المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفرع الأول في حكم قراءتها - الجامع في أحكام صفة الصلاة - الدبيان - جـ ٢

[دبيان الدبيان]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل التاسع في سكتات الصلاة

- ‌المبحث الأول في سكوت الإمام لدعاء الاستفتاح

- ‌الفرع الأول في حكم الاستفتاح

- ‌الفرع الثاني في قول المصلي (وأنا أول المسلمين) إذا استفتح بحديث علي رضي الله عنه

- ‌الفرع الثالث في استحباب الاستفتاح للمأموم

- ‌الفرع الرابع في استفتاح المأموم فيما يجهر به الإمام

- ‌الفرع الخامس في الأفضل من صيغ الاستفتاح

- ‌الفرع السادس السنة الاستفتاح الإسرار به

- ‌الفرع السابع في مشروعية سجود السهو لترك الاستفتاح

- ‌الفرع الثامن في فوات الاستفتاح

- ‌المطلب الأول في فوات الاستفتاح إذا شرع بالتعوذ

- ‌المطلب الثاني في استفتاح المسبوق إذا أدرك الإمام قائمَا في غير الركعة الأولى

- ‌المبحث الثاني في استحباب سكتة لطيفة بين الفاتحة والتأمين

- ‌المبحث الثالث في سكوت الإمام بعد الفراغ من التأمين

- ‌المبحث الرابع في حكم السكتة بعد الفراغ من القراءة وقبل الركوع

- ‌الباب السادس القراءة في الصلاة

- ‌الفصل الأول في قراءة الفاتحة وما يرتبط بها

- ‌المبحث الأول في حكم الاستعاذة

- ‌المبحث الثاني في صفة الاستعاذه

- ‌المبحث الثالث في محل الاستعاذه

- ‌المبحث الرابع في الجهر بالاستعاذة

- ‌المبحث الخامس في تكرار الاستعاذة في كل ركعة

- ‌المبحث السادس في مشروعية البسملة في الصلاة

- ‌الفرع الأول في قرآنية البسملة

- ‌الفرع الثاني في قراءة البسملة في الصلاة

- ‌الفرع الثالث في الجهر بالبسملة

- ‌المبحث السابع في قراءة الفاتحة في الصلاة

- ‌الفرع الأول في حكم قراءتها

- ‌الفرع الثاني

- ‌الفرع الثالث

- ‌الفرع الرابع في تكرار الفاتحة في كل ركعة

- ‌الفرع الخامس في قراءة المأموم فاتحة الكتاب

- ‌الفرع السادس في شروط قراءة الفاتحة

- ‌المسألة الأولى في وجوب قراءة الفاتحة بتشديداتها

- ‌المسألة الثانية في اشتراط الموالاة في قراءة الفاتحة

- ‌المسألة الثالثة في تنكيس القراءة

- ‌الفرع السابع في العجز عن قراءة الفاتحة وغيرها من القرآن

- ‌المسألة الأولى إذا لم يحسن القراءة من القرآن مطلقًا

- ‌مطلب في تعين بدل القرآن بجمل معينة

- ‌المسألة الثانية في المصلي إذا لم يعرف إلا بعض الفاتحة فقط

- ‌المسألة الثالثة في المصلي إذا كان معه بعض الفاتحة وغيرها من القرآن

- ‌المسألة الرابعة في المصلي يعجز عن الفاتحة ويعرف غيرها من القرآن

- ‌المسألة الخامسة في مقدار ما يجزئ عن الفاتحة من القرءان

- ‌المسألة السادسة في اشتراط أن تكون الآيات متوالية منتظمة المعنى

- ‌المسألة السابعة إذا عجز عن القرآن والذكر

- ‌الفرع الثامن في التأمين على دعاء الفاتحة

- ‌المسألة الأولى في معنى التأمين

- ‌المسألة الثانية في فضل التأمين

- ‌المسألة الثالثة في حكم التأمين

- ‌المطلب الأول في حكم التأمين خارج الصلاة

- ‌المطلب الثاني في التأمين داخل الصلاة

- ‌البند الأول في تأمين المنفرد والإمام

- ‌البند الثاني في تأمين المأموم

- ‌المقصد الأول في تأمين المأموم في السرية

- ‌المقصد الثاني في تأمين المأموم في الجهرية

- ‌الغصن الأول في تأمين المأموم على قراءة نفسه وعلى قراءة إمامه

- ‌الغصن الثاني في تأمين المأموم إذا لم يسمع قراءة إمامه

- ‌الغصن الثالث في تأمين المأموم إذا ترك إمامه التأمين

- ‌المسألة الرابعة في صفة التأمين

- ‌المطلب الأول في صفة تأمين الإمام

- ‌المطلب الثاني في صفة تأمين المأموم

- ‌المطلب الثالث في صفة تأمين المنفرد

- ‌المسألة الخامسة في موافقة المأموم للإمام في التأمين

- ‌المسألة السادسة في فوات التأمين

- ‌المسألة السابعة في حكم الزيادة على التأمين

- ‌الفصل الثاني في الأحكام المتعلقة بقراءة ما زاد على الفاتحة

- ‌المبحث الأول في حكم قراءة ما زاد على الفاتحة للإمام والمنفرد

- ‌الشرط الثاني: ألا يخالفه غيره من الصحابة

الفصل: ‌الفرع الأول في حكم قراءتها

‌المبحث السابع في قراءة الفاتحة في الصلاة

‌الفرع الأول في حكم قراءتها

المدخل إلى المسألة:

* لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب حديث في أعلى درجات الصحة اتفق عليه الشيخان، ودلالته نصية.

* كل نفي فإنه يحمل أولًا على نفي الوجود، فإن وجد العمل حمل النفي على الصحَّة، فإنْ صَحَّ حمل النفي على الكمال، ولما كانت صورة الصلاة قد توجد في الخارج من دون الفاتحة تعين حمل النفي على الصحة: أي لا صلاة صحيحة.

* يمكن حَمْلُ النفي في قوله: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) على الوجود، وذلك بحمل النفي على الصلاة الشرعية دون الباطلة؛ لأن ألفاظ الشارع محمولة على الحقيقة الشرعية؛ لكونه بعث لبيان الشرعيات دون اللغويات.

* لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب نفيٌّ بمعنى النهي: أي لا تصلوا إلا بقراءة فاتحة الكتاب، ونظيره: لا صلاة بحضرة طعام.

* ليست كل زيادة على النص تعتبر نسخًا حتى ترفع الحكم السابق.

[م-534] اختلف العلماء في حكم قراءة الفاتحة

فقال الحنفية: قراءة القرآن في الصلاة فرض: ولا يتعين ذلك في الفاتحة، وقراءة الفاتحة واجبة، والمراد بالواجب عندهم: ما تصح الصلاة بتركه مع الإثم ويجب بتركه ساهيًا سجدتا السهو

(1)

.

(1)

. تعبر كتب الحنفية أن قراءة القرآن في الصلاة فرض، واختلفوا في ركنيتها، وجمهورهم على أنها ركن، إلا أنهم قسموا الركن إلى: أصلي: وهوما لا يسقط إلا لضرورة.

وزائد: وهوما يسقط في بعض الصور من غير تحقق ضرورة، وجعلوا القراءة من هذا القسم، فإنها تسقط عن المأموم بالاقتداء، وتسقط عن مدرك الركوع بالإجماع، وهو تقسيم اصطلاحي، وإلا فالأصل أن الركن جزء من الماهية، فلا يوصف بالزائد، انظر البحر الرائق (1/ 308، 309).

ويفرق الحنفية بين الفرض والواجب خلافًا للجمهور، فالفرض ما ثبت بدليل قطعي، والواجب: ما ثبت بدليل ظني، ومن الفروق في الأحكام: أن الواجب يجبر تركه بسجود السهو خلافًا للفرض، فلا تصح الصلاة من دونه.

انظر: العناية شرح الهداية (1/ 276)، تحفة الفقهاء (1/ 96)، الهداية شرح البداية (1/ 47)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 56)، البحر الرائق (1/ 312)، المبسوط (1/ 19).

ص: 228

قال في بدائع الصنائع: «المفروض هو أصل القراءة عندنا من غير تعيين، فأما قراءة الفاتحة والسورة عينًا في الأوليين فليست بفريضة ولكنها واجبة»

(1)

.

وقال الجمهور: قراءة الفاتحة ركن

(2)

.

وقيل: قراءة الفاتحة سنة، اختاره ابن شبلون من المالكية، وبه قال أحمد في رواية إلا أنه قال: يجزئ غير الفاتحة، قال في الفروع: ظاهره أن الفاتحة سنة، وبه قال الحسن وجماعة من التابعين

(3)

.

(1)

. بدائع الصنائع (1/ 111، 160)،.

(2)

. المدونة (1/ 164)، الكافي في فقه أهل المدينة (1/ 201)، التاج والإكليل (2/ 211)، شرح الخرشي (1/ 269)، الفواكه الدواني (1/ 178)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (1/ 236)، مواهب الجليل (1/ 518)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 309)، شرح الزرقاني على مختصر خليل (1/ 351)، بداية المجتهد (1/ 134)، الذخيرة (2/ 182)، القوانين الفقهية (ص: 44)، المقدمات الممهدات (1/ 159).

وانظر في مذهب الشافعية: الأم (1/ 129)، المجموع (3/ 327)، فتح العزيز (3/ 308)، تحفة المحتاج (1/ 415)، مغني المحتاج (1/ 353)، نهاية المحتاج (1/ 476).

وانظر في مذهب الحنابلة: مسائل أحمد وإسحاق رواية الكوسج (2/ 529)، والروايتين والوجهين (1/ 117)، الإنصاف (2/ 112)، المغني (1/ 350)، الفروع (2/ 172)، المبدع (1/ 385)، الإقناع (1/ 133)، منتهى الإرادات (1/ 188).

(3)

. روى ابن أبي شيبة في المصنف (4002) بسند صحيح عن الحسن، عن رجل لم يقرأ بفاتحة الكتاب، قال: إن كان قرأ غيرها أجزأ عنه.

ورواه ابن أبي شيبة (4007) عن الحكم، وسنده حسن. =

ص: 229

* دليل من قال: الفاتحة ركن:

الدليل الأول:

(ح-1368) ما رواه البخاري ومسلم من طريق سفيان، عن الزهري، عن محمود بن الربيع،

عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب

(1)

.

ورواه الدارقطني من طريق زياد بن أيوب، عن ابن عيينة به، بلفظ: لا تجزئ صلاة لا يقرأ الرجل فيها بفاتحة الكتاب

(2)

.

[رواه زياد عن ابن عيينة بلفظ: (لا تجزئ) وهو شاذ]

(3)

.

= وانظر: حاشية الدسوقي (1/ 238)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 310)، التوضيح لخليل (1/ 335، 336).

جاء في مسائل حرب الكرماني، تحقيق الغامدي (ص: 103): وقال أحمد في رجل يصلي، فلما قام في الركعتين نسي أن يقرأ فاتحة الكتاب، وقرأ قرآنًا، قال: وما بأس بذلك، أليس قد قرأ القرآن؟. اهـ

وقال في الإنصاف (2/ 112): «وعنه -أي عن أحمد- ليست ركنًا مطلقًا، ويجزئه آية من غيرها، قال: في الفروع: وظاهره، ولو قصرت

وأن الفاتحة سنة».

وهذا القول يتفق مع الحنفية أن الفاتحة ليست ركنًا، ويختلف عنهم بأن الحنفية يرون أن الفاتحة واجبة، وتجبر بسجود السهو، وإن كان الحنفية يرون أن ترك الواجب عمدًا لا يبطل الصلاة، وتركه سهوًا يجبر بسجود السهو، بخلاف هذه الرواية عن أحمد فهو يرى أن الواجب هو قراءة آية من القرآن، ولا تتعين الفاتحة، وأن قراءة الفاتحة سنة. وانظر: الروايتين والوجهين (1/ 117)، المغني (1/ 343)، الفروع (2/ 172).

(1)

. صحيح البخاري (756)، وصحيح مسلم (34 - 394).

(2)

. سنن الدارقطني (1225)، ومن طريقه رواه البيهقي في القراءة خلف الإمام (20).

