الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الخامسة
إذا قال بعض المجتهدين من أهل العصر قولاً في المسائل التكليفية الاجتهادية، وعرفه الباقون، ولم يظهر منهم في ذلك إنكار عليه فهل يكون ذلك إجماعًا أم لا
؟. اختلفوا فيه:
فذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أنه لا يكون إجماعًا ولا حجة وهو مذهب داود وبعض الحنفية.
وذهب الإمام أحمد وكثير من الحنفية والشافعية وبعض المعتزلة كالجبائي إلى أنه إجماع وحجة، لكن منهم من يعتبر في ذلك انقراض العصر كالجبائي وأتباعه، وأكثرهم لم يعتبروا ذلك.
وقال أبو هاشم: أنه حجة وليس بإجماع، وهو منقول عن الصيرفي أيضًا.
وقال أبو علي ابن أبي هريرة: إن كان ذلك الحكم صادرًا عن حاكم لم يكن إجماعًا ولا حجة. وإن كان صادرًا عن غيره يكون إجماعًا متبعًا.
ونقل عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني: أنه إن كان صادرًا عن حاكم يكون إجماعًا وحجة، لأن الظاهر من حالة أنه لا يقول به إلا عن بحث وإتقان بعد مباحثة العلماء والفقهاء واستصواب منهم، وإن كان عن غيره فلا،
إذ لا يمكنه جمع العلماء للمباحثة والمشاورة، والظاهر أنه قاله عن رأيه وحده.
احتج الأولون: بأن السكوت يحتمل أن يكون للرضا فعلى هذا التقدير يكون الإجماع حجة.
ويحتمل أن يكون لغيره: نحو أن لم يجتهد فيه بعد، أو وإن اجتهد لكن لم يظهر له جهة الصواب فيه، أو وإن ظهر لكنه لم يظهره، لغاية سخطه عليه وازدرائه بذلك القول، وقد تظهر قرائنه عليه، أو وإن لم يكن كذلك لكنه ربما يراه قولاً سائغًا لم أدى اجتهاده إليه وإن لم يكن قد أدى اجتهاده إليه. أو وإن لم يكن كذلك لكنه إنما لم يظهر الإنكار، لأنه لم يره فرضًا أصلاً، بناء على أن كل مجتهد مصيب. أو وإن يرى الإنكار فرضًا/ (308 أ) في الجملة لكنه لم يره فرضًا إذ ذاك إما لعدم الوقت الموافق لذلك، فينتهز فرصة [التمكن منه، أو لأنه لو أنكره لم يلتفت إليه ولحقه بسبب ذلك ذل وهوان] أو بحضور من هو أولى بالإنكار. أو وإن لم يكن كذلك لكنه ظن أنه سبق بالإنكار، وإن لم يكن كذلك فكذلك لم يظهر الإنكار، وإن لم يكن كذلك لكنه سكت خوفًا وتقية ومهابة، كما قال ابن عباس:"هبته ولقد كان والله مهيبًا". أو وإن لم يكن كذلك لكن يرى الإنكار في ذلك من الصغائر، بناء على أن ذلك الخطأ من باب الصغائر فلا يرى في تركه قدحًا في عدالته فلم ينكره.
وعلى هذا لا يكون الإجماع السكوتي حجة.
وإذا احتمل سكوت الساكتين هذه الوجوه لم يكن سكوتهم دالاً على الرضا، وهذا معنى قول الشافعي رضي الله عنه:"ولا ينسب إلى ساكت قول".
اعترض عليه القائلون بحجية هذا الإجماع: أنكم إن عنيتم بقولكم: لا يكون سكوتهم دليلاً على الرضا به، أنه لا يكون دليلاً على الرضا قطعًا، فهذا مسلم، لكنه لا يفيدكم، إذ لا يلزم منه أن لا يكون الإجماع السكوتي حجة ظنية، وإن عنيتم به أنه لا يكون دليلاً على الرضا لا قطعًا ولا ظنًا فهذا ممنوع، وهذا لأن ما ذكرتم من الاحتمالات وإن كان السكوت محتملاً له لكن احتمالاً مرجوحًا، وإذا كان كذلك لم تكن تلك الاحتمالات قادحة في حصول غلبة الظن على الرضا.
أما الأول: وهو عدم الاجتهاد؛ فلأنه بعيد من الخلق الكثير والجم الغفير من المجتهدين من حيث الدين، ومن حيث الباعث النفساني، أما الأول فظاهر، وأما الثاني، فلأن من علم شيئًا أوله قدرة على تحصيل علمه بالنظر إلى ما حصل له من أسبابه، فإنه لا يطيق أن يصبر عنه إذا وقع الكلام فيه بين يديه.
