الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
المسألة العاشرة"
إجماع الصحابة مع مخالفة من أدركهم من التابعين حالة الإجماع ليس بحجة عند الأكثرين
.
والخلاف فيه مع فريقين:
أحدهما: الذين قالوا: لا حجة إلا في إجماع الصحابة، والكلام مع هؤلاء بخصوصيته سيأتي في مسألة منفردة.
وثانيهما: الذين سلموا أن إجماع غيرهم/ (36/ أ) أيضًا حجة، لكن قالوا: لا عبرة لمخالفة غيرهم مع إجماعهم وهم بعض المتكلمين.
فأما إذا خالفهم بعد انعقاد الإجماع، وقبل انقراض العصر، فيخرج على اعتبار انقراض العصر، فمن اعتبره جعل خلافه في هذه كخلافه في حالة انعقاد الإجماع.
ومن لم يعتبره جعل خلافه فيها كخلافه بعد انقراض العصر.
لنا وجهان:
أحدهما: أن الأدلة إنما تدل على أن إجماع مجموع الأمة حجة، خرج عنها العوام، والصبيان، والمجانين، لدليل فوجب اعتبار من عداهم والصحابة مع معاصرة التابعي لهم ليسوا مجموع الأمة بل بعضهم، فوجب أن لا يكون إجماعهم حجة، لئلا يلزم القول في الدين بغير دليل، إذ الأصل عدم دليل آخر.
وثانيهما: أن الصحابة اعتبروا قول التابعي، وسوغوا له الاجتهاد، ورجعوا إلى قوله:
روي أن ابن عمر رضي الله عنهما سئل عن فريضة، فقال:"اسألوا سعيد بن جبير، فإنه أعلم بها مني".
وسئل أنس عن شيء فقال: "اسألوا مولانا الحسن، فإنه سمع
وسمعنا، وحفظ ونسينا".
وربما سئل الحسن بن علي رضي الله عنهما عن مسألة فقال: "اسألوا الحسن البصري".
وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: "تذاكرت أنا وابن عباس وأبو هريرة في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها فقال ابن عباس: عدتها أطول الأجلين، وقلت أنا: عدتها أن تضع حملها: فقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي".
وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن نذر ذبح الولد؟ فقال: اسألوا مسروقًا، فلما أتاه السائل بجوابه تابعه فيه.
وأمثال هذه الروايات كثيرة، فلو لم يكن قول التابعي معتبرًا في الدين إذ ذاك لما جاز لهم ذلك، وحيث جاز ذلك علمنا أن قوله معتبر في الدين فإذا كان قوله معتبرًا في الدين مع وجود الصحابة وجب أن لا ينعقد إجماعهم بدون قوله.
فإن قلت: إنما اعتبروا قوله حالة اجتهاده واختلافهم، دون حالة إجماعهم، ولا يلزم من اعتباره حالة الاجتهاد والاختلاف، اعتباره حالة الاتفاق.
قلت: كل من اعتبر قوله حالة الاختلاف اعتبر قوله حالة الاتفاق كالمجتهد من الصحابة بالنسبة إلى إجماعهم، والمجتهد من التابعين بالنسبة إلى إجماع التابعين بجامع كونه مجتهدًا متمكنًا من الاجتهاد، ولأن الدوران الوجودي والعدمي [دل] أيضًا على أن كل من اعتبر قوله حالة الاختلاف والاجتهاد
والاجتهاد اعتبر قوله في انعقاد الإجماع إذا كان موجودًا حالة انعقاده إما وجودًا: كقول المجتهد الصحابي بالنسبة إلى إجماعهم، وكقول المجتهد التابعي بالنسبة إلى إجماعهم، وإما عدمًا: فكقول العامي.
واحتج الخصم بالنص والخبر والأثر والمعقول:
أما النص فقوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} .
دلت الآية على أنه تعالى راض عنهم، ولا يكون راضيًا إلا إذا كانوا غير مقدمين على شيء من المحظورات، ومتى كان كذلك كان قولهم حجة.
وجوابه: أنه مختص بأهل بيعة الرضوان، ولا خلاف في أنه لا ينعقد إجماعهم مع مخالفة غيرهم من الصحابة والتابعين لهم فما تقولونه لا تدل عليه الآية، وما تدل عليه لا تقولون به.