(3)

. رواه زياد بن أيوب عن سفيان، عن الزهري، عن محمود بن الربيع، عن عبادة به مرفوعًا بلفظ:(لا تجزئ) وزياد ثقة،

وتابعه على ذلك العباس بن الوليد، أخرجه الإسماعيلي في مستخرجه وساقه الحافظ ابن حجر بإسناده إليه كما في موافقة الخبر الخبر (1/ 415) حدثنا عمران بن موسى من أصل كتابه، حدثنا عباس بن الوليد النرسي، حدثنا عن سفيان بن عيينة به،

قال الحافظ في موافقة الخبر الخبر (1/ 414)، والعباس وزياد كلاهما من شيوخ البخاري، والله أعلم. =

ص: 230

وجه الاستدلال:

لنا ثلاثة طرق في توجيه الاستدلال بالحديث على بطلان الصلاة إذا لم تقرأ فيها فاتحة الكتاب.

الطريق الأول:

أن النفي إذا ورد على عبادة، فإنه يحمل أول ما يُحمَل على نفي الوجود، فإن لم يمكن حُمِل على نفي الصحة، فإن لم يمكن حُمِل على نفي الكمال.

وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لا صلاة

) فالنفي هنا لا يمكن حمله على وجود الصلاة؛ لتصور وجود صورة الصلاة في الخارج، فصار النفي محمولًا على الإجزاء:

= فلعلهما رويا الحديث بالمعنى، إلا أن مخالفتهما لكبار أصحاب ابن عيينة تجعل روايتهما شاذة، ومن هؤلاء:

ابن المديني عند البخاري (756)، والسنن الكبرى للبيهقي (2/ 233).

وإسحاق بن راهويه، كما في صحيح مسلم (34 - 394).

وابن أبي شيبة كما في صحيح مسلم (34 - 394)، وهو في مصنف ابن أبي شيبة (3618)، وصحيح ابن حبان (1782).

والإمام أحمد كما في المسند (5/ 314).

والحميدي، كما في مسنده (390)، ومستخرج أبي عوانة (1664)، والسنن الكبرى للبيهقي (2/ 56)، والقراءة خلف الإمام للبيهقي (18).

والشافعي، كما في المسند (ص: 36).

ومحمد بن منصور كما في المجتبى من سنن النسائي (910)، والسنن الكبرى له (984).

وابن أبي عمر وعلي بن حجر كما في سنن الترمذي (247).

وهشام بن عمار، وسهل بن أبي سهل، وإسحاق بن إسماعيل كما في سنن ابن ماجه (837).

وعبد الجبار بن العلاء كما في صحيح ابن خزيمة (488)، وسنن الدارقطني (1225).

وابن المقرئ ومحمود بن آدم وعلي بن خشرم كما في المنتقى لابن الجارود (185).

وحجاج بن منهال كما في المسند للشاشي (1277)،

وسوار بن عبد الله العنبري، ومحمد بن عمرو بن سليمان كما في سنن الدارقطني (1225).

والحسن بن محمد الزعفراني كما في سنن الدارقطني (1225)، والسنن الكبرى للبيهقي (2/ 56)، والقراءة خلف الإمام للبيهقي (17).

وعبد الله بن عمر بن أبان كما في شعار أصحاب الحديث لأبي أحمد الحاكم (47)، كل هؤلاء وغيرهم رووه عن سفيان بن عيينة به، ولم يقل واحد منهم لفظ: (لا تجزئ

)، والله أعلم.

ص: 231

أي لا صلاة صحيحة، ولا يصح حمله على التمام، أي: لا صلاة كاملة؛ لأن نفي الإجزاء هو السابق إلى الفهم، ولأنه يستلزم نفي الكمال من غير عكس.

ولأن النفي لم يتوجه للصلاة، وإنما توجه على حصول الصلاة للرجل، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ

) وهو عبارة عن نفي الانتفاع بها، ونفي خروجه من العهدة، وذلك يعني عدم صحتها.

وقوله: (لا صلاة) نكرة في سياق النفي، فتعم الفريضة والنافلة.

الطريق الثاني:

أن المراد من نفي الصلاة نفي الصلاة بمعناها الشرعي، لا اللغوي؛ لأن ألفاظ الشارع محمولة على عرفه؛ لأنه المحتاج إليه فيه، لكونه بعث لبيان الشرعيات لا لبيان موضوعات اللغة، وإذا كان المنفي الصلاة الشرعية استقام دعوى نفي الذات؛ فعلى هذا لا يحتاج إلى إضمار الإجزاء، ولا الكمال، لأنه يؤدي إلى الإجمال، ولأن نفي الإجزاء هو السابق إلى الفهم، ولأن المركب كما أنه ينتفي بانتفاء جميع أجزائه فكذلك بانتفاء بعضها، ولأنه روي بلفظ: لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب

(1)

.

الطريق الثالث:

لا يمتنع أن يكون النفي في قوله: لا صلاة نفي بمعنى النهي: أي لا تصلوا إلا بقراءة فاتحة الكتاب، ونظيره ما رواه مسلم من طريق القاسم عن عائشة مرفوعًا: لا صلاة بحضرة الطعام، فإنه في صحيح ابن حبان: لا يصلي أحدكم بحضرة الطعام

(2)

.

الدليل الثاني:

(ح-1369) ما رواه الإمام مسلم من طريق سفيان بن عيينة، عن العلاء، عن أبيه،

عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثًا غير تمام. فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام؟ فقال: اقرأ

(1)

. انظر فتح الباري (2/ 241).

(2)

. انظر المرجع السابق.

ص: 232

بها في نفسك

الحديث

(1)

.

ورواه ابن خزيمة من طريق وهب بن جرير، أخبرنا شعبة، عن العلاء بن عبد الرحمن به، بلفظ: لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، قلت: فإن كنت خلف الإمام، فأخذ بيدي، وقال: اقرأ بها في نفسك يا فارسي

(2)

.

[لفظ: (لا تجزئ) لفظ شاذ، وقد رواه أصحاب شعبة بلفظ: فهي خداج، وكذا رواه الثقات عن العلاء بن عبد الرحمن]

(3)

.

(1)

. صحيح مسلم (38 - 395).

(2)

. صحيح ابن خزيمة (490).

(3)

. الحديث مداره على العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة.

فرواه ابن خزيمة في صحيحه (490)، وابن حبان (1789)، وأبو أحمد الحاكم في شعار أصحاب الحديث (49)، والبيهقي في القراءة خلف الإمام (62)، من طريق وهب بن جرير، عن شعبة، عن العلاء به.

