المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة الثانية""في كون الإجماع حجة - نهاية الوصول في دراية الأصول - جـ ٦

[الصفي الهندي]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الأولفي النسخ وتعريف الناسخ والمنسوخ

- ‌المسألة الأولىفي حقيقته لغة

- ‌المسألة الثانيةفي حده بحسب الاصطلاح والناسخ والمنسوخ

- ‌المسألة الثالثةذهب كثير من المحققين كالقاضي والغزالي (إلى): أن النسخ رفع

- ‌المسألة الرابعةفي الفرق بين النسخ والبداء

- ‌المسألة الخامسةفي إثبات النسخ على منكريه

- ‌المسألة السادسة[في نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به]

- ‌المسألة السابعة[في جواز النسخ إلي غير بدل]

- ‌المسألة الثامنة[في النسخ بالأخف والأثقل]

- ‌المسألة التاسعةفي أنه يجوز نسخ الحكم المؤكد بالتأييد كقوله: أمرتكم بهذا أبدا

- ‌المسألة العاشرةأنه يجوز نسخ التلاوة والحكم معًا

- ‌المسألة الحادية عشرةاختلفوا في ثبوت حقيقة النسخ "وحكمه" في حق من لم يبلغه الخبر حيث ثبت ذلك مع العلم

- ‌المسألة الثانية عشرةاختلفوا في أن كل "واحد" من الأحكام، هل هو قابل للنسخ أم لا

- ‌المسألة الثالثة عشرةفي نسخ الخبر

- ‌الفصل الثانيفي الناسخ والمنسوخ

- ‌المسألة الأولىالقائلون بجواز نسخ القرآن: اتفق أكثرهم على أنه يجوز نسخ القرآن بالقرآن لتساويهما في إفادة العلم ووجوب العمل به

- ‌المسألة الثانية[نسخ الكتاب بالسنة المتواترة]

- ‌المسألة الثالثة[في نسخ السنة المتواترة بالكتاب]

- ‌المسألة الرابعةفي أن الحكم الثابت بالإجماع لا ينسخ به ولا بغيره

- ‌المسألة الخامسةفي نسخ حكم القياس ونسخ حكم غيره "به

- ‌المسألة السادسةفي نسخ المفهوم والنسخ به

- ‌الفصل الثالث"فيما اختلف فيه أنه ناسخ وليس "هو" بناسخ

- ‌المسألة الأولىفي الزيادة على النص هل هو نسخ أم لا

- ‌المسألة الثانيةاتفقوا على أن إسقاط شيء من العبادة، أو شيء من شروطها، أو شيء من سننها ومستحباتها: "نسخ لما سقط

- ‌المسألة الثالثةفي أن نسخ أصل القياس هو نسخ للفرع أم لا

- ‌النوع الثاني عشر: الكلام في الإجماع

- ‌ المقدمة ففي تفسيره لغة، ورسمه شرعًا

- ‌الفصل الأول""في الإجماع

- ‌المسألة الأولى"في إمكان وقوع الإجماع، وإمكان الإطلاع عليه:

- ‌المسألة الثانية""في كون الإجماع حجة

- ‌المسألة الثالثة""في وجه استدلال الشيعة على أن الإجماع حجة

- ‌الفصل الثانيفيما اختلف فيه أنه من الإجماع

- ‌المسألة الأولىإذا اختلفت الأمة في مسألة على قولين فهل يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث أم لا

- ‌المسألة/ (24/ أ) الثانيةأهل العصر إذا لم يفصلوا بين المسألتين، فهل يجوز لمن بعدهم الفصل بينهما أم لا

- ‌المسألة الثالثةيجوز حصول الإجماع في المسألة بعد الخلاف فيها

- ‌المسألة الرابعةانقراض العصر ليس بشرط في انعقاد الإجماع عند الأكثرين من الفرق

- ‌المسألة الخامسةإذا قال بعض المجتهدين من أهل العصر قولاً في المسائل التكليفية الاجتهادية، وعرفه الباقون، ولم يظهر منهم في ذلك إنكار عليه فهل يكون ذلك إجماعًا أم لا

- ‌المسألة السادسةأهل العصر الأول إذا استدلوا بدليل على حكم أو استنبطوا منه وجه دلالة، أو ذكروا له تأويلاً، ثم أهل العصر الثاني استدلوا عليه بدليل آخر واستنبطوا منه وجه دلالة أخرى، أو ذكروا له تأويلاً آخر، فأما أن لا يكون الثاني منافيًا للأول بوجه ما

- ‌المسألة السابعةقال مالك رضي الله عنه: إجماع أهل المدينة وحدها حجة خلافًا للباقين

- ‌المسألة الثامنةإجماع العترة - وحدها - ليس بحجة، خلافًا للزيدية، والإمامية

- ‌المسألة التاسعة"إجماع الخلفاء الأربعة ليس بحجة مع مخالفة غيرهم لهم

- ‌المسألة العاشرة"إجماع الصحابة مع مخالفة من أدركهم من التابعين حالة الإجماع ليس بحجة عند الأكثرين

- ‌المسألة الحادية العاشرة"المجتهد إذا اعتقد في الأصول ما يوجب تكفيره لا يعتبر قوله في انعقاد الإجماع وفاقًا لا نعرف في ذلك خلافًا

- ‌المسألة الثانية عشرة"الاتفاق الحاصل من الأكثر ليس بإجماع ولا حجة عند الأكثرين، وهو المختار

- ‌المسألة الثالثة عشرة"المجتهد الخامل يعتبر قوله في الإجماع عند الجماهير خلافًا لبعض الشاذين

- ‌الفصل الثالثفيما يصدر عنه الإجماع

- ‌المسألة الأولىمذهب الجماهير أنه لا يجوز حصول الإجماع إلا عن مستند شرعي

- ‌المسألة الثانية"القائلون بأنه لا ينعقد الإجماع إلا عن مستند اتفقوا على جواز وقوعه عن دلالة

- ‌المسألة الثالثة"الإجماع الموافق لدليل إذا لم يعلم له دليل آخر لا يجب أن يكون مستندًا إلى ذلك الدليل عند الجماهير

- ‌الفصل الرابعفي المجمعين

- ‌المسألة الأولىالقائلون بأن الإجماع حجة اتفقوا على أنه لا يعتبر في الإجماع اتفاق جميع الأمة من وقت الرسول عليه السلام إلى يوم القيامة

- ‌المسألة الثانيةذهب الأكثرون إلى أنه لا يشترط في المجمعين أن يكونوا بالغين حد التواتر

- ‌المسألة الثالثةإجماع غير الصحابة حجة خلافًا لأهل الظاهر

- ‌الفصل الخامسفي بقية مسائل الإجماع

- ‌المسألة الأولىالإجماع المروي بطريق الآحاد حجة عند بعض أصحابنا، وأصحاب أبي حنيفة والحنابلة، وهو المختار

- ‌المسألة الثانيةالإجماع الصادر عن الاجتهاد حجة عند الأكثرين خلافًا لبعضهم

- ‌المسألة الثالثةذهب الجماهير إلى أنه لا يجوز أن ينعقد إجماع بعد إجماع أثبت على خلافه، لأنه يستلزم تعارض دليلين قاطعين وأنه ممتنع

- ‌المسألة الرابعةالإجماع لا يعارضه دليل؛ لأن ذلك إن كان ظنيًا نحو القياس وخبر الواحد فظاهر، لأن الظني لا يعارض القطعي

- ‌المسألة الخامسةالإجماع حجة في كل شيء لا تتوقف صحته عليه

- ‌المسألة السادسةمذهب الجماهير امتناع ارتداد كل الأمة

- ‌المسألة السابعةفي أنه هل يجوز أن تنقسم الأمة إلى قسمين، وكل واحد منهما مخطئ في مسألة أخرى غير مسألة صاحبه

- ‌المسألة الثامنةهل يجوز أن تشترك الأمة في عدم العلم بما لم يكلفوا به

- ‌المسألة التاسعةجاحد الحكم المجمع عليه من حيث أنه مجمع عليه بإجماع قطعي لا يكفر عند الجماهير خلافًا لبعض الفقهاء

الفصل: ‌المسألة الثانية""في كون الإجماع حجة

"‌

‌المسألة الثانية"

"في كون الإجماع حجة

"

مذهب جماهير السلف والخلف أن إجماع أمة محمد عليه السلام حجة، لكن اختلفوا في أنه هل هو حجة قطعية، بحيث يكفر، أو يضلل ويبدع مخالفه، أو لا يكون حجة قطعية، بل هي ظنية لا يضلل ولا يبدع مخالفه؟

فذهب الأكثرون إلى الأول.

وذهب المحققون منا ومن المعتزلة إلى الثاني.

ص: 2435

وقالت الخوارج، والنظام، والشيعة القائلون بالإمام المعصوم أنه ليس بحجة.

لنا وجوه، وهي: الكتاب، والسنة، والمعقول.

أما الكتاب فآيات:

أحدها: قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا} .

ووجه الاستدلال به: أنه جمع بين مشاقة الرسول، وإتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد، فلو لم يحرم (اتباع) غير سبيل المؤمنين لما جاز الجمع بينه وبين المشاقة في الوعيد؛ إذ لا يجوز أن يجمع بين المحرم والمباح في الوعيد كما يقال: إن زنيت وشربت الماء عاقبتك، وإذا حرم اتباع غير سبيل المؤمنين وجب اتباع سبيلهم.

ص: 2436

فإن قلت: لا نسلم أن كلمة من للعموم، وسنده ما سبق في أدلة الواقفية.

وحينئذ لا يكون في الآية دلالة على أن يحرم على كل واحد واحد من المكلفين اتباع غير سبيل المؤمنين، فلا يكون فيها دلالة على كونه حجة، إذ حجيته إنما تثبت أن لو حرم على الكل مخالفته.

لا يقال: بأن كل من قال بحرمة اتباع غير سبيل المؤمنين بالنسبة إلى بعض المكلفين، قال بذلك بالنسبة إلى كلهم فالقول بذلك بالنسبة إلى البعض دون البعض قول لم يقل به أحد؛ لأنا نمنع ذلك، وهذا، لأنه يحرم على العوام عندنا مخالفة المجتهدين واتباع/ (4/ أ) غير سبيلهم دون المجتهد.

سلمنا أنها للعموم لكن لا نسلم أنه توعد على كل واحد من المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين بانفراده حتى يلزم أن يكون كل واحد منهما محرمًا بانفراده بل توعد على مجموعهما، وحينئذ لا يلزم أن يحرم اتباع غير سبيل المؤمنين بانفراده.

وقوله، لو لم يكن محرمًا لما جاز الجمع بينه وبين المشاقة في الوعيد.

قلنا: متى إذا لم يحرم بحال الجمع والإفراد، أو أن حرم حالة الجمع دون الإفراد؟

والأول مسلم، والثاني ممنوع، وهذا فإن الشيء جاز أن يحرم مع الغير

ص: 2437

ولا يحرم وحده كنكاح الأخت مع الأخت، وإنما لم يجز الجمع بين الزنا وشرب الماء في الوعيد لأنه من قبيل القسم الأول.

سلمنا حرمة اتباع غير سبيل المؤمنين مطلقًا، لكن حرمة بعض غير سبيل المؤمنين أو حرمة كل غير سبيل المؤمنين؟

والأول مسلم: فإن عندنا بعض ما يغاير، أو كل ما يغاير بعض أو كل غير سبيل المؤمنين حرام وهو ما صاروا به مؤمنين.

وهذا التأويل متعين لتبادر الفهم إليه، فإن القائل إذا قال: "لا تتبع غير سبيل الصالحين فهم منه المنع من متابعة غير سبيل الصالحين فيما صاروا به غير صالحين لا غير.

ولأن الآية نزلت في رجل ارتد، وذلك يفيد أن الغرض منها المنع من متابعتهم في الكفر.

والثاني ممنوع؛ وهذا لأن لفظ الغير والسبيل مفرد فلا يفيد الكل.

ولو أفاد الكل لم يفد؛ لأنه لا يلزم من [حرمة كل ما هو غير سبيل المؤمنين كون الإجماع حجة؛ لأن حرمة الكل من حيث] إنه كل لا يستلزم حرمة كل واحد منه.

ص: 2438

سلمنا حرمة كل واحد من سبيل غير المؤمنين. لكن لم قلت: إنه يلزم منه وجوب اتباع سبيل المؤمنين؟

فإن قلت ذلك بناء على أنه لا واسطة بين اتباع غير سبيل المؤمنين، وبين اتباع سبيلهم حتى يلزم من حرمة اتباع غير سبيلهم وجوب اتباع سبيلهم فممنوع، وهذا لأن عدم الاتباع واسطة

و [إن] قلت بناء على مفهوم الخطاب، فلا نسلم أن مفهومه التواعد على عدم اتباع سبيل المؤمنين، بل مفهومه عدم التواعد على اتباع سبيلهم، وذلك لا يستلزم وجوب اتباع سبيلهم، وفرق بين التواعد على عدم الشيء وبين عدم التواعد على الشيء، فإن الأول يستلزم الوجوب دون الثاني.

سلمنا أن مفهومه يدل عليه لكن لا نسلم أنه حجة

فإن قلت: إنا لم نقل ذلك بناء على المفهوم بل بناء على أنه لا واسطة بينهما، والدليل على ذلك وجهان

أحدهما: أن غير هاهنا بمعنى إلا، لا بمعنى الصفة، إذ لو كان بمعنى الصفة لزم تحريم متابعة سبيل غير المؤمنين، ويلزم من ذلك أن الأمة إذا أجمعت على إباحة فعل من الأفعال أن يحرم على المكلف أن يقول بحظره، أو وجوبه، والمخالف لا يقول بذلك، وإذا كان غير بمعنى إلا يصير تقدير الآية. ومن يشاقق الرسول ولا يتبع سبيل المؤمنين، وحينئذ يكون التوعد على عدم متابعة سبيل المؤمنين، ويلزم منه وجوب اتباع سبيلهم ضرورة أنه لا واسطة بين عدم الاتباع والاتباع

وثانيهما: أنا وإن سلمنا أن غير للصفة، لكن نقول عدم اتباع سبيل المؤمنين اتباع لسبيل غيرهم؛ لأن غير المؤمنين لا يتبع سبيلهم فيكون ذلك سبيل

ص: 2439

غيرهم عن لم يتبع سبيلهم فقد اتبع سبيل غير المؤمنين.

