الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع
في المجمعين
وفيه مسائل:
المسألة الأولى
القائلون بأن الإجماع حجة اتفقوا على أنه لا يعتبر في الإجماع اتفاق جميع الأمة من وقت الرسول عليه السلام إلى يوم القيامة
، وسببه ظاهر، فإنه لو اعتبر ذلك لسقطت فائدة شرعية كون الإجماع حجة، فإنه لو كان حجة حينئذ، فإنما يكون حجة إلى ما بعد يوم القيامة لاستحالة حصوله قبل يوم القيامة، وما بعده لا حاجة إليه لعدم الاحتياج إلى الاستدلال بل لا يتصور أن يكون حجة، لأن التكاليف بأسرها مرتفعة فيه.
وأجمعوا أيضًا على أنه لا يعتبر فيه قول الخارج عن الملة؛ لأن الأدلة دالة على اعتبار قول المؤمنين والأمة لا غير، والأمة في عرف الشرع الذين قبلوا دين الرسول عليه السلام فمن كان خارجًا عن الملة لا يكون مؤمنًا، ولا من الأمة فلا يعتبر قوله، لعدم ما يدل على اعتباره.
واتفقوا على اعتبار قول المجتهدين؛ لأن أدلة الأجماع متناولة لهم، ولم يدل دليل آخر على عدم إرادتهم، فوجب اعتبار قولهم وإن كان في بعضهم كالعاصي والمبتدع خلاف على ما تقدم.
واختلفوا في اعتبار قول العوام:
فذهب الأكثرون إلى أنه لا عبرة به، لأن أدلة الإجماع وإن كانت متناولة لهم، لأنهم من المؤمنين والأمة، لكن أدلة أخر تدل على عدم إرادتهم منها كما سيأتي ذكرها.
وذهب الأقلون إلى اعتباره، وهو مختار القاضي أبي بكر رحمه الله.
احتج الأولون بوجوه:
أحدها: أنه لو اعتبر قولهم، فإنما بعتبر، لاحتمال أن يكون قولهم صوابًا، فإن بتقدير أن يقطع بانتفاء احتمال الصواب عنه، فإنه لا يعتبر قولهم إذ لا معنى لاعتبار قول من يقطع بخطأ قوله، لكن لا يحتمل أن يكون قولهم صوابًا، لأن قولهم غير مستند إلى دليل وأمارة، إذ المعنى من استناد القول إلى الدليل أن يكون مستفادًا منه، واستفادة الأحكام من أدلتها تستدعي حصول شرائط الاجتهاد والاستدلال، والعامي عار عن ذلك، فيكون قولهم غير مستند إلى دليل، وكل قول غير مستند إلى دليل فإنه باطل فيكون قول
العامي باطلاً فلا يعتبر.
وثانيها: أن العلماء إذا اتفقوا على شيء وخالفهم العوام في ذلك فلا شك أن خلافهم وقولهم بخلاف ذلك الحكم باطل، لما سبق، فلو كان قول العلماء أيضًا باطلاً: لزم أن يكون قول مجموع الأمة باطلاً بالنسبة إلى مسألة واحدة، ولكن غايته أنه باعتبارين مختلفين، فإن بطلان قول العوام باعتبار الطريق وبطلان قول العلماء باعتبار عدم مصادفة الحكم، وهذا على قولنا: المصيب واحد، وأما على قولنا: كل مجتهد مصيب [فإنه لا يتصور البطلان بهذا المعنى بل يتعين أن يكون البطلان في القولين] على الوجه الأول وبطلان قول مجموع الأمة بالنسبة إلى مسألة واحدة باطل، وإن كان ذلك باعتبارين، لأن أدلة الإجماع تنفي ذلك مطلقًا من غير فصل.
وثالثها: أن العوام ليسوا من أهل الاجتهاد فلا عبرة بقولهم كالصبي والمجنون. وما يذكر من الفرق بين المقيس والمقيس عليه فغير قادح، لأنه في عير محل الجمع.
ورابعها: أن العامي يلزمه موافقة العلماء، ويحرم عليه مخالفتهم، فلا تكون مخالفته معتبرة، كالمجتهد إذا خالف بعد انعقاد الإجماع، أو بعد انقراض عصره على اختلاف القولين، فإنه لما وجب عليه موافقتهم لم تعتبر مخالفته لهم.
وفي هذا الوجه نظر، فإن المجتهد إذا خالف خبر الواحد بناء على أنه لا يرى العمل به، وأجمع الباقون على مقتضاه، فإن ها هنا يحرم عليه مخالفته ونعصيه بسبب المخالفة مع أنه لا ينعقد الإجماع مع مخالفته، فليس يلزم من حرمة المخالفة عدم اعتبارها، وأما في الصورة التي ذكروها فليس تعتبر المخالفة لعموم حرمة المخالفة، بل لخصوص مخالفة الإجماع.
وخامسها: لو اعتبر اتفاق العوام لم يتصور العلم بحصول الإجماع [حتى] في زمان الصحابة أيضًا؛ لأنهم متفرقون في الأقطار والنواحي بحيث يتعذر العلم باتفاقهم، لكثرتهم وعدم العلم بأعيانهم، بخلاف العلماء لا سيما في زمن الصحابة فإنهم كانوا منحصرين معلومين فيه.
وسادسها: أن عوام الصحابة وخواصهم أجمعوا: على أنه لا عبرة بقول العوام في هذا الباب لا بالنسبة إلى الموافقة، ولا بالنسبة إلى المخالفة، واعتبار قولهم خلاف لإجماعهم فيكون باطلاً.