قال ابن حبان: لم يقل في خبر العلاء هذا: (لا تجزئ صلاة) إلا شعبة، ولا عنه إلا وهب بن جرير، ومحمد بن كثير.

وقد خالفهما في شعبة جمع من الرواة، منهم:

محمد بن جعفر كما في مسند أحمد (2/ 457)، ومسند البزار (8297)، والقراءة خلف الإمام للبيهقي (ص: 196).

ووكيع كما في مسند أحمد (2/ 478)، ومستخرج أبي عوانة (1676)،

وابن أبي عدي كما في القراءة خلف الإمام للبخاري (162)،

وسعيد بن عامر كما في مسند أبي يعلى (6454)، وشرح معاني الآثار (3/ 122، 215)،

وداود بن إبراهيم القزويني كما في القراءة خلف الإمام للبيهقي (ص: 195)،

ويحيى بن سعيد كما في القراءة خلف الإمام (ص: 195، 196)،

وعبد الله بن المبارك كما في الكامل لابن عدي (6/ 373)، سبعتهم رووه عن شعبة به، بلفظ: من صلى صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج. ولم يقل أحد منهم: (لا تجزئ

).

قال ابن حجر في النكت (2/ 807): «وانفرد وهب بن جرير عن شعبة بلفظ: (لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب)، حتى زعم بعضهم أن هذه الرواية مفسِّرة للخداج الذي في الحديث، وأنه عدم الإجزاء وهذا لا يتأتى له إلا لو كان مخرج الحديث مختلفًا، فأما والسند واحد متحد فلا ريب في أنه حديث واحد اختلف لفظه، فتكون رواية وهب بن جرير شاذة بالنسبة إلى ألفاظ بقية الرواة؛ لاتفاقهم دونه على اللفظ الأول؛ لأنه يبعد كل البعد أن يكون =

ص: 233

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= أبو هريرة سمعه باللفظين، ثم نقل عنه ذلك، فلم يذكره العلاء لأحد من رواته على كثرتهم إلا لشعبة، ثم لم يذكره شعبة لأحد من رواته على كثرتهم إلا لوهب بن جرير». اهـ

وقد رواه ابن عيينة، كما في صحيح مسلم (38 - 395)، ومسند الشافعي (221)، ومسند أحمد (2/ 241)، ومسند الحميدي (1003، 1004)، والسنن الكبرى للنسائي (7959)، والقراءة خلف الإمام للبخاري (42، 53)، وحديث السراج (2510)، ومستخرج أبي عوانة (1680)، والسنن الكبرى للبيهقي (2/ 57)،

وروح بن القاسم كما في القراءة خلف الإمام للبخاري (11)،

والدراوردي كما في مسند الحميدي (1004) وسنن الترمذي (2953)، والقراءة خلف الإمام للبخاري (51)، ومستخرج أبي عوانة (1680)، وصحيح ابن حبان (1795).

وإسماعيل بن جعفر بن أبي كثير كما في أحاديثه رواية علي بن حجر (291)، والقراءة خلف الإمام للبخاري (50)، وحديث السراج (229، 1899، 2508)، وشعار أصحاب الحديث لأبي أحمد الحاكم (48)، والقراءة خلف الإمام للبيهقي (69).

وعبد العزيز بن أبي حازم كما في مسند الحميدي (1004)، سنن ابن ماجه (3784)، والقراءة خلف الإمام للبخاري (48)، ومستخرج أبي عوانة (1680)،

وابن سمعان: عبد الله بن زياد بن سليمان كما في سنن الدارقطني (1189)، والسنن الكبرى للبيهقي (2/ 59)،

وسعد بن سعيد كما في صحيح ابن حبان (1788)،

وابن أبي أويس كما في علل الترمذي الكبير (110)، مستخرج أبي نعيم على مسلم (876)، السنن الكبرى للبيهقي (2/ 58).

وأبو غسان (محمد بن مطرف) كما في القراءة خلف الإمام للبيهقي (70).

وإبراهيم بن طهمان كما في التوحيد لابن منده (189)، والقراءة خلف الإمام للبيهقي (67).

وعبد الله بن جعفر كما في التفسير من سنن سعيد بن منصور (168)،

والحسن بن الحر كما في صحيح ابن حبان (776)، والمخلصيات لأبي طاهر المخلص (1406)،

وزهير بن محمد العنبري كما في القراءة خلف الإمام للبيهقي (74)، فهؤلاء ثلاثة عشر راويًا رووه عن العلاء عن أبيه، عن أبي هريرة ولم يذكروا فيه لفظ: (لا تجزئ صلاة

)، والله أعلم.

ولم ينفرد به عبد الرحمن بن يعقوب والد العلاء، فقد تابعه أبو السائب عن أبي هريرة.

رواه مسلم (39 - 395) من طريق مالك،

ورواه مسلم أيضًا (40 - 395) من طريق ابن جريج، كلاهما عن العلاء بن عبد الرحمن، أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهرة، يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث الجماعة عن العلاء.

وهو محفوظ عن العلاء بالطريقين، عن أبيه، وعن أبي السائب، فقد رواه مسلم (41 - 395) =

من طريق أبي أويس: (عبد الله بن عبد الله بن أويس) عن العلاء بن عبد الرحمن، قال: سمعت من أبي ومن أبي السائب جميعًا، وكانا جليسي أبي هريرة، قالا: قال أبو هريرة، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج، فهي خداج غير تمام».

ص: 234

وجه الاستدلال:

أن الخداج في اللغة: هو الفاسد، فدل على بطلان الصلاة ب من دون الفاتحة.

* جواب الحنفية عن الحديث:

قوله (خداج غير تمام) فقد فسر الخداج بقوله: غير تمام، أي ناقص، والنقص لا يستلزم البطلان فإثبات صلاة ناقصة ينفي بطلانها؛ إذ لا يجوز أن يوصف الباطل بالنقصان؛ إذ الباطل لا يثبت منه شيء.

* ورد هذا:

بأنه لا يسلم بأن الخداج هو النقصان، بل المراد به الفساد، ذكر ذلك الخطابي وابن عبد البر.

وعلى التسليم فإن النقص على قسمين: نقص يستلزم البطلان، وهو النقص من الفرائض، وهو ما يصدق عليه أنه نقص حقيقة، فمن خرج من صلاته قبل إتمامها فعليه إعادتها، والإتيان بها كما أمر، ومن ادَّعَى جوازها مع الإقرار بنقصها فعليه الدليل.

