الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومعلوم أن معناه يستخدم أبدا ما دام حيا فهكذا هذا.
المسألة السادسة
[في نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به]
ذهب جماهير أصحابنا إلى أنه يجوز أن يقول: الشارع: صل غدا ركعتين، ثم أنه ينسخه قبل مجيء الغد.
خلافا للمعتزلة، وكثير من الفقهاء منا، ومن الحنفية، والحنابلة.
وهذه المسألة: الملقبة: بنسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به،
واللقب لا يتناول جميع صور النزاع، فإن النزاع واقع أيضا إذا حضر وقت العمل به، لكنه لم يمض منه مقدار ما يسعه، فيكون اللقب أخص، والأولى أن يترجم: بنسخ الشيء قبل مضي مقدار ما يسعه من وقته فيكون متناولا لجميع الصور التي وقع النزاع فيها.
فعلى هذا يجوز النسخ وفاقا بعد مضي مقدار ما يسعه، وإن لم يكن قد فعل المأمور به، وهذا على المشهور.
وفي بعض المؤلفات القديمة أن بعضهم: كالكرخي خالف فيه أيضا، وقال: لا يجوز النسخ قبل الفعل سواء مضى من الوقت مقدار ما يسع أو لم يمض. فعلى هذا ترجمته النسخ قبل الفعل، كما وقع في كلام إمام الحرمين وغيره من المتقدمين.
تنبيه:
أعلم أن كل من قال: أن المأمور لا يعلم كونه مأمورا قبل التمكن من الامتثال (يلزمه أن يقول بعدم جواز النسخ قبل التمكن من الامتثال) إذ النسخ قبله على هذا التقدير يبين أن الأمر في نفس الأمر، وإن كنا نتوهم وجوده والنسخ يستدعي تحقيق الأمر السابق، فيستحيل النسخ عند عدمه.
وأما من لم يقل بذلك فجاز أن يقول بجوازه، وأن لا يقول ذلك،
لدليل يخصه، وعند هذا ظهر أن هذه المسألة ليست فرع تلك المسألة على الإطلاق، أعني في الجواز وعدم الجواز، كما وقع إليه الإشارة في كلام الشيخ الغزالي رحمه الله، بل في عدم الجواز فقط.
استدل الأصحاب بوجوه:
أحدها: التمسك بقوله تعالى:} يمحو الله ما يشاء ويثبت {وهو عام في كل ما يشاء محوه على أي وجه كان، فيدخل فيه محو العبادة قبل دخول وقتها.
ولا يدفع: بأنه مجاز، لأن نسخ العبادة إنما هو رفع التكليف بها، وليس ذلك حقيقة المحو، فلا يجوز أن يحمل عليه مادام يمكن حمله على حقيقته، وهو محو الكتابة، نحو ما كتب في اللوح المحفوظ من الإسعاد، والأشقاء، والإحياء، والأمانة.
أو على نحو ما يكتب الملكان من الأعمال المباحة / (357/أ) إذ لا يتعلق بها ثواب ولا عقاب، وتبقية المعاصي والطاعات، لأنه يتعلق بهما الثواب والعقاب.
لأنا نمنع أن المحو إنما هو حقيقة في محو الكتابة، بل هو حقيقته في إزالة الأثر، يقال: محوت آثار القوم إذا أزلته، والأصل في الإطلاق
الحقيقة، ومنه قوله تعالى:} وجعلنا الليل ونهار آيتين فمحونا آية الليل {أي جعلنها ممحوة إذ لا يظهر فيه أثر، ولو سلم ذلك لكن إنما يكون فيه مجازا أن لو لم تكن التكاليف مكتوبة وهو ممنوع، وهذا لأن ظاهر قوله تعالى:} ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين {يدل على أنها أيضا مكتوبة فيه.
ولقائل أن يقول: هب أنه يمكن حمله عليه على وجه الحقيقة، ولكن لا يدل على مسألة، لأنه ليس فيه دلالة إلا على أنه تعالى يمحو ما يشاء.