قلت: أما الأول، فباطل؛ لأنا أجمعنا على أن غير موضوعة للصفة فجعله بمعنى إلا إن كان على وجه الحقيقة لزم الاشتراك وأنه خلاف الأصل، وإن كان على وجه التجوز لزم المجاز، وأنه أيضًا خلاف الأصل، فوجب أن يكون مستعملاً في موضوعه.

وقوله في الدلالة على امتناعه: أنه لو كان بمعنى الصفة لزم تحريم متابعة سبيل غير المؤمنين، ويلزم من ذلك أن الأمة إذا أجمعت على إباحة فعل من الأفعال أن يحرم على المكلف أن يقول بحظره أو بوجوبه والمخالف لا يقول به، قلنا: لزوم الاحتمال المذكور الذي لا يقول به الخصم على التقديرين أعنى أن تكون غير بمعنى الصفة، أو بمعنى إلا على السواء؛ لأن المعنى الثاني أخص من المعنى الأول، وكل ما دل عليه العام دل عليه الخاص، فإن كان كون الخصم لا يقول به دل على فساده [فليدل على فساد الاحتمال الثاني أيضًا لأنه لا] يقول به الخصم على هذا التقدير، وإن ذكر ذلك على وجه الإلزام فلا يصح؛ لأن كون الخصم لا يقول باحتمال قادح في استدلال المستدل لا يدل على فساده إلا إذا اعتبر من حيث أنه قول لم يقل به أحد، وهو تمسك بالإجماع فيكون إثباتًا للإجماع بإجماع أضعف منه.

وأما الثاني فلا نسلم أن عدم اتباع سبيل المؤمنين اتباع لسبيل غير المؤمنين وإن كان ذلك سبيلاً لغير المؤمنين؛ وهذا لأن الاتباع عبارة عن: أن يأتي بمثل فعل الغير لأجل أن ذلك الغير أتى به، فمن لا يتبع سبيل المؤمنين لأجل أن غير المؤمنين لا يتبعونهم كان متبعًا لهم.

ص: 2440

فأما من لا يتبعهم لا لأجل ذلك بل لأجل أن دليلاً دل على عدم اتباعهم أو لأنه لم يوجد ما يدل على اتباعهم لم يكن متبعًا لهم.

سلمنا: وجوب اتباع سبيل المؤمنين لكن بشرط تبين الهدى المشروط في المشاقة أولاً بهذا الشرط؟.

والأول مسلم، لكنه لا يفيد؛ لأنه حينئذ لا يجب اتباع سبيل المؤمنين إلا إذا تبين/ (5/ أ) جميع أنواع الهدى؛ لأن الهدى عام لكونه محلى بالألف والسلام فيتناول جميع أنواع الهدى، ومن جملة الهدى دليل ذلك الفرع الذي اتفقوا عليه فلا يجب اتباعهم إلا إذا تبين ما لأجله أجمعوا عليه وحينئذ لا يبقى في التمسك بالإجماع فائدة.

لا يقال: لا يشترط في تبين الهدى تبين جميع الأدلة على الشيء بل يكفى فيه تبين دليل واحد من أدلته، فلم لا يجوز أن يقال: إنه يجب اتباع سبيل المؤمنين بعد تبين حصول الإجماع وإن لم يتبين ما لأجله أجمعوا عليه؟

لأننا نقول: ذلك إنما يصح لو ثبت كونه دليلاً؛ فإن بتقدير أن لا يكون الإجماع دليلاً على ما أجمعوا [عليه] لم يكن تبينه تبينًا لهدى ما أجمعوا عليه فإثبات كونه دليلاً به دور.

والثاني ممنوع؛ وهذا لأن تبين الهدى شرط في المشاقة فيكون شرطًا في حرمة اتباع غير سبيل المؤمنين لكونه معطوفًا عليه، والشرط في المعطوف عليه شرط في المعطوف، وإذا كان شرطًا في حرمة اتباع غير سبيل المؤمنين وجب أن يكون شرطًا في وجوب اتباع سبيل المؤمنين ضرورة أن ما هو شرط أحد

ص: 2441

المتلازمين يكون شرطًا في الآخر، وحرمة اتباع غير سبيل المؤمنين ووجوب اتباع سبيل المؤمنين متلازمان على ما ذكرتم من أنه لا واسطة بينهما.

سلمنا: وجوب اتباعهم لا بهذا الشرط، لكن لفظ "السبيل" حقيقة فيما يحصل فيه المشي وهو غير مراد وفاقًا، وحينئذ يجب حمله على المجاز دفعًا لتعطيل النص، وليس حمله على المجاز الذي تحملونه وهو اتفاقهم على أمر من الأمور أولى من حمله على مجاز آخر وهو دليلهم واستدلالهم على ذلك الأمر، فإنهم حين اتفقوا عليه لا بد وأن استدلوا بشيء على إثباته، وإلا لكان اتفاقهم عليه باطلاً بل هذا أولى؛ لأن المناسبة بين الاستدلال وبين السبيل الحقيقي أتم من المناسبة بينه وبين الحكم المتفق عليه؛ لأن ما بينهما من مشابهة الاستمرار والمضي عليهما حاصل بعينه في الأول مع زيادة وهي مشابهته للإفضاء إلى المقصود.

سلمنا: أن حمله عليه أولى، لكن يقتضى وجوب اتباعهم في كل الأمور أو في بعضها؟ والدال على العام لا يدل على الخاص.

ثم الذي يدل على أنه لا يجب اتباعهم في كل الأمور وجوه:

أحدها: أنه لو وجب اتباعهم في كل الأمور لوجب أنهم إذا فعلوا شيئًا واعتقدوا إباحته أن يجب فعله وأن لا يجب؛ لأنه من حيث أنهم فعلوه يجب فعله، ومن حيث أنهم اعتقدوا إباحته لا يجب فعله، لكنه محال لأنه جمع بين النقيضين.

وثانيهما: أنهم إذا أجمعوا على حكم فلا بد أن يكون ذلك لدليل؛ لأن الحكم بغير دليل باطل، وذلك الدليل يجب أن يكون غير الإجماع لأن

ص: 2442

الإجماع كيفية من كيفيات ثبوت ذلك الحكم؛ لأن ثبوت الحكم قد يكون بحيث يتفق عليه، وقد يكون بحيث لا يتفق عليه فيكون متأخرًا عنه بالرتبة، والدليل متقدم عليه، فلا يكون الإجماع دليل ذلك الحكم بل غيره، فيكون إثبات ذلك الحكم بغير الإجماع سبيلاً لهم، فلو وجب اتباعهم في كل الأمور لوجب إثبات ذلك الحكم بغير الإجماع لأنهم أثبتوه به، وعدم وجوبه لإجماعهم على أنه لا يجب التمسك بدليل معين عند وجود غيره وهو جمع بين النقيضين.

وثالثها: أنهم كانوا قبل إجماعهم على ذلك الحكم متوقفين في المسألة غير جازمين بالحكم، بل كانوا جازمين بأنه يجوز البحث عنه، ويجوز لكل واحد أن يحكم في المسألة بما أدى إليه اجتهاده.

ثم أنهم إذا [أجمعوا قطعوا بأنه لا يجوز فيها الاجتهاد، وأنه يتعين القول بذلك الحكم] فلو وجبت متابعتهم في كل الأمور لزم أن يجوز الاجتهاد فيها، وأن لا يجوز، وهو قول بالجمع بين النقيضين.

لا يقال: إن جواز الأخذ بمقتضى الإجماع السابق كان مشروطًا بعدم الإجماع البات بعده، فإذا حصل ذلك زال ذلك الحكم لزوال شرطه؛ لأنا نقول: لو جاز أن يكون الإجماع بجواز الأخذ بكلا القولين فيما اختلف فيه على قولين مشروطًا بعدم الإجماع البات بعده لجاز أن يقال: إن الإجماع البات أيضًا مشروط بعدم إجماع بات آخر على خلافه وكذا القول في الإجماع الثاني والثالث، وحينئذ يلزم أن لا يستقر شيء من الإجماعات وهو باطل عندكم.

ص: 2443

والثاني مسلم ونحن نقول بموجبه، فإنه يجب اتباعهم عندنا في الإيمان بالله ورسوله، ولا يلزم منه كون الإجماع حجة، إذ لا يلزم من وجوب اتباعهم في بعض سبيلهم وجوب اتباعهم في كل سبيلهم الذي يحصل [به] الإجماع.

ويؤكد هذا الاحتمال ما يتبادر إلى الفهم من قول القائل: "اتبع سبيل الصالحين" من الأمر باتباع ما صاروا به صالحين.

وكذلك المتبادر من قول السلطان إذا قال: من يشاقق وزيري من الجند ويتبع غير سبيل فلان عاقبتهم، ويشير به إلى المتظاهر بطاعة الوزير. إنما هو الأمر باتباع سبيله في طاعة الوزير، ولو سلم أن هذا المفهوم غير متبادر إلى الفهم وأنه والإجماع سواء في الفهم من الآية، فالحمل على الأمر باتباع سبيلهم في/ (6/ أ) الإيمان أولى؛ لأن ذلك سبيلهم حين نزول الآية، والإجماع ليس سبيلهم إذ ذاك؛ ضرورة أنه لا يحصل إلا بعد وفاة الرسول وحمل الكلام على ما يحصل مقصوده في الحال والمآل أولى من حمله على ما ليس كذلك.

سلمنا: وجوب اتباعهم في كل الأمور، لكن لكل المؤمنين أو لبعضهم؟

والأول مسلم، ولكن كل المؤمنين هم الذين يوجدون إلى يوم القيامة، وإجماعهم على أمر واحد ممتنع، ضرورة عدم بقاء البعض عند وجود البعض الآخر، ولو سلم بقاء القول للميت، فإنه وإن أمكن حصول الإجماع

ص: 2444

على هذا التقدير لكن عند قيام الساعة ومعلوم أنه لا فائدة فيه إذ ذاك إذ لا يمكن الاحتجاج به بعده لارتفاع التكليف.

وإذا كان كل المؤمنين هم الذين يوجدون إلى يوم القيامة وجب أن يكون الموجودون في كل عصر بعضهم فلا يكون إجماعهم حجة.

فإن قلت: المؤمن هو الموجود ضرورة أنه أخص من الشيء، فلا يكون متناولاً لمن لم يكن موجودًا منهم؟

قلت: فعلى هذا يلزم أن تكون الآية دالة إلا على إجماع الصحابة الذين كانوا موجودين عند نزول الآية؛ لأنهم هم الموجودون لا غير إذ ذاك لكن إجماعهم أيضًا ممتنع؛ أما في حياة الرسول فلما مر غير مرة، وأما بعدها فلأنه مات بعضهم فيلزم أن لا يكون شيء من الإجماعات حجة ولو سلم بقاء كل من كان موجودًا عند نزول الآية إلى ما بعد وفاة الرسول لم يتحقق حجية شيء من الإجماعات أيضًا إذ لم ينقل عنهم لا بالتواتر ولا بالآحاد اتفاقهم على حكم واحد في مسألة ما.

والثاني ممنوع، وهذا لأن لفظ "المؤمنين" جمع محلى بالألف واللام فيفيد الاستغراق.

سلمنا: أن المراد منه البعض الذين يوجدون في كل عصر، لكن كل مؤمني ذلك العصر أو بعضهم؟

والأول باطل، وإلا لاعتبر في الإجماع قول العوام، والأطفال، والمجانين وهو باطل وفاقًا.

ص: 2445

والثاني مسلم، فإن عندنا يجب متابعة بعض من يوجد في كل عصر وهو الإمام المعصوم.

سلمنا أن المراد منه: جميع مؤمني كل عصر إلا ما خصه الدليل، لكن بشرط العلم بإيمانهم أولاً بهذا الشرط؟

والأول مسلم، لكنه لا سبيل إليه، لأن الإيمان عبارة: إما عن التصديق بالقلب فقط.

أو هو عبارة عنه وعن غيره نحو الإقرار باللسان، والعمل بالأركان.

وعلى التقديرين لا يمكن الاطلاع عليه، [لأن التصديق القلبي أمر باطن لا يمكن الاطلاع عليه] وإذا امتنع العلم به امتنع الأمر باتباع سبيلهم، ضرورة أن انتفاء الشرط يوجب انتفاء المشروط.

والثاني ممنوع؛ وهذا لأن المأمور يجب عليه أن يأتي بالمأمور به على قصد الامتثال والمأمور به إنما هو اتباع سبيل المؤمنين، فإذا لم يعلم تحقق الإيمان استحال أن يقصد اتباع سبيل المؤمنين.

لا يقال: المراد من المؤمنين المصدقين باللسان في قوله تعالى {ولا تنكحوا

ص: 2446

المشركات حتى يؤمن} فحينئذ يكون الاطلاع عليه ممكنًا؛ لأنا نقول: إطلاق المؤمن على المصدق باللسان مجاز، والأصل في الإطلاق الحقيقة لا سيما في هذا المكان فإن تجويز اتباع المصدق باللسان دون القلب بموجب تجويز اتباع الكافر والمنافق وهو ممتنع.

سلمنا إرادة المجاز، لكن لم قلتم أن ذلك المجاز هو مجازكم؟ ولم لا يجوز أن يكون [ذلك] المجاز غيره؟ لا بد لهذا من دليل.

سلمنا دلالة الآية على كون الإجماع حجة، لكن دلالة قطعية، أو ظنية؟

والأول ممنوع ولا يحتاج إلى سنده لظهوره، والثاني مسلم، لكن المسألة قطعية؛ ولهذا أطبق الفقهاء على أن مخالف الحكم المجمع عليه كافر أو فاسق، فلا يجوز التمسك فيها بالدلائل الظنية.

ثم شنع الإمام على الفقهاء بأنهم أثبتوا الإجماع بعمومات الآيات

ص: 2447

والأخبار، وأجمعوا: على أن المنكر لمدلول العمومات لا يكفر ولا يفسق إذا كان ذلك الإنكار لتأويل، ثم أنهم أطبقوا على أن الحكم الذي دل عليه الإجماع مقطوع به، ومخالفه كافر أو فاسق، وهذا غفلة عظيمة إذ جعلوا الفرع أقوى من الأصل.

الجواب: قوله: لا نسلم أن كلمة من للعموم.

قلنا: قد ثبت ذلك في باب العموم، وقد أجبنا ثمة عن أدلة المخالفين، قوله: لم لا يجوز أن يكون التوعد على الأمرين جميعًا دون كل واحد منهما؟ واعلم أن هذا سؤال مشكل على الاستدلال بهذه الآية.

وقد أجاب الناس بأجوبة لا يكاد يصح واحد منها، فلنذكر بعض ما ذكر في ذلك وهو أجودها ونذكر وجه الخلل فيه.

