الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
الفصل الثالث"
فيما اختلف فيه أنه ناسخ وليس "هو" بناسخ
وفيه مسائل:
المسألة الأولى
في الزيادة على النص هل هو نسخ أم لا
؟
فنقول: اتفق الكل على أن زيادة عبادة مستقلة سواء كان من جنس المزيد عليه، كزيادة صلاة على الصلوات الخمس، أو لم يكن من جنسه كزيادة عبادة ليس من جنس الأركان الخمسة، ليس نسخًا للمزيد عليه.
وإنما جعل بعض أهل العراق زيادة صلاة على الصلوات الخمس نسخًا لقوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} دون الصلوات الخمس "لأنها" تجعل الوسطى غير الوسطى.
وهو ضعيف، لأنه يلزمهم أن يقولوا: بنسخ الصلوات الخمس إذا زيدت صلاة سادسة في آخرها، لأنه يجعل الأخيرة غير الأخيرة. ويجعل عددها
ستة ويخرجها عن كونها خمسًا فقط وتخرجها عن أن يكون لها وسط.
وقد زيف بوجه [آخر] وهو: أن كون العبادة وسطى أمر حقيقي ليس بشرعي والنسخ إنما يتطرق إلى الحكم الشرعي لا غير.
وفيه نظر.
لأن الحكم العقلي يصير شرعيًا إذا ورد الشرع به وقرره عليه، فحينئذ يكون نسخًا للحكم الشرعي.
وأيضًا: كون صلاة منها بعينها وسطى ليس أمرًا حقيقًا لا يختلف، بل كون صلاة منها أي صلاة كانت وسطى أمر حقيقي.
واختلفوا في الزيادة التي لا تكون كذلك. كزيادة الركعة في صلاة واحدة وكزيادة التغريب على الجلد في حد الزنا، وكزيادة صفة الإيمان في مطلق الرقبة الواجبة في الكفارة.
فذهب الشافعي، وأصحابه والحنابلة، وجماعة من المعتزلة، كأبي علي، وأبي هاشم: إلى أنه لا يكون نسخًا.
وذهبت الحنفية إلى أنها تكون نسخًا.
ومنهم: من فصل وذكروا فيه وجوهًا:-
أحدها: أن الزيادة إن كانت تفيد خلاف ما أفاد النص بمفهوم المخالفة كمفهوم الصفة، أو الشرط، أو الغاية، كانت الزيادة نسخًا وإلا فلا.
وثانيها: أن الزيادة إن كانت مغيرة للمزيد عليه تغييرًا شديدًا بحيث إن لو فعل على حد ما كان يفعل قبل الزيادة كان وجوده، كعدمه ووجب استئنافه، فإنه يكون نسخًا، نحو زيادة ركعة على صلاة الصبح، أو الظهر، وإن لم تكن كذلك بل يقع معتدًا به ولا يجب استئنافه، وإنما يجب أن يضم إليه
تلك الزيادة لم يكن نسخًا نحو زيادة التغريب على الجلد المذكور في الكتاب، ونحو زيادة عشرين جلدة عليه مثلاً، وهو قول القاضي عبد الجبار/ (375/ أ)[قريب منه ما قاله الشيخ الغزالي رحمه الله].
"وثالثها": أن الزيادة إن كانت متصلة بالمزيد عليه اتصال اتحاد رافع للتعدد والانفصال كانت نسخًا، نحو زيادة ركعتين على ركعتي الصبح وإلا فلا، نحو زيادة عشرين جلدة على حد القاذف "ونحو الشرط وزيادته"، وهو اختيار الشيخ الغزالي رحمه الله تعالى.
ورابعها: أن الزيادة إن غيرت حكم المزيد عليه في المستقبل كانت نسخًا، نحو زيادة عشرين جلدة على الجلد المذكور في حد الزنا، ونحو زيادة التغريب عليه، ونحو زيادة النية على الطهارة، وإن لم يغير حكمه نحو زيادة وجوب ستر الركبتين على ستر الفخذين، ونحو وجوب قطع رجل السارق
بعد قطع يده لم يكن نسخًا، وهو قول الكرخي وأبو عبد الله البصري.
وخامسها: وهو طريقة أبي الحسين البصري، وهي أجودها وأحسنها فقال: النظر في هذه المسألة يتعلق بأمور ثلاثة:
أحدها: أن الزيادة على النص، هل يزيل أمرًا كان قبلها أم لا؟.