ونقص لا يستلزم البطلان، كالنقص الذي يطال مستحبات الصلاة، وهي صلاة تامة من حيث الإجزاء، وتسميتها ناقصة تجوزًا، وإلا هي من حيث الحقيقة والشرع صلاة تامة، فإذا أطلق النقص في الشرع فالأصل في الإطلاق الشرعي والحقيقي، وإذا حمل حديث أبي هريرة على حديث عبادة المتفق على صحته، في قوله: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، أي لا صلاة شرعية كان نقص الفاتحة من القسم الأول، والله أعلم.

قال الباجي في المنتقى: «اسم الصلاة يطلق على المجزئ منها وغير المجزئ يقال صلاة فاسدة وصلاة غير مجزئة كما يقال صلاة صحيحة وصلاة مجزئة وإطلاق اسم النقصان عليها يقتضي نقصان أجزائها والصلاة لا تتبعض، فإذا بطل

ص: 235

بعضها بطل جميعها، ولا يجوز أن يطلق اسم النقصان على عدم الفضيلة لمن كملت أجزاؤه، ووصف الصلاة بأنها خداج إذا لم يقرأ بأم القرآن يعني فسادها، وقد أكد ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: غير تام»

(1)

.

الدليل الثالث:

(ح-1370) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن جعفر بن ميمون، قال: حدثنا أبو عثمان النهدي،

عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يخرج فينادي أن: لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب، فما زاد

(2)

.

[انفرد به جعفر بن ميمون على اختلاف عليه في لفظه ومخالفته للأحاديث الصحيحة كحديث عبادة وحديث أبي هريرة وغيرهما]

(3)

.

(1)

. المنتقى شرح الموطأ (1/ 157).

(2)

. المسند (2/ 428).

(3)

. الحديث له أكثر من علة:

العلة الأولى: أن الحديث انفرد به جعفر بن ميمون، ولا يحتمل تفرده،

قال ابن معين: ليس بثقة. تاريخ ابن معين رواية الدوري (2831)، الضعفاء الكبير (1/ 189).

والأصل أن ما قيل فيه: ليس بثقة، أنه جرح شديد، وقد يراد بهذا اللفظ: أنه لم يبلغ مبلغ ما يقال فيه: إنه ثقة للينه، ولكونه قد عرف بكثرة الخطأ، أو الوهم، وإن كان الأصل فيه الصدق، ولذلك قال فيه ابن معين في رواية أخرى: صالح الحديث. تاريخ ابن معين رواية الدوري (4149).

وقال فيه في رواية ثالثة: ليس بذاك. تاريخ ابن معين رواية الدوري (4236)، الجرح والتعديل (2/ 490).

وقال أبو داود كما في سؤالات الآجري (354): سمعت يحيى بن معين يضعفه.

وقال النسائي: جعفر بن ميمون ليس بالقوي. الضعفاء والمتروكون (110).

وقال أحمد كما في العلل رواية عبد الله (3/ 103): حدث عنه يحيى والثوري وأبو عبيدة الحداد، أخشى أن يكون ضعيف الحديث.

وقال أحمد في رواية أخرى: ليس بقوي في الحديث. الجرح والتعديل (2/ 490).

وساق العقيلي حديثه هذا، وقال: لا يتابع عليه، والحديث في هذا الباب ثابت من غير هذا الوجه. الضعفاء الكبير (1/ 189).

وقال الدارقطني كما في سؤالات البرقاني (78): بصري يحدث عنه الثوري وغيره، يعتبر به. =

ص: 236

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وسكت عليه الإمام البخاري في التاريخ الكبير (2/ 200).

قال البزار في مسنده (17/ 18): «وهذا الحديث لا نعلمه يُروى بهذا اللفظ إلا عن أبي عثمان عن أبي هريرة، وجعفر بن ميمون: بصري مشهور» .

وقال الحاكم في المستدرك (872): «هذا حديث صحيح لا غبار عليه؛ فإن جعفر بن ميمون العبدي من ثقات البصريين، ويحيى بن سعيد لا يحدث إلا عن الثقات» .

العلة الثانية: الاختلاف في لفظه، فقد روي عنه بثلاثة ألفاظ:

اللفظ الأول: لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد.

رواه أحمد (2/ 428)، والبخاري في القراءة خلف الإمام (7)، والبزار في مسنده (9526)، وابن الجارود في المنتقى (186)، والجصاص في أحكام القرآن (2/ 25)، والدارقطني في السنن (1224)، والحاكم في المستدرك (872)، والبيهقي في القراءة خلف الإمام (41)، وفي المعرفة (2/ 359)، وابن عبد البر في التمهيد (11/ 45)، عن يحيى بن سعيد القطان.

ورواه الجصاص في أحكام القرآن للجصاص (1/ 24) من طريق ابن بشار.

والبخاري في القراءة خلف الإمام (189) حدثنا قتيبة، حدثنا سفيان (يعني ابن عيينة)، أربعتهم رووه عن جعفر بن ميمون، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي هريرة ..

كما تابعهم الثوري من رواية قبيصة بن عقبة عنه (صدوق، وضعيف في الثوري).

رواه البخاري في القراءة خلف الإمام (58)،

وحنبل بن إسحاق كما في مجموع مصنفات أبي جعفر ابن البختري (703)، والسنن الكبرى للبيهقي (2/ 86)، وفي المعرفة (2/ 359)،

والعباس بن محمد الدوري كما في السنن الكبرى للبيهقي (2/ 55)، وفي القراءة خلف الإمام له (38)،

وحفص بن عمر كما في الحلية لأبي نعيم (7/ 124)،

والسري بن يحيى كما في أحاديثه (169)، كلهم رووه عن قبيصة، عن سفيان به، بلفظ يحيى بن سعيد القطان.

ورواه الخطيب في موضح أوهام الجمع والتفريق (1/ 533) من طريق محمد بن غالب، حدثنا قبيصة، عن سفيان به، بلفظ: (

لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب)، ولم يذكر قوله:(فما زاد).

وقد رواه البيهقي في القراءة خلف الإمام (40) من طريق محمد بن غالب، وذكر قوله:(فما زاد) إلا أنه قد قرنه برواية غيره، فأخشى ألا يكون هذا لفظ محمد بن غالب.