فالأول: وهو ما أجاب به أبو الحسين البصري، وهو: أن اتباع غير سبيل المؤمنين لو لم يكن محرمًا ومتواعدًا عليه إلا عند مشاقة الرسول لزم أن لا يجب اتباع سبيلهم إلا عند مشاقة الرسول لما ذكرتم من أنه لا واسطة بينهما لكن ذلك محال؛ لأن مشاقة الرسول ليست عبارة عن المعصية كيف كانت، بدليل أنه لا يقال لكل من عصى الرسول أنه مشاق له، بل هي عبارة عن الكفر

ص: 2448

الكفر به وتكذيبه، وإذا كان كذلك فلو لم يجب اتباع سبيل المؤمنين إلا عند مشاقة الرسول [لزم أن لا يجب العمل بالإجماع إلا حالة تكذيب الرسول] وهو محال؛ لأن العلم بكون الإجماع حجة يتوقف على العلم بنبوته عليه السلام فإيجاب العمل به حال عدم العلم بالنبوة إيجاب للشيء المتوقف على الشيء حال عدمه وهو تكليف ما لا يطاق وهو محال.

لا يقال: ما ذكرتم لازم عليكم أيضًا؛ لأن بتقدير أن لا تكون حرمة اتباع غير سبيل المؤنين مشروطة بالمشاقة كان هو حرامًا مطلقًا، أعني حالة المشاقة وحال عدمها، فما هو جوابكم عنه بالنسبة/ (7/ أ) إلى حالة المشاقة، فهو بعينه جوابنا عنه على تقدير اشتراط تحريمه بوجود المشاقة، فإن التزمتم على ذلك التقدير صحة تكليف ما لا يطاق التزمنا نحن أيضًا على تقدير اشتراط تحريمه بالمشاقة؛ لأنا نقول: إذا كان التحريم ثابتًا مطلقًا بحسب دلالة الآية لا يلزم منه إلا تقييد الحكم المطلق ببعض الأحوال لدليل العقل، أما إذا كان مشروطًا به لزم تعطيل النص بالكلية لأن عند عدم المشاقة لا يكون التكليف به ثابتًا لعدم ما يدل عليه وعند وجودها يستحيل التكليف به.

ص: 2449

ومعلوم أن هذا الجواب لا يتأتى لكم، وهو ضعيف؛ لأنا لا نسلم أن المشاقة عبارة عن تكذيب الرسول والكفر به فقط، وما ذكرتم من الدليل لا يدل عليه، بل لو دل فإنما يدل على أنها ليست عبارة عن مطلق المعصية، ولا يلزم منه أن لا يكون عبارة عن بعض منها غير الكفر به وتكذيبه.

سلمنا: دلالة ما ذكرتم على أنها عبارة عن الكفر وتكذيبه، لكنه معارض بما يدل على أنها عبارة عن مطلق المعصية؛ وذلك لأن المشاقة مشتقة من الشق وهو الطرف والناحية، فتكون المشاقة عبارة عن كون أحد الشخصين في شق، والآخر في شق آخر، وذلك يكفي فيه أصل المخالفة سواء بلغ حد الكفر أو لم يبلغ.

سلمنا: سلامته عن المعارض، لكن لا نسلم أن مطلق الكفر ينافي التكليف بالإجماع؛ وهذا لأن كون الإجماع حجة لا يتوقف إلا على صدق الرسول، والكفر الذي ينشأ من تكذيبه ومن عدم العلم بصدقه ينافي التكليف به.

فأما الكفر الذي لا ينشأ منه نحو الذي يحصل من شد الزنار، ولبس الغيار، وإلقاء المصحف في القاذورات، والاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم مع الاعتراف بكونه نبيًا، وإنكار نبوته باللسان مع العلم بكونه نبيًا وما يجري مجراها، فكل ذلك لا ينافي التكليف بالإجماع.

ص: 2450

فإن قلت: هب أنه لا ينافي التكليف به، لكن يلزم منه تكليف الكافر بالعمل بالإجماع وهو ممتنع أيضًا.

قلت: لا نسلم امتناعه وقد تقدم ما يدل على أنه ليس كذلك حيث بينا أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع.

سلمنا أن مطلق الكفر ينافي التكليف به، لكن لم قلتم أن ذلك غير جائز؟ وقد تقدم ما يدل على جوازه.

واعلم أنه لو سلم امتناع تكليف ما لا يطاق، وامتناع كون الكفار مخاطبين بفروع الإسلام لمشى هذا الجواب، إذ الجواب عن المانعين الآخرين ممكن يعرف بالتأمل.

وثانيها: وهو ما ذكره الإمام رحمه الله وهو: أن المعلق بالشرط، إن لم يكن عدمًا عند عدم الشرط فقد حصل الفرض.

إن كان عدمًا عند عدمه لم تكن حرمة اتباع غير سبيل المؤمنين مشروطة بالمشاقة والإلزام أن يكون اتباع غير سبيل المؤمنين جائزًا مطلقًا عند عدم المشاقة ضرورة أن المعلق بالشرط عدم عند عدمه لكن ذلك باطل؛ لأن مخالفة الإجماع وإن لم تكن خطأ، لكن لا شك في أنها لا تكون صوابًا مطلقًا فبطل ما ذكروه.

وهو أضعف من الأول.

أما الأول: فلأنا لا نسلم أنه يحصل الغرض من القسم الأول؛ وهذا لأنه يجوز أن لا يكون المعلق بالشرط عدمًا عند عدمه وتكون حرمة اتباع غير سبيل المؤمنين، وكونه متوعدًا عليه عدمًا عند عدم المشاقة بخصوصيته، وهذا يسهل

ص: 2451

دفعه بأن يردد في نفس هذه الصورة. بأن يقال: حرمة اتباع غير سبيل المؤمنين إن لم يكن عدمًا عند عدم المشاقة فقد حصل الغرض.

وأما ثانيًا: فلأنه إن عنى بقوله "مطلقًا" في قوله: وإن كان عدمًا عند عدمه لزم أن يكون اتباع غير سبيل المؤمنين جائزًا مطلقًا، الكل أي يجوز اتباع كل واحد مما هو غير سبيل المؤمنين فهذا غير لازم، إذ انتفاء حرمة اتباع كل واحد من سبيلهم لا يستلزم جواز اتباع كل واحد من سبيلهم؛ لأن دفع السلب الكلي لا يستلزم الإثبات الكلي.

وإن عنى به الجواز في الجملة أي يجوز اتباع بعض ما هو غير سبيلهم حينئذ فهذا حق؛ لأن انتفاء السلب الكلي يستلزم الإثبات الجزئي، لكن لا نسلم بطلانه، بل هو مذهب الخصم وما ذكره من الدلالة عليه فهو غير صحيح لأنه إن عنى بالصواب مفهومًا زائدًا على الجواز فبتقدير تسليم أن مخالفة الإجماع لا يكون صوابًا فهذا المعنى لم يحصل المقصود، ولأن انتفاء الصواب حينئذ لا يستلزم انتفاء الجواز أن يكون انتفاؤه بانتفاء ذلك المفهوم الزائد.

وإن عنى به ما هو المعنى من نفس الجواز يناقض كلامه؛ لأن معنى قوله: ليس بصواب حينئذ هو أنه ليس بجائز، وما ليس بجائز يكون خطأ قطعًا، فيلزم أن يكون خطأ على تقدير أن لا يكون خطأ وهو متناقض.

سلمنا عدم التناقض، لكن لا نسلم أن خلاف الإجماع ليس بصواب مطلقًا؛ وهذا لأن معناه على التقدير أن خلافه ليس بجائز في الجملة، وأنه غير مسلم عند الخصم، بل هو مذهبه، فكيف يمكن أن يقال لا شك أن خلافه ليس بجائز في الجملة.

هذا إن أراد بقوله "مطلقًا" في قوله: ليس بصواب مطلقًا كونه كذلك في الجملة.

ص: 2452

وإن أراد به أنه كذلك في كل الصور فمسلم أنه ليس بصواب، لكن لا يحصل منه المقصود وهو حجية الإجماع، فإن ذلك إنما يحصل إن لو لم تجز مخالفته في صورة ما.

وثالثها: وهو ما ذكر بعضهم أن الوعيد إذا ترتب على أمرين اقتضى ذلك ترتبه على كل واحد منهما وعليهما معًا، يدل عليه قوله تعالى:{والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثامًا} ، فإن الإثم كما هو مترتب على/ (8/ أ) فعل الجميع مترتب على فعل كل واحد منها.

وهو ضعيف أيضًا؛ لأنا لا نسلم أن ترتب الوعيد على كل واحد منها مستفاد من هذا النص، بل من دليل آخر وهو ما يدل على كون كل واحد منها محرمًا.

ثم الذي يدل على أنه غير مستفاد من هذا النص هو: أنه لو كان مستفادًا منه لزم أيضًا ترتب ضعف العذاب على كل واحد منها لقوله تعالى: {يضاعف له العذاب} وبالإجماع ليس كذلك.

فإن قلت: مقتضى الآية ذلك لكن خرج ذلك بدليل آخر.

قلت: ليست إحالة عدم ترتب ضعف العذاب على فعل كل واحد منها إلى دليل آخر أولى من إحالة ترتب الإثم على فعل كل واحد منها إلى دليل آخر بل هذا أولى لأنه لا يلزم منه التعارض، وأما على ذلك التقدير فإنه يلزم منه التعارض وهو خلاف الأصل.

وأيضًا: الرجل إذا قال لزوجته: "إن دخلت الدار وأكلت فأنت طالق"

ص: 2453

فإنها لا تطلق بفعل أحدهما إجماعًا، ولو كان ما ذكرتم مقتضى الكلام لما انعقد الإجماع على خلافه، إذ ليس له دليل آخر بالأصل، ولما سبق من استلزام ذلك التعارض.

ورابعها: أجمعنا على أن مشاقة الرسول وحدها يترتب عليها الوعيد المذكور وذلك يدل على ترتب الوعيد المذكور على اتباع غير سبيل المؤمنين وحده أيضًا؛ إذ ليس للنص إشعار بترتب الوعيد على خصوصية المشاقة، بل لو دل فإنما يدل على ترتبه على المجموع وعلى كل واحد منهما، فأما أن يدل على أحدهما دون الآخر فلا ولما دل على أحدهما دل على الآخر أيضًا.

وهو أيضًا من جنس ما سبق؛ لأنا لا نسلم أن ذلك مستفاد من هذه الآية بل من دليل آخر.

فإن قلت: الأصل عدم الدليل فيجب أن يكون مستفادًا من هذا الدليل لئلا يلزم القول بغير دليل؛ لأنا نقول: إن ذلك الدليل معلوم بالضرورة من دين محمد عليه السلام فلا يمكن الاستدلال بالأصل على نفيه.

وخامسها: وهو أنه لا خلاف في التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين، فأما أن يكون ذلك لمفسدة متعلقة به أو لا لمفسدة، لا جائز أن يقال بالثاني، فإن ما لا مفسدة فيه لا تواعد عليه وفاقًا، وإن كان الأول فالمفسدة في اتباع غير سبيل المؤمنين أما أن يكون من جهة مشاقة الرسول، أو لا من جهتها

فإن كان الأول فذكر المشاقة كاف في التواعد لما قيل ولا حاجة إلى قوله "ويتبع غير سبيل المؤمنين".

وإن كان الثاني لزم التواعد لتحقق المفسدة سواء وجدت المشاقة أو لم توجد.

ص: 2454

وهو أيضًا ضعيف؛ لأنا نختار من جملة الأقسام المذكورة أنه كان التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين لمفسدة متعلقة به لكن بشرط وجود المشاقة.

وقوله في الدلالة على فساده: فذكر المشاقة كاف في التوعد من غير حاجة إلى قوله {ويتبع غير سبيل المؤمنين} ممنوع، وهذا لأنه إنما يكون كاف لو كانت المشاقة مستقلة باقتضاء تلك المفسدة، وأما إذا لم تكن مستقلة بذلك فلا، ولو عنى بقوله: فالمفسدة في اتباع غير سبيل المؤمنين إما أن يكون من جهة مشاقة الرسول، أو لا من جهتها أن تكون المشاقة مستقلة باقتضاء تلك المفسدة منعنا القسم الثاني، وهو أنه يلزم التواعد على اتباع غير سبيل المؤمنين بدون المشاقة إذ لا يلزم من استقلالها أن لا يكون لها مدخل في تحقق المفسدة المتعلقة باتباع غير سبيل المؤمنين.

والأولى في ذلك وجهان:

أحدهما: أن مشاقة الرسول من جملة غير سبيل المؤمنين، فلو كانت شرطًا في حرمة اتباع غير سبيل المؤمنين لزم أن تكون حرمة الشيء مشروطًا بوقوعه وهو مناقض للمعنى المقصود من التحريم، فإن المقصود من تحريم الشيء منع إدخاله في الوجود، ولأن الفعل بعد ما وجد لم يبق متعلق التكليف وفاقًا وكونه محرمًا بعده يقتضي ذلك فالجمع بينهما متناقض.

لا يقال: ما ذكرتم إنما يلزم لو كانت حرمة المشاقة منحصرة في جهة كونها غير سبيل المؤمنين لكنه ليس كذلك ليس كذلك؛ لأنها محرمة لخصوص جهة المشاقة أيضًا، وحرمتها بهذا الاعتبار غير مشروطة لوقوع نفسها فلا يلزم ما ذكرتم من المحذورين؛ لأنا نقول: نحن ما ادعينا أنه يلزم أن لا تحرم المشاقة إلا بعد

ص: 2455

وقوعها وأنها لا تبقى متعلق التكليف إلا بعد وقوعها حتى يكون ما ذكرتم قادحًا فيه بل ادعينا أن اعتبار شرطية المشاقة في تحريم اتباع غير سبيل المؤمنين يستلزم المحذور المذكور فيكون باطلاً [وما] ذكرتم غير قادح فيما ذكرناه.

وثانيهما: أن الآية سيقت لتعظيم الرسول، ولتعظيم مجموع المؤمنين، وذلك إنما يحصل لو حرم كل واحد منهما بدون الآخر، وإلا لم يحصل هذا المقصود بل تعظيم مجمول الرسول تعظيم لهم لئلا يلزم الترك بسياق الآية وإذا كان كذلك وجب القول بأنه لا تشترط المشاقة في تحريم اتباع غير سبيل المؤمنين كما لا يشترط هو في تحريمها تعظيمًا للرسول.

قوله: الآية دالة على حرمة اتباع بعض ما هو غير سبيل المؤمنين لا على حرمة اتباع الكل لأن لفظ السبيل والغير مفرد.