فلم قلتم: إنه يشاء محو العبادة قبل دخول وقتها حتى تكون الآية حجة في المسألة، فإن بين ذلك بأنه ممكن إذا ليس مستحيل لذاته وهو ظاهر، إذ لا يلزم من فرض وقوعه محال نظرا إلى ذاته ولا لغيره، لما سنجيب عما يذكره الخصم من استلزامه المحال، وكل ممكن يجوز أن يتعلق به الإرادة والمشيئة، فيجوز أن يشاء محوه فهو دليل مستقل في المسألة، وحينئذ يصير التمسك بالآية ضائعا مستدركا.
وثانيهما: التمسك بقصة إبراهيم عليه السلام فإنه تعالى أمره بذبح إسماعيل: ويدل عليه وجوه:
أحدها: قوله:} يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك {وهو صريح في أنه رأى مباشرة ذبحه لا مقدماته فقط [ورؤية الأنبياء فيما يتعلق
بالفعل] والترك وحي معمول به، وأكثر وحي الأنبياء كان بهذا الطريق.
وثانيها: أنه لو لم يعلم عليه السلام بأن ما رآه يجب العمل به لما جاز له العزم على ذبحه، وإرعابه بإخباره عنه، وإظهار مقدماته له فإن العزم على فعل المحرم محرم، وإرعاب المؤمن محرم أيضا.
ثالثها: أن قوله:} افعل ما تؤمر {يدل على أنه مأمور بالذبح، إذ لو لم يحمل عليه، فإما أن يحمل على ما أمر به في الماضي من غير الذبح.
وهو باطل: لما فيه من مخالفة ظاهر الكلام وعدم مناسبته.
أو على ما يؤمر به في الاستقبال.
وهو أيضا باطل: لعدم مناسبة الكلام إذ المناسبة تقتضي حمله على المذكور السابق.
ولهذا لو قال الرجل لغيره: إن السلطان أمرني بكذا، فيقول له الرجل أفعل ما تؤمر غدا أو في الحال، يعد قوله سخفا من المقال وحمل الكلام على المعنى المجازي المناسب أولى من حمله على الحقيقة التي لا تناسب، إذ التكلم بما لا يناسب يعد جنونا أو ناقصا / (357/ب) في العقل، والتكلم بالمجاز ليس كذالك على أن التعبير بالفعل المضارع عن الحالة الثانية المستمرة كثير ومجاز مشهور، نحو قولهم: فلان يحل ويعقد ويبرم وينقض، أي شأنه ذلك في الأحوال كلها الماضي وغيره، لا أنه يفعل ذلك في الحال أو في الاستقبال فقط ولما أمر في الماضي بقيت صفة المأمور به ثابتة ما لم يأت بالمأمور به فجاز أن يعبر عنها بالفعل المضارع على وجوه التجوز.
ورابعها: أن قوله تعالى:} وفديناه بذبح عظيم {يدل على أن المأمور به (هو) الذبح لا مقدماته، لأن المقدمات قد حصلت بتمامها فلا يحتاج إلى الفداء ولما سمي بالفداء.
أما لو حملناه على أنه كان مأمورا بالذبح حسن تسميته بالفداء، واحتيج إليه أيضا، ضرورة أن المأمور به لم يوجد.
فإن قلت: لم لا يجوز أن يقال: إنه بدل عما يتوقعه من الأمر بالذبح،
فبهذا الاعتبار يصح تسميته فداء ويحتاج إليه، لأنه لم يوجد ما هو فداء له وهو الأمر بالذبح.
قلت: الأمر المتوقع معدوم فلا يحسن جعله بدلا عنه إذ المعدوم لا يوصف بالبدلية والمبدلية ذا إن جعل بدلا عن الأمر المتوقع، وإن جعل بدلا عن نفس توقع الأمر فلا يحسن أيضا ضرورة أنه حصل فلا يحتاج إلى الفداء ولأن [البدل] والمبدل لا يكون من جانب واحد.
وخامسها: أن قوله:} إن هذا لهو البلاء المبين {يدل على أن المأمور به هو الذبح، لا مقدمات الذبح لا توصف ذلك.