سلمنا أنه غير مختص بهم، لكن لا نسلم زوال الرضا بسبب الخطأ الذي هو صغيرة.
سلمناه لكن فيما يكون صاحبه به آثمًا دون ما لا يكون صاحبه غير آثم به
بل هو مأجور فيه.
وأما الخبر - فنحو قوله صلى الله عليه وسلم "لو أنفق غيرهم ملء الأرض ذهبًا ما بلغ مد أحدهم، ولا نصيفه"، وهو يدل على أن أعمالهم وأقوالهم مرضية مزكاة، والقول الخطأ غير مرضي ولا مزكي فلا يكون قولهم.
وجوابه: النقض بقول الواحد منهم، هذا إن سلم الخصم أن قول الواحد منهم ليس بحجة، وحينئذ فما هو جوابه ثمة فهو جوابنا هنا.
وأما إن لم يسلم الحكم فجوابه: أنه لا يدل على حجية قول الواحد بطريق الإجماع بالإجماع، فليكن مثله في قول كلهم مع مخالفة غيرهم لهم فإن دلالة الحديث في الصورتين على السواء.
وأما الأثر فمن وجهين:
أحدهما: أن عائشة رضي الله عنها أنكرت على أبي سلمة بن
عبد الرحمن خلافه لابن عباس في عدة المتوفى عنها زوجها - وهي حامل - وقالت: فروج يصيح مع الديكة.
وجوابه: لعل الإنكار إنما كان، لأنه خالف بعد الإجماع، أو في مسألة قطعية.
وهذا الاحتمالان ضعيفان، وإلا لكان كون عدتها أبعد الأجلين مجمعًا عليه ومقطوعًا به وهو باطل قطعًا.
أو لأنه خالف قبل أن كان أهلاً للاجتهاد، أو لأنه أساء الأدب في المناظرة، أو لأنها كانت ترى أنه لا عبرة بقول التابعي مع اتفاق الصحابة ولا حجة في مذهبها.
وثانيهما: أن عليًا رضي الله عنه نقض على شريح حكمه في ابني
عم أحدهما أخ لأم لما جعل المال كله للأخ، ولولا أنه لا عبرة بقوله واجتهاده مع مصير الصحابة إلى خلافه لما نقضه.
وجوابه: أنا لا نسلم أن المراد من قولهم: أنه رضي الله عنه نقض ما حكم به، بل المراد منه: أنه رد عليه بطريق الاستدلال والاعتراض كما يقول: نقض كتاب فلان وكلامه إذا اعترض عليه بقادح، وهذا إن لم يكن خلاف ظاهر اللفظ فصحة الحمل عليه ظاهرة، وإن كان خلافه فيحمل عليه أيضًا جمعًا بين الدليلين.
سلمنا أنه نقض حكمه، لكن لا نسلم أن ذلك، لأنه لا عبرة بقوله وإلا لنقض غيره من الأحكام، كما فيما حكم عليه على خلاف رأيه في مخاصمة له مع آخر، بل لأنه كان على وجه ينقض فيه حكم الحاكم، / (37/ أ) وحينئذ لا يكون فيه دلالة على أنه لا عبرة مخالفة التابعي.
وأما المعقول: فهو أن الصحابة أعرف بالدليل لصحبة الرسول وشهادة التنزيل. وأعرف بما هو المراد من ظاهر الدليل أو التأويل، وإذا كان كذلك كان قوله أقرب إلى الصواب، وموافقة الدليل. هذا إذا فرض مخالفة واحد منهم لواحد من غيرهم، فكيف إذا اتفق جميعهم على شيء وشذ واحد من غيرهم من موافقتهم.
وجوابه، أن ما ذكرتم يقتضي ترجيح - مذهب الصحابي على مذهب غيره وهذا قد يسلم لكم، لكنه لا يقتضي أن ما اتفقوا عليه مع مخالفة غيرهم لهم في حالة الاتفاق يكون إجماعًا، فإنه ليس كل ما هو أقرب إلى الصواب وموافقة الدليل يكون إجماعًا.