قلنا: بل هي دالة على حرمة الكل لوجوه:

أحدها: أنهما وإن كانا مفردين لكنهما مضافان إلى الجمع المعرف باللام وهو يفيد العموم، فكذا ما أضيف إليه ويصير المعنى على هذا: ويتبع كل واحد مما هو غير سبيل المؤمنين.

وثانيها: أن/ (9/ أ) الرجل إذا قال: "من دخل غير داري ضربته" فهم منه العموم، ولهذا يصح منه استثناء كل واحد من الدور المغايرة لداره.

ص: 2456

وثالثها: أنا لو لم نحمله على العموم فإما أن نحمله على بعض معين منه وهو باطل، [إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه أو على بعض غير معين وهو أيضًا باطل] لما فيه من الإجمال، أو لا يحمل على شيء وهو أيضًا باطل وهو ظاهر، فيتعين الحمل على العموم.

ورابعها: أن ترتيب الحكم على الاسم يشعر بكون المسمى علة لذلك الحكم، فعلة التهديد والتوعد هو كونه اتباعًا لغير سبيل المؤمنين فيعم الحكم لعموم علته.

قوله: العمل على البعض متعين وهو ما صاروا به مؤمنين.

[قلنا: قد تقدم أنه للعموم فيجب إجراؤه على العموم وأما قوله أولاً: إن الفهم يتبادر إليه].

قلنا: ممنوع.

سلمناه لكنه وجد هنا ما يدل على أن المراد منه ليس ما ذكرتم؛ وذلك لأنه لو كان المراد منه ما ذكرتم لزم التكرار ضرورة أنه لا معنى لمشاقه الرسول إلا اتباع غير سبيل المؤمنين فيما صاروا به غير مؤمنين، فيكون النهي عنه نهيًا عن اتباع غير سبيل المؤمنين فيما صاروا به غير مؤمنين، وهذا إنما يتم لو كانت المشاقة هي الكفر، فأما إذا كانت أعم منه أو أخص فلا، إذ لا يلزم من نهى الشيء نهى ما هو أعم منه أو أخص للتكرار.

سلمنا دلالة ما ذكرتم لكنه معارض ببعض ما تقدم.

وأما قوله ثانيًا: إن الآية وردت في رجلٍ ارتد.

ص: 2457

قلنا: قد تقدم في باب العموم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوصية السبب.

قوله: لو حمل على الكل لا يفيد أيضًا.

قلنا: ذاك لو حمل على الكل من حيث إنه كل، فأما إذا حمل على كل واحد واحد كما تقدم فإنه يحصل المقصود ولا شك أنه هو المتبادر إلى الفهم، فإن الرجل إذا قال:"من دخل غير داري فله كذا" فإنه لا يفهم منه: أنه أراد به من دخل جميع الدور المغايرة لداره ولهذا يستحق الجزاء بدخول أي دار كانت غير دوره.

قوله: لم قلت: إنه يلزم من حرمة اتباع غير سبيل المؤمنين وجوب اتباع سبيلهم؟

قلت لوجهين:

أحدهما: أنه يفهم في العرف من قول القائل: "لا تتبع غير سبيل الصالحين" الأمر بمتابعة سبيلهم، ولهذا لو صرح بالنهي عن متابعة سبيلهم معه وقال: لا تتبع سبيلهم أيضًا عد متناقضًا.

نعم لو قال: "لا تتبع سبيل غير الصالحين" فإنه لا يفهم منه الأمر بمتابعتهم، ولهذا لو صرح معه بالنهي عن متابعتهم أيضًا بأن قال:"ولا تتبع سبيلهم أيضًا" لم يعد متناقضًا فإذا كان كذلك كان التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين أمرًا باتباع سبيلهم.

وثانيهما: أن غيرها هنا بمعنى إلا؛ بدليل أنه لو كان بمعنى الصفة لزم إضمار الموصوف، والإضمار خلاف الأصل، فما يفضي إليه يكون أيضًا كذلك

ص: 2458

كذلك، وجعل غير بمعنى إلا وإن استلزم التجوز لكنه خير من الإضمار، وحينئذ يصير المعنى: ومن يشاقق الرسول ويتبع إلا سبيل المؤمنين، ومعلوم أنه لو قال هذا لأفاد إيجاب اتباع سبيلهم فكذا هذا.

قوله: "إنما يجب اتباع سبيلهم بشرط تبين الهدى".

قلنا: لا نسلم؛ وهذا لأن قوله: "ويتبع غير سبيل المؤمنين" مطلق فتقييده بتبين الهدى خلاف الأصل، وكونه معطوفًا على المشاقة المشروطة بتبين الهدى لا يقتضي أن يكون أيضًا مشروطًا بتبين الهدى؛ إذ العطف لا يقتضي اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في جميع الأمور ولو سلم ذلك، لكنه يقتضي تبين دليل التوحيد والنبوة فقط؛ لأنه هو الهدى الذي شرط تبينه في المشاقة لا أدلة الفروع، وحينئذ لو شرط تبين أدلة الفروع في وجوب اتباع غير سبيل المؤمنين فإما أن يكون ذلك لأن العطف يقتضي الاشتراك بينهما في جميع الأمور وهو باطل؛ لأنه غير مشروط في المعطوف عليه، أو لغيره والأصل عدمه.

ولو سلم وجود ما يقتضيه لكنه معارض بوجهين:

أحدهما: أنه لو شرط في وجوب اتباع غير سبيل المؤمنين تبين دليله لخرج ذلك عن أن يكون اتباعًا لسبيلهم؛ لأن من يقول قولاً بناء على دليل لا يعد متبعًا لأحد وإن وافقه في ذلك، ولذلك لا يعد المسلمون متبعين لليهود والنصارى في القول بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام وهو خلاف مدلول الآية.

ص: 2459

وثانيهما: أن هذه الآية خرجت مخرج التعظيم والمدح للمؤمنين، وتمييزهم عن غيرهم، فلو شرط في وجوب اتباعهم تبين دليل ما يتبعون فيه لم تكن الآية مدحًا لهم لأنه لا منقبة للنصارى واليهود في أن يقول المسلمون بقول من أقوالهم عند معرفة دليله.

سلمنا سلامته عن المعارض، لكن لا نسلم أنه لم يبق إذ ذاك في التمسك بالإجماع فائدة؛ وهذا لأنه حجة قطعية غير قابل للنسخ والتخصيص بخلاف غيره من الأدلة.

قوله: "لفظ السبيل غير مستعمل في حقيقته".

قلنا: لا نسلم بل هو عندنا حقيقة في الطرائق والأقوال والأفعال التي يختارها الإنسان لنفسه بحسب قدر مشترك؛ وهذا لأنه مستعمل في الكل كثيرًا قال الله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك} ، {قل هذه سبيلي} ، و {من أهدى سبيلاً} ، و {من أضل سبيلاً} ، والأصل في الاستعمال الحقيقة الواحدة.

سلمنا أنه مجاز لكن لا نسلم أن الحمل على دليل الحكم أو الاستدلال عليه أولى من الحمل على نفس الحكم، وما ذكروه من الدلالة وإن دل عليه لكن لفظ الاتباع يمنع من حمله عليه إذ المتمسك بالدليل لا يكون متبعًا/ (10/ أ).

ص: 2460

سلمنا ذلك لكنه لا يخل بمقصودنا وذلك، لأنه تعالى لما أمرنا بمتابعة دليلهم أو استدلالهم: دل ذلك على أنه حق وصواب مطلقًا، وإلا لما أمرنا باتباعه مطلقًا، وذلك يستدعي حقيقة ما أجمعوا عليه مطلقًا فيجب اتباعه.

واحترزنا بقولنا: "مطلقًا" مما أدى إليه اجتهاد المجتهد على قولنا: إن كل مجتهد مصيب، فإنه وإن كان حقًا لكنه ليس مطلقًا لكن بالنسبة إليه أو بالنسبة إلى من يقلده.

قوله: "وجوب الاتباع أعم من وجوب الاتباع في كل الأمور، أو في بعضها والدال على العام لا يدل على الخاص".

قلنا: الآية دالة على وجوب اتباع سبيلهم في كل الأمور، بدليل صحة الاستثناء، وبدليل الإيماء فإن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فيشعر أنه إنما وجب اتباع سبيل المؤمنين [لكونه سبيل المؤمنين] فيعم الحكم لعموم علته، وأيضًا لما حرم اتباع كل ما هو غير سبيل المؤمنين وجب اتباع كل ما هو سبيلهم؛ ضرورة أنه لا واسطة بينهما، وهذا إنما يتم إن لو لم يجعل عدم الاتباع واسطة.

قوله: "لا يجب اتباعهم في بعض الأمور قطعًا".

قلنا: ندعي وجوب اتباعهم [في كل الأمور إلا ما خصه الدليل وما ذكرتم من الأمور خصه الدليل] فيبقى فيما عداه باق على دلالته.

قوله: "الحمل على ما صاروا به مؤمنين أولى".

ص: 2461

قلنا: لا نسلم، أما الوجه الأول [فلا نسلم] تبارد الفهم إليه [وهذا] لأن للآمر أن يذم المأمور ويوبخه على ترك بعض السنن والمندوبات التي لهم مع أنهم ما صاروا به صالحين، بل إنما صاروا صالحين بفعل الواجبات، وترك المنهيات، ولولا أنه للعموم لما صح الذم، ولو سلم ذلك لكن لم يمكن ذلك في الإيمان؛ لأنه لا يحصل بالتقليد، والاتباع إنما يكون بالتقليد على ما عرفت ذلك غير مرة؛ ولأن الحمل عليه يقتضي التكرار والتأكيد، فإن القرآن مشحون بالتحذير عن الكفر والحث على الإيمان، فلو حمل هذه الآية عليه لزم التأكيد، ولو حمل على جميع سبيلهم يحصل فائدة جديدة لم تحصل من غيرها فكان الحمل عليه أولى.

وبهذين الأخيرين عرف الجواب أيضًا عن قوله: "الحمل على الإيمان أولى لكونه حاصلاً عند نزول الآية".

وأما الوجه الثاني: فجوابه أنا لو سلمنا فهم ما ذكرتم منه دون العموم فإنما هو لقرينة عرفية اقتضت، وإلا فهو من حيث اللفظ يفيد التعميم لما سبق.

قوله: " [يجب] اتباع كل المؤمنين أو البعض".

قلنا: الكل إلا ما خصه الدليل.

قوله: "الكل هم الذين يوجدون إلى يوم القيامة.

قلنا: ممنوع، وسنده ما سبق.

قوله: "فحينئذ لا يتناول إلا إجماع الموجودين عند نزول الآية، وحينئذ يلزم أن لا يكون شيء من الإجماعات حجة بالتقدير الذي سبق.

ص: 2462

قلنا: لما تعذر الحمل على الكل الذين يوجدون إلى يوم القيامة، وعلى الموجودين عند نزول الآية، وجب حمله على كل مؤمني عصر دفعًا للتعطيل.

قوله: "يحمل على كل مؤمني كل عصرٍ أو على بعضهم؟

قلنا: على كلهم إلا ما خصه الدليل، نحو العوام والمجانين والصبيان.

قوله: "نحمله على الإمام المعصوم".

قلنا: حمل لفظ الجمع على الواحد غير جائز عند الأكثرين، ومن جوز قال: إنه مجاز نادر لا يجوز الحمل عليه ما دام أمكن الحمل على ما يتحقق فيه معنى الجمع.

لا يقال: نحن لا نحمل على الإمام المعصوم بل على الأئمة المعصومين لأنا نقول: لا وجود لإجماعهم قبل يوم القيامة، وبعده لا فائدة فيه، ولو اعتبر إجماع ثلاثة أو أربعة منهم لزم الترجيح من غير مرجح.

قوله: "الإيمان أمر باطن لا يمكن الاطلاع عليه".

قلنا: لا نسلم؛ وهذا لأنه عندنا حقيقة في الإقرار باللسان فيحمل عليه، وحينئذ يمكن الاطلاع عليه، فلم قلت: إنه ليس عبارة عنه بطريق الحقيقة؟ لا بد لهذا من دليل.

سلمنا أنه ليس حقيقة فيه، فلم لا يحمل عليه؟

قوله: "يلزم منه التجوز وأنه خلاف الأصل".

قلنا: التجوز خير من تكليف ما لا يطاق.

ص: 2463

سلمنا أنه حقيقة في التصديق القلبي، وأنه هو المراد من الآية، لكن لا نسلم أنه لا يمكن الاطلاع عليه على وجه العلم، وهذا لأنه يجوز أن يعلم بالقرائن الظاهرة، فإن الأمور الباطنة كالحب، والبغض، والعلم، والجهل قد تعلم بالقرائن الظاهرة.

سلمنا أنه لا يمكن الاطلاع عليه على وجه العلم، لكن لا شك في إمكان الاطلاع عليه على وجه الظن، فلم لا يكتفى به في هذا المكان كما اكتفى به في مواضع كثيرة من التكاليف؟

فلو قال: أنه تجويز لاتباع من يجوز أن يكون كافرًا.

قلنا: نعم لكن لم قلتم أن ذلك ممتنع؟ وهذا لأنه يجوز قتل المسلم بغلبة الظن بأنه كافر، فلم لا يجوز اتباع من ليس بمؤمن بناء على غلبة الظن بأنه مؤمن في مسألة فرعية؟

قوله: "سلمنا دلالة الآية لكن دلالة ظنية، أو قطعية؟

قلنا: دلالة ظنية.

قوله: "المسألة علمية فلا يجوز التمسك فيها بما يفيد الظن".

قلنا: لا نسلم أن المسألة علمية بل هي عندنا ظنية.

سلمنا، لكن لم لا يجوز التمسك فيها بأدلة كل واحد منها وإن كان لا يفيد إلا الظن، لكن مجموعها يفيد القطع واليقين؟

والمقصود من هذه الأدلة تقوية الظنون إلى أن تنتهي إلى حد العلم.

ومن هذا يعرف أن تشنيع الإمام غير واقع في موقعه؛ لأنهم حيث لم يكفروا ولم يفسقوا المنكر مدلول العمومات، فإنما لم يكفروا ولم يفسقوا،

ص: 2464

لأنه لم تتظافر عليه عمومات مجموعها يفيد القطع واليقين، أو ظنًا قريبًا منه.

وأما إذا كان مدلولاً لمثل هذه العمومات أعنى مثل عمومات الإجماع، فلا نسلم أنهم لم يكفروا ولم يفسقوا المنكر مدلولها، والإجماع من جملة ما تظافر عليه أدلة مجموعها يفيد القطع وإن لم يفد كل واحد منها ذلك.

