الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة السابعة إذا عجز عن القرآن والذكر
المدخل إلى المسألة:
* من أمر بأمرين فقدر على أحدهما وعجز عن الآخر وجب عليه ما قدر عليه؛ لأن القدرة على أحدهما لا تسقط بالعجز عن الآخر، والمقدر لا يسقط بالمعسور.
* القيام في الصلاة ركن مقصود بنفسه، لا يسقط بالعجز عن القراءة.
* الوسائل نوعان: وسائل لا تقصد بنفسها، وإنما شرعت لتحصيل غيرها، فإذا سقط المقصد سقطت وسيلته، كإمرار الموس على رأس الأقرع في النسك.
ومن الوسائل: ما هو وسيلة لغيره ومقصود بنفسه، كالوضوء، فإنه وسيلة للصلاة، ومقصود بذاته، فلو توضأ لغير الصلاة صح منه، وأثيب عليه، والقيام في الصلاة من النوع الثاني.
[م-554] إذا عجز عن القرآن والذكر سقطت عنه القراءة، وهل يسقط عنه القيام؟
في ذلك خلاف راجع إلى مسألة الاختلاف في منزلة القيام بالصلاة:
أهو ركن مقصود بنفسه وهو مذهب الشافعية والحنابلة وقول في مذهب المالكية، فلا يسقط بالعجز عن القراءة أو بدلها
(1)
.
أم هو ركن مقصود للقراءة، كما هو مذهب المالكية، فإذا عجز عن القراءة سقط القيام لها؛ فيقف للإحرام وللهُوِيِّ للركوع، ويستحب الفصل بين التكبيرتين بوقوف ما
(2)
.
(1)
. نهاية المطلب (2/ 214)، شرح الخرشي (1/ 269)، كشاف القناع (1/ 341)، مطالب أولي النهى (1/ 434).
(2)
. مختصر خليل (ص: 34)، حاشية الدسوقي (1/ 261)، مواهب الجليل (2/ 5)، شرح الزرقاني على مختصر خليل (1/ 395).
أم هو ركن مقصود للسجود، كما هو مذهب الحنفية، فلا يسقط إلا بالعجز عن السجود
(1)
.
وقد سبق بحث منزلة القيام في الصلاة في مبحث سابق، فارجع إليه.
وعلى هذا إذا عجز عن القراءة عند الحنفية والمالكية، أوعجز عن بدلها عند الشافعية والحنابلة، فما هو الواجب على المصلي؟ اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
القول الأول:
ذهب الحنفية إلى أن المصلي إذا عجز عن القراءة فإنه يقف فرضًا في الركعات التي تكون القراءة فيها فرضًا، والقراءة عندهم فرض في جميع ركعات النفل والوتر، وفي الفرض ذوات الركعتين، وأما ذوات الأربع: ففرض القراءة في ركعتين منهما، وفي الأخريين إن شاء سكت، وإن شاء قرأ، وإن شاء سبح.
وأما مقدار الوقوف: فحيث تجب القراءة إذا عجز عنها المصلي وقف مقدار القراءة المفروضة، وهي آية مطلقًا عند الإمام أبي حنيفة، ومقدار آية طويلة أو ثلاث آيات قصار عند أبي يوسف ومحمد.
وحيث لا تجب القراءة في الأخريين فالركن فيه أصل القيام، لا امتداده، هذا ملخص مذهب الحنفية
(2)
.
القول الثاني: مذهب المالكية.
ذهب المالكية إلى أن القيام يجب في الفرض للإحرام استقلالًا إلا لمسبوق، وحال قراءة الفاتحة للإمام والفذ، ومن أجل الهُوِيِّ للركوع ولو للمأموم.
فإذا عجز عن تعلم الفاتحة ولم يمكنه الائتمام بمن يحسنها سقطت الفاتحة،
(1)
. فتح القدير (2/ 6)، الجوهرة النيرة على مختصر القدوري (1/ 80)، البحر الرائق (2/ 59)، مختصر القدوري (ص: 36) جاء في بدائع الصنائع (1/ 107): «القيام بدون السجود غير مشروع» .
وقال في تبيين الحقائق (1/ 202): «القيام وسيلة إلى السجود، فلا يجب بدونه» .
(2)
. حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 224)، منية المصلي (ص: 167)، بدائع الصنائع (1/ 112)، ملتقى الأبحر (ص: 197).
وسقط القيام لها، ولا يجب عليه إبدالها بذكر أو سورة أخرى على المعتمد، ولا الوقوف بقدرها، وبه قال جمهورهم.
لأن القيام شرع من أجل القراءة، فيقف فقط للإحرام وللهوي للركوع، ويندب له الوقوف يسيرًا ولو قَلَّ بسكوت، أو ذكر، أو قرآن؛ للفصل بين تكبيره وركوعه، لئلا تلتبس تكبيرة القيام بتكبيرة الركوع فإن لم يفصل وركع أجزأه
(1)
.
قال الخرشي: «يجب القيام للفرض كالفاتحة، وقيام الهوي للركوع، ولو للمأموم، وتكبيرة الإحرام لغير المسبوق في صلاة الفرض»
(2)
.
وقال الدردير في الشرح الكبير: «(يجب بفرض) أي في صلاة فرض (قيام) استقلالًا للإحرام، والقراءة، وهوي الركوع، إلا حال السورة فيجوز الاستناد، لا الجلوس لأنه يخل بهيئتها»
(3)
.
وقال خليل في مختصره: «وإن عجز عن فاتحة قائمًا جلس»
(4)
.
وقال الدسوقي: «سواء كان يقدر على القيام من غير قراءة، أم لا؛ لأن القيام كان لها»
(5)
.
وقال القرافي في الذخيرة: «وإذا لم يجب البدل -يعني عن الفاتحة بسبب عجزه- فعند القاضي عبد الوهاب يقف وقوفًا، فإن لم يفعل أجزأه؛ لأن القيام وسيلة القراءة، وإذا بطل المقصد بطلت الوسيلة»
(6)
.
* دليل المالكية على سقوط القيام بعجزه عن القراءة:
أما كون الفاتحة تسقط بلا بدل:
فقد تقدم الاستدلال عليه في أكثر من مسألة من المسائل السابقة، راجع إذا صلى ولم يكن معه شيء من القرآن.
(1)
. منح الجليل (1/ 247)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (1/ 255، 237، 238)، شرح الخرشي (1/ 294، 270)، التوضيح لمن رام المجموع بنظر صحيح (2/ 21، 81).
(2)
. شرح الخرشي (1/ 294).
(3)
. الشرح الكبير (1/ 255).
(4)
. مختصر خليل (ص: 34).
(5)
. حاشية الدسوقي (1/ 261).
(6)
. الذخيرة للقرافي (2/ 186).
وأما الدليل على أنه لا يجب عليه القيام بقدر القراءة إذا سقطت:
فيرى المالكية أن المقصود من القيام هو القراءة؛ لأن القيام في حقه مقدر بقدر تكبيرة الإحرام، وقراءة أم القرآن، فدل على أن ذلك هو المقصود من القيام.
جاء في التاج والإكليل عن ابن يونس: «القيام للإمام والفذ قدر قراءة أم القرآن من الفروض المتفق عليها»
(1)
.
فإذا عجز عن القراءة سقط عنه القيام لها، ولذلك المسبوق يسقط عنه القيام؛ لسقوط القراءة عنه، ووجب عليه القيام فقط حال الإحرام وهذا واجب بالإجماع، وكذا للهوي من الركوع
(2)
.
قال في الثمر الداني: «يشترط في التكبير القيام لغير المسبوق اتفاقًا، فإن تركه في الفرض، بأن أتى به جالسًا أو منحنيًا، أو مستندًا لعماد بحيث لو أزيل لسقط بطلت صلاته»
(3)
.
* وجه القول بالبطلان:
أن تكبيرة الإحرام من فرائض الصلاة القولية التي لا تقبل إلا إذا فعلت في محلها، وهو القيام، فإن أتى بها أو ببعضها حال الركوع لم يجزه؛ لأنه أتى بها في غير محلها، فهو كما لو أتى بالتشهد حال القيام أو الركوع، أو قرأ الفاتحة مكان التشهد، فكل قول في الصلاة قيل في غير محله فكأنه لم يفعل.
* ويناقش:
بأن القول: إن القيام وجوبه وجوب وسائل، وليس مقصودًا بنفسه غير صحيح، فلا يمتنع أن يكون القيام مقصودًا للقراءة، ومقصودًا لنفسه، كالوضوء، فإنه وسيلة للصلاة، ومقصود بذاته، فلو توضأ لغير الصلاة صح منه، وأثيب عليه.
يقول ابن رجب في القواعد: «العاجز عن القراءة يلزمه القيام؛ لأنه وإن كان
(1)
. التاج والإكليل (2/ 212).
(2)
. مختصر خليل (ص: 34)، حاشية الدسوقي (1/ 261)، مواهب الجليل (2/ 5)، شرح الزرقاني على مختصر خليل (1/ 395).
(3)
. الثمر الداني (ص: 102)، الشرح الكبير للدردير (1/ 231).
مقصوده الأعظم القراءة، لكنه أيضًا مقصود في نفسه، وهو عبادة منفردة»
(1)
.
بل إن القيام لله من أعظم العبادات كما سيأتي التدليل عليه في أدلة القول التالي.
القول الثالث:
ذهب الشافعية والحنابلة، وهو قول في مذهب المالكية أن المصلي إذا عجز عن القراءة والذكر وجب عليه القيام بقدر قراءة الفاتحة.
قال الخرشي: «فإن عجز عنها -أي عن الفاتحة- سقط القيام
…
وقيل: القيام واجب مستقل، فلا يسقط القيام عمن عجز عن قراءتها»
(2)
.
قال إمام الحرمين: «القيام في الصلاة المفروضة ركن مقصود عندنا»
(3)
.
وقال البهوتي في كشاف القناع: «القيام ركن مقصود في نفسه؛ لأنه لو تركه مع القدرة عليه لم يجزئه، فمع القدرة تجب القراءة والقيام بقدرها، فإذا عجز عن أحدهما لزمه الآخر لقوله صلى الله عليه وسلم: إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم»
(4)
.
* واستدلوا لذلك بما يلي:
الدليل الأول:
قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
(ح-1422) ولما رواه البخاري من طريق مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج،
عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم. ورواه مسلم
(5)
.
فإذا عجز عن القراءة لم يسقط عنه القيام؛ لأن الميسور لا يسقط بالمعسور.
الدليل الثاني:
أن القيام ركن، والقراءة ركن، وإذا كان القيام ركنًا فإنه لا يجوز تركه مع القدرة عليه.
(1)
. القواعد (ص: 11).
(2)
. شرح الخرشي (1/ 269).
(3)
. نهاية المطلب (2/ 213).
(4)
. كشاف القناع (1/ 341).
(5)
. صحيح البخاري (7288)، وصحيح مسلم (412 - 1337).
الدليل الثالث:
(ح-3241) ولما رواه البخاري من طريق إبراهيم بن طهمان، قال: حدثني الحسين المكتب، عن ابن بريدة،
عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فقال: صَلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب
(1)
.
فعلق الجواز قاعدًا بشرط العجز عن القيام، وليس بشرط العجز عن القراءة.
الدليل الرابع:
القيام تعظيم لله كالركوع والسجود قال تعالى: {وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِين} ،
فأمر بالقيام في الصلاة، وأثنى الله على المؤمنين بقوله سبحانه {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} .
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره من أصحابه أن يقوموا له إذا رأوه
(2)
.
ونهاهم أن يصلوا خلفه قيامًا حين صلى قاعدًا في مرضه، وقال: إن كدتم تفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود. رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: من سره أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار
(3)
؛ لما في القيام من التعظيم الذي لا يصرف إلا لله، فدل على أنه من أعظم العبادات، فلا يسقط مع القدرة عليه.
(1)
. صحيح البخاري (1117).
(2)
. رواه ابن أبي شيبة في المصنف (2558)، وأحمد (3/ 132، 151، 250)، والبخاري في الأدب (946) والترمذي (2754)، وفي الشمائل (335)، وأبو يعلى (3784)، والطحاوي في مشكل الآثار (1126) من طرق كثيرة، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن أنس.
(3)
. رواه أبو داود الطيالسي (1053)، وابن أبي شيبة (25582)، وأحمد (4/ 91، 93، 100)، والبغوي في الجعديات (1482)، وعبد بن حميد (413)، والبخاري في الأدب المفرد (977)، وأبو داود (5229)، والترمذي (2755)، والطبراني في الكبير (19/ 351) ح 819، 820، 821، 822، وغيرهم من طريق كثيرة عن حبيب بن الشهيد، عن أبي مجلز لاحق بن حميد، قال: دخل معاوية على ابن الزبير وابن عامر، فذكره.
* الراجح:
ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة، وأن القيام لله عبادة مستقلة بنفسها، لا يسقط بسقوط القراءة، وأنه مقدر بقدر قراءة الفاتحة، والله أعلم.
* * *