الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
11 -
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشيب نور المؤمن، لا يشيب رجلٌ شيبةً في الإسلام إلا كانت له بكل شيبة حسنة، ورُفِع بها درجة)) (1).
12 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه:
((لا تنتفوا الشيب؛ فإنه نورٌ يوم القيامة
، ومن شاب شيبة في الإسلام، كُتب له بها حسنة، وحُطّ عنه بها خطيئة، ورُفِع له بها درجة)) (2).
وقد جاءت الأحاديث الكثيرة في هذا المعنى عن أكثر من عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الأحاديث الخمسة السابقة تبيّن فضل الشيب، وأنه لا يُنتف؛ لأنه نور المسلم، ووقاره؛ لأن الوقار يمنع الشخص عن الغرور والطرب، ويميل إلى الطاعة والتوبة، وتنكسر نفسه عن الشهوات، فيصير ذلك نوراً يسعى بين يديه في ظلمات الحشر إلى أن يدخله الجنة (3).
فالشيب يصير نفسه نوراً يهتدي به صاحبه، ويسعى بين يديه يوم القيامة، والشيب وإن لم يكن من كسب العبد، لكنه إذا كان بسبب من نحو جهاد أو خوف من الله ينزل منزلة سعيه، فيُكره نتف الشيب من نحو:
(1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، 5/ 205، برقم 6387، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1243. ورواه أبو داود بنحوه، في كتاب الترجل، باب في نتف الشيب، 4/ 85، برقم 4202.
(2)
ابن حبان في صحيحه 7/ 253، برقم 2985، وحسن إسناده شعيب الأرناؤوط، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 3/ 247، برقم 1243.
(3)
انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 9/ 2934.
لحية، وشارب، وعنفقة، وحاجب، قال النووي: لو قيل يحرم لم يبعد (1).
ومن غيّر بالسواد لا يحصل على هذا النور إلاّ أن يتوب أو يعفو الله عنه (2).
وهذا الشعر الأبيض يؤدي إلى نور الأعمال الصالحة، فيصير نوراً في قبر المسلم، ويسعى بين يديه في ظلمات حشره (3)، ويحصل هذا الفضل بشعرة واحدة بيضاء، تكون ضياء ومخلصاً عن ظلمات الموقف، وشدائده (4).
وهذا الفضل في هذه الأحاديث يرغِّب المسلم في ترك نتف الشيب، وأعظم من النتف التغيير بالسواد، فقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وحذّر منه، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أُتي بأبي قحافة يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((غيِّروا هذا بشيء واجتنبوا السواد)) (5)، والثغامة نبت أبيض الزهر، والثمر، شُبِّه بياض الشيب به، وقيل: شجرة تبيضّ كأنها الثلجة، أو كأنها الملح (6).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((غيّروا هذا بشيء)) أمرٌ بتغيير الشيب، قال به جماعة من: الخلفاء، والصحابة، لكن لم يَصِر أحد إلى أنه للوجوب، وإنما هو مستحبٌّ (7).
(1) انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير، للمناوي، 6/ 156.
(2)
انظر: المرجع السابق، 6/ 157.
(3)
انظر: مرقاة المفاتيح، للملا علي القاري، 8/ 235.
(4)
انظر: تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، للمباركفوري، 5/ 261.
(5)
صحيح مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب استحباب خضاب الشيب بصفرة أو حمرة وتحريمه بالسواد، 3/ 1663، برقم 4212.
(6)
المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 5/ 418.
(7)
المرجع السابق، 5/ 418، وسمعت شيخنا العلامة عبد العزيز ابن باز رحمه الله أثناء تقريره على الحديث رقم 5073، من سنن النسائي في: 21/ 8/1418هـ يقول: ((الخضاب سنة مؤكدة وليس واجباً)).
قال الإمام القرطبي رحمه الله: ((أما قولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخضب فليس بصحيح، بل قد صحّ عنه أنه خضب بالحنّاء، وبالصّفرة)) (1)، ولعل القرطبي رحمه الله يشير إلى حديث أبي رمثة رضي الله عنه حيث قال:((أتيت أنا وأبي النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وكان قد لطّخ لحيته بالحنّاء)) (2).
وعنه رضي الله عنه قال: ((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ورأيته قد لطّخ لحيته بالصّفرة)) (3).
وعن زيد بن أسلم قال: ((رأيت ابن عمر يُصفِّر لحيته، فقلت:
يا أبا عبد الرحمن، تُصفِّر لحيتك بالخلوق؛ قال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصفِّر بها لحيته ولم يكن شيء من الصبغ أحب إليه منها)) (4)، وهذا من فعله صلى الله عليه وسلم، أما من قوله فقد ثبت عنه أحاديث:
فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحسن ما غيرتم به الشيب: الحناءُ والكتم)) (5).
(1) المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 5/ 418.