وثانيها: قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على/ (11/ أ) الناس} .

ووجه الاحتجاج به: أنه وصف الأمة بكونهم أمة وسطًا، و"الوسط" هو العدل والخيار من كل شيء.

قال الله تعالى: {قال أوسطهم} ، أي أعدلهم وخيارهم.

وقال عليه السلام: "خير الأمور أوساطها" أي أعدلها.

ص: 2465

وروي عنه أنه قال: "عليكم بالنمط الأوسط" أي الأعدل.

وقيل: "إنه عليه السلام أوسط قريش نسبًا" أي أخيرهم وأعدلهم.

وقال الشاعر:

هم وسط يرضي الأنام بحكمهم .... إذا طرقت إحدى الليالي بمعظم

ص: 2466

أي عدول. وإذا كانوا عدولاً وخيارًا بتعديل الله تعالى وجب أن لا يجوز منهم صدور شيء من المحظورات، ولا نعني بكون الإجماع حجة سوى هذا.

فإن قيل: لا نسلم أنه وصف الأمة بالوسط، بل وصف المخاطبين بكونهم أمة وسطًا ولا يلزم منه وصف الأمة بكونهم أمة وسطًا.

سلمناه، لكن الأمة أيضًا لا يتناول إلا الموجودين، فلو دلت الآية على عدالة الأمة فإنما تدل على عدالة الموجودين لا غير، فليس في دلالتها على عدالة الأمة زيادة على دلالتها على عدالة المخاطبين فإنه على التقديرين يختص بالموجودين حالة نزول الآية.

سلمنا: تناوله للموجودين في كل عصر، لكنه متروك الظاهر؛ لأن ظاهره يقتضي عدالة كل واحد واحد من الأمة وهي ثابتة، للعلم الضروري أن كل واحد من الأمة ليس بعد ولا خيار لصدور المحظورات منهم، وحينئذ يجب حمله على المجاز وليس البعض أولى من البعض، فتبقى الآية مجملة فلا يصح بها الاستدلال.

سلمنا: أن البعض منه أولى من البعض الآخر، لكن ليس الحمل على

ص: 2467

الموجودين في كل عصر أولى من الحمل على الأئمة المعصومين.

سلمنا ذلك، لكن لا نسلم أن الوسط هو العدل، وما ذكرتم من الدلالة عليه فهو معارض بوجهين:

أحدهما: أن العدالة من فعل العبد، ضرورة أنها عبارة عن فعل الواجبات واجتناب المحرمات، وكونهم وسطًا من فعل الله تعالى لصراحة قوله تعالى:{وكذلك جعلناكم أمة وسطًا} فوجب أن يكون كونهم عدولاً غير كونهم وسطًا.

وثانيهما: أن "الوسط" حقيقة فيما يكون متوسطًا بين الشيئين، فلو كان حقيقة أيضًا في العدالة لزم الاشتراك وأنه خلاف الأصل.

سلمنا سلامته عن المعارض لكن لا نسلم أن كونهم عدولاً وخيارًا يقتضي أن لا يصدر منهم شيء من المحظورات؛ وهذا لأن الصغائر لا تقدح في العدالة، وحينئذ يجوز إجماعهم على الخطأ الذي هو من باب الصغائر.

سلمنا ذلك لكن إنما جعلهم عدولاً ليكونوا شهداء على الناس في الآخرة بتبليغ الأنبياء الرسالة إليهم وذلك يقتضي عدالتهم في ذلك، فلم قلتم

ص: 2468

أنهم عدول في غيره؟ وهذا لأن العدالة تتجزأ، فإن الرجل قد يكون عدلاً في شيء دون شيء.

سلمنا أنها لا تتجزأ وأنه يقتضي أن يكونوا عدولاً في كل شيء لكن بالنسبة إلى وقت أداء الشهادة، أو مطلقًا؟.

والأول مسلم، والثاني ممنوع، وهذا لأن عدالة الشهود لم تعتبر إلا وقت الأداء، دون وقت التحمل، ولا شك أن وقت الأداء إنما هو الدار الآخرة فيقتضى تحقق عدالتهم فيها فقط.

سلمنا دلالة الآية على تحقق عدالتهم في الدنيا والآخرة لكن على وجه القطع، أو على وجه الظن؟

والأول ممنوع، وسنده ظاهر.

والثاني مسلم، لكنه لا يفيد إذ المسألة علمية فلا يجوز التمسك فيها بالدليل الظني.

سلمنا دلالته على تحقق العدالة قطعًا، لكن العدالة تدل على عدم صدور الخطأ ظاهرًا، أو قطعًا؟

والأول مسلم، ولا يفيد، إذ الإجماع حينئذ يصير حجة ظنية. وأنتم لا تقولون به.

والثاني ممنوع، إذ من المعلوم أن العدالة لا تدل على عدم صدور الخطأ على وجه القطع.

ص: 2469

الجواب: قوله: "وصف المخاطبين بالوسط لا الأمة.

قلنا: خطاب المشافهة لا يتناول سوى الموجودين، والأمة أيضًا لا تتناول إلا الموجودين على ما ذكرتم، وساعدناكم عليه، فيكون وصف المخاطبين بذلك يقتضي وصف الأمة بذلك.

قوله: "الآية إنما تدل على عدالة الموجودين لا غير.

قلنا: سبق الجواب عنه في المسلك الأول.

قوله: "الآية متروكة الظاهر وليس البعض أولى من البعض فتكون مجملة".

قلنا: لا نسلم أن ليس البعض أولى من البعض، وهذا لأن الحمل على الموجودين في كل عصر أولى دفعًا للتعطيل.

قوله: "ليس الحمل عليه أولى من الحمل على الأئمة المعصومين".

قلنا: قد مر الجواب عنه في الدليل الأول.

قوله: "لا نسلم أن الوسط هو العدل".

قلنا: قد مر الدليل عليه في وجه الاستدلال.

قوله: في المعارضة الأولى "العدالة من فعل العبد".

قلنا: لا نسلم، وهذا لأن أفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى عندنا ولو قال: العدالة من كسب العبد، وكونهم وسطًا ليس من كسبهم [فلا يكون كونهم وسطًا عبارة عن كونهم عدولاً، منعنا الثاني، وهذا لأن قوله:{وكذلك جعلناكم أمة وسطًا} لا دلالة فيه على أن ذلك ليس من

ص: 2470

كسبهم]

قوله في الوجه الثاني "الوسط اسم للمتوسط حقيقة فلا يكون حقيقة في العدالة".

قلنا: هو حقيقة فيه بحسب قدر مشترك بينه وبين العدالة وهو: البعد عن الطرفين لا بحسب الخصوصية، وحينئذ لا يلزم ما ذكرتم من المحذور ولو ادعيتم أنه حقيقة فيه بحسب الخصوصية منعناكم.

ثم الذي يدل على مرجوحيته أنه يستلزم الاشتراك أو التجوز وكلاهما خلاف الأصل/ (12/ أ) وما ذكرنا لا يستلزم شيئًا من هذا فكان أولى.

قوله: "الصغائر لا تقدح في العدالة".

قلنا: لا صغيرة على الإطلاق، بل كل ذنب فإنه صغيرة بالنسبة إلى ما فوقه، كبيرة بالنسبة إلى ما تحته فقد سقط هذا السؤال.

وأما أن قيل: بأن الصغائر والكبائر ثابتة على الإطلاق، فقد أجيب عنه على هذا التقدير: أن الله تعالى أخبر عنهم بكونهم عدولاً، والأصل أن يكون ذلك حقيقة في نفس الأمر، لكونه عالمًا بالخفيات، والحاكم إذا علم من حال شخص أنه غير عدل في نفس الأمر لا يخبر عنه بأنه عدل.

ص: 2471

وهو ضعيف، إذ لا نزاع في أنه تعالى إذا أخبر عن عدالتهم تكون عدالتهم ثابتة، وإنما الكلام في أن العدالة هل تقتضي المنع من الصغائر أم لا؟ وما ذكره لا يفيده، ثم الذي يدل على أنه لا يمنع من تجويز الصغائر أن الفرق بين العصمة والعدالة معلوم، فلو اقتضت العدالة المنع من الصغائر والكبائر لما بقى بينهم فرق.

فإن قلت: الفرق بينهما: أن العصمة تمنع من التجويز، والعدالة لا تمنع منه وإنما تمنع من الوقوع.

قلت: من يقول بأن الإجماع حجة لا يجوز منهم صدور الخطأ إلا أنه لا يقع منهم مع جواز أن يقع ذلك منهم.

وأيضًا: لو كانت الصغائر تقدح في العدالة لقدحت في عدول القضاة، إذ العدالة غير مختلفة بالنسبة إلى كل الأمة وإلى بعضها.

وما قال الإمام في دفع هذا وهو "أنه لا اطلاع للقضاة على بواطن الأمور فلا جرم اكتفى بالعدالة الظاهرة، بخلاف الله تعالى فإنه عالم بظواهر الأمور وبواطنها، فإذا أطلق العدالة عليهم وجب أن يكونوا عدولاً في كل شيء".

فليس بدافع، لأنه مبني على أن العدالة الظاهرة والباطنة تمنع من الذنوب كلها صغائرها وكبائرها وهو ممنوع لما سبق، وأيضًا [العدالة إذ لم تثبت باطنًا لم تمنع من الكبائر أيضًا فلا معنى لجعل] العدالة الظاهرة مانعة من الكبائر دون الصغائر.

واعلم أنه يمكن تقرير الدلالة على أن العدالة متى تحققت وجب أن تمنع من المعاصي كلها، بأن يقال:

ص: 2472

العدالة عبارة عن هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة [والأصل ترتب المقتضى على المقتضى، ولا شك أن الإتيان بالصغيرة يخل بالتقوى]، إذ التقوى بالاتقاء عن المعاصي، والصغيرة معصية فلو صدرت مع تحقق العدالة لزم عدم ترتب المقتضى على المقتضى وهو خلاف الأصل لكن هذا إنما يدل على عدم جواز صدورها عمدًا، فأما سهوًا أو نسيانًا فلا، إذ الإتيان بالمعصية على وجه السهو أو النسيان لا يخل بالتقوى وحينئذ لم يلزم حجية الإجماع.

قوله: "إنما جعلهم عدولاً ليكونوا شهداء على الناس في الدار الآخرة بتبليغ الأنبياء الرسالة إليهم".

قلنا: هذا تقييد للمطلق، لأن قوله {لتكونوا شهداء على الناس} ، مطلق غير مقيد بشيء دون شيء، فتقييده بالشهادة على تبليغ الرسالة خلاف الأصل بل هو متناول له ولغيره إذا صح نقل هذا القول عن السلف، وإلا كان الحمل عليه بعيدًا، لأن الأمم السالفة شاهدت الرسل [و] المرسل إليهم، وكثير منهم من آمن بهم، فشهادتهم على المنكرين منهم أولى ممن لم يشاهد ذلك.

قوله: "الآية تقتضي عدالتهم في الدار الآخرة".

قلنا: لا نسلم [هذا]، لأن قوله:{وكذلك جعلناكم} يقتضي أن جعلهم وسطًا في الماضي، ولو كان [المراد] جعلهم عدولاً في الدار

ص: 2473

الآخرة لقال "سيجعلكم" ولأن الأمم كلها عدول في الدار الآخرة، إما لعدم صدور المعاصي منهم فيها، أو وإن صدر من بعضهم الكذب كإنكار المعاصي كما حكى الله تعالى عنهم في الكتاب العزيز في مواضع، لكنهم غير مؤاخذين به لارتفاع التكاليف، وحينئذ لم يكن في تخصيص أمة محمد صلى الله عليه وسلم بذلك مزيد فائدة.

وكونه جعلهم وسطًا ليكونوا شهداء على الناس في الدار الآخرة على تقدير تسليمه لا يقتضي أن يكونوا عدولاً في غيرها، لجواز أن تعدل في وقت وتتراخى الشهادة عنه.

قوله: "دلالة الآية على تحقيق العدالة ظنية، وكذلك دلالة العدالة على عدم الخطأ ظنية، فلا يجوز التمسك بها.

قلنا: قد مر الجواب عنه في المسلك الأول.

وثالثها: قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} .

ووجه الاستدلال به: أنه تعالى أخبر عنهم أنهم خير أمة، لأمرهم بالمعروف

ص: 2474

ونهيهم عن المنكر، والمراد من المعروف والمنكر: كل المعروف وكل المنكر، أما إن قيل: بأن المفرد المحلى بالألف واللام للعموم فظاهر، إذ هو حقيقة في الاستغراق حينئذ والأصل عدم الصارف عنه.

وأما إن لم نقل بذلك فيجب حمله على العموم هنا أيضًا، لأنه لو لم يحمل عليه، فإما أن يحمل على المعهود وهو إما ما يصح به الدين، أو غيره.

والأول باطل، لأنه ليس في تخصيص هذه الأمة بذلك زيادة منقبة ومدح، إذ الأمم كلها تأمر بأصول ما يصح به دينها وتدعو إليه، مع أنه الآية ما سيقت إلا لبيان المدح والثناء عليهم.

والثاني أيضًا باطل، إذ لا عهد بالنسبة إلى كله، ولا بالنسبة إلى البعض [لا بحسب الدليل العقلي، ولا بحسب الدليل النقلي فليس كله أولى من غيره وليس] البعض منه [أولى من/ (13/ أ) البعض الآخر فيتحقق الإجمال وهو خلاف الأصل]، والاكتفاء بالبعض منه أي بعض كان يوجب إلغاء فائدة التخصيص، إذ الأمم تشارك هذه الأمة في الأمر بمعروف ما والنهي عن منكر ما.

وبهذا يعرف أيضًا [أنه لا يجوز حمله على الماهية أيضًا]، لأنه يكفي في تحقق مدلول النص على هذا التقدير الأمر بمعروف ما والنهي عن منكر ما، وإذا بطل أن يحمل على الماهية وعلى المعهود وعلى البعض معينًا، أو غير معين وجب حمله على الكل حذارًا من التعطيل، وإذا حمل على الكل من المعروف والمنكر لزم أن يكون الإجماع حجة، إذ لو جاز أن يجمعوا على ما ليس بحق

ص: 2475

لكانوا آمرين به، وناهين عن ضده، فكانوا آمرين بالمنكر وناهين عن المعروف، وهو خلاف مدلول الآية، وإذا كان ما أجمعوا عليه حقًا وجب اتباعه، ولا نعني بكون الإجماع حجة سوى هذا.