ورواه معاوية بن هشام القصار (صدوق له أوهام) كما في الإغراب للنسائي (5)، حدثنا سفيان الثوري به، بلفظ:(لا تجزئ صلاة إلا بقراءة، ولو بفاتحة الكتاب فما زاد)، فعبر بلفظ:(لا تجزئ)، وجعل الواجب هو القراءة، ولم تتعين بالفاتحة.

فهذه ثلاثة ألفاظ رويت عن الإمام سفيان الثوري، وأرجحها ما وافق رواية يحيى بن سعيد القطان. =

ص: 237

* دليل الحنفية على أن قراءة غير الفاتحة يجزئ عنها:

الدليل الأول:

قال الله تعالى: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20].

= اللفظ الثاني: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب.

رواه سليمان بن حرب، عن وهيب، واختلف على سليمان في لفظه:

رواه البيهقي في السنن الكبرى (2/ 524) وفي القراءة خلف الإمام (43)، من طريق أبي أحمد بن عبد الوهاب،

ورواه أيضًا في القراءة خلف الإمام (44) من طريق يوسف بن يعقوب، كلاهما عن سليمان بن حرب به، بلفظ: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب. وهذا يوافق حديث عبادة بن الصامت.

ورواه العقيلي في الضعفاء الكبير (189) من طريق إبراهيم بن محمد، قال: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا وهيب، عن جعفر بن ميمون به، بلفظ: لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب وما زاد، وهذا اللفظ يوافق لفظ يحيى بن سعيد القطان، ولفظ الثوري من رواية قبيصة عنه.

اللفظ الثالث: لا صلاة إلا بقرآن، ولو بفاتحة الكتاب فما زاد.

وهذا اللفظ قريب من لفظ الثوري من رواية معاوية بن هشام، عنه، إلا أن معاوية رواه بلفظ: (لا تجزئ صلاة

)، وهذا قال: (لا صلاة إلا بقرآن

)، فالأول نفىٌ للإجزاء، والثاني: نَفْيٌ للصلاة، وهما بمعنى.

رواه إسحاق بن راهويه (126)، ومن طريقه البخاري في القراءة خلف الإمام (70)، وابن حبان في صحيحه (1791)، والبيهقي في القراءة خلف الإمام (42).

وأبو داود في السنن (819)، وعنه الجصاص في أحكام القرآن (1/ 22)، عن إبراهيم بن موسى الرازي كلاهما (إسحاق وإبراهيم) روياه عن عيسى بن يونس، عن جعفر بن ميمون به.

ورواه العقيلي في الضعفاء الكبير (1/ 189) من طريق سليمان بن حرب، قال: حدثنا وهيب، قال: حدثنا جعفر بن ميمون به، بلفظ:(لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب وما زاد).

العلة الثالثة: مخالفة هذا الحديث لما هو أصح منه.

فقد خالف هذا الحديث حديث أبي هريرة في مسلم: من صلى صلاة لم يقرأ فيها أم القرآن فهي خداج، وسبق تخريجه.

ولحديث عبادة بن الصامت المتفق على صحته، (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وسبق تخريجه.

فهذه ثلاث علل، كل واحدة منها تقضي تضعيف الحديث.

وقد ضعف الحديث النووي في المجموع وذكره في قسم الضعيف في الخلاصة.

كما ضعف الحديث العقيلي في الضعفاء، وسبق نقل كلامه.

وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح لا غبار عليه؛ فإن جعفر بن ميمون العبدي من ثقات البصريين، ويحيى بن سعيد لا يحدث إلا عن الثقات» . اهـ

ص: 238

وجه الاستدلال:

الآية الكريمة أمرت بقراءة ما تيسر، والأمر مطلق، وما تيسر: عام في جميع ما تيسر، ومن ضرورته عدم توقف الجواز على قراءة الفاتحة؛ لأن الآية اقتضت التخيير في المفروض من القراءة.

والقول بفرض قراءة الفاتحة لحديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) زيادة على نص الآية، ومسقط للتخيير الذي فيها، والزيادة على النص نسخ، والقول به يؤدي إلى نسخ القرآن بخبر الآحاد، وهو لا يجوز، إلا أنه يوجب العمل، فمطلق القراءة في الصلاة فرض بموجب الآية، وقراءة الفاتحة في الصلاة واجبة وليست بفرض، وتجبر بسجود السهو؛ لثبوتها بخبر الآحاد، فعملنا بهما على وجه لا يتغير به حكم الكتاب تفريقًا بين الفرض والواجب على أصول الحنفية، فالفرض: ما ثبت بدليل قطعي. والواجب: ما ثبت بدليل ظني

(1)

.

* ويجاب عن استدلال الحنفية بأجوبة:

الجواب الأول:

لا نسلم أن الزيادة على النص نسخ؛ لأن الزيادة إن رفعت الحكم الشرعي كانت نسخًا، وإن لم ترفعه لم تكن نسخًا، فالأمر بقراءة الفاتحة لا يرفع حكم الأمر بقراءة ما يتيسر.

قال الشافعي: الزيادة على النص تخصيص

(2)

.

وجه ذلك: أن قوله تعالى: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] عام، وقوله صلى الله عليه وسلم:(لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) خاص، وهو جار على تخصيص الكتاب بالسنة، قال الشنقيطي في أضواء البيان: تخصيص الكتاب بالسنة كثير، ونسبه العراقي في طرح التثريب لجمهور الأصوليين.

ومن أمثلة ذلك: تخصيص قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} بقوله صلى الله عليه وسلم في السنة: لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها.

(1)

. انظر المبسوط (1/ 19)، تبيين الحقائق (1/ 105).

(2)

. البحر المحيط في أصول الفقه (5/ 19)، المنخول (ص: 395).

ص: 239

وتخصيص قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} بقوله صلى الله عليه وسلم في البحر: هو الطهور ماؤه الحل ميتته، وحديث: أحلت لنا ميتتان ودمان.

وتحريم الميتة بالكتاب يشمل الأكل وغيره، وخصت السنة ذلك منها بالأكل.

والخاص مقدم في الحكم على العام.

