الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
فيما اختلف فيه أنه من الإجماع
وفيه مسائل:
المسألة الأولى
إذا اختلفت الأمة في مسألة على قولين فهل يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث أم لا
؟
اختلفوا فيه على ثلاثة مذاهب:
فذهب الأكثرون/ (23/ أ) إلى المنع منه مطلقًا.
وذهب أهل الظاهر، وبعض الحنفية، والشيعة إلى تجويزه مطلقًا.
وفصل المحققون فيه فقالوا: إن كان القول الثالث يرفع شيئًا مما اتفق عليه القولان لم يجز إحداث القول الثالث. وإن لم يرفع ذلك جاز وهو المختار.
مثال الأول: اختلاف الأمة في الجد مع الأخوة:
فمنهم من جعل المال كله للجد.
ومنهم من جعل له بعضه إما بطريق المقاسمة، أو بطريق الفرضية على اختلاف الحالين.
فالقول بأن المال كله للأخوة خلاف ما اتفق عليه القولان فيكون باطلاً.
مثال الثاني: اختلافهم في متروك التسمية:
فمنهم من قال: يحل أكله سواء كان الترك عمدًا أو سهوًا.
ومنهم من قال لا يحل أكله سواء كان الترك عمدًا أو سهوًا.
فالقول الثالث: وهو التفصيل بين العمد والسهو في حل الأكل وعدمه كما هو مذهب مالك ليس خرقًا للإجماع؛ لأنه قول موافق للقولين السابقين لكن في حال دون حال فلا يمتنع.
[فإن قلت] فقد قال الشافعي: "وطء الجارية الثيبة لا يمنع من ردها بلا عقر" مع أن الأمة قبله كانوا مختلفين على قولين: بمنع الرد أصلاً ورأسًا، أو بالرد مع العقر.
[قلت]: لم يثبت خوض جميع الصحابة في المسألة بل كان القولان
من الخائضين لا غير، فلذلك قال الشافعي رحمه الله بالرد مجانًا، فأما إن كان ذلك على تقدير خوضهم جميعًا فيها واستقرار رأيهم على الرأيين فلا.
احتج المانعون منه مطلقًا بوجوه:
أحدها: أنه لو جاز القول الثالث فأما أن يكون [له] دليل أو لا يكون له دليل.
فإن كان الأول فذلك الدليل إما أن يعلمه أهل العصر الأول المختلفون في المسألة أو لا يعلمه.
فإن كان الأول فإما أن يكون راجحًا على مستند مذهبهم، أو مساويًا له، أو مرجوحًا عنه.
والأول باطل وإلا لزم إجماعهم على الخطأ؛ لأن ترك العمل بالراجح مع العلم به والعمل بالمرجوح خطأ، وهم حينئذ مطبقون عليه فكان يلزم إجماعهم على الخطأ.
وكذا الثاني، لأن مقتضاه إذ ذاك التوقف، أو التخيير فالجزم بالحكم إذ ذاك خطأ فكان إجماعهم على الجزم بالحكم خطأ.
وإن كان الثالث كان القول المحدث باطلاً، لأن العمل بالمرجوح مع وجود الراجح باطل.
وإن كان الثاني لزم ذهولهم عن الحق واتفاقهم على غير مقتضاه ولو جوزنا ذلك بطل أصل الإجماع.
وإن كان ذلك لا لدليل كان القول به باطلاً فوجب أن لا يجوز القول الثالث بحال.
وجوابه أن نقول: لم لا يجوز أن يكون القول الثالث لدليل مرجوح واعتقد صاحبه رجحانه؟ والعمل بالمرجوح إنما يكون خطأ أن لو كان ذلك مع العلم بكونه مرجوحًا أما بدونه فلا.
سلمنا أنه خطأ مطلقًا لكن المجتهد قد تمكن من العمل بالاجتهاد الخطأ.
سلمنا فساد هذا القسم، فلم لا يجوز أن يكون ذلك مع عدم العلم بذلك الدليل؟
قوله: لزم ذهول مجموع الأمة عن الحق.
قلنا: ممنوع، وهذا لأنه إنما يكون كذلك أن لو كان ذلك راجحًا، فأما إذا لم يكن كذلك بأن يكون مساويًا له، أو مرجوحًا عنه فلا. وما ذكر من أن الحكم إذ ذاك إما للتخيير، أو التوقف فذلك عند العلم بهما لا مطلقًا.
سلمنا فساد هذا القسم أيضًا، لكن لم لا يجوز أن يكون القول الثالث لا لدليل لكنه ظنه دليلاً وحينئذ لا نسلم أنه خطأ، وإنما يكون خطأ أن لو لم يكن كل مجتهد مصيب؟
سلمنا أن المصيب واحد لكن لا يلزم من كونه خطأ أن لا يمكن من العمل به لما سبق.
وثانيها وهو ما تمسك به القاضي عبد الجبار: أن الأمة إذا اختلفت على قولين فقد أجمعت على أنه يجب على كل واحد من المكلفين الأخذ بأحد
ذينك القولين، وأنه لا يجوز العدول عنهما، وتسويغ القول الثالث يبطل ذلك فكان باطلاً.
وجوابه: أنه مشروط بعدم ظهور القول الثالث، فإذا ظهر زال الحكم لزوال شرطه. وهذا الاشتراط وإن كان محتملاً في الإجماع على القول الواحد، لكنهم حذفوه فيه، وقطعوا بعدم تطرقه إليه، وجزموا بوجوب الأخذ به دائمًا فلا يجوز التسوية بينهما إذ من شرط صحة القياس أن لا يكون الحكم مجمعًا عليه.
وثالثها: أن القول الثالث إن كان خطأ وجب أن لا يسوغ القول به، وإن كان صوابًا وحقًا لزم إجماع الأولين على الخطأ.
وجوابه: أنه لا يلزم من حقيقته خطأ ما سبق؛ لأن كل مجتهد مصيب.
سلمنا ذلك لكن لا نسلم أن ذلك ممتنع، وهذا لأن الممتنع عندنا إنما هو تخطئه كل الأمة فيما اتفقوا عليه لا مطلقًا، إذ يجوز خطأ بعضهم في المسألة، والبعض الآخر في مسألة أخرى.
سلمنا امتناعه مطلقًا لكن لا يلزم من خطئه أن لا يسوغ القول به لما سبق.
واحتج المجوزون مطلقًا بوجهين:
أحدهما: أن الشافعي رضي الله عنه أحدث القول الثالث في رد الجارية الثيبة الموطوءة المعيبة، وهو مناف للقولين السابقين، لأنهم متفقان على أنها لا ترد مجانًا، ولم ينكر عليه أحد من علماء عصره فكان إجماعًا.
وجوابه: ما سبق من أنه لم يثبت خوض الجميع فيها واستقرارهم على الرأيين.
وثانيهما: أنه لم يحصل إجماع على حكم واحد فلم يكن حجة كما قبل الاستقرار على الرأيين.
وجوابه: منع الصغرى؛ وهذا لأنهم اتفقوا على أن للجد قسطًا من المال فالقول بحرمانه مع الأخوة مخالفة لما اتفقوا عليه فكان ممتنعًا.
وعند هذا ظهر أن الحق من الأقوال هو ما اختاره المحققون.