الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية في المصلي إذا لم يعرف إلا بعض الفاتحة فقط
المدخل إلى المسألة:
* قال تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
* قال صلى الله عليه وسلم: إذا أمرتكم بأمر فَائْتُوا منه ما استطعتم، متفق عليه.
* الميسور لا يسقط بالمعسور.
* من قدر على بعض العبادة لزمه الإتيان بما قدر عليه إن كان البعض عبادة في نفسه.
* تكرار الآيات لا يجب إلا بالنص، ولا يحفظ دليل من كتاب أو سنة صحيحة أو قول صاحب يأمر بالتكرار، والأصل عدم وجوب التكرار.
* شرع الذكر بدلًا عن القرآن في حال العجز عن القراءة، ولم يرد الجمع بين القراءة والذكر، والأصح: أنه لا يجمع بين الأصل والبدل.
[م-547] إذا قدر على بعض الفاتحة، فإن كان المقدور لا يبلغ آية كاملة:
فقال ابن الرفعة من الشافعية: لا عبرة ببعض الآية بلا خلاف، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة
(1)
.
واستدلوا لقولهم:
بأن الذكر الوارد بدلًا من الفاتحة: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله) مشتمل على بعض آية من الفاتحة، كالحمد، ومشتمل على بعض آية من القرآن، كالتسبيح والتهليل، فلما عدل إلى
(1)
. تحفة المحتاج (2/ 45)، أسنى المطالب (1/ 153)، نهاية المحتاج (1/ 487)، المغني (1/ 351)، الإنصاف (2/ 52)، مطالب أولي النهى (1/ 433)، شرح منتهى الإرادات (1/ 190)، الإقناع (1/ 117).
الذكر عُلِم أنه لا بد من أن يكون معه آية كاملة.
(1)
.
ولأن بعض الآية لا إعجاز فيها.
وقيل: إذا عرف بعض آية لزمه الإتيان بها، نص عليه ابن نجيم من الحنفية، واختاره الأذرعي والرملي والدميري، وغيرهم من الشافعية، وهو قول في مذهب الحنابلة
(2)
.
قال ابن نجيم: «وإذا لم يعرف إلا قوله: (الحمد لله) يأتي به في كل ركعة، ولا يكررها»
(3)
.
ولهذا حرم الشافعية على الجنب أن يقرأ بعض الآية خلافًا للجمهور
(4)
.
* وأجابوا على دليل ابن الرفعة:
بأن كون بعض الآية لا إعجاز فيه لا يدل على أنه لا يسقط بها فرض القراءة؛ فأين الدليل على أنه يشترط في فرض القراءة أن يكون معجزًا، فالآية والآيتان، بل والثلاث المتفرقة، لا إعجاز فيها مع أنه يلزمه الإتيان بها، وهذا بناء على أن التحدي والإعجاز للعرب بأن يأتوا بسورة من مثله، وأقل السور ثلاث آيات متواليات، كسورة الكوثر.
ولأنه يلزم منه: أن من أحسن معظم آية الدَّيْنِ لا يلزمه قراءته، وهو بعيد، بل هو أولى من كثير من الآيات القصار
(5)
.
* والراجح
أنه لا عبرة ببعض الآية، ويمكن تلفيق قول ثالث من القولين، فيقال بالتفريق بين بعض الآية الطويلة كآية الدين فتصح قراءة بعضها ويسقط به الفرض، وبين بعض الآية القصيرة، فلا تجزئ، وينتقل إلى البدل، والله أعلم.
(1)
. المغني (1/ 351).
(2)
. تحفة المحتاج (2/ 45)، نهاية المحتاج (1/ 487)، نهاية المحتاج (1/ 487)، الإنصاف (2/ 52)، المبدع (1/ 389).
(3)
. البحر الرائق (2/ 124).
(4)
. المجموع (2/ 156)، كشاف القناع (1/ 147).
(5)
. انظر: نهاية المحتاج (1/ 487).
[م-548] وإن كان المقدور عليه آية كاملة فأكثر، فمن يرى أن فرض القراءة آية واحدة، ولو كانت قصيرة قال: يكفيه ذلك في سقوط الفرض عنه، وهذا قول أبي حنيفة، وهو رواية عن الإمام أحمد
(1)
.
ومن يرى أن فرض القراءة يتعين في سورة الفاتحة كاملة، وهم الجمهور فقد اتفقوا بأنه إذا قدر على آية كاملة فإنه يأتي بما قدر عليه منها بلا خلاف، ولم يحكوا قولًا أنه لا يقرؤونها كما قالوا في المكلف: إذا قدر على صيام بعض اليوم، وعجز عن إتمامه فلا يلزمه صيام البعض بغير خلاف.
* وجه الفرق:
أن كل آية من الفاتحة تجب قراءتها بنفسها، فلا يأتي ببدلها مع القدرة عليها، بخلاف صيام بعض اليوم فإنه وإن كان جزءًا من العبادة، فليس بعبادة في نفسه بانفراده
(2)
.
واختلفوا في وجوب التعويض عن غير المقدور عليه من الفاتحة على النحو التالي:
القول الأول: مذهب المالكية.
أن ما عجز عنه من الفاتحة يسقط إلى غير بدل، ولا يشرع له تعويض ما عجز عنه، ويجب عليه أن يصلي خلف من يحسن قراءة الفاتحة، فإن لم يجد قارئًا صلى وحده، وسقط عنه ما عجز عنه، وإن وجد قارئًا وصلى وحده، ففي صحة صلاته قولان:
أحدهما: أن صلاته لا تصح، وعليه الإعادة، وهو المعتمد في المذهب
(3)
.
(1)
. عند الحنفية تكفي آية واحدة يؤدي بها فرض القراءة ولو كانت قصيرة إذا كانت مكونة من كلمتين فأكثر مثل قوله تعالى: ثم نظر، وأما الآية إذا كانت من كلمة واحدة كمدهامتان، أو حرف مثل (ص)، فالأصح أنه لا تجوز بها الصلاة خلافًا للقدوري، انظر: مجمع الأنهر (1/ 104)، البحر الرائق (1/ 358)، الدر المختار مع حاشية ابن عابدين (1/ 537) المحيط البرهاني (1/ 298)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 225، 226)، حاشية الشلبي على تبيين الحقائق (1/ 129).
وقال ابن مفلح في الفروع (2/ 172): «وعنه: تكفي آية من غيرها (وهـ) -يعني وفاقًا لأبي حنفية- وظاهره ولو قصرت، وظاهره ولو كانت كلمة» . وانظر: المبدع (1/ 385)، الإنصاف (2/ 112).
(2)
. المنثور في القواعد (1/ 228)، الأشباه والنظائر للسيوطي (ص: 159)، قواعد ابن رجب (ص: 11).
(3)
. الذخيرة (2/ 186)، البيان والتحصيل (1/ 449)، أسهل المدارك (1/ 196)، مواهب الجليل (1/ 519)، الخرشي (1/ 270)، التوضيح لخليل (1/ 337)، القوانين الفقهية (ص: 44)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (1/ 238)، التاج والإكليل (2/ 213)، النوادر والزيادات (1/ 178)، البيان والتحصيل (2/ 137)، شرح التلقين (1/ 518)، الشامل في فقه الإمام مالك (1/ 107).
* واستدل المالكية لمذهبهم:
أما سقوط الواجب بالعجز، فلقوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
(ح-1417) ولما رواه البخاري من طريق مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج،
عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. ورواه مسلم
(1)
.
ولأن الواجبات الشرعية كلها تسقط بالعجز، ووجوب البدل يفتقر إلى نص.
ولأن التعويض إن كان بتكرار ما يعرفه من الفاتحة، فالتكرار لا يجب إلا بنص، ولا يحفظ دليل من كتاب أو سنة صحيحة أو قول صاحب يأمر بالتكرار، والأصل عدم الوجوب.
وإن كان التعويض بالأذكار فإن الذي روي من ذلك في حديث الأعرابي المسيء لصلاته زيادة لم تصح
(2)
.
وقال المازري: «وهذه الزيادة لم تَأْتِ من طريق ثابتة
(3)
.
ولأن الجمع بين القرآن والذكر جمع بين الأصل وبدله، وهذا لا أصل له على الصحيح، فإما الاكتفاء بالأصل، وأما الاكتفاء بالبدل، ولم يَأْتِ بالشرع أمر بالجمع بينهما.
* أما وجوب الائتمام عليه خلف من يحسن الفاتحة:
فلأن قراءة الفاتحة واجبة عليه، فعليه تحصيل الفرض إما في نفسه بأن يتعلم الفاتحة، أو تحصيل هذا الفرض عن طريق الائتمام بمن يحسنها، باعتبار أن الإمام يتحمل عن المأموم القراءة في الصلاة.
(1)
. صحيح البخاري (7288)، وصحيح مسلم (412 - 1337).
(2)
. انظر: الذخيرة للقرافي (2/ 186).
(3)
. شرح التلقين (1/ 518).
ولأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وعلى هذا تكون الجماعة في حق هذا الرجل شرطًا لصحة صلاته، وليست من الواجبات.
وقد تكلمت عن أدلة سقوط القراءة عن المأموم خلف الإمام في مبحث مستقل، فانظر أدلته هناك بوركت.
الثاني: أن صلاته صحيحة لعجزه، ولا يجب أن يطلب قارئًا يصلي وراءه، وهو رواية عن أحمد، واختاره ابن حزم
(1)
.
جاء في الإنصاف: «وعنه -أي عن أحمد- يجزئ قراءتها -أي الآية- من غير تكرار اختارها ابن أبي موسى»
(2)
.
ظاهر قوله: (يجزئ قراءتها) أنه لا يطلب قارئًا يصلي خلفه؛ إذ لو صلى خلف إمام لم يجب عليه قراءة شيء منها، وسقط ما عجز عنه بلا تكرار.
(ح-1418) لما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن يزيد أبي خالد الدالاني، عن إبراهيم السكسكي،
عن ابن أبي أوفى قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني لا أستطيع آخذ شيئًا من القرآن، فعلمني ما يجزئني، قال: قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال: يا رسول الله، هذا لله عز وجل، فما لي؟ قال: قل اللهم اغفر لي، وارحمني، وعافني، واهدني وارزقني، ثم أدبر وهو ممسك كفيه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما هذا، فقد ملأ يديه من الخير
(3)
.
[أرجو أن يكون حسنًا]
(4)
.
(1)
. التاج والإكليل (2/ 421)، مواهب الجليل (1/ 519)، التوضيح لخليل (1/ 337)، عقد الجواهر الثمينة (1/ 98)، الإنصاف (1/ 52)، المبدع (1/ 389)، الفروع (2/ 176).
وقال ابن حزم في المحلى (2/ 282): «فإن عرف بعضها -يعني الفاتحة- ولم يعرف البعض: قرأ ما عرف منها فأجزأه، وَلْيَسْعَ في تعلم الباقي» .
(2)
. الإنصاف (1/ 52).
(3)
. مسند أحمد (3/ 353).
(4)
. انظر تخريجه: (ح: 1595).
وجه الاستدلال:
أن هذا الرجل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يستطيع أن يأخذ شيئًا من القرآن، وطلب تعليمه ما يجزئه، فأرشده إلى الذكر، ولو كان الائتمام واجبًا لأمره به، وإذا كان لا يجب عليه الائتمام في حال عجزه عن جميع الفاتحة لم يجب عليه الائتمام في حال عجزه عن بعض الفاتحة.
القول الثاني:
ذهب الشافعية والحنابلة إلى وجوب التعويض عن باقي الفاتحة غير المقدور عليه، على خلاف بينهم في صفة التعويض.
فقيل: يجب تكرار ما يحسنه من الفاتحة حتى يبلغ قدرها، وهو أحد الوجهين وقيل القولين في مذهب الشافعية، والمذهب عند الحنابلة
(1)
.
* وجه هذا القول:
أن الآية من الفاتحة أقرب شبهًا إلى بقية الفاتحة من غيرها.
وقيل: يجب تكرار ما يحسنه من الفاتحة إن لم يقدر على الجمع بينه وبين البدل (سبحان الله والحمد لله
…
إلخ).
فإن كان يحسن أن يأتي بالبدل عن الباقي أتى بما يقدر عليه من الفاتحة، وأتى ببدلها في موضعه مع مراعاة الترتيب، فلو أحسن أول الفاتحة قدمه على البدل، أو أحسن آخر الفاتحة قدم البدل عليه، فلو عكس لم يجز على الصحيح، أو أحسن آية من وسط الفاتحة قدم من البدل بقدر ما لم يحسنه منها، ثم أتى بما يحسنه منها، ثم ببدل الباقي، وهذا أصح الوجهين في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة
(2)
.
(1)
. روضة الطالبين (1/ 246)، المجموع (3/ 376)، كشاف القناع (1/ 340)، المبدع (1/ 389)، الإنصاف (2/ 52).
(2)
. فتح العزيز بشرح الوجيز (3/ 344)، روضة الطالبين (1/ 246)، المجموع شرح المهذب (3/ 376)، أسنى المطالب (1/ 153)، تحفة المحتاج (2/ 44، 45)، نهاية المحتاج (1/ 486)، المبدع (1/ 389)، الإنصاف (2/ 52).
وفي قول للحنابلة الجمع بين الآية وبدلها من غير مراعاة للترتيب
(1)
.
وجه هذا القول:
أن الشيء الواحد لا يكون أصلًا وبدلًا، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ذلك السائل بالجمل الخمس، ومنها الحمد لله، وهذه الكلمة من جملة الفاتحة، ولم يأمره بتكريرها.
ولأنه إذا قرأها مرة فقد أسقط فرضها، فيجب أن لا يعيدها، كمن وجد بعض ما يكفيه لغسله فإنه يستعمله، ثم ينتقل إلى البدل في الباقي.
* الراجح:
أضعف الأقوال في المسألة هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، القائل بأن فرض القراءة لا يتعين في الفاتحة، وأن مقدار الفرض آية واحدة ولو كانت قصيرة، وسبق بحث هذه المسألة في مبحث مستقل، وناقشت فيها مذهب الحنفية، فارجع إليه.
وبقي النظر بين مذهب المالكية القائلين بأن ما يعجز عنه يسقط بلا تكرار ولا بدل (أي بلا تعويض).
وبين قول الحنابلة القائلين بوجوب التكرار لا غير.
وبين قول الشافعية القائلين بوجوب الجمع بين المقدور عليه وبدله.
وأجد أن أدلة المالكية قوية جدًا، وأن البدل شرع في حال العجز عن الفاتحة، لا في حال القدرة على بعضها، إلا أن قولهم بوجوب الصلاة خلف من يحسنها قول ضعيف، لا دليل عليه، وهذا غير القول بوجوب الجماعة مطلقًا على من يحسن الفاتحة وغيره، لأن البحث إنما هو في وجوب الجماعة كشرط لصحة صلاة من لا يحسن الفاتحة، فإن ظاهر حديث ابن أبي أوفى، وهو حديث حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشده عند العجز عن كامل الفاتحة إلى الانتقال إلى الأذكار، وهو قول في مذهب المالكية، فيبقى النظر في تكرار ما يعرف من الفاتحة، فإنه وإن لم يكن هناك أدلة تقضي بوجوبه، إلا أن تكرار القرآن في الصلاة لا يفسدها، وإذا كان فيه احتياط للعبادة لا سيما الصلاة، فإن فعله يتأكد، وفعله مراعاة لخلاف الحنابلة
(1)
. المبدع (1/ 389)، الإنصاف (2/ 52).
لا يخرج عن أصول مذهب الإمام مالك رحمه الله، وإن لم يذهب الناظر إلى فساد الصلاة في ترك التكرار، لكنه يستحسنه احتياطًا للعبادة، والله أعلم.
* * *