فإن قلت: حتى لا يوصف بذلك مع العلم بعدم وجوب الذبح أو مطلقا.
والأول مسلم والثاني ممنوع، وهذا لأن الأمر بإخراج الولد إلى الصحراء وإضجاعه وأخذ المدية مع غلبة الظن بأن الذبح سيؤمر به، أو مع إبهام عاقبة الأمر بلاء مبين.
قلت: وإن كان الأمر كما ذكرتم، لكن الذبح أشد بلاء، فحمل الآية عليه حمل اللفظ على أشد وأقوى مفهوماته، فكان الحمل عليه أولى (لا يقال) ما ذكرتم من الدليل وإن دل على أن الذبح مأمور به.
لكن قوله تعالى:} قد صدقت الرؤيا {يدل على أن الذبح غير مأمور به، لأنه لم يحصل فلم يحصل تصديق الرؤيا بالنسبة إليه، بل المأمور به إنما هو مقدمات لأنها هي التي حصلت.
لأنا نقول: لا نسلم أن تصديق الرؤيا بالنسبة إلى الذبح إنما يكون أن لو حصل الذبح، وهذا لأن تصديق الرؤيا، هو أن يجعلها صادقة، وذلك يكفي فيه العزم والتصميم على فعل مقتضاها فإنها لو كانت كاذبة عند الرائي لما عزم وصمم على فعل مقتضاها.
سلمنا: أنه يستدعي حصوله، لكن العازم / (358/أ) المصمم على فعل الشيء [يجعل] كالفاعل له على وجه التجوز، فيحمل عليه جمعا بين الدليلين.
فثبت بهذه الوجوه أنه تعالى أمر إبراهيم بذبح إسماعيل.
ثم أنه تعالى نسخ ذلك عنه قبل وقت الذبح.
لأنه لو لم يكن كذلك، فإما: أن يقال: إنه لم ينسخه عنه، أو وإن نسخه عنه، ولكنه بعد وقت الذبح.
فإن قيل: بالاحتمال الأول فيحتمل وجهين:
أحدهما: ما يقال: إنه حصل الذبح ولكن لم يبطل الحياة، لأنه كلما قطع موضعا وتعداه إلى غيره، وصل الله تعالى ذلك الموضع، وبطلان الحياة ليس جزءا من مسمى الذبح، بدليل أنه يصح أن يقال: ذبح الحيوان.
وإن لم يبطل الحياة بعد حتى يكون ذلك قدحا في تحقيق مسمى الذبح.
وثانيهما: ما يقال: إنه تعالى جعل على عنقه عليه السلام صفحة من حديد، أو نحاس مانعة له من الذبح، وانتفاء الحكم لوجود المانع ليس بنسخ.
وهذان احتمالان: باطلان أما ما يعمهما فلأنهما لو وقعا لوجب إشهارهما وتواترهما، لأنهما من الآيات الباهرة، والمعجزات القاهرة التي تتوفر الدواعي على نقلها، ولما لا يكن كذلك، علمنا عدم وقوعهما، ولأنه تعالى حكي تسليمهما وتله للجبين، فلو كان ما ذكروه واقعا [لحكي أيضا لأن الانقياد في الذبح وإمرار المدية على الحلق (أكثر)] وأما ما يخص الأول: فلأنه حينئذ ما كان محتاجًا إلى الفداء، وما كان يسمى
الكبش به ضرورة أنه أتى بما أمر به، وأما ما يخص الثاني: فهو أنه غير جائز عند "الخضم" ضرورة أنه تكليف ما لا يطاق.
وأما الاحتمال الثاني: فهو أيضا باطل.
أما إن قيل بأن مطلق الأمر للفور، وإن الصغائر على الأنبياء غير جائز فظاهر، وإما إن لم يقل به، بل يقول: ليس مقتضى الأمر المطلق إلا إدخال المأمور به في الوجود سواء أكان ذلك على الفور أو على التراخي، وإن الصغائر عليهم جائز، فلأن الظاهر من حالهم المسارعة إلى امتثال، والظاهر من حالهم عدم فعلها عمدا، وأما السهو والنسيان فهو نادر في حق غيرهم، فكيف في حقهم، والمسألة ظنية فيجوز التعويل على الظاهر والغالب وبه يعرف اندفاع ما يورد على هذه الحجة.