والحق أنها تزيل، لأن إثبات كل شيء لا أقل من أن يزيل عدمه السابق عليه، كيف وهي تزيل كون المزيد عليه وحده مجزئًا ومخرجًا عن عهدة التكليف وكونه كل الواجب.
وثانيها: أن الدلالة التي يحصل بسببها، هل يسمى نسخًا.
والحق أن الذي يزول بسبب هذه الزيادة، إن كان حكمًا شرعيًا، وكانت الزيادة، متراخية عنه كان ذلك الزوال نسخًا.
وإن كان حكمًا عقليًا لم يسمى نسخًا اصطلاحًا وإن سمى به لغة.
وثالثها: أنه هل يجوز الزيادة على النص بخبر الواحد والإجماع والقياس أم لا؟.
والحق أنه يجوز حيث يكون الزائل حكمًا عقليًا إلا [أن] يمنع منه مانع،
نحو أن يقال: إن خبر الواحد لا يقبل فيما تعم به البلوى فحينئذ لا يقبل، لكن لا تعلق له بالمسألة إذ لا يقبل ذلك ابتداء أيضًا: عند من يقول به، وإن لم يكن الزائل حكمًا عقليًا بل شرعيًا، فلتنظر في دليل الزيادة، فإن كان مما لا يجوز نسخ الحكم الزائل به لم يقبل وإلا فقبل.
فإن قلت: فلو قيل فلينظر في دليل الزيادة، فإن كان مما لا يجوز نسخ المزيد عليه به لم يقبل وإلا فقبل.
فهل تقوم هذه العبارة مقام تلك العبارة، فإن ما يدل على المزيد [عليه] هو الدال بعينه على الحكم الزائد فوجب أن تقوم إحداهما مقام الأخرى.
قلت: فيه نظر.
لأنا نسلم أن دليلهما واحد، لكن يجوز أن تختلف دلالته عليهما بأن يدل على المزيد عليه بطريق المنطوق وعلى الحكم الزائل بطريق مفهوم المخالفة على رأي/ (375/ ب) من يقول به، وخبر الواحد لو ورد في نسخ منطوق
مقطوع المتن لم يقبل كما تقدم ولو ورد في نسخ ما يدل عليه بطريق مفهوم المخالفة وما يجري مجراه فإن الظاهر أنه يقبل إذ هو مظنون المتن أيضًا إذ لم يثبت بقاطع أنه حجة، وحينئذ يظهر أنه لا تقوم العبادة الثانية مقام العبادة الأولى، ولو ثبت أن كل ما نقل في نسخ الحكم الزائد يقبل في نسخ المزيد عليه، وما لا فلا لقامت إحدى العبارتين مقام الأخرى، لكن لم يثبت ذلك، لنا على الحقيقة على وجه الإجماع: هو أن نسخ عبارة عن إزالة الحكم الشرعي، وليس من ضرورة الزيادة أن يزيل حكمًا شرعيًا، بل قد لا يزيل إلا الحكم العقلي كما ستعرف ذلك في الفروع الآتية التي هي مبنية على هذا الأصل، وإذا كان كذلك، وجب أن لا يحكم عليها بأنها ناسخة على الإطلاق.
وأما على وجه التفصيل: فإنما يظهر ذلك بتعيين الكلام في كل واحد من الفروع التي هي مبنية [على هذا] الأصل.
ولنتكلم فيها وهي فروع:
الفرع الأول: قبل أصحابنا خبر الواحد في إيجاب التغريب على الزاني، ولم يقبله الحنفية زعمًا منهم أنه زيادة ناسخة لقوله تعالى:{الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} ونسخ القرآن بخبر الواحد غير جائز
قلنا: نسلم أنه زيادة عليه، لكن لا نسلم "أنها" ناسخ له.
وهذا لأن "إيجاب" مائة جلدة أعم من إيجابها مع التغريب، ومن
إيجابها بدونه، والدال على القدر المشترك بين الصورتين، لا دلالة له على ما به يمتاز أحدهما عن الأخرى، فلا دلالة للنص الدال على إيجاب مائة جلدة على الزاني على نفي التغريب ولا على وجوده، فلا يكون إثباته بخبر الواحد: نسخًا له، ولأنه يصح أن يقال: أوجب الجلد مع التغريب، أو أوجب بدونه، فلو كان إيجاب الجلد دالاً على نفي التغريب لكان الأول نقضًا، والثاني تكرارًا.