وأما الثاني: فلأن كل واقعة يمكن أن تقع فإن الشارع لا بد وأن يكون قد
نصب عليها دليلاً، أو أمارة، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق على تقدير وقوعها، والظاهر من المجتهد الاطلاع عليه، أما قبل وقوع الواقعة، أو بعده بعد البحث الشديد والتفتيش التام، والظاهر تأدية نظره إلى وجه دلالته، فإن وجه دلالة الدليل أو الأمارة لا يخفى على المجتهد.
وأما الثالث: فلأنه إن ظهر عليهم قرائن السخط والغضب لم يكن مثل هذا الإجماع السكوتي حجة؛ لأن دلالة القرينة الحالية على الرد والمخالفة لا تقصر عن دلالة القولية، وإن لم يظهر عليهم ذلك، فالظاهر إنما هو الرضا والموافقة، لأن الإنكار عليهم واجب بتقدير أن يظهر لهم أنه خلاف الحق، فكان يجب عليهم إظهاره، فلما لم يظهروه لا بصريح القول ولا بدلالة الحالية، غلب على الظن الرضا والموافقة.
ولأن اتفاقهم مع كثرتهم وعدم خوفهم على إخفاء الغضب والسخط بحيث لم يظهر من واحد منهم ما ينبي عنه لا بصريح المقال ولا بقرينة الحال بعيد جدًا.
وأما الرابع والخامس، فلأنه وإن كان لا يبعد السكوت فيها على تقدير المخالفة أيضًا، بناء على جواز الحكم وصوابه على ذينك التقديرين، لكن يبعد السكوت على تقدير المخالفة، نظرًا إلى ما جرت به العادة المستمرة بين العلماء من زمن الصحابة إلى زماننا من المباحثة والمناظرة في إظهار مآخذهم في المسائل الاجتهادية، فلو أدى اجتهادهم إلى خلاف ذلك الحكم لوجب أن يظهروه جريًأ على مقتضى العادة، ولما لم يظهروه غلب على الظن عدم الأدية إلى المخالفة.
وأما السادس: فبعيد أيضًا؛ لأنه على خلاف ما عهد منهم من الصدع بالحق، والمسارعة إلى فعله، وإن كان بحيث قد يلحقهم في ذلك ضرر، ولو سلم ذلك لكنه في غاية البعد مع تطاول الزمان وانقراض العصر وبه يعرف مرجوحية احتمال السابع والثامن والتاسع.
ويخص التاسع أنه ظن كاذب والأصل خلافه، إما لأن الأصل عدم ما يوجبه، أو وإن وجد لكن الظاهر اطلاعهم على وجه الكذب.
وأما الاحتمال العاشر فبعيد أيضًا، لأن القائل بالحكم إن كان مثل الباقين أو دونهم فظاهر، وإن كان فوقهم بحيث يقدر على إيصال المكروه إليهم لو أراد كالإمام الأعظم، فكذلك أيضًا لوجهين:
أحدهما: ما سبق من أنه لا تأخذهم في الله لومة لائم.
وثانيهما: أنه إنما يخاف حيث يكون إظهار المخالفة يوجب الغضب والحقد، وذلك إنما يكون حيث يكون إظهار المخالفة على وجه التجهيل والتعبير والمغالبة، وكل ذلك خلاف الإجماع من أرباب الدين لا سيما مع الإمام الأعظم ونوابه. فأما إذا كان إظهار المخالفة لا على هذا الوجه بل على وجه النصح وترك الغش، وإظهار الحق، فلا يفضي إلى ذلك فلا يكون هناك تقية ولا خوف.
وأما الاحتمال الأخير فضعيف جدًا، إذ لا يلزم من عدم قدحه في العدالة أن لا ينكره، فإن الباعث على إنكاره حاصل وهو حرمة سكوته سواء كانت حيث تبلغ إلى أن يقدح في العدالة، أو لم يبلغ إلى ذلك الحد فظهر أن تلك الاحتمالات مرجوحة بالنسبة إلى احتمال الرضا، وإذا حصلت غلبة الظن بالرضا حصلت غلبة الظن بحصول الإجماع فيكون إجماعًا ظنيًا، ولا ندعي نحن سوى هذا القدر.
واعلم أن للنافين في الانفصال عنه طريقين:
أحدهما: أن يقولوا أنه لو كان إجماعًا لكان حجة قطعية، بناء على أن
كل إجماع فهو حجة قطعية، ولما سلمتم أنه [ليس] حجة قطعية لم يكن إجماعًا ولا يخفى عليك ضعف هذه الطريقة؟ إذ لا يمكن تقريرها لا من حيث الإلزام، ولا من حيث الدلالة
وثانيهما: أنا وإن سلمنا أن احتمال كون السكوت للرضا وإن كان راجحًا على كل واحد من [تلك] الاحتمالات، لكن لا نسلم رجحانه على مجموع تلك الاحتمالات فيتعارض كيفية أحد الجانبين بكمية/ (31/ أ) الجانب الآخر، فإن لم تترجح الكمية على الكيفية، فلا أقل من المساواة، وحينئذ لا يثبت احتمال كون السكوت للرضا راجحًا على تلك الاحتمالات فلا يحصل الإجماع.