فإن قيل: ما ذكرتم مبني على أن الآية خرجت مخرج المدح، وأنها ما سيقت إلا لبيان الثناء عليهم على وجه الاختصاص بهم وهو ممنوع، ولم لا يجوز أن يقال: أنه ليس المراد منها إلا بيان ما هو عليه الأمة سواء كانوا فيه منفردين أو يشاركهم فيه غيرهم؟

سلمنا ذلك لكنه مدح له في الماضي أو في الحال؟

والأول مسلم، لكنه لا يفيد، إذ لا يلزم من مدحهم في الماضي باعتبار الصفة المذكورة ثبوت المدح لهم باعتبار تلك الصفة في الحال، بل لو نظر إلى المفهوم اقتضى ذلك عدمه في الحال.

سلمنا ثبوت المدح في الحال لكن باعتبار ما كانوا عليه في الماضي أولاً بهذا الاعتبار؟

والأول مسلم، ولا يلزم منه مدحهم في الحال بذلك الاعتبار، فإنه يجوز أن يمدح الإنسان في الحال بما صدر عنه في الماضي وإن كان باعتبار ما في الحال يستحق الذم.

والثاني ممنوع، وهذا لأن قوله:{كنتم خير أمة} صريح في أنه مدح لهم باعتبار الماضي.

سلمنا أنه مدح لهم في الحال باعتبار ما كانوا عليه في الحال، لكن لم قلتم

ص: 2476

أنه يجب بقاؤهم عليها في الاستقبال حتى يلزم أن يكون الإجماع حجة في جميع الأزمنة؟

ولا يمكن دفعه بعدم الفصل بين الزمانين لما سبق غير مرة، ولا بأن إجماعًا ما وهو الحاصل في ذلك الزمان يكون حجة حينئذ والخصم لا يقول به فيصير محجوبًا، لأنه لم يعلم حصول إجماع ما في ذلك الزمان لا بعينه ولا بغير عينه حتى يلزم حجيته.

سلمنا ذلك لكنه خطاب مشافهة فيختص بالحاضرين.

سلمنا عدم اختصاصه بهم، لكنه متروك الظاهر وليس بعض المجازات أولى من البعض فيتحقق الإجمال.

سلمنا أن البعض أولى من البعض، لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك البعض هو الأئمة المعصومون؟

سلمنا دلالة الآية لكن دلالة ظنية، أو قطعية؟

الأول مسلم.

والثاني ممنوع، وفد عرفت سنده فيما مر.

الجواب عن الأول: أن كون الآية سيقت لبيان مدحهم، وأنهم خير من سائر الأمم فذلك معلوم من صراحة قوله {كنتم خير أمة} ومن سياق الكلام، وحينئذ يجب أن تكون الصفة المذكورة مختصة بهم، وإلا لما حصلت خيرتهم بالنسبة إلى سائر الأمم، وإنما تكون مختصة بهم لو أمروا بجميع المعروف ونهوا عن جميع المنكر، وإلا فسائر الأمم يشاركونهم في الأمر ببعض

ص: 2477

المعروف والنهي عن بعض المنكر.

وعن الثاني: أنه إن جعلت كان هنا زائدة كما في قوله تعالى: {كيف نكلم من كان في المهد صبيًا} .

أو تامة، كما في قوله تعالى {كان ذو عسرة} فالسؤال ساقط بالكلية لأنه حينئذ لم يوجد ما يدل على اتصافهم بذلك في الماضي، بل وجد ما يدل على اتصافهم بذلك مطلقًا، لأنه يصير تقدير الكلام على الأول: أنتم خير أمة أخرجت للناس، وعلى الثاني: أي وجدتم وخير منصوب على التقديرين على الحال، ومعلوم: أنه لو قال هكذا لأفاد مدحهم وخيرتهم مطلقًا، فكذا قوله {كنتم خير أمة} .

وإن جعلت خبرية وهي التي تحتاج إلى اسم وخبر فعلى هذا وإن كان لفظ "كنتم" يدل على ثبوت تلك الصفة في الماضي، لكن لفظ "تأمرون وتنهون" يدل على ثبوته في الحال أو في الاستقبال أو فيهما فيجب القول بثبوت مدلولهما لعدم المنافاة بين مدلوليهما بحسب المطابقة، ومفهوم كان لو سلم القول به لا ينتهض معارضًا لمنطوق تأمرون وتنهون؛ لأن المفهوم المخالف لا يعارض المنطوق.

وبه خرج الجواب عن الثالث، فإن لفظ "تأمرون وتنهون" يدل على ثبوت هذه الصفة لهم في الحال أو في الاستقبال أو فيهما.

ص: 2478

وعن الثالث، أنه إن قيل: أن صيغة المضارع حقيقة في الحال والاستقبال أو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر، وقلنا. اللفظ الواحد يجوز استعماله في المعنيين المختلفين، أو قلنا: أنه حقيقة فيهما بالاشتراك المعنوي، فإنه يجب حملها عليهما، وحينئذ تكون الآية دالة على ثبوت تلك الصفة في الحال والاستقبال، وأما إن لم نقل بذلك فيستدل على ثبوته في الاستقبال باستصحاب الحال وهذا وإن كان ظنيًا لكن دلالة الآية على المطلوب أيضًا ظنية عندنا.

وعن البواقي ما سبق في المسلكين المتقدمين.

ورابعها: وهو معتمد الإمام، وهو التمسك بقوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} .

أمر بالكون مع الصادقين فلا بد أن يكون مقدورًا لنا، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق، وحينئذ لم يجز أن يراد/ (14/ أ) منه الصادق في بعض الأمور، وإلا لكان ذلك أمرًا بموافقة كلا الخصمين، لأن كل واحد منهما صادق في بعض الأمور، ولكان ذلك أمرًا لكل واحد منهما بموافقة الآخر وهو باطل فيتعين أن يكون المراد منه: من يكون صادقًا في كل الأمور، وحينئذ نقول: إما أن يكون هذا أمرًا بالكون معهم في جميع الأمور، أو في بعضها.

والثاني باطل، لأن ذلك البعض غير متعين بحسب دلالة الآية ولا بحسب غيرها، إذ الأصل عدم ذلك فيلزم الإجمال، وهو خلاف الأصل فيتعين الأول وحينئذ نقول، إن الصادقين الذين أمرنا بالكون معهم هم الصادقون في كل الأمور وهم إما مجموع الأمة أو بعضه، والثاني باطل، لأنه تعالى أمرنا بالطون معهم وجب أن يكون مقدورًا لنا كما سبق، وإنما يكون ذلك مقدورًا لنا أن لو عرفناهم بأعيانهم لكنا نعلم بالضرورة أنا لا نعرف أحدًا نقطع فيه

ص: 2479

بأنه من الصادقين، وإذا كان كذلك كانت القدرة على الكون معهم فائتة والإمامية وإن قالوا بامتناع خلو زمان عن الإمام المعصوم، لكنهم لم يقولوا بامتناع عدم اشتهاره، ووجوب ظهوره حتى يمكن الكون معه، ولأن حمل لفظ الجمع المحلى بالألف واللام على الواحد ممتنع أو بعيد، وإذا بطل هذا القسم تعين الأول، وهو أن المراد من الصادقين مجموع الأمة دفعًا لتعطيل النص.

ولقائل أن يقول: الأمر بالكون معهم إما أن يكون بشرط العلم بصدقهم، وأعنى بالعلم هنا ما يعم العلم، والظن، أولاً بهذا الشرط بل من يكون صادقًا في نفس الأمر وإن لم يعلم ذلك، والثاني باطل، لاقتضائه تكليف ما لا يطاق، ولو جاز هذا لبطل أصل الدليل فيتعين الأول، وحينئذ نقول: دلالة الآية على وجوب اتباعهم يتوقف على ثبوت صدقهم، فإثبات صدقهم بدلالة الآية دور.

وبعبارة أخرى وهي أن وجوب اتباع الصادقين يتوقف على العلم بصدقهم فلو استفيد العلم بصدقهم من وجوب اتباعهم لزم الدور.

سلمنا أن لا دور، لكن لم لا يجوز أن يكون المراد منه ايجاب الكون معهم فيما صدقوا فيه دون غيره؟

وللنص به اشعار من حيث أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلة، فعلة الأمر بالكون معهم إنما هو صدقهم، وصدقهم إنما يوجد فيما صدقوا فيه دون غيره، فيجب اتباعهم فيه دون غيره لانتفاء علة الاتباع وإذا كان كذلك فلا يجب اتباعهم في كل الأمور إلا إذا ثبت أنهم صادقون في كل الأمور فلم قلت أنه كذلك؟

وخامسها: قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} .

ص: 2480

ووجه الاحتجاج به: أنه شرط في إيجاب الرد إلى الله تعالى والرسول التنازع، وقد تقدم بيان أن مفهوم الشرط حجة، فهذا يقتضي أنه لا يجب الرد إلى الله والرسول عند عدم التنازع، بل يكفي فيه بالاتفاق، ولا نعني بكون الإجماع حجة سوى هذا.

ولقائل أن يقول: هذا الاستدلال ضعيف، لوجوه:

أحدهما: أنه متناقص، لأن الاكتفاء بالإجماع رد إلى الله ورسوله، لأن المعنى من الرد إلى الله ورسوله الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله، وهو أعم من الرد إليها بواسطة، أو بغير واسطة، إذ لو كان المراد منه الرد إليهما بغير واسطة لكان الحكم المثبت بالقياس، أو بالإجماع على رأي من يقول به، أو بالبراءة الأصلية لم يكن مردودًا إلى كتاب الله وسنة رسوله فكان باطلاً وهو متناقض للقول بحجيتها فثبت أن الرد إليهما أعم من الرد إليهما بواسطة أو بغير واسطة، فالاكتفاء بالإجماع عند عدم التنازع رد أيضًا إلى كتاب الله وسنة رسوله ضرورة أن حجيته عندكم مستفاد منهما فيكون وجه الاستدلال مناقضًا للنتيجة.

وثانيها: أنا وإن سلمنا سلامته عن التناقض بناء على أن المراد من الرد إليهما الرد إليهما من غير واسطة لكن نقول: أن مفهوم الشرط إنما يكون حجة إذا لم يكن الباعث على التقييد العادة والغلبة، فأما إذا كان ذلك فلا، وهنا كذلك، لأن الإنسان إنما يحتاج إلى الإثبات عند التنازع، فأما عند الوفاق فلا [لمساعدة الخصم، فلا يدل عدم التنازع على عدم وجوب الرد إليهما].

ص: 2481

سلمنا ذلك لكن لا نسلم عدم التنازع فأنا نفرض فيما إذا رجع بعض المجمعين عن الحكم، أو بعض المجتهدين في العصر الثاني لم يقل به فإنه إذ ذاك يوجد التنازع، فيجب الرد إليهما وهو يرفع القول بحجيته.

سلمنا ذلك، لكن لا نسلم أن مفهوم الشرط حجة.

سلمنا أنه حجة لكنه حجة ظنية أو قطعية؟

سلمنا أنه حجة، لكن الاكتفاء بالاتفاق إما بناء على صدوره عن الكتاب أو السنة إما بواسطة، أو بغير واسطة أو لا بناء على هذا.

فإن كان الأول كان فيهما غنية عنه فيكون ضائعًا، وإن كان الثاني كان باطلاً، إذ القول في الشرع من غير دليل باطل وذلك معلوم بالضرورة.

واعلم أن بعض هذه الأسئلة وإن كان سهل الجواب لكن البعض الآخر صعب فمن أمكنه الجواب عن كله فله التمسك بهذا النص.

وسادسها: التمسك بقوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا} ووجه الاستدلال به: أنه نهى عن التفرق فيكون محرمًا، خص عنه التفرق فيبقى ما عداه على الأصل.

لا يقال: المراد منه التفرق في الاعتصام بحبل الله، لا جميع التفرقات لأن الفهم يتبادر إليه، فإن الملك إذا/ (15/ أ) قال: احملوا كلكم على العدو، ولا تفرقوا، فهم منه النهي عن التفرق في الجملة.

لأنا نقول: اللفظ مطلق فتقييده في الاعتصام بحبل الله خلاف الأصل، وما ذكرتموه من التبادر لو سلم القول به فإنه بناء على القرينة العرفية واعتبار اللفظ أولى من القرينة العرفية.

ص: 2482

وأيضًا فإن الحمل عليه يوجب التأكيد ضرورة أن قوله: {واعتصموا بحبل الله جميعًا} نهى عن التفرق فيه بناء على أن الأمر بالشيء نهى عن ضده، والحمل على التعميم لا يوجب ذلك بل يوجب فائدة جديدة مستقلة فكان الحمل عليه أولى لما تقدم في اللغات.

وسابعها: وهو التمسك بالسنة، وهو المعول عليه في إثبات هذا المطلوب لأكثر المحققين.

وتقريره: أن نذكر أولاً ما ورد عنه عليه السلام في هذا الباب، ثم نبين وجه دلالته على المطلوب.

فالأول: روي عنه عليه السلام أنه قال: "لا تجتمع أمتي على خطأ" وروى "على ضلالة".

ص: 2483

الثاني: أنه قال: سألت الله أن لا تجتمع أمتي على خطأ فأعطانيه".

الثالث: "لم يكن الله بالذي ليجمع أمتي على الضلالة" وروى "أنه لم يكن الله ليجمع أمتى على الخطأ".

وهذا من مراسيل الحسن البصري، ومراسيله أقوى من مسانيده، لأنه ما كان يرسل إلا إذا حدثه أربعة من الصحابة.

الرابع: "يد الله على الجماعة ولا نبالي بشذوذ من شذ".

ص: 2484

الخامس: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن".

السادس: "من سره بحبوحة الجنة فيلزم الجماعة فإن دعوتهم لتحيط من ورائهم، وإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد".

ص: 2485

السابع: "عليكم بالسواد الأعظم" وهو جماعة الأمة، لأن كل من دونهم فالأمة بأسرها أعظم منهم".

الثامن: "من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه".

التاسع: "من فارق الجماعة ومات مات ميتة جاهلية".

ص: 2486

العاشر: "ثلاث لا يغل عليهن قلب المؤمن إخلاص العمل لله، والنصح لأئمة المسلمين، ولزوم الجماعة: فإن دعوتهم تحيط من ورائهم".

الحادي عشر: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة، قيل يا رسول الله ومن تلك الفرقة؟ قال هي الجماعة".

ص: 2487

الثاني عشر: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق حتى يقاتلوا الدجال".

الثالث عشر: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق لا يضرهم من خالفهم".

ص: 2488

الرابع عشر: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله".

الخامس عشر: "لن تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من نأواهم إلى يوم القيامة".

