة الشرط متقدم على رتبة المشروط.
ورابعهما: أن حكمة كلامه، وكلامه قديم، والقديم يستحيل رفعه.
وجوابه: أن المرفوع تعلق الخطاب لا نفس الخطاب كما سبق، وما قيل: في دفعه بأن تعلق الخطاب إن لم يكن أمرا وجوديًا استحال رفعه، وإن كان وجوديًا، فإن كان قديمًا استحال أيضا رفعه، وإن كان وجوديًا، فإن كان قديمًا استحال أيضًا رفعه، وإن كان [وجوديًا] حادثًا
لزم أن يكون الباري محلا للحوادث.
(فضعيف، لنه لا يلزم من حدوث تعلق الخطاب، أن يكون الباري محلا للحوادث)، إذ هو غير قائم بذات الله تعالى.
وخامسها: وهو ما استدل به إمام الحرمين على فساد القول بالرفع، وهو: أن علم الله تعالى جهلًا، وهو محال، وإن تعلق باستمراره إلى ذلك الوقت الذي نسخ فيه لزم أن لا يبقى بعده، وإلا لزم انقلاب علم الله تعالى جهلا، وهو محال، وحينئذ يمتنع أن يكون زواله بمزيل، لأن الواجب لذاته لا يصير واجبًا بغيره.
وجوابه: أنه يجوز أن يكون علمه متعلقًا بزواله في ذلك الوقت بإزالة الحادث (إياه) لا بنفسه، وهو لا يمنع من زواله به، وإلا لزم أن يقال:
إن علمه تعالى بوجود العالم ي=بالمؤثر مانع من وقوعه به، بل يمنع من زواله بنفسه وإلا لزم انقلاب علم الله تعالى جهلا، وهو محال.
وسادسها: أن الحكم المرفوع، إن كان ثابتًا استحال رفعه، لأن رفع الثابت محال، وإن كان منفيًا استحال ايضًا رفعه لاستحالة تحصيل لحاصل.
وجوابه: أنه منقوض بالزوال إذا أمكن أن يقال: إن الحكم الزائل إن كان ثابتًا استحال زوال الثابت، وإن لم يكن كذلك استحال زواله، لاستحالة أن يزول الزائل، ثم الجواب/ (351/ ب) الكاشف عن محل الإشكال هو أن المرفوع كان ثابتًا فعندما حصل الرفع بتمامه ارتفع به ولا استحالة فيه.