واحتج القائلون بحجيته بوجهين:
أحدهما: أن الإجماع منعقد على الاحتجاج بالقول المنتشر بين الصحابة إذا لم يعرف له مخالف، فإن أبعد الناس عن القول به الشافعية، وكتبهم مشحونة بالتمسك به، وكذا كتب جميع أرباب المذاهب، والاستقراء يحققه، فلو لم يكن الإجماع السكوتي حجة لزم اتفاقهم على الباطل، وأدلة الإجماع تنفيه
ثم إن كان المقصود من هذه الحجة إثبات كونه حجة لا غير اكتفينا بهذا القدر، وإن رمنا إثبات كونه إجماعًا زدنا قولنا: إن ذلك إما أن يكون بناء على كونه إجماعًا، أو لا يكون بناء عليه. والثاني باطل، إذ لا عهد في الشرع بحجية شيء خارج عن مداركه المعروفة المنحصرة، فيتعين أن يكون لكونه إجماعًا.
وجواب الأول: منع انعقاد الإجماع عليه، ولعل الاحتجاج به على
وجه الإلزام، أو ممن يعتقد حجيته، أو على وجه الاستئناس به في المضائق لا أنه تقوم الحجة به، وإذا بطل انعقاد الإجماع على حجيته بطل ما يتفرع عليه.
ويخص الثاني: أنا لا نسلم أنه خارج عن مدارك الشرع، وإن كان خارجًا عن مداركه المتفقة عليها، وهذا لأن مثل هذا مدرك من مداركه عند البعض كإجماع الأكثر فإنه حجة، وليس بإجماع على رأي.
وثانيها: أن العادة جارية أن الجمع العظيم من الناس لا سيما من العلماء المتدينين إذا اعتقدوا خلاف ما انتشر من القول أظهروه إذا لم يكن هناك مانع قوي، ولو كان هناك مانع قوي لظهر، لإظهارهم ذلك للمخلصين من أصحابهم، لئلا ينسب إليهم التقصير في كتمان الحق ولاطلاع الناس غالبًا على مثل هذا المانع القوي الذي يجمع الجمع العظيم على الكتمان، ولما لم يظهر ذلك علمنا عدمه، وإذا لم يكن هناك مانع وجب إظهار المخالفة ولما لم يظهروا المخالفة علمنا الرضا به.
وجوابه: ما سبق من معارضة الكيفية بالكمية.
واحتج على ابن أبي هريرة: أن العلماء لم تزل يحضروا مجالس الحكام ولم ينكروا عليهم، ولو يجدونهم يحكمون على خلاف معتقدهم بخلاف ما إذا عرفوا ذلك من غيره؛ ولأن في الإنكار على الإمام نوعًا من الافتيات فيجمل السكوت بالنسبة إليهم على الامتناع منه، بخلاف الإنكار في حق غيرهم.
وجواب الأول: أن ذلك بعد تقرير المذاهب، فأما قبله فلا نسلم جريان العادة بذلك.
وعن الثاني: أن إظهار المخالفة على وجه النصح والعرض والمشاورة لا يعد افتياتًا.
فرع
القائلون بأن الإجماع السكوتي إجماع وحجة - اختلفوا فيما إذا قال بعض أهل العصر من أهل الحل والعقد قولاً، أو حكم بحكم، وانتشر ولم يعرف له مخالف هل يكون إجماعًا وحجة له أم لا؟
ذهب بعضهم إلى أنه ليس بإجماع وحجة، محتجين: بأنه إنما يكون الإجماع السكوتي إجماعًا وحجة بأن بعضهم قال بالحكم، وسكت الباقون مع العلم به. فلو كان ذلك الحكم خطأ، لحرم عليهم السكوت عن الإنكار فالسكوت إذن دليل الرضا، وهنا لم يكن حمل السكوت على الرضا لاحتمال أن يكون ذلك لعدم العلم به.
وذهب بعضهم: إلى أنه إجماع أو حجة. على الخلاف السابق لأن الظاهر وصوله إليهم مع الانتشار فيكون كالسكوت مع العلم به. وعلى هذا تأتي مذاهب التفصيل.
والحق فيه التفصيل، وهو: أن ذلك الحكم إن كان فيما تعم به البلوى فهو إجماع وحجة، أو حجة على الخلاف السابق، لأن الانتشار مع عموم البلوى به يقتضي علمهم بذلك الحكم فيكون كالسكوت مع العلم وإلا فلا، لاحتمال الذهول عنه.