السادس عشر: "من شذ شذ في النار" وأمثال هذه الأخبار كثيرة غير عديدة.

إذا عرفت هذا فنقول: للأصوليين في الاستدلال بهذه الأخبار طرق:

الطريقة الأولى: ادعاء التواتر المعنوي، وهو أولى الطرق المقطوعة، وتقريرها: أن هذه الأخبار وأمثالها اشتركت في أنه لا يجوز على مجموع الأمة الخطأ والمعصية، ولا يجوز ذهولهم عن الحق، ثم أن هذه الأخبار يرويها خلق كثير يؤمن تواطؤهم على الكذب، فصار ما اشترك فيه مجموع هذه الأخبار وهو كون الإجماع حجة، أو معنى يلزم منه كون الإجماع حجة مرويًا بالتواتر كشجاعة علي، وسخاوة حاتم.

ص: 2489

وقدح الإمام في هذا النوع من الاستدلال بأن قال: "لا نسلم بلوغ مجموع رواة هذه الأخبار إلى حد التواتر، فإن العشرين، بل الألف لا يكون متواترًا، إذ لا يمتنع إقدام عشرين إنسانًا على الكذب في واقعة معينة بعبارات مختلفة.

ثم قال: "سلمنا حصول القطع بهذه الأخبار [في الجملة، لكنهم إما أن يدعوا القطع بلفظها، أو بمعناها، أما القطع بلفظها].

فهو أن يقال: إنا وإن جوزنا في كل واحد من هذه الأحاديث أن يكون كذبًا إلا أنا نقطع بأن مجموعها يستحيل أن يكون كذبًا، بل لا بد وأن يكون بعضها صحيحًا.

وأما القطع بمعناها فهو أن يقال: إن هذه الألفاظ على اختلافها مشتركة في إفادة معنى واحد، فذلك المشترك يصير مرويًا بكل هذه الألفاظ فيكون ذلك المشترك مرويًا بالتواتر.

فنقول: إن أردتم الزول فهو سلم، لكن المقصود لا يتم إلا إذا بينتم أن كل واحد من هذه الألفاظ يدل على أن الإجماع حجة دلالة قاطعة وإلا لم يفد، لاحتمال أن يكون الصحيح ما ليس كذلك لكنكم ما فعلتم ذلك واستدلالكم بعد فراغكم من تصحيح المتن بواحد منها نحو قوله عليه السلام "لا تجتمع أمتي على خطأ" واستقصاء السؤال والجواب عليه ينفي أن يكون كل واحد منها قاطع الدلالة.

ص: 2490

وإن أردتم الثاني: فذلك المعنى المشترك إن كان نفس كون الإجماع حجة، فقد ادعيتم أن كون الإجماع حجة منقول بالتواتر عنه عليه السلام لكن ذلك باطل، وإلا لكان العلم بكونه حجة جاريًا مجرى العلم بوجود غزوة بدر وأحد، ولما وقع الخلاف فيه لاشتراك الكل في ذلك، ولأن استدلالكم بواحد منها بعد الفراغ من تصحيح المتن واستقصاء السؤال والجواب عليه ينفي ذلك.

وبهذا ظهر الفرق بين هذا وبين علمنا بشجاعة علي رضي الله عنه وسخاوة حاتم بعد سماع أخبارهما في ذلك، لأنا لا نحتاج إلى استدلال ببعض تلك الأخبار على إثبات الشجاعة والسخاوة بعد السماع بل يحصل لنا العلم الضروري بذلك.

وإن كان معنى يلزم منه كون والإجماع/ (16/ أ) حجة، فذلك إن كان مطلق التعظيم فلا يفيد، وإن كان تعظيمًا ينافي إقدامهم على الخطأ فيؤول إلى ادعاء التواتر في كون الإجماع حجة وقد تقدم إبطاله، وإن كان غيرهما فلا بد من بيان إفادة التصور أولاً ثم بيان إفادة التصديق ثانيًا.

وهو ضعيف، أما منعه فجوابه أن نقول: إنك اخترت مذهب المحققين وهو أنه لا يتعين للتواتر عدد معين، بل المرجع فيه إلى العلم فإن حصل العلم للسامع علم حصول عدد التواتر وسائر شرائطه وإلا فلا، ومن تتبع كتب الأحاديث، وأحاط بما ورد في هذا الباب من الأخبار، وخالط أهلها، فإنه يحصل له العلم الضروري بأنه عليه السلام قصد بها بيان تعظيم هذه

ص: 2491

الأمة تعظيمًا ينافي إقدامهم على المعصية والخطأ، وكون الخلاف واقعًا فيه من زمرة قليلة غير مخالطة لأهل الأخبار، ولا محيطة بما ورد فيه لا ينفي ذلك، بل لو فرض الإنكار منهم مع تتبع كتب الأحاديث ومخالطة أهلها، لما قدح ذلك أيضًا؛ لأن إنكار الجمع القليل للضروريات مع الاشتراك في طرائقها غير ممتنع.

وبهذا أجاب هو عن منع المرتضى في باب الأخبار فكيف عول على المنع هنا والمنع المنع، والجواب الجواب؟.

وأما قوله: فإن العشرين بل الألف لا يكون متواترًا، إن أراد به أن هذا عدد لا يحصل به التواتر ألبتة فهو باطل قطعًا، وإن أراد به أنه قد يحصل وقد لا يحصل فهذا مسلم، لكنه احتمال آت في كل عدد يفرض، إذ ليس لنا عدد نقطع أنه عدد التواتر، وأنه يحصل العلم الضروري بقولهم البتة، فإن كان هذا قادحًا به فليقدح في الكل وإلا فهو مقدوح.

وأما قوله: نرى المستدلين بهذه الأخبار بعد فراغهم من تصحيح المتن يتمسكون بواحد منها، ويستقصون الكلام فيه سؤالاً وجوابًا فليس ذلك لتوقف العلم عليه بل لإزالة إشكالات تتطرق على لفظ ما يفيد اليقين إما بحسب التواتر المعنوي، أو اللفظي وهو غير ممتنع.

أو يقال: أنه ليس على طريقة هؤلاء بل هو على طريقة غيرهم من الطرق الآتية.

الطريقة الثانية: الاستدلال على كون هذه الأخبار صحيحة في الجملة

ص: 2492

وتقرير هذه الدلالة من وجوه:

أحدهما: أن كل واحد من هذه الأخبار وإن كان آحادًا محتملاً لكونه صادقًا أو كاذبًا، لكنا نعلم قطعًا أنها بأسرها ليست كاذبة، وأي واحد منها صح بمعنى أنه قطع بصدقه لزم أن يكون الإجماع حجة، لما تقدم أن القدر المشترك بين هذه الأخبار إما نفس كون الإجماع حجة، أو معنى يلزم منه ذلك.

وثانيها: أن هذه الأخبار بتقدير صحتها يثبت بها أصل عظيم مقدم على الكتاب والسنة، وما هذا شأنه: كانت الدواعي متوفرة على البحث عنه بأقصى الوجوه، أما القائلون به فلتصحيحه، وأما المنكرون له فلدفعه وإفساده فلو كان في متنها خلل استحال ذهول هؤلاء الخلق الكثير، والجم الغفير عنه بعد البحث التام والطلب الشديد، نظرًا إلى جري العادة، ولما لم يعلموا فيها خللاً إذ لو علموا ذلك لأظهروه، ولو أظهروه لاشتهر إذ الإظهار والاشتهار في مثل هذا أوجب وأمس من إظهار واشتهار ما يقدح في مسألة فرعية لكنه ليس كذلك علمنا صحتها.

واعترض الإمام عليه: بأنه إن عنى بالخلل في متنها ما يدل على فسادها وعدم جواز العمل بها، فهذا مسلم أنه لم يجدوا ذلك فيها، لكن لا يلزم من عدم ذلك القطع بصدقها، إذ أخبار الآحاد المعمول بها بهذه المثابة مع أنها ليست مقطوعة الصدق.

وإن عنى به ما يقدح في قطعها، فلا نسلم أنهم لم يعلموا ذلك في متنها، فإنهم لما علموها آحادًا فقد علموا خللاً في متنها بالتفسير المذكور، ولا يقال: أن واحدًا منهم لم يقل بذلك بل كلهم أطبقوا على أنها متواترة، لأن ذلك إن ثبت بالتواتر لزم كونها متواترة عندنا ضرورة ثبوت تواتره بالتواتر لكن ادعاء

ص: 2493

ذلك ادعاء لما علم بالضرورة خلافه، فإن من المعلوم بالضرورة أن كل واحد من تلك الأخبار ولا واحدًا منها بعينه متواتر عندنا.

وإن ثبت ذلك بالآحاد لزم كونها آحادًا؛ لأن من شرط التواتر استواء الطرفين [والواسطة وهو منقدح.

وثالثها: أن هذه الأخبار كانت مشهورة] بين الصحابة والتابعين وكانوا متفقين على موجبها مستدلين بها عليه [من غير اختلاف ولا نكير وكان الأمر هكذا إلى زمان ظهور المخالف] والاستقراء دل على إحالة اجتماع الخلق الكثير والجم الغفير مع اختلاف هممهم ودواعيهم ومع تطاول الأزمان على الاستدلال لما لا أصل له، لا سيما في إثبات أصل هو مقدم على الكتاب والسنة من غير أن ينتبه أحدهم على فساده وبطلانه.

وهو أيضًا ضعيف، لأنه إن عنى بقوله:"بما لا أصل له" أي بما هو غير صالح لإثبات الحكم فهذا مسلم، لكن لا يلزم من هذا أن يكون قاطعًا لأن ما يثبت به الحكم أعم من أن يكون قاطعًا أو غير قاطع.

وإن عنى به غير قاطع المتن فهو ممنوع، وهذا لأنه لا بعد في أن يتفقوا على شيء مستدلين عليه بما لا يفيد إلا الظن كما اتفقوا على موجب حديث عبد الرحمن بن عوف وهو أخذ الجزية من

ص: 2494

المجوس بالاستدلال به عليه مع أنه خبر واحد.

وكما اتفقوا على أن المرأة لا تنكح على عمتها وخالتها استدلالاً بخبر أبي هريرة وهو قوله عليه السلام: "لا تنكح المرأة على عمتها وخالتها"

ص: 2495

مع أنه خبر واحد.

وبهذا أيضًأ يعرف اندفاع ما قيل في تقرير الوجه الذي نحن في تضعيفه: أن الاستقراء دل على أمتنا لا يجتمعون على/ (17/ أ) موجب حديث مستدلين به عليه وإلا كانوا قاطعين به.

الطريقة الثالثة: أن نجعل هذه الأخبار من باب الآحاد، ونتمسك بواحد منها أو أكثر وهذه الطريقة طريقة من يقول: إن الإجماع حجة ظنية ويستدل بقوله عليه السلام: "لا تجتمع أمتي على خطأ" فإنه أصرح من غيره.

ووجه الاستدلال به أن نقول: الحديث يدل بصريحه على أن ما اتفق عليه الأمة صواب فيغلب على الظن أنه كذلك، والعمل بالظن واجب لما سيأتي، فيكون العمل بالإجماع واجبًا، ولا نعني بكون الإجماع حجة سوى هذا.

فإن قيل: لا نسلم دلالة النص على المطلوب، وهذا لأن لفظ الأمة إن قيل: بأنه لا يتناول إلا الموجودين لم يكن شيء من الإجماعات حجة إلا إجماع الصحابة، لكن إجماعهم إنما يكون حجة أن لو عرفنا الموجودين منهم

ص: 2496

وقت ورود الخبر، وبقاءهم بعد الرسول واتفاقهم على مسألة ما، ومن المعلوم أنه متعذر، فحينئذ يلزم أن لا يكون شيء من الإجماعات حجة.

فإن قيل: بأنه يتناول الموجودين وغيرهم فحينئذ يلزم أن يكون المراد من الأمة جميع من يوجد إلى يوم القيامة، إذ ليس بعض غير الموجودين أولى من البعض فيتناول الكل، وحينئذ إن لم يعتبر للميت قول لم يتصور حصول الإجماع، وإن اعتبر لم يتصور حصوله إلا عند انقراض العالم ومعلوم أنه لا فائدة فيه إذ ذاك، فلم يكن الإجماع حجة.

سلمنا أن المراد منها أهل كل عصر، لكن لم لا يجوز أن يكون المراد من الخطأ الكفر، أو خطأ يكون كبيرة؟

كما ورد في حديث آخر "لا تجتمع أمتي على ضلالة" فإن الخطأ الذي هو من باب الصغائر لا يوصف بالضلالة، وهذا لأن المطلق يحمل على المقيد.

سلمنا أن المراد من الخطأ حقيقته، لكن لعل المراد منه الخطأ الذي هو سهو لا جميعه.

سلمنا ذلك لكن إنما يلزم نفيه أن لو ورد الحديث على صيغة الخبر وهو ممنوع، فإن من الجائز أن كان واردًا على صيغة النهي فاشتبه على الراوي فرواه مرفوعًا.

سلمنا أنه ورد بصيغة الخبر لكن جاز أن يكون المراد منه النهي، فإن صيغة الخبر تستعمل في النهي على وجه التجوز كما تقدم في اللغات.

سلمنا أن المراد منه الخبر، لكن لم قلت أنه يلزم منه كون الإجماع واجب الاتباع؟ بل غاية ما يلزم منه أن ما أجمعوا عليه صواب لكن ليس كل صواب واجب الاتباع، ألا ترى أن المجتهد لا يجب عليه اتباع المجتهد الآخر ولا

ص: 2497

[يجب على] العامي اتباع مجتهد بعينه مع أن ما ذهب إليه صواب.

أما على قولنا: إن كل مجتهد مصيب فظاهر، وأما على قولنا المصيب واحد، فلأنه حينئذ يغلب على الظن صواب المجتهد وإن كنا لا نقطع به، والحديث أيضًا لا يفيد سوى غلبة الظن بصواب ما أجمعت الأمة عليه.

الجواب: أما عن الأول فمن وجهين:

أحدهما: ما تقدم في التمسك بالآية.

وثانيهما: أن بقية الأحاديث نحو قوله عليه السلام: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق".

ونحو قوله: "من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه".

ونحو قوله "عليكم بالسواد الأعظم".

ونهى عن الشذوذ نحو قوله: "من شذ شذ في النار".

ونحو قوله: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن". وأمثالها ينفي ما ذكرتم من الاحتمال.