وأيضًا: وجوب الجلد ماهية، ووجوب التغريب ماهية أخرى، ولا تعلق لأحديهما بالآخر، فاللفظ الدال على وجوب الجلد لو دل على نفي التغريب، فإما أن يدل بطريق الإشتراك، أو بطريق التجوز.
والأول: باطل، لأن الاشتراك خلاف الأصل.
سلمناه: لكن لم يقل أحد من الأمة أن قوله تعالى: {فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} مشترك بين إيجاب الجلد وبين التغريب، فكان باطلاً.
سلمناه: لكنه قد أريد منه أحد المعنيين بالإجماع فلم يجز إرادة الآخر/ (376/ أ) إذ المشترك لا يستعمل في المفهومين المختلفين، والخصم والبرهان يساعدان عليه.
والثاني: أيضًا باطل، لأن شرط التجوز حصول العلاقة والمناسبة ولا علاقة بينهما ولا مناسبة.
سلمناه: لكنه باطل لما سبق من أنه لا يستعمل اللفظ الواحد في المفهومين المختلفين.
فإن قلت: أليس أن قبول خبر الواحد في إيجاب التغريب يقتضي رفع كون الجلد وحده مجزئًا، وهو حكم من أحكامه، وروفع كونه كل الحد ورفع كون الإمام لا يفسق أو لا يأثم بتركه، ورفع كونه بحيث يجب الاقتصار عليه، ورفع كون غيره ليس بواجب، ورفع كون الفاء للجر في قوله تعالى:{فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} . إذ الجزاء: إما يكون كافيًا وكونه كافيًا يمنع من وجوب غيره.
قلت: لا نزاع في أنه رافع لما ذكرتم من الأحكام، لكنها أحكام عقلية وتابعة للحكم العقلي، فإن كون غيره ليس بواجب حكم عقلي لا يرتاب العاقل منه، وكونه وحده مجزئًا وكمال الحد، وكون الإمام لا يأثم بتركه وكونه بحيث يجب الاقتصار عليه فكلها أحكام تابعة للحكم العقلي، وإزالة الحكم العقلي ليس نسخًا، فيجوز قبول خبر الواحد فيه، كما يجوز قبوله وفاقًا في إثبات عبادة مستقلة مع أنه يزيل كون العبادات الواجبة قبلها كل الواجبات، وكون غيرها ليس بواجب، وكون المكلف ما كان يأثم بترك غيرها ولا كان يرد شهادته وروايته بترك "غيرها".
وأما كون "الفاء" للجزاء فممنوع وهذا لأنها حقيقة في التعقيب وفاقًا، فلو كانت حقيقة في الجزاء أيضًا لزم الاشتراك، وأنه خلاف الأصل، ولو استعمل فيه باعتبار التعقيب وهو الصحيح من حيث إن الجزاء يوجد عقيب الشرط لم يكن
لها دلالة على خصوصية الجزاء فليس لكون الفاء للجزاء معنى.
سلمنا: ذلك، لكن لا نسلم أن الجزاء ما يكون كافيًا، وهذا لأنه يصح أن يقال: هذا كل الجزاء، وهذا بعض الجزاء ولو كان اسمًا، للكافي لكان الأول: تكرارًا، والثاني نقضًا.
سلمنا: ذلك لكن إنما يكون نسخًا لو ثبت أن ورود الخبر كان بعد حضور وقت العمل بالنص، فإن بتقدير أن يكون واردًا قبل حضور وقته كان ذلك دليلاً على أنه ما أريد منه حقيقته، ورفع حكم الدليل إنما يكون نسخًا بعد ثبوت حكمه واستقراره، فأما قبل ذلك فلا لاحتمال أن يقال: إنه ما أريد به ذلك الحكم واستعمل اللفظ على وجه التجوز ولم يبين إذ ذاك، فإن تأخير بيان المجاز والتخصيص إلى/ (376/ ب) وقت الحاجة جائز والحمل على ذلك إذ ذاك [أولى] من حمله على النسخ، وإن كان محتملاً له على رأينا، لما تقدم من قبل أن احتمال الاشتراك خير من النسخ، واحتمال التجوز والتخصيص خير منه فيكون خيرًا من النسخ، وحينئذ لم لا يكن الخبر ناسخًا لمدلول القائل هو ذاك على أنه ما أريد به الجزاء الكافي.