(2)
النسائي، في كتاب الزينة، باب الخضاب بالحناء والكتم، 8/ 140، برقم 5083، وأبو داود، كتاب الترجل، باب في الخضاب، 4/ 86، برقم 4206، وصححه الألباني في صحيح النسائي،
3/ 1044.
(3)
النسائي، كتاب الزينة، باب الخضاب بالحناء والكتم، 8/ 140، برقم 5084، وأبو داود في كتاب الترجل، باب في الخضاب، 4/ 86، برقم 4208، وصححه الألباني في صحيح النسائي،
3/ 1044، وفي مختصر الشمائل المحمدية، ص40 - 41، برقم 36 - 37.
(4)
النسائي، كتاب الزينة، باب الخضاب بالصفرة، 8/ 140، برقم 1085، وصححه الألباني، في صحيح سنن النسائي، 3/ 1044.
(5)
النسائي، كتاب الزينة، باب الخضاب بالحناء والكتم، 8/ 139، برقم 5077 - 5080، ومن حديث عبد الله بن بريدة، برقم 5081 - 5082، وأخرجه أبو داود، كتاب الترجل، باب الخضاب، 4/ 85، برقم 4205.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم رجل قد خضب بالحناء فقال: ((ما أحسن هذا؟))، قال: فمر آخر قد خضب بالحناء والكتم فقال: ((هذا أحسن من هذا))، قال: فمر آخر قد خضب بالصفرة فقال: ((هذا أحسن من هذا كله)) (1).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس النعال السبتية، ويصفِّر لحيته بالورس والزعفران، وكان ابن عمر يفعله)) (2).
وسمعت شيخنا العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول: ((وقد جاء التصفير عن ابن عمر في الصحيحين، ويستثنى من التزعفر: ما كان في اللحية، أو الشارب، أو الرأس)) (3)، وسمعته أيضاً يقول:((والسنة الخضاب بالحناء أو بالصفرة، أو بالحناء والكتم)) (4).
قال الإمام القرطبي رحمه الله: ((وأما الصباغ بالحناء بحتاً، وبالحناء والكتم، فلا ينبغي أن يختلف فيه؛ لصحة الأحاديث بذلك، غير أنه قد
(1) أبو داود، كتاب الترجل، باب ما جاء في خضاب الصفرة، 4/ 86، برقم 4211، وقال العلامة الألباني في تحقيقه لمشكاة المصابيح:((وإسناده جيد))، 2/ 1266.
(2)
النسائي، كتاب الزينة، باب تصفير اللحية بالورس والزعفران، 8/ 186، برقم 5244، وأبو داود، كتاب الترجل، باب ما جاء في خضاب الصفرة، 4/ 86، برقم 4210، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 3/ 1065، برقم 4839، وصحيح سنن أبي داود، 2/ 792.
(3)
سمعته من سماحته، يوم الأحد بعد المغرب، في جامع الأميرة سارة أثناء شرحه لحديث رقم 5244، من سنن النسائي، بتاريخ 10/ 11/1418هـ.
(4)
سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 5085، من سنن النسائي في المكان السابق، بتاريخ 24/ 8/1418هـ.
قال بعض العلماء: إن الأمر في ذلك محمول على حالين:
* أحدهما: عادة البلد، فمن كانت عادة موضعه ترك الصبغ فخروجه عن المعتاد شهرة تَقْبُح وتكره.
* وثانيهما: اختلاف حال الناس في شيبهم، فربَّ شيبة نقية هي أجمل بيضاء منها مصبوغة، وبالعكس فمن قبَّحه الخضاب اجتنبه، ومن حسنه استعمله، وللخضاب فائدتان:
إحداهما: تنظيف الشعر مما يتعلق به من الغبار والدخان.
والأخرى: مخالفة أهل الكتاب (1)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم)) (2)، ثم قال رحمه الله:((ولكن هذا الصباغ بغير السواد، تمسكاً بقوله صلى الله عليه وسلم: ((واجتنبوا السواد))، والله أعلم (3)، وقال رحمه الله:((وقوله صلى الله عليه وسلم: ((واجتنبوا السواد)) أمر باجتناب السواد، وكرهه جماعة منهم: علي بن أبي طالب، ومالك، وهو الظاهر من هذا الحديث، وقد عُلِّلَ ذلك بأنه من باب التدليس على النساء؛ وبأنه سواد في الوجه، فيكره؛ لأنه تشبه بسيما أهل النار)) (4)، ثم ذكر رحمه الله جماعة كثيرة من السلف كانوا يخضبون بالسواد، وقال: ((ولا أدري عذر هؤلاء عن
(1) انظر: المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 5/ 420.
(2)
متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، 4/ 175، برقم 3462، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب في مخالفة اليهود في الصبغ، 3/ 6316، برقم 2103.
(3)
المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 5/ 420.
(4)
المرجع السابق، 5/ 419.
حديث أبي قحافة ما هو؟ فأقل درجاته الكراهة كما ذهب إليه مالك)) (1).