وعن الثاني: أنه تقييد بغير دليل فيكون باطلاً، ونحن إنما نحمل المطلق على المقيد إذا دل دليل على الحمل عليه، وهو غير حاصل [هنا]، إذ الأصل عدمه لا بمجرد اللفظ، فإن ذلك المذهب باطل كما تقدم في بابه فيبقى قوله:"لا تجتمع أمتي على الخطأ" على إطلاقه، والحديث الآخر على

ص: 2498

تقيده إذ لا منافاة بينهما.

وعن الثالث: أنه تقييد من غير دليل فيكون باطلاً؛ ولأنه ليس في تخصيص أمته عليه السلام بذلك فضيلة، فإن السهو ممتنع عادة على الجمع العظيم من أي أمة كان.

وعن الرابع: أن عدالة الراوي المتحفظ المتيقظ ينفيه ظاهرًا.

ولأن فتح هذا الباب يسد باب الاستدلال بأكثر النصوص، ولأنه مدفوع بسائر الأحاديث.

وعن الخامس: أنه خلاف الأصل فإن الأصل استعمال الصيغة في مدلولها.

وعن السادس: أن الأمة أجمعت على أن الإجماع إذا كان صوابًا يجب اتباعه، فالقول بكونه صوابًا مع عدم وجول اتباعه قول لم يقل به أحد، فلو كان هذا الاحتمال واقعًأ صحيحًا لأجمعت الأمة على الخطأ وهو خلاف مدلول الخبر.

واعلم أن هذه الطريقة وإن كانت لا تفيد القطع بكون الإجماع حجة لكن تفيد ظنًا غالبًا بذلك لا ينقص عن الظن الذي يحصل من التمسك من نصوص الكتاب، وإن كان مقطوع المتن لضعف دلالالتها على المطلوب، وهذه الأخبار وإن كانت مظنونة المتن لكن صريحة الدلالة على المطلوب فلا ينبغي أن يقدح فيها.

وثامنها: وهو الوجه المعقول الذي عول عليه إمام الحرمين: أن اتفاق

ص: 2499

الخلق العظيم المختلف الدواعي والهمم على الحكم الواحد إما أن يكون الدليل أو لأمارة، أو لا لدليل ولا لأمارة، وهذا الثالث مستحيل عادة.

فإن كان الأول كان الإجماع كاشفًا عن ذلك الدليل وحينئذ وجب اتباع الإجماع، وإلا لكان ذلك تجويزًا بمخالفة الدليل وهو ممتنع.

وإن كان الثاني فمثل هذا الحكم وإن كان يسوغ مخالفته لأمارة أخرى لكن لما رأينا التابعين قاطعين بالمنع من مخالفة الإجماع علمنا اطلاعهم على دلالة قاطعة مانعة من مخالفة الإجماع إذ لو/ (18/ أ) كان المانع منه أيضًا الأمارة لما قطعوا بالمنع منه، وهذه الدلالة لو صحت تقضي أن يكون إجماع الخلق العظيم من كل أمة حجة وأن لا يكون الإجماع حجة إذا كان المجمعون عدد التواتر.

واعترض الإمام على هذه الدلالة وقال: "لا نسلم انحصار التقسيم، وهذا فإنه يجوز أن يكون اتفاقهم على الحكم لشبهة، فكم من المبطلين - مع كثرتهم - في الشرق والغرب قد اتفقوا على حكم واحد لشبهة اعترضت لهم.

سلمنا الحصر، لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك لأمارة؟ ولا نسلم إجماع الصحابة والتابعين على المنع منه.

سلمنا ذلك، لكن لم جوزت حصول الإجماع على الحكم لأمارة؟ فلم لا يجوز حصول الإجماع على المنع من مخالفة الإجماع لأمارة أيضًا؟

واعلم أن السؤال الأول قادح وأما الثاني فضعيف، فإن العلم بإجماع الصحابة والتابعين على المنع من مخالفته بعد استقراء أحوالهم يكاد أن يكون ضروريًا.

ص: 2500

وأما الثالث فيمكن أن يجاب عنه: بأن المعلوم من عادتهم أنهم كانوا يقطعون بالمنع من مخالفة الحكم الصادر عن الأمارة، ورأيناهم قاطعين في المنع من مخالفته فلا يكون ذلك صادرًا عن الأمارة.

وتاسعها: وهو وجه آخر من المعقول، وهو: أن هذه الأمة آخر الأمم، لأنه قد ثبت أنه لا نبي بعد نبيهم فلا أمة بعدهم، فلو جاز إطباقهم على الخطأ وإصرارهم عليه لاحتاجوا إلى نبي يدعوهم إلى الحق كما احتاجت إليه سائر الأمم الذين كانوا على الباطل، فكانت البعثة واجبة بمقتضى الحكمة إذ ذاك، والإخلال به إذ ذاك غير لائق بالحكمة، ولذلك قال عليه السلام:"علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" فإن الأنبياء عالمون بالحق في تلك الشرائع، وفي شريعتنا لما امتنع وجود الأنبياء قام العلماء مقامهم، ولما لم يكن كذلك علمنا أنه لا يجوز اتفاقهم على الخطأ.

فإن قلت: قيام الأدلة والمعجزة الدالة على صدقه وهو القرآن يغني عن ذلك.

قلت: بقاؤها إنما يكون بعصمة الأمة، إذ لو جاز إجماعهم على الباطل جاز إطباقهم على عدم القيام بها ونقلها فحينئذ لا يحصل بها الاكتفاء.

وأيضًا فإن ذلك إنما يغنى بالنسبة إلى مسائل الأصول كالتوحيد وإثبات النبوة دون مسائل الفروع.

فهذا ما أردنا إيراده من أدلة المثبتين للإجماع.

وأما المنكرون له فقد احتجوا بوجوه من الكتاب، والسنة، والمعقول:

ص: 2501

أما الكتاب فنحو قوله تعالى {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} ، وقوله {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} وكذا كل ما فيه نهى لكل الأمة، فإن ذلك يستدعي تصور الخطأ منهم، فإن النهي عما لا يتصور صدوره من النهي لا يجوز، وإذا كان الخطأ منهم متصور الوجود لم يكن الإجماع حجة.

ونحو قوله تعالى: {فإن تناوعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} .

أوجب الرد إلى الكتاب والسنة عند التنازع واقتصر عليه، وذلك يدل على عدم اعتبار الإجماع، وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو غير جائز.

ونحو قوله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء} وهو يدل على عدم الحاجة إلى الإجماع.

وجواب النوع الأول: أنا لا نسلم أن ذلك خطاب للكل، بل لكل واحد بدليل تبادر الفهم إليه، والفرق بين كل واحد وبين الكل معلوم بالضرورة فلا يلزم من تصور المعصية من كل واحد منهم تصورها من جميعهم.

وبهذا أيضًا يعرف اندفاع ما يذكر في هذا المقام من أن الخطأ جائز على كل واحد منهم فكذا على الكل.

سلمنا أنه نهى للكل من حيث أنه كل، لكن النهى عن الشيء يستدعي تصوره بحسب نفسه فقط، أو تصوره بحسب نفسه والأمر الخارجي معًا؟

ص: 2502

والأول مسلم، ولا يضرنا، لأنا نقول بامتناع الخطأ عليهم من جهة أنه لا يتصور الخطأ منهم بحسب نفسه بل لأمر خارجي.

والثاني ممنوع، وهذا فإنه تعالى نهى نبيه عن الشرك في قوله تعالى:{ولا تكونن من المشركين} ، وعن الجهل في قوله تعالى:{فلا تكونن من الجاهلين} مع أنه غير متصور منه بحسب الأمر الخارجي.

وكذا نهى الله تعالى كل واحد من المكلفين عن الكفر والقتل، والزنا، مع علمه ببعضهم أنه يموت على الإيمان من غير قتل، وزنا، وما علم الله تعالى أنه لا يقع يستحيل وقوعه، لكن امتناعه لأمر خارجي لا بحسب نفسه.

سلمنا أنه يستدعى جواز وقوعه مطلقًا لكن ليس كل جائز يقع، وما ذكرنا من الدليل يدل على أنه لا يقع فيجمع بينهما.

وأما الآية الثالثة فهي حجة عليهم لا لهم، من حيث أنه وقع النزاع في أن الإجماع هل هو حجة أم لا؟ فنحن رددناه إلى كتاب الله وسنة رسوله وأثبتناه بهما.

سلمنا أن المراد منه النزاع في الحكم لكن الرد إلى الإجماع رد إلى الكتاب والسنة من حيث أنه ثابت بهما وليس المراد الرد إليهما من غير واسطة، وإلا لبطل غيرهما من الأدلة.

وبهذا أيضًا خرج الجواب عن الآية الرابعة، فإن كون الكتاب تبيانًا لكل شيء ليس بصريحه بل به وبالتوسط.

ص: 2503

وأما السنة فنحو حديث معاد، والاستدلال به ظاهر، فإنه لم

ص: 2504

يذكر الإجماع ولا الرسول عليه السلام، ولو كان مدركًا شرعيًا معروفًا لذكره معاد، وبتقدير أن لا يكون معلومًا له لوجب ذكره على الرسول عليه السلام لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز وفاقًا، والحاجة كانت ماسة إلى بيان مدارك الشرع إذ ذاك، ولما لم يذكره الرسول عليه السلام ولا معاذ رضي الله عنه علمنا أنه ليس مدركًا شرعيًا.

ونحو قوله عليه السلام: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض".

ونحو قوله: "لتركبن/ (19/ أ) سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة" يعني في العدول عن الحق وعما جاءت به أنبياؤهم.

ص: 2505

ونحو قوله: "لا تقوم الساعة إلا على شرار أمتي"

ونحو قوله: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤسًا جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا".

ص: 2506

ونحو قوله: "تعلموا الفرائض وعلموها للناس فإنها أول ما ينسى".

ونحو قوله: "من أشراط الساعة أن يرتفع العلم ويكثر الجهل".

ونحو قوله: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدًا".

ونحو قوله: "خير القرون القرن الذي أنا فيه، ثم الذي يليه" الحديث.

ص: 2507

فهذه الأحاديث وأمثالها تدل على خلو الزمان عمن يقوم بالحق وذهولهم عنه.

وجوابه: أما حديث معاذ، فإنما لم يذكر الإجماع فيه؛ لأنه لم يكن إذ ذاك حجة فلم يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة.

وأما الحديث الثاني فجوابه - بعد تسليم صحته - فإن فيه كلامًا - يحتمل أنه خطاب مع أقوام [وهم] الذين ارتدوا بعده عليه السلام كبني حنيفة الذين منعوا الزكاة، وقاتلوا أبا بكر رضي الله عنه، ولو سلم أنه خطاب مع الكل، لكن لا يقتضي ذلك جواز وقوعه منهم على ما

ص: 2508

تقدم ذلك [ولو سلم ذلك] لكن إنما ندعي حجية إجماعهم إذا بقوا على صفة الإيمان لا مطلقًا.

وهو الجواب بعينه عن بقية الأحاديث التي تدل على خلو عصر ما عن العلماء.

وهذا الجواب إنما يستقيم على رأي من يجوز خلو الزمان عمن يقوم بالحق، فأما من لم يجوز ذلك فلا، بل هو يجيب عن البقية بأنه محمول على قلة العلماء؛ وهذا لأنه ليس فيها ما يدل بصراحته على أنه لا يبقى عالم ما في العصر، ولو سلم أن فيها ما يدل عليه لكن يجب حمله على ما ذكرنا، لمعارضة قوله عليه السلام:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" وأمثاله جمعًا بين الدليلين بقدر الإمكان.

وأما المعقول فمن وجوه:

أحدها: أن كل واحد من الأمة يجوز عليهم الخطأ فوجب أن يجوز على الكل، كما أن كل واحد من الزنج لما كان أسود وجب أن يكون الكل أسود.

وجوابه ما تقدم، والمثال الذي ذكرتم لا يدل على اللزوم، بل يدل على أنه قد يكون كذلك وهو غير مفيد.

وثانيها: أن الإجماع على الحكم إن كان لا لدلالة ولا لأمارة كان باطلاً لمساعدتكم والدليل عليه فلا يجب اتباعه، وإن كان لدلالة وجب اشتهارها؛ لأن الدواعي تتوفر على نقل قواطع الوقائع العظيمة، وما اجتمع عليه علماء الشرق والغرب لا شك أنه واقعة عظيمة، وحينئذ لا يبقى في التمسك بالإجماع فائدة.

ص: 2509

وإن كان لأمارة فهو محال، أما أولاً فلأن حجية الأمارة مختلف فيها عند العلماء فلا يمكن الاتفاق بناء عليها.

وأما ثانيًا: فلأن دلالة الأمارة تختلف بالنسبة إلى الأذهان ويستحيل عادة تطابق الأذهان على دلالة واحدة من وجهي دلالتها.

وجوابه: أنه يجوز أن يكون لدلالة وإنما يجب نقلها لو لم يحصل ما يسد سدها، فأما عند حصول ذلك فلا نسلم ذلك.

سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن يكون لأمارة.

أما الوجه الأول: فلأن الاختلاف في حجية الأمارة محدث، فلا يمنع ذلك من انعقاد الإجماع على حكم بناء عليها قبل حدوث الخلاف، ولا بعده أيضًا، لجواز أن لا يبقى منهم مجتهد في بعض الأعصار فيعتبر قوله.

وأما الوجه الثاني فممنوع، وهذا لأن تطابق الأذهان والهمم المختلفة إنما يمتنع فيما يتساوى فيه الاحتمال، فأما ما يترجح فيه ذلك فلا نسلم امتناع ذلك فيه.

وثالثها: أن أمة محمد عليه السلام أمة من الأمم فلا يكون اتفاقهم حجة كغيرهم من الأمم.

وجوابه: منع الحكم في المقيس عليه؛ وهذا لأن بعض أصحابنا كأبي إسحاق وغيره وجماعة من العلماء ذهبوا إلى أن إجماع علماء الملل السابقة

ص: 2510

حجة أيضًا لكن قبل نسخ شرائعهم.

سلمناه لكنه وصف طردي في مقابلة النص فلا يقبل.

ورابعها قياس الأحكام الشرعية على إثبات العلم بالصانع، وعلى إثبات علمه وقدرته، فإنه لا يجوز إثبات شيء من ذلك بالإجماع، فكذا الأحكام الشرعية، والجامع بينهما أن كل واحد منهما لا يجوز إثباته إلا بدليل.

وجوابه ما سبق [أنه] وصف طردي في مقابلة النص.

سلمنا صحته لكن إنما لم يجز ذلك، لأن إثبات ذلك بالإجماع دور كما ستعرف ذلك، وإثبات الأحكام به ليس كذلك فافترقا.

ص: 2511