الجواب الثاني:

قال الماوردي: الآية مجملة فسرها قوله صلى الله عليه وسلم لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، لأن ظاهرها متروك بالاتفاق، لأنه لو تيسر عليه سورة البقرة لم يلزمه، ولو تيسر عليه بعض آية لم يجزه.

الجواب الثالث:

التفريق بين الفرض والواجب، ليس قائمًا على حقيقة شرعية، فقوله صلى الله عليه وسلم:(لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) دلالته على الركنية أقوى من دلالة قوله تعالى: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} ؛ لأن القطعي والظني إن كان لثبوت الدليل فالآية الكريمة أقوى من حديث (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)، والقرآن كله قطعي الثبوت، ولكن الثبوت لا علاقة له بالدلالة.

وإن كان الفرق بين الآية الكريمة والحديث من حيث الدلالة: وهي ما يوجبه الدليل، ويقتضيه اللفظ- فحديث (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) أقوى من الآية الكريمة في إفادة الركنية، فالأمر بالقراءة في الآية الكريمة يفيد وجوب القراءة، ولا يفيد الركنية؛ لأن الركنية قدر زائد على الوجوب، بخلاف نفي الصلاة؛ لانتفاء الفاتحة فإنه يفيد الركنية؛ وإذا اتفق الحنفية مع الجمهور على وجوب العمل بالدليل الظني، فإن وجوب العمل به لا يعني إلا وجوب العمل بدلالته، وهو القول بركنية الفاتحة، فوقع الحنفية في خطأين.

أحدهما: استفادة ركنية القراءة من الأمر بالقراءة في الآية، وليس فيها ما يدل على الركنية.

الثاني: إلغاء إفادة الركنية من الحديث، مع قوة دلالته على الركنية.

الجواب الرابع:

أن آية المزمل مكية، وكان نزولها قبل نزول الفاتحة، وقد وردت في قدر قيام

ص: 240

الليل، لا في قدر القراءة، فكان قيام الليل في أول الأمر، كما أخبر الله في أول الآية:{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ} ثم نسخ تخفيفًا بقوله: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20].

* واعترض على هذا:

بأن الأمر جاء في حديث أبي هريرة في قصة المسيء في صلاته، وهو متفق عليه وسوف يأتي إن شاء الله تعالى نقله ومناقشته.

الجواب الخامس:

أن الحنفية قد عملوا بأخبار آحاد مع أنها تضمنت زيادة على ما جاء في القرآن الكريم، فقال تعالى:{يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} .

وخصص الحنفية عموم (الأولاد) بما ورد في السنة: لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم.

وخصص الحنفية العام في قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} بقوله صلى الله عليه وسلم في السنة: لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها.

وقال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6]، وأجاز الحنفية الوضوء بالنبيذ.

الدليل الثاني:

(ح-1371) ما رواه البخاري، ومسلم من طريق يحيى بن سعيد (القطان)، عن عبيد الله (العمري)، قال: حدثنا سعيد المقبري، عن أبيه،

عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجل، فصلى، ثم جاء، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام، فقال: ارجع فَصَلِّ فإنك لم تُصَلِّ، فصلى، ثم جاء، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ارجع فَصَلِّ، فإنك لم تُصَلِّ، ثلاثًا، فقال: والذي بعثك بالحق، فما أحسن غيره، فعلمني، قال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ....

(1)

.

(1)

. البخاري (793)، ومسلم (45 - 397).

ورواه البخاري (6251) ومسلم (46 - 397) من طريق عبد الله بن نمير، =

= ورواه مسلم من طريق أبي أسامة كلاهما حدثنا عبيد الله به، بلفظ: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر

وذكر الحديث

ص: 241

وجه الاستدلال:

أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بأن يقرأ بما تيسر، ولم يقيد ذلك بالفاتحة، ولو كانت قراءة الفاتحة فرضًا لأخبره بذلك.

* ويجاب عن هذا الحديث:

الجواب الأول:

أن هذا الحديث ظاهره يدل على أن قراءة الفاتحة ليست بفرض، وحديث عبادة المتفق على صحته:(لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وحديث أبي هريرة في مسلم:(كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج غير تمام) يدلان نصًّا على أن قراءة الفاتحة فرض، وإذا كان أحد الدليلين جرى على وفق البراءة الأصلية، وكان الدليل الآخر ناقلًا عنها، قُدِّمَ الناقل عن البراءة الأصلية.

الجواب الثاني:

مما يدل على وجوب قراءة الفاتحة أن أبا هريرة الراوي لحديث المسيء في صلاته قد أمر بقراءة الفاتحة كما في صحيح مسلم، حين قيل له: إنا نكون وراء الإمام، فقال أبو هريرة: اقرأ بها في نفسك، ومن أصول الحنفية أن رأي الراوي مقدم على روايته؛ لأنه أعلم بما روى، كما قال ذلك الحنفية في الغسل من ولوغ الكلب في الإناء ثلاثًا تقديمًا لرأي أبي هريرة على روايته بالغسل سبعًا، ونظائرها كثيرة في مذهب الحنفية.

الجواب الثالث:

أجاب الحافظ ابن حجر بأنه قد ورد في حديث المسيء تفسير ما تيسر بالفاتحة وبما شاء الله أن تقرأ، ووقع في بعض طرقه:(ثم اقرأ إن كان معك قرآن، فإن لم يكن فاحمد الله، وكبر، وهلل)، فإذا جمع بين ألفاظ الحديث كان تعيين الفاتحة هو الأصل لمن كان معه قرآن، فإن عجز عن تعلمها، وكان معه من القرآن غيرها قرأ ما تيسر، فإن لم يكن معه قرآن مطلقًا انتقل إلى الذكر

(1)

.

(1)

. فتح الباري (2/ 243).

ص: 242

(ح-1372) فقد روى أبو داود من طريق محمد يعني ابن عمرو، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه،

عن رفاعة بن رافع، -بهذه القصة- قال: إذا قمت فتوجهت إلى القبلة فكبر، ثم اقرأ بأم القرآن، وبما شاء الله أن تقرأ، وإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك، وامدد ظهرك .... الحديث

(1)

.

[ذِكْرُ أم القرآن في الحديث ليس محفوظًا]

(2)

.