سلمنا: ذلك لكن نحن إنما نقبل الخبر بتقدير أن لا يكون في النص ما يدل على نفي مدلوله، فلو ثبت أن فيه ذلك فلا يقبله، فإنا إنما لا نجعل الزيادة على النص نسخًا إذا لم ينف من مدلوله شيئًا، فعلى هذا نطلب له فرعًا آخر مطابقًا له.
الفرع الثاني: إذا أوجب الشارع الزكاة في معلوفة الغنم لم يكن ذلك نسخًا لقوله عليه السلام: "في سائمة الغنم زكاة" عند من لم يقل بدليل الخطاب لأنه لم يرفع شيئًا من مدلوله، بل إنما يرفع شيئًا لم يتعرض له الخبر لا بنفي ولا إثبات، فيكون المرفوع حكمًا عقليًا، وليس هو من النسخ في شيء.
فأما من يقول به فإنه يكون نسخًا لو ثبت أن المفهوم مراد من الخطاب.
أما بتأخير البيان عن وقت الحاجة أو بدليل آخر، فأما قبله فلا لما سبق من أن رفع حكم الدليل إنما يكون نسخًا بعد ثبوت حكمه واستقراره فأما قبله فلا.
الفرع الثالث: اشتراط النية في الطهارة والغسل ليس نسخًا لنص الوضوء والغسل، لأن إيجاب غسل جميع البدن أعم من إيجاب غسله مع إيجاب النية أولاً مع إيجابها، والدال على القدر المشترك لا دلالة له على ما به الامتياز ولا دلالة للنص الدال على إيجابهما لا على عدم وجوب النية ولا على وجوبها فلا يكون النص المثبت لها نسخًا للنص الدال على وجوبهما مطلقًا.
الفرع الرابع: تقييد الرقبة بالإيمان، ليس نسخًا للنص الدال على وجوبها مطلقًا حيث ورد كذلك لما سبق، بل هو تقييد للمطلق وحكمه حكم التخصيص.
فيجوز إثباته بخبر الواحد والقياس حيث لم يعلم أن المطلق على إطلاقه مرادًا، أما إذا علم ذلك بسبب تأخير البيان عن وقت الحاجة، أو بدليل آخر مقطوع المتن فلا.
الفرع الخامس: إذا أمر الله بقطع يد السارق، وإحدى رجليه على التعيين، فإباحة قطع رجله الأخرى إنما يرفع عدم إباحة قطعها الثابت بحكم العقل لا شيئًا من مقتضيات النص، فلا تكون إباحته/ (377/ أ) نسخًا [له] فيجوز إثباته بخبر الواحد والقياس.
الفرع السادس: إذا أوجب الله تعالى علينا شيئًا بعينه كغسل الرجلين، ثم أوجب علينا غيره بدلاً عنه على التخيير، كالمسح على الخفين أو أوجب علينا الحكم بشهادة شاهدين وشهادة شاهد واحد وامرأتين على التخيير، ثم أوجب
علينا الحكم بشهادة شاهد واحد ويمين على التخيير، هل يكون ذلك نسخًا للنص الدال على الحكم الأول حتى لا يقبل فيه المظنون إذا كان هو مقطوعًا به.
اختلفوا فيه: والحق، أنه ليس بنسخ، لأنه لم يرفع ما دل عليه الإيجاب الأول: وهو ترتب العقاب على ترك ما أوجبه فإنه يعاقب على تركه إذ ذاك على بعض الوجوه.
وإنما يزول إذ ذاك ترتب العقاب على تركه عينًا وهو تابع لحكم عقلي، وترتب العقاب على تركه أعم من أن يكون على تركه عينًا أو لا يكون على تركه عينًا، بل على بعض الوجوه، والدال على القدر المشترك لا دلالة له على ما به الامتياز، وحيث يعلم ترتب العقاب على ترك الواجب بعينه، فإنما يعلم ذلك لأنه لم يجب غيره لا لدلالة الإيجاب عليه وهو حكم عقلي بارتفاع العقاب على تركه عبثًا تابع لارتفاع حكم عقلي وإيجاب شيء آخر إنما يرفع هذا الحكم العقلي لا غير فإذا ارتفع الأصل ارتفع ما هو تبع له فلم يكن يجاب شيء آخر بعد إيجابه نسخًا له، وعلى هذا الكلام فيما إذا كان الواجب شيئين على التخيير ثم أوجب شيء ثالث.
