المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة الثالثة في تنكيس القراءة - الجامع في أحكام صفة الصلاة - الدبيان - جـ ٢

[دبيان الدبيان]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل التاسع في سكتات الصلاة

- ‌المبحث الأول في سكوت الإمام لدعاء الاستفتاح

- ‌الفرع الأول في حكم الاستفتاح

- ‌الفرع الثاني في قول المصلي (وأنا أول المسلمين) إذا استفتح بحديث علي رضي الله عنه

- ‌الفرع الثالث في استحباب الاستفتاح للمأموم

- ‌الفرع الرابع في استفتاح المأموم فيما يجهر به الإمام

- ‌الفرع الخامس في الأفضل من صيغ الاستفتاح

- ‌الفرع السادس السنة الاستفتاح الإسرار به

- ‌الفرع السابع في مشروعية سجود السهو لترك الاستفتاح

- ‌الفرع الثامن في فوات الاستفتاح

- ‌المطلب الأول في فوات الاستفتاح إذا شرع بالتعوذ

- ‌المطلب الثاني في استفتاح المسبوق إذا أدرك الإمام قائمَا في غير الركعة الأولى

- ‌المبحث الثاني في استحباب سكتة لطيفة بين الفاتحة والتأمين

- ‌المبحث الثالث في سكوت الإمام بعد الفراغ من التأمين

- ‌المبحث الرابع في حكم السكتة بعد الفراغ من القراءة وقبل الركوع

- ‌الباب السادس القراءة في الصلاة

- ‌الفصل الأول في قراءة الفاتحة وما يرتبط بها

- ‌المبحث الأول في حكم الاستعاذة

- ‌المبحث الثاني في صفة الاستعاذه

- ‌المبحث الثالث في محل الاستعاذه

- ‌المبحث الرابع في الجهر بالاستعاذة

- ‌المبحث الخامس في تكرار الاستعاذة في كل ركعة

- ‌المبحث السادس في مشروعية البسملة في الصلاة

- ‌الفرع الأول في قرآنية البسملة

- ‌الفرع الثاني في قراءة البسملة في الصلاة

- ‌الفرع الثالث في الجهر بالبسملة

- ‌المبحث السابع في قراءة الفاتحة في الصلاة

- ‌الفرع الأول في حكم قراءتها

- ‌الفرع الثاني

- ‌الفرع الثالث

- ‌الفرع الرابع في تكرار الفاتحة في كل ركعة

- ‌الفرع الخامس في قراءة المأموم فاتحة الكتاب

- ‌الفرع السادس في شروط قراءة الفاتحة

- ‌المسألة الأولى في وجوب قراءة الفاتحة بتشديداتها

- ‌المسألة الثانية في اشتراط الموالاة في قراءة الفاتحة

- ‌المسألة الثالثة في تنكيس القراءة

- ‌الفرع السابع في العجز عن قراءة الفاتحة وغيرها من القرآن

- ‌المسألة الأولى إذا لم يحسن القراءة من القرآن مطلقًا

- ‌مطلب في تعين بدل القرآن بجمل معينة

- ‌المسألة الثانية في المصلي إذا لم يعرف إلا بعض الفاتحة فقط

- ‌المسألة الثالثة في المصلي إذا كان معه بعض الفاتحة وغيرها من القرآن

- ‌المسألة الرابعة في المصلي يعجز عن الفاتحة ويعرف غيرها من القرآن

- ‌المسألة الخامسة في مقدار ما يجزئ عن الفاتحة من القرءان

- ‌المسألة السادسة في اشتراط أن تكون الآيات متوالية منتظمة المعنى

- ‌المسألة السابعة إذا عجز عن القرآن والذكر

- ‌الفرع الثامن في التأمين على دعاء الفاتحة

- ‌المسألة الأولى في معنى التأمين

- ‌المسألة الثانية في فضل التأمين

- ‌المسألة الثالثة في حكم التأمين

- ‌المطلب الأول في حكم التأمين خارج الصلاة

- ‌المطلب الثاني في التأمين داخل الصلاة

- ‌البند الأول في تأمين المنفرد والإمام

- ‌البند الثاني في تأمين المأموم