وثالثها: التمسك بقصة الأسرى، وهو ما روي عنه عليه السلام أنه أوجب عليه وعلى أمته خمسين صلاة في اليوم والليلة، فلما رجع من معراجه رأى موسى عليه السلام في طريقه في بعض السموات فستحكى منه عليه السلام ما فرض على أمته من من التكاليف فلما حكي له قضية الصلاة
أشار إليه بالرجوع، وقال ((إن أمتك ضعافا لا يطيقون ذلك فاستنقض الله بنقصك)).
فرجع عليه السلام وسأل الله تعالى (في ذلك) مرة / (358/ب)(بعد) مرة حتى نسخ الخمسين، وأبقى خمس صلوات منها.
وهو نسخ للفعل قبل دخول وقته.
فإن قلت: إنه خبر واحد، فلا يجوز التمسك به في إثبات مثل هذا الأصل.
سلمناه: لكنه نسخ قبل علم المكلف بالتكليف، وهو غير جائز وفاقاً
أما إن قيل: إن الأمر لا يكون أمرا قبل بلوغ المأمور فظاهر.
وأما إن لم يقل به فكذلك، أما عندنا فظاهر، وأما عندكم فلأنكم وإنما تجوزون النسخ قبل دخول وقت الفعل، لأن الأمر بالفعل قد يكون مصلحة، وإن لم يكن فعله مصلحة، نحو اعتقاد وجوب الفعل، وانقياد المكلف للأمر، وتوطين نفسه على الفعل، وعزمه عليه فإنه يثاب على ذلك كله، وهذه الفوائد لا تحصل في النسخ قبل علم المكلف بالأمر.
قلت: الجواب عن الأول أنا لا نسلم أنه لا يجوز التمسك بخبر الواحد في هذه المسألة، وهذا لأن هذه المسألة ظنية اجتهادية عندنا فالتمسك في الظنيات بخبر الواحد جائز وفاقا.
وعن الثاني: إن ما ذكروه من الاحتمال غير آت في حقه عليه السلام، فإنه علم الأمر فيكون نسخا في حقه، قبل دخول الوقت، وقد يفيد المطلوب.
سلمناه: أنه نسخ قبل علمهم به.
فلم قلتم: إنه غير جائز ولا نسلم أنا إنما نجوز ذلك بناء على ما ذكرتم من الفوائد.
وكيف يقال: ذلك وقد عرف من أصلنا أنا لا نوجب تعليل أفعاله تعالى وحيث يتبين جوازه بناء على تلك الفوائد، فإنما هو على تقدير الإلزام على الخصم، أو على تقدير وجوب التعليل في أفعاله تعالى.
فإن قلت: لا نسلم أنه نسخ قبل دخول الوقت، وهذا لأنه لا يجوز أن يكون قد دخل وقت من أوقات تلك الصلوات المفروضة، فيما بين وقت الفرض وبين وقت الرجوع من موسى عليه السلام، والنبي عليه السلام صلى [بعد] ما دخل وقته، فلا يكون ذلك نسخا قبل دخول الوقت.
قلت: هب أنه لا يكون نسخا لتلك الصلاة قبل دخول وقتها، لكنه نسخ للصلوات التي لم تدخل أوقاتها، فيلزم وقوع النسخ فبل دخول الوقت وهو المطلوب، إذ الوقوع دليل الجواز وزيادة.
وفيه نظر: إذ الخصم ربما يجوز مثل هذا النسخ، إذ لم يشترط في ذلك أن يكون قد دخل وقت جميع العبادة المفروضة، بل ربما يكتفي بدخول وقت البعض منها، فإنه تعالى لو فرض صوم شهر مثلا، فإنه يجوز نسخه بعد صوم يوم منه أو يومين وفاقا.