والعجب من الحنفية أنهم لم يقبلوا خبر الواحد في وجوب الحكم بالشاهد واليمين لزعمهم أنه نسخ لقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} مع أنه ليس فيه سوى زيادة التخيير التي لا يدل عليها النص لا بنفي ولا إثبات، وقبلوا خبر نبيذ التمر مع أنه
رافع لوجوب التيمم عند فقد الماء الثابت بقوله تعالى: {فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا} .
فإن قلت: أن نبيذ التمر ماء فلم يكن الخبر واقعًا لوجوب التيمم عند فقد الماء.
قلت: لا يفهم نبيذ التمر من إطلاق الماء كان معرفًا أو منكرًا، ولو استدلوا عليه بما في الحديث من قوله "ثمرة طيبة وماء طهور" لزمهم التسوية بينه وبين غيره من المياه.
ولو سلم أنه لا يلزمهم التسوية، لكنه حينئذ يكون رافعًا لإطلاق {فاغسلوا وجوهكم} ضرورة أنه لا يجوز التوضؤ به عند وجود غيره من المياه وتقييد مدلول النص المطلق نسخ لذلك النص عندهم.
فإن/ (377/ ب) قلت: أليس أن مفهوم قوله: {واستشهدوا شهيدين
من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} يدل على أنه لا يجوز الحكم بغيرهما والخبر برفع هذا المفهوم فكان نسخًا له.
قلت: لا نسلم أنه يكون نسخًا له، وإنما يكون كذلك إن لو ثبت أن المفهوم مراد من الخطاب لما سبق من أن النسخ إنما يتطرق الخطاب بعد ثبوته واستقراره لكن ذلك ممنوع، ولو سلم ذلك لكنه نسخًا لمفهوم الخطاب لا للخطاب نفسه، لكن لا نسلم أن ذلك لا يجوز.
سلمنا: ذلك لكن لا يليق ذلك بمذهب من رد الخبر فإنه لا يقول بالمفهوم.
السابع: قال أبو الحسين البصري: زيادة ركعة على ركعتين ليست نسخًا لحكم الدليل الدال على وجوب ركعتين، لأنها لو كانت نسخًا لحكم من أحكامه فإما أن يكون نسخًا للركعتين، وهو باطل، لأن النسخ لا يتعلق بالأفعال ولأن الركعتين لم يرتفعا بزيادة الركعة، أو نسخًا لوجوبهما، وهو أيضًا باطل لأن وجوبهما لم يرتفع، بل هو ثابت لكن قبل الزيادة كان الثابت وجوبهما فقط، وبعد الزيادة وجوبهما مع وجوب الزائدة بالدليل بعد الزيادة، إنما هو الوجوب بوصف كونه واجبًا فقط وهو تابع لحكم عقلي، وهو عدم وجوب غيرهما أو نسخًا لإجزائهما، وهو أيضًا: باطل، لأنهما يجزيان لكن قبل الزيادة بانفرادهم، أو بعد الزيادة مع الركعة الأخرى فلم يرتفع إجزاؤها بالكلية، بل إنما ارتفع إجزاؤهما بدون الركعة الزائدة وذلك تابع
لنفي وجوبها، أو يكون نسخًا لوجوب التشهد عقيب الركعتين، وهو أيضًا، باطل لأن وجوبه عقيب الركعتين إنما كان لكون تمام الركعتين كان آخر الصلاة ووجوبه في آخر الصلاة باق غير مرتفع، وإنما ارتفع خصوصية وجوبه عقيب الركعتين، وذلك تابع لحكم عقلي، وهو عدم وجوب غيرهما هذا إذا زيدت قبل التشهد. فأما إذا زيدت بعد التشهد وقبل السلام فظاهر أنها ليست نسخًا، لوجوب التشهد في محله إذ هو باق على حالته، وإنما يكون الكلام في نسخ السلام، وهو على نمط ما تقدم فيما إذا زيدت قبل التشهد وإذا لم يكن نسخًا لحكم من أحكام دليله، لم يكن نسخًا له مطلقًا فيقبل فيه خبر الواحد أو القياس لو أمكن.
وكلام الإمام وغيره صريح في أنها تكون نسخًا لوجوب التشهد عقيب الركعتين إن كانت الزيادة/ (378/ أ)[قبل التشهد أو لوجوب التسليم بعد التشهد إن كانت الزيادة] بعده واستدل عليه بأن وجوب التشهد بعد الركعتين حكم شرعي وقد ارتفع ذلك بسبب الزيادة فيكون نسخًا.