- ‌المقصد الأول في تأمين المأموم في السرية

- ‌المقصد الثاني في تأمين المأموم في الجهرية

- ‌الغصن الأول في تأمين المأموم على قراءة نفسه وعلى قراءة إمامه

- ‌الغصن الثاني في تأمين المأموم إذا لم يسمع قراءة إمامه

- ‌الغصن الثالث في تأمين المأموم إذا ترك إمامه التأمين

- ‌المسألة الرابعة في صفة التأمين

- ‌المطلب الأول في صفة تأمين الإمام

- ‌المطلب الثاني في صفة تأمين المأموم

- ‌المطلب الثالث في صفة تأمين المنفرد

- ‌المسألة الخامسة في موافقة المأموم للإمام في التأمين

- ‌المسألة السادسة في فوات التأمين

- ‌المسألة السابعة في حكم الزيادة على التأمين

- ‌الفصل الثاني في الأحكام المتعلقة بقراءة ما زاد على الفاتحة

- ‌المبحث الأول في حكم قراءة ما زاد على الفاتحة للإمام والمنفرد

- ‌الشرط الثاني: ألا يخالفه غيره من الصحابة

الفصل: ‌المسألة الثالثة في تنكيس القراءة

‌المسألة الثالثة في تنكيس القراءة

المطلب الأول في تنكيس آيات الفاتحة

المدخل إلى المسألة:

* ترتيب الآيات توقيفي بالإجماع، فلا مجال للاجتهاد فيه.

* ترتيب الآيات واجب للتلاوة، لا فرق فيه بين الصلاة وخارجها، ولا بين الفرض والنفل، ولا بين الفاتحة وغيرها.

* قراءة الصلاة قراءة واحدة، فتنكيس الآيات لا فرق فيه بين وقوعه في ركعة واحدة أو وقوعه في ركعتين.

* وجوب تلاوة الفاتحة مرتبةً مختصٌ بالصلاة، وإن وجب الترتيب للتلاوة، والضابط في المختص: أن يقوم الدليل الخاص على وجوبه في الصلاة، وإن وجب في غيرها، كستر العورة.

* الإخلال بترتيب الآيات مبطل للقراءة، ويوجب استئناف ما كان واجبًا منها كالفاتحة، وهل ترك الترتيب عمدًا يبطل الصلاة؛ لتركه واجبًا مختصًّا بالصلاة؟

* الإخلال بترتيب الآيات إذا وقع عمدًا، وتغير به المعنى أبطل الصلاة.

[م-541] ترتيب الكلمات والآيات في السورة ثبت بالنص فهو توقيفي بالإجماع

(1)

.

(1)

. قال الزركشي في البرهان في علوم القرآن (1/ 256): «

فأما الآيات في كل سورة ووضع البسملة أوائلها فترتيبها توقيفي بلا شك، ولا خلاف فيه، ولهذا لا يجوز تنكيسها».

ويقول السيوطي في الإتقان في علوم القرآن (1/ 211): «الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي، لا شبهة في ذلك، وأما الإجماع فنقله غير واحد، منهم الزركشي في البرهان، وأبو جعفر بن الزبير في مناسباته وعبارته: ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه صلى الله عليه وسلم وأمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين» . وانظر: مناهل العرفان (1/ 346)، ومباحث في علوم القرآن. د. صبحي الصالح (ص: 70)، وللشيخ مناع القطان (ص: 140).

ص: 403

وترتيب السور ثبت باجتهاد الصحابة في أصح قولي أهل العلم، وهو قول الجمهور

(1)

، ولهذا تنوعت مصاحف الصحابة، وهل توافُقُ الصحابةِ على ترتيب المصحف زمن عثمان يرفع الخلاف؟ الصحيح: لا، ولكن اتفاقهم يجعل هذا الترتيب مقدمًا على غيره، لا ناسخًا لغيره، وبحث مثل هذا في علوم القرآن، إلا أن لهذا الخلاف أثرًا فقهيًّا في حكم تنكيس الكلمات والآيات والسور في قراءة الصلاة، وهو الذي يعنينا في صفة الصلاة.