الجواب الرابع:

أن حديث المسيء في صلاته لم يشتمل على كل الفرائض، إما لأنه اقتصر إلى إرشاده على ما أخلَّ به في صلاته، أو على ما كان واجبًا في ذلك الوقت، وذلك لا يمنع أن يجب في الصلاة بعد ذلك مما لم يكن واجبًا، فالتشهد والجلوس له كلاهما فرض في الصلاة على قول ولم يذكرا في حديث المسيء في صلاته،

(1)

. سنن أبي داود (859).

(2)

. حديث رفاعة بن رافع يرويه: عليُّ بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن رفاعة بن رافع.

ويرويه عن علي بن يحيى بن خلاد جماعة منهم، إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، ومحمد بن عمرو، ومحمد بن إسحاق، وداود بن قيس الفراء، ومحمد بن عجلان، وعبد الله بن عون، وشريك بن أبي نمر، ويحيى بن علي بن يحيى بن خلاد، يزيد بعضهم في ألفاظه وينقص، وقد يخالف بعضهم في إسناده،

وحديث أبي هريرة في الصحيحين مقطوع بصحته، وحديث رفاعة بن رافع خارج الصحيحين، وهي قصة واحدة لوجود التطابق بين أحداث القصة،

وقد اختلف على عليِّ بن يحيى بن خلاد، فالرواة عنه يزيد بعضهم على بعض وينفرد بعضهم بألفاظ لم يتفق الرواة عليها عنه، ولم ترد في حديث أبي هريرة، والحكم في ذلك برد حديث رفاعة إلى حديث أبي هريرة، فما وافق منها حديث أبي هريرة قبلناه، وما انفرد فيه حديث رفاعة، مما اختلف عليه في ذكرها حكمنا بشذوذه؛ لوجود الاختلاف الكثير في إسناده وألفاظه، وقد سبق تخريج حديث رفاعة، وبيان ما اختلف فيه الرواة بعضهم على بعض، وقد انفرد محمد بن عمرو عن سائر الرواة بالآتي:

الأول: ذكر القراءة بأم القرآن، حيث لم يذكر ذلك كل من رواه عن علي بن يحيى، كما لم يذكر ذلك في حديث أبي هريرة في الصحيحين، فلا شك في شذوذ هذه الزيادة.

الثاني: قوله: امدد ظهرك.

ص: 243

(ح-1373) فقد روى النسائي من طريق سفيان، عن الأعمش، ومنصور، عن شقيق بن سلمة،

عن ابن مسعود، قال: كنا نقول في الصلاة قبل أن يفرض علينا التشهد .... الحديث

(1)

.

فكون الفاتحة لم تذكر لا يكون دليلًا على عدم فرضيتها؛ لأن الشريعة كانت تتنزل شيئًا فشيئًا حتى أكمل الله لنا دينه، وأتم الله علينا نعمته، فقد كانت الصلاة بلا أذان ولا إقامة، ثم شُرِعَا، وكان الكلام في الصلاة جائزًا ثم منع، وكانت القبلة إلى الشام، ثم حولت، وكان الراكع يطبق بين كفيه، ثم يضعهما بين فخذيه، ثم نسخ الأمر، وأمر الناس بأن يضعوا أيديهم على الركب، فهذا منه.

الدليل الثالث:

(ح-1374) ما رواه الإمام مسلم في صحيحه من طريق سفيان بن عيينة، عن العلاء، عن أبيه،

عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج» ثَلَاثًا غير تمام. فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك

الحديث

(2)

.

وجه الاستدلال:

وصف الخداج بأنه غير تمام: أي ناقص، وإثبات الصلاة ناقصة ينفي بطلانها؛ لأن الباطل لا يثبت منه شيء.

وسبق الجواب على هذا الاعتراض في أدلة القول الأول، وَبَيَّنْتُ ولله الحمد: أن النقص قد يعبر به عن نقص بعض أجزاء الصلاة، والصلاة إذا ذهب بعض أجزائها التي هي من أركانها لم تصح.

الدليل الرابع:

(ح-1375) ما رواه أبو داود من طريق عيسى، عن جعفر بن ميمون البصري،

(1)

. سنن النسائي (1277)، سيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى في حكم التشهد.

(2)

. صحيح مسلم (38 - 395).

ص: 244

حدثنا أبو عثمان النهدي،

قال: حدثني أبو هريرة، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخْرُجْ فَنَادِ في المدينة أنه لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب فما زاد

(1)

.

* وأجيب عن هذا الحديث بأجوبة:

الجواب الأول:

أن هذا الحديث قد انفرد به جعفر بن ميمون، واضطرب في لفظه مع مخالفته لما هو أقوى منه من الأحاديث الصحيحة كحديث عبادة بن الصامت في الصحيحين وحديث أبي هريرة في مسلم، وغيرهما من الأحاديث

(2)

.

الجواب الثاني:

أن يحيى بن سعيد القطان والثوري في رواية روياه عن جعفر بن ميمون به، بلفظ:(لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد)، وكل راوٍ خالف الثوري والقطان في لفظيهما، فإن الحكم لهما عليه.

الجواب الثالث:

على تقدير صحة الحديث فإن معناه على ما ذكر النووي: إن أقل ما يجزئ فاتحة الكتاب، كما يقال: صم ولو ثلاثة أيام من الشهر: أي أكثر من الصوم فإن نقصت فلا تنقص عن ثلاثة أيام.

* دليل من قال: الفاتحة سنة:

أن الإمام يتحمل قراءة الفاتحة عن المأموم في صلاة الجماعة، والإمام لا يتحمل ركنًا عن المأموم.

* ويناقش:

بأن تحمل الإمام عن المأموم قراءة الفاتحة مع أن فيه خلافًا إلا أنه ليس أمارةً على سنية قراءة الفاتحة، بدليل أن قراءة الفاتحة فريضة في حق الإمام والمنفرد،

(1)

. سنن أبي داود (819).

(2)

. سبق أن خرجت ا لحديث، وذكرت أنه قد اشتمل على مجموعة من العلل، فانظرها في أدلة القول الأول.

ص: 245

فلو كانت سنة لما بطلت صلاة المنفرد والإمام بتركها، والإمام يتحمل سهو المأموم، ولا يعني أن سجود السهو ليس بواجب، والله أعلم.

* الراجح:

أرى أن قول الجمهور في ركنية الفاتحة هو القول الصحيح، والله أعلم.

* * *

ص: 246