وفي هذا الوجه أيضًا نظر؛ وهذا لأن المؤمنين من أهل البادية قد لا يعرفون أن الإجماع حجة، فضلاً من أنه لا يعتبر فيه قول العوام أو يعتبر، فكيف يمكن ادعاء إجماعهم على أنه لا يعتبر قول العوام؟
وسابعها: أن قول المجتهد بالنسبة إلى العوام كالنص بالنسبة إلى المجتهدين [فكما أن حجية النص مطلقًا لا يتوقف على رضا المجتهدين] فكذا حجية قولهم مطلقًا لا يتوقف على رضا العوام به.
وما يقال على أكثر هذه الحجج المتقدمة: بأن قول العوام وإن كان باطلاً إذا لم يكن على/ (44/ أ) موافقة العلماء [إذ] هو غير مستند إلى دليل فيكون قولاً في الدين بالتشهي وهو باطل، لكن لم لا يجوز أن تكون موافقتهم للعلماء شرطًا في حجية قولهم على من يحدث بعدهم من العلماء فإن ما تقدم من الدلالة لا ينفي هذا الاحتمال؟
فهو ضعيف، أما أولاً: فلأنه مجرد احتمال دل الأصل على عدمه.
وأما ثانيًا: فلأن الأصل عدم توقيف المقتضى على شيء، لأن على هذا
التقدير اتفاق العلماء هو الحجة لكن حجيته تتوقف على موافقة العوام لهم، وأما دلالة لفظ المؤمنين والأمة عليهم فإنما هي على وجه الجزئية كما تقدم، كان اعتبار موافقتهم على وجه الشرطية مجرد احتمال من غير دليل فيكون منفيًا لما تقدم من الوجهين.
واحتجوا: بأن الأدلة التي تدل على أن الإجماع حجة متناولة للعوام حسب تناولها للمجتهد فوجب أن تكون مرادة، إذ الأصل في المتناول أن يكون مرادًا، وإذا كان العوام مرادًا منها وجب أن لا ينعقد إجماع بدون موافقتهم للعلماء، لأن ما يدل على ثبوت الحكم في الكل لا يدل على ثبوته في البعض بدونه، والأصل عدم دليل آخر.
وجوابه: أن الأصل في المتناول وإن كان هو الإرادة، لكن قد يترك الأصل، لقيام الدلالة على عدم إرادته، وما ذكرنا من الأدلة دالة على أنهم غير مرادين من لفظ المؤمنين والأمة فوجب تخصيصهما بالمجتهدين.
ثم اعلم أن المجتهد الذي اعتبرنا قوله ليس هو المجتهد كيف كان حتى لو كان مجتهدًا في فن يعتبر قوله في فن آخر أو في جميع الفنون، بل هو المجتهد مطلقًا، أو المجتهد في ذلك الفن الذي يحصل الإجماع على مسألة من مسائله.
فأما لو كان مجتهدًا في فن فإنه لا يعتبر قوله في فن آخر؛ لأنه عامي بالنسبة إليه فعلى هذا المعتبر في مسائل الكلام إنما هو قول المتكلمين لا غير، وفي مسائل الفقه قول المتمكنين من الاجتهاد في مسائل الفقه لا قول المتكلمين، ومن يجري مجراهم.
واختلفوا في الأصولي الذي ليس بفقيه، والفقيه الذي ليس بأصولي على أربعة أقوال:
أحدها: اعتبار قوليهما، نظرًا إلى ما لهما من الأهلية المناسبة بالنسبة إلى المسائل الفرعية التي لا توجد في العوام ولا في المتكلمين واللغويين والنحويين.
وثانيها: عدم اعتبار قوليهما، لعدم أهلية الاجتهاد والتمكن التام الثابت لأهل الحل والعقد من المجتهدين.
وثالثها: اعتبار قول الأصولي دون الفقيه الحافظ للأحكام، وهو الأولى، لأنه متمكن من الاجتهاد، واستباط الأحكام عن مداركها، إذ ليس من شرائط الاجتهاد حفظ الأحكام كما ستعرف ذلك إن شاء الله تعالى. وإذا كان كذلك وجب أن يكون قوله معتبرًا كغيره من المجتهدين. نعم التمكن التام كما هو حاصل للأصولي الحافظ للأحكام فإنه غير حاصل له لكن ذلك لا يخل برتبة الاجتهاد.
ورابعها: اعتبار قول الفقيه الحافظ للأحكام دون الأصولي.
ولا يتخيل فيه أنه إنما اعتبر قوله، لكونه أعرف بمواقع الاتفاق، والاختلاف، فعدم اتفاقه يدل على تقدم خلاف فيه إذ لو كان متفقًا عليه لما خالف وذلك يمنع من انعقاد الإجماع على رأي.
لأنا لا نسلم أنه يدل عليه لجواز أن تكون المسألة غير واقعة في العصر الأول، أو وإن وقعت فيه لكن ربما لم تصل إليه مذاهب الناس فيه، وإنما
خالف بناء على دليل: إما في نفس الأمر، أو في ظنه أو لم يوافق، لعدم الظفر على الدليل، أو لعدم اهتدائه إلى وجه دلالة الدليل، فلا يدل عدم موافقته على تقدم من الخلاف، ثم عدم موافقته إنما يقدح في الإجماع أن لو كانت موافقته معتبرة، فإن بتقدير أن لا تكون موافقته معتبرة لا يكون عدم موافقته قادحًا في الإجماع وحينئذ يكون الاستدلال باعتبار عدم الموافقة دوران.