قلت: أما عذر السلف الذين كانوا يخضبون بالسواد، فيحمل على أنه لم يبلغهم حديث النهي الصريح عن الصبغ بالسواد، والله أعلم. وقال الإمام النووي رحمه الله:((ومذهبنا استحباب خضاب الشيب للرجل والمرأة بصفرة، أو حمرة، ويحرم خضابه بالسواد على الأصح)) (2).
ويؤكد اختيار الإمام النووي ومن سلك مسلكه في تحريم الخضاب بالسواد ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام، لا يريحون رائحة الجنة)) (3)، وسمعت سماحة العلامة الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول عن هذا الحديث:((إسناده جيد، وهذا يدل على تحريم تغيير الشيب بالسواد، ويقتضي أنه كبيرة؛ لأنه وعيد)) (4).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((كحواصل الحمام)) أي كصدور الحمام في الغالب؛ لأن صدور بعض الحمام ليست بسود (5).
(1) المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 5/ 419.
(2)
شرح النووي على صحيح مسلم، 14/ 325.
(3)
أبو داود، كتاب الترجل، باب ما جاء في خضاب السواد، 4/ 87، برقم 4212، والنسائي في كتاب الزينة، باب النهي عن الخضاب بالسواد، 8/ 138، برقم 5075، وأحمد في المسند،
1/ 273، وقال ابن حجر في فتح الباري، 6/ 499:((إسناده قوي))، وصحح إسناده العلامة الألباني في غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام، وقال: على شرط الشيخين، ص84.
(4)
سمعته منه أثناء شرحه لحديث رقم 5075، من سنن النسائي، في جامع الأميرة سارة بالبديعة، بعد مغرب يوم الأحد الموافق 21/ 8/1418هـ.
(5)
انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 9/ 2933، ومرقاة المفاتيح، للملاّ علي القاري، 8/ 232.
ومما يدل على قُبح الخضاب بالسواد ما بيَّنه بعض السلف الذين كانوا يخضبون بالسواد حيث قيل: إنه قال:
نُسَوِّدُ أعلاها وتأبى أصُولُها
…
ولا خير في الأعلى إذا فسد الأصل (1)
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((والصواب أن الأحاديث في هذا الباب لا اختلاف بينها بوجه؛ فإن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من تغيير الشيب أمران:
أحدهما: نتفه.
والثاني: خضابه بالسواد
…
والذي أذن فيه: هو صبغه وتغييره بغير السواد: كالحناء والصفرة، وهو الذي عمله الصحابة رضي الله عنهم
…
وأما الخضاب بالسواد فكرهه جماعة من أهل العلم، وهو الصواب بلا ريب لِمَا تقدم، وقيل للإمام أحمد: تكره الخضاب بالسواد؟ قال: إي والله، وهذه المسألة من المسائل التي حلف عليها
…
ورخص فيه آخرون، منهم أصحاب أبي حنيفة، وروي ذلك عن الحسن، والحسين، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن جعفر، وعقبه بن عامر، وفي ثبوته عنهم نظر، ولو ثبت فلا قول لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنته أحق بالاتباع، ولو خالفها من خالفها)) (2).
ويستخلص من الأحاديث الواردة في الشيب وخضابه ما يأتي:
(1) شرح مشكل الآثار، للطحاوي، 9/ 314.
(2)
تهذيب ابن القيم المطبوع مع معالم السنن للخطابي، 6/ 104.
أولاً: الشيب نور المسلم في الدنيا والآخرة.
ثانياً: المنع من نتف الشيب ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: الشيب تُزاد به الحسنات.
رابعاً: الشيب تُرفع به الدرجات.
خامساً: الشيب تُحطّ به الخطايا.
سادساً: تحريم صبغ الشيب بالسواد.
سابعاً: صبغ الشيب بالحناء، أو الصفرة، أو الحناء والكتم سنة مؤكدة.
ثامناً: الحناء: لونه أحمر، والحناء والكتم: لونه بين السواد والحمرة.
تاسعاً: من صبغ الشيب بالسواد من السلف فلا دليل له من كتاب ولا سنة.
عاشراً: لا قول لأحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كائناً من كان.
الحادي عشر: الشيب له أسباب غير كبر السن، فقد يكون مبكراً؛ لخوف الله عز وجل، أو لغيره من الأسباب، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله قد شبت؟ قال: ((شيبتني هودٌ، والواقعة، والمرسلات، وعمّ يتساءلون، وإذا الشمس كوِّرت)) (1).
وعن أبي جحيفة رضي الله عنه، قال: قالوا: يا رسول الله، نراك قد شبت؟ قال:((شيبتني هودٌ وأخواتها)) (2)، والله عز وجل الموفق للصواب.
13 -
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ((كنت أرجو أن يعيش
(1) الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب: ومن سورة الواقعة، 5/ 402، برقم 3297، وحسنه، وصححه الألباني مختصر شمائل الترمذي، ص40، برقم 34.
(2)
أخرجه الترمذي في الشمائل، وصححه الألباني في مختصر الشمائل، ص40، برقم 35.