وفيه نظر.
لأنه وإن كان حكمًا شرعيًا، لكنه تابع للحكم العقلي كما قررناه وهو لم يجعل رفع "مثل" هذا نسخًا في كثير من الفروع.
فكيف جعله نسخًا هنا؟.
وإذا زاد الشارع إيجاب غسل عضو في الطهارة غير الأعضاء المعهودة.
فهل يكون ذلك نسخًا لحكم دليله؟
فمن قال في المسألة الأولى: لا يكون نسخًا فهاهنا أولى.
وأما من قال بذلك فيها.
فمنهم من قال به هنا أيضًا كالغزالي.
ومنهم من لم يقل بذلك كالقاضي عبد الجبار.
ووجه الفرق بينهما: من حيث الصورة ما تقدم عند بيان المذاهب، والكلام في الاحتجاج على نسق ما تقدم فلا حاجة إلى الإعادة.
الثامن: زيادة شرط في صحة العبادة، والمعاملة ليست نسخًا لوجوب تلك العبادة، ولا لشرعية تلك المعاملة لبقاء الوجوب والشرعية بعد الزيادة ولا لصحتهما، لأن صحتهما باقية لكن قبل الزيادة كانتا صحيحتين بدون الشرط، وبعدها لا يصحان بدونه، لكن ذلك تابع لنفي الحكم العقلي، وهو عدم وجوب ذلك الشرط المرتفع بوجوبه، وليس إزالة الحكم العقلي وتابعه نسخًا شرعيًا، فيجوز قبول خبر الواحد والقياس في ذلك، فلا يكون اعتبار الطهارة في الطواف في كونه معتدًا به نسخًا لقوله تعالى:{وليطوفوا بالبيت العتيق} حتى لا يقبل فيه قوله عليه السلام: "الطواف بالبيت صلاة" مطلقًا
أو فإن كان قبل لكن بالنسبة إلى وجوب الطهارة فيه فقط، لا بالنسبة إلى عدم الإجزاء بدونه، كما قبله أبو حنيفة رضي الله عنه.
التاسع: نحو قوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} يفيد كون أول الليل غاية وطرفًا للصوم، وإن بعده على خلاف ما قبله، على ما تقرر أن مفهوم الغاية حجة فلو ورد خبر واحد أو قياس يقتضي "مد الصوم" إلى غيبوبة الشفق بعد تقرر أن المفهوم مراد من الخطاب لم يقبل، لأنه يرفع كون أول الليل طرفًا وغاية للصوم، وهو نسخ حقيقة، كما لا يقبل ذلك فيما إذا قال: صوموا صومًا آخره وغايته أول الليل، وهذا إنما يستقيم لو لم يجز نسخ مفهوم المقطوع بالمظنون، فإن دلالة "إلى" على أن ما بعدها مخالف لما قبلها إنما هي بطريق المفهوم لا بالوضع، وإن جعلت مشتركة بين دخول الغاية وعدم دخولها، فإن دلالتها على عدم دخولها غير/ (378/ ب) دلالتها على عدم الحكم فيها، وغير مستلزمة لها، لأن الدلالة الأولى أعم من الثانية، والعام يستلزم الخاص.
وفيه نظر.
كما تقدم، وبهذا ظهر الفرق بينه وبين ما إذا قال: صم صومًا آخره الليل، فإن دلالة قوله: آخره الليل، على أن أول الليل غاية وطرفًا للصوم إنما هي بطريق المطابقة لا بطريق المفهوم.
والإمام جزم في هذا المكان أنه يكون نسخًا لا يقبل فيه خبر الواحد والقياس.
فلعله فرع على أن مفهوم الغاية حجة، وأن لا يجوز نسخ مفهوم المقطوع بالمظنون مع أن كلامه فيما تقدم صريح في أنه لم يثبت ذلك.
تنبيه:
اعلم أن إزالة الذي لا يدل عليه الخطاب بصراحته أو بمفهومه على رأي من يقول به إنما لا يجعله نسخًا، إذا لم يعلم ثبوت ذلك في دينه عليه السلام.
فأما إذا علم ذلك فإنه يكون نسخًا.
وإن لم يدل عليه الخطاب لا بصراحته ولا بمفهومه، فحينئذ لا يجوز قبول خبر الواحد والقياس في إزالته.