[م-542] وقد اتفق العلماء على تحريم تنكيس حروف القرآن، وكلماته وأنه يبطل الصلاة عمده وسهوه؛ لأنه يختل لفظًا ومعنى ويصبح كلامًا أجنبيًّا عن القرآن، ولو فعل هذا في كلام البشر لأصبح من التحريف والتبديل لمراد المتكلم فيكف مع كلام الله سبحانه وتعالى، والذي توقيره من توقير الله، والفرق بين كلام الله وكلام البشر كالفرق بين الخالق والمخلوق

(2)

.

قال ابن رجب: «وتنكيس الكلمات محرم، مبطل للصلاة اتفاقًا»

(3)

.

وقال ابن مفلح: وتنكيس الكلمات محرم مبطل (و)

(4)

، أي: وفاقًا للأئمة، ولم يرمز بحرف (ع) الدال على الإجماع، فتأمل، وكلام ابن مفلح يندرج في كلام

(1)

. حاشية الدسوقي (1/ 242)، تفسير القرطبي (1/ 61)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 325)، كشاف القناع (1/ 344)، المبدع (1/ 433)، الإقناع (1/ 119)، منتهى الإرادات (1/ 191)، مطالب أولي النهى (1/ 437).

(2)

. الجمع والفرق لإمام الحرمين (1/ 380)، الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي (ص: 172)، الإقناع (1/ 119)، شرح منتهى الإرادات (1/ 191)، كشاف القناع (1/ 344)، الفروع (2/ 183)، مطالب أولي النهى (1/ 437).

(3)

. تفسير سورة الفاتحة لابن رجب (ص: 22).

(4)

. الفروع (2/ 183).

ص: 404

ابن رجب، ومع ابن رجب زيادة علم، فتقبل، ولم أقف على ما يخرقه، والنظر دال عليه.

[م-543] واختلفوا في تنكيس آيات القرآن:

القول الأول: مذهب الحنفية:

يكره تنكيس الآيات في صلاة الفرض دون النفل، سواء أوقع ذلك في ركعة واحدة أم وقع في ركعتين

(1)

.

والأصل في الكراهة إذا أطلقها الحنفية أنهم يريدون بها كراهة التحريم، ولم أجد من نص على ذلك، ويحتمل أنهم أرادوا الكراهة التنزيهية؛ لتفريقهم بين الفرض والنفل، فلو كانت الكراهة تحريمية في الفرض لاحتاج القول في إباحته في النفل إلى نص ينقل المحرم إلى الإباحة، بخلاف ما كان مكروهًا في الفرض فقد يتوسع فيه في النفل، فتأمل.

وقولهم: (تنكيس الآيات) إطلاق الآيات ظاهره أنه لا فرق بين الفاتحة وغيرها؛ لأن الركن عندهم القراءة، ولا تتعين في الفاتحة كما سبق تقريره.

وإطلاق التنكيس ظاهره أنه لا فرق عند الحنفية بين أن ينكس السورة كلها، بأن يبدأ من أسفلها صعودًا إلى أولها، أو ينكس بعض السورة بالنسبة إلى بعضها الآخر، وهوما يمكن تسميته تنكيس جملة آيات من السورة بالنسبة إلى جملة آيات أخرى، كما لو ابتدأ بالنصف الأخير من السورة، فقرأه مرتبًا، ثم قرأ النصف الأول من السورة مرتبًا، فهذا لا يدخل في تنكيس السورة آية آية، وإنما يدخل في تنكيس جملة آيات بالنسبة لجملة أخرى، وهو مكروه عندهم أيضًا، ولهذا الحنفية لا يفرقون في الكراهة بين تنكيس الآيات وتنكيس السور، وتنكيس السور هو تنكيس جملة آيات بالنسبة إلى جملة آيات أخرى. والله أعلم.

ولا فرق عند الحنفية بين أن يكون التنكيس وقع في ركعة واحدة، أو أن التنكيس كان بالنسبة لقراءة الركعة الثانية، فهو داخل ضمن التنكيس المكروه.