وبه استدل بعض الأصحاب: وقال: لو قال: الله تعالى: واصلوا الفعل سنة، ثم ينسخه بعد مضي شهر / (359/أ) منها مثلا وجاز وهو نسخ للفعل قبل دخول وقته فيما بقي من تمام السنة.
والأستاذ أبو إسحاق بالغ في ذلك، وقال: كل نسخ فإنه نسخ قبل الفعل، وإذ أجمعنا على أن النسخ لا ينعطف على [ما] مضى، فكل نسخ فإنما هو للفعل الآتي فيكون نسخا قبل الفعل.
وهو إن أراد بذلك الفعل نفسه، فلا يستقيم كونه حجة إلا على القول المحكي عن الكرخي.
فإن أراد به وقت الفعل، على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فغير لازم، لجواز أن ينسخ بعد دخول مقدار ما يسعه من الوقت قبل فعله ثانيا.
ولو قرر هكذا: بأنا أجمعنا على جواز النسخ بعد الفعل، وقبل دخول وقته الثاني، وهو نسخ قبل دخول الوقت إذ النسخ لا ينعطف على ما مضي كان أوجه.
ولكن الخصم يفرق بين الصورتين المذكورتين أعني صورة نسخ الأمر بصوم شهر قبل مضي تمامه، وصورة نسخ الفعل بعد فعله في الوقت الأول وقبل دخول وقته الثاني، وبين المتنازع فيه بأن النسخ في تلك الصورتين يبين
المراد من الخطاب، بأن تمام الشهر غير مراد من الخطاب، وأن الفعل غير مراد التكرار، وإن كان ظاهر الخطاب قد أشعر به حتى لو دل الخطاب على وجوب الصوم وفعله في تمام الشهر، وفي الوقت الثاني والثالث بطريق التنصيص عليه لم يجز نسخه أيضا عندنا، فكان ذلك كالتخصيص فلم يتوارد الأمر والنهي على شيء واحد، بخلاف النسخ ابتداء قبل دخول الوقت فإنه لا يمكن حمله على التخصيص فيتوارد الأمر والنهي على شيء واحد قطعا.
فاعلم أن هذا الفرق لو صح فإنما يصح بين العبادة المتكررة، كصلاة الظهر في ظهر كل يوم، والعبادة المتماثلة كصوم شهر، وبين المتنازع فيه فأما بينه وبين العبادات المختلفة، كما لو قال: صل (في) الصبح ركعتين، وفي الظهر أربعا، فإن نسخ الظهر قبل دخول وقته ولو بعد صلاة الصبح نسخ قبل دخول الوقت فتكون القصة حجة، وإنما عقلنا صحة الفرق بقولنا: لو صح لأنه لم يجز إطلاق الشهر وإرادة يوم أو يومين، وما نقل عن القوم [في] جواز نسخ ما إذا قال الله تعالى: واصلوا الفعل سنة قبل مضي تمام السنة فهو محمول على الفعل المتكرر والمماثل لا على المختلف الذي يمكن التعبير عنه بعبارة واحدة حتى يمكن أن يجعل كالعام فيتطرق إليه التخصيص وقيام وقت البعض منه مقام البعض الآخر تعبد.
ورابعها: أننا بينا في مر، أن التمكن من الامتثال / (359/ب) ليس من شرط تحقيق الأمر، فيجوز أن يأمر الله تعالى زايدا بفعل غدا، مع علمه بأنه يمنعه عنه مانع، أو يموت قبل الغد، وهو أمر بشرط عدم المانع، والأمر بالشرط أمر ثابت في الحال، وجد الشرط أو لم يوجد على هذا التقدير، فإذا جاز ذلك جاز أن يأمره بشيء مع علمه بأنه سينسخه ويرفع عنه التكليف قبل التمكن منه.
ولا يقدح ذلك في كونه أمرا فهذه المسألة فرع تلك المسألة على الوجه الذي تقدم ذكره.
وقد استدل في المسألة بنسخ وجوب تقديم الصدقة بين يدي الرسول قبل حضور وقت فعله.
وهو ضعيف.
لأنا نمنع أن ذلك كان قبل حضور وقت العمل.
ثم الذي يدل عليه وجهان:
أحدهما: ما روي أن عليًا رضي الله عنه ناج الرسول بعد تقديم الصدقة.
وذلك يدل على كون الوقت حاضرا.
لا يقال: إن الأمر ما كان مختصا به رضي الله عنه، بل كان متناولا لكل المؤمنين وكان الأمر معلقا بإرادة المناجاة مع النبي عليه السلام، فمن أراد المناجاة فقد حضر وقت فعله بالنسبة إليه، ومن لم يرد لم يحضر وقت فعله بالنسبة إليه) نسخ) قبل حضور وقت العمل.
لأنا نقول: إن نسخه بعد فعل البعض دليل على أن غيره غير مراد من الخطاب، فكان ذلك تخصيصا بالنسبة إليهم لا نسخا قبل حضور وقت العمل، ونسخا بعد حضور وقت العمل بالنسبة إلى من هو مراد من الخطاب.
وهذا الجواب إنما يستقيم لو جوز التخصيص ألفاظ الجمع إلى واحد، إذ الخطاب وارد بضمير الجمع قال الله تعالى} يا أيها الذين آمنوا {.
وثانيهما: أن قوله تعالى:} أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم {يدل على أن الوقت حاضر وإلا لما حسن ذلك.
وقد أستدل أيضا في المسألة بما روي أنه عليه السلام (صالح المشركين عام الحديبية على رد من هاجر إليه مسلما كان أو مسلمة) ثم نسخ ذلك في حق النساء.
قبل الرد بقوله تعالى:} يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات {إلى قوله} فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار {.
وهو ضعيف أيضا لأن لا نسلم أن ذلك قبل حضور وقت الرد، وإن كان قبل الرد لا يقال. إن وقت الرد إنما يكون بعد مجيئهن، لأن الصلح إنما وقع على ردهن إذا جئن فقبل مجيئهن لا يتحقق وقت الرد، لأن المعتبر إنما هو مضي الوقت الذي يمكن فيه مجيئهن وردهن، لا نفس المجيء، لأن ذلك (قد) لا يتفق، ولأن اعتباره يقتضي / (360/أ) عدم تجويز نسخ الأمر المعلق على حصول شيء ما لم يحصل ذلك الشيء نحو أن يقول: صل إن كنت متطهرا، فإنه أمكن أن يقال: إن وقت الصلاة إنما يكون بعد الطهارة، لأن الأمر مقيد بحالة حصول الطهارة، فقبل حصول الطهارة لا يتحقق وقت الصلاة فيلزم أن لا يجوز نسخه ولو كانت المدة مديدة ما لم يتطهر ويمضي وقت يسع للصلاة، وهو خلاف الإجماع.
وأيضاً وهو عقلي: أنه يحسن من السيد أن يقول لعبده، أذهب غدا إلى القرية الفلانية راجلا لتقضي الشغل الفلاني، ويكون غرضه من ذلك امتحان العبد في انقياده له وحصول الرياضة له في الحال، وتوطين نفسه عليه ليسهل عليه فعل ما دونه من التكاليف التي كلفه بها، مع علمه بأنه سيرفع عنه ذلك التكليف وإذا حسن ذلك التكليف وإذا حسن ذلك في الشاهد حسن في الغائب، للحديث المشهور.
واحتجوا بوجهين:
أحدهما: أنه تعالى: إن كان عالما حالة الأمر بما هو عليه الفعل من المصلحة أو المفسدة في الوقت الذي أمر فيه بالفعل، وجب أن لا يحسن إلا الأمر به أو النهي عنه، وإلا لزم الأمر بالمفسدة أو النهي عن المصلحة، وهو غير جائز على الحكيم، وإنما قيدنا كونه كذلك في وقت الفعل، لأن المعتبر [هو وقت الفعل في الأمر المقيد بوقت] لا وقت الأمر، فإن الشيء إذا كان مشتملا على المصلحة حالة الأمر دون حالة الفعل، فإنه لا يجوز الأمر به في وقت تغيير مصلحته وإن لم يكن عالما به لزم الجهل على الله تعالى وهو محال.
وجوابه: أنه مبني على التحسين والتقبيح ورعاية المصلحة والمفسدة وكل ذلك باطل عندنا.
سلمناه: لكن الأمر بالشيء إنما يحسن إذا كان ذلك الشيء مشتملا على المصلحة والأمر به أيضا يكون كذلك، فأما إذ لم يكن كذلك لم يحسن الأمر به إذ يكفي في المنع عن الشيء اشتماله على جهة من جهات المفسدة.
وإذا كان كذلك جاز أن يكون الأمر به في الزمان الثاني لم يكن مشتملا على المصلحة، كما (كان) في الزمان الأول، وإن كان كون الفعل مشتملا على المصلحة لم يتغير، فكذلك حسن النهي عنه في الوقت الثاني دون الوقت الأول.
وثانيها: لو جاز أن يقول: الشارع لزيد صل عقيب الزوال ركعتين، ثم يقول: له بعد ساعة لا تصل عقيب الزوال ركعتين، لزم كون الشخص الواحد مأمورا ومنهيا في وقت واحد عن فعل واحد من وجه واحد وهو محال.
وجوابه: أنه إن عنى بقوله: يلزم كون الشخص الواحد مأمورا ومنهيا في وقت واحد، وكون الفعل مأمور به ومنهيا عنه في وقت واحد، إنهما يكونان كذلك معا فهذا غير لازم، لأن الأمر / (360/ب) وإن أقتضى أنه يكون مأمورا به في ذلك الوقت الذي عين له لكن عندما ورد النهي عنه لم يبق مأمور به في ذلك الوقت، لقطع النهي حكم الأمر، بل بقي منهيا عنه فلم يحصل الازدواج بينهما معا في وقت واحد في ذلك الفعل.
وإن عنى به أنه يكون مأمورا بالأمر الأول وفي ذلك الوقت، فلو جاز النهي عنه في ذلك الوقت لزم أن يكون منهيا عنه في ذلك الوقت أيضا، وإن انقطع حكم الأمر بعده، فلا نسلم أن ذلك محال، فإن ذلك أول المسألة.
وإن عنى به أنه من حيث أنه أمر به في ذلك الوقت يجب أن يكو مشتملا (على المصلحة ومن حيث أنه نهي عنه في ذلك الوقت يجب أن يكون مشتملا) على المفسدة.
وحينئذ يلزم اجتمعا مصلحة الأمور ومفسدة النهي في وقت واحد معا، فهو مبني على التحسين والتقبيح ورعاية المصلحة والمفسدة، وكل ذلك باطل على أصلنا.
ولو سلم ذلك لكن لا نسلم لزوم اجتماع المصلحة والمفسدة في ذلك الفعل معا في وقت واحد، وهذا لا يجوز أن يحسن النهي عنه في الزمان الثاني، فإن لم يكن ذلك الفعل مشتملا على المفسدة في ذلك الوقت لما سبق في الجواب عن الوجه الأول، وحينئذ لا يقتضي النهي عنه حصول المفسدة فيه، فضلا عن اجتماع المصلحة والمفسدة فيه معا.
وثالثها: إذا قال صلوا ولا تصلوا، لا يصح وفاقا، فكذلك إذا قال: صلوا بعد الزوال، ثم يقول: قبل دخوله: لا تصلوا بعد الزوال، لاشتراكهما في استلزام البداء والعبث ولاشتراكهما في أنه نسخ قبل التمكن من الفعل الذي هو المقصود من الخطاب.
وجوابه: أنه إنما لم يصح ذلك، لأنه لم يوجد شرط النسخ وهو التراخي، والتراخي وإن وقع احترازا عن الاستثناء والتقييد بالغاية ونحوه من المتصل بالخطاب، وما نحن فيه ليس بمتصل، لكنه في معني المتصل من حيث أنهما يردان على سمع المكلف في وقت واحد، فلا يتحقق معنى الرفع ولا معنى انتهاء الحكم، ونزيد عليه بأنه يعد متناقضاً.