* وجه القول بالكراهة عند الحنفية:

يظهر والله أعلم أن الحنفية لم يذهبوا إلى تحريم التنكيس لسببين:

(1)

. الفتاوى الهندية (1/ 78)، المحيط البرهاني (1/ 305)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 353)، حاشية ابن عابدين (1/ 547).

ص: 405

أحدهما: أن فرض القراءة يتحقق عندهم بقراء آية واحدة، فإذا قرأ آية واحدة طويلة كانت أو قصيرة فقد تحقق الركن عندهم، فالتنكيس يقع في قدر زائد على القراءة المفروضة.

* ويناقش:

هذا يصح الاستدلال به للحنفية لو أن الحنفية يرون أن الفاتحة تتعين للقيام بفرض القراءة، فإذا وقع التنكيس خارج الفاتحة قيل وقع في القدر المستحب، وهو متميز عن القدر الواجب، أما إذا كان فرض القراءة عندهم لا يتعين في سورة بعينها، بل الفرض يتأدى في مقدار آية واحدة غير معينة، وكانت القراءة منها ما هو فرض، ومنها ما هو مستحب، واتصل الفرض بالمستحب على وجه لا يتعين هذا من هذا، فالجميعها يأخذ حكم الواجب، فلا يصح هذا الاستدلال.

الثاني: مما يجعل التنكيس مكروهًا، أن النهي عن التنكيس ليس لذات الصلاة، بل لأن ترتيب الآيات حق التلاوة

(1)

، وإذا عاد النهي لمعنى لا يختص بالصلاة لم يكن محرمًا، والله أعلم.

* أما وجه كراهة تنكيس قراءة آيات الركعة الثانية بالنسبة لقراءة الركعة الأولى:

فيرى الحنفية أن قراءة الصلاة قراءة واحدة، فالقراءة في الركعة الثانية جزء متمم للقراءة في الركعة الأولى، ولهذا لا يستحبون التعوذ في الركعة الثانية، وإذا كانت القراءة في الركعتين في حكم القراءة الواحدة كان التنكيس مكروهًا مطلقًا، سواء أوقع ذلك في ركعة واحدة، أم وقع ذلك في ركعتين.

* أما وجه اختصاص الكراهة بالفرض دون النفل:

فنقل ابن عابدين عن بعض الحنفية توجيه جوازه في النفل دون الفرض: بأن النفل لاتساع بابه نُزِّلت كل ركعة منه فعلًا مستقلًّا، فيكون كما لو قرأ إنسان سورة، ثم سكت، ثم قرأ ما فوقها فلا كراهة فيه

(2)

.

وهذا التوجيه ليس بوجيه، ذلك أن الحنفية نصوا على أن القراءة على الترتيب

(1)

. حاشية ابن عابدين (1/ 547).

(2)

. حاشية ابن عابدين (1/ 547).

ص: 406

من واجبات القراءة، فيلزم من ذلك أن حكم القراءة خارج الصلاة حكمها داخل الصلاة، فلا يتوجه فرق بين الفرض والنفل

(1)

.

القول الثاني: مذهب المالكية:

يحرم تنكيس آيات سورة واحدة بركعة واحدة، وظاهره مطلقًا في الفرض والنفل، أما إن قرأ نصف السورة الأخير، ثم نصفها الأولى فهذا من التنكيس المكروه، سواء أكان ذلك في ركعة أم في ركعتين، وهذا مذهب المالكية

(2)

.

قال الزرقاني في شرح خليل: «ومن التنكيس المكروه: قراءة نصف سورة أخير، ثم نصفها الأول، كل ذلك في ركعة أو ركعتين، ولا تبطل الصلاة»

(3)

.

ويفارق مذهب المالكية مذهب الحنفية بالأمور التالية:

الأول: عدم التفريق بين الفرض والنفل خلافًا للحنفية.

الثاني: تقييد النهي عن التنكيس في الركعة الواحدة، لأن لكل ركعة قراءة مستقلة؛ خلافًا للحنفية حيث يرون أن القراءة في الصلاة قراءة واحدة.

الثالث: تقسيمهم التنكيس إلى محرم مبطل للصلاة مطلقًا، ومكروه.

فالمحرم: هو تنكيس القراءة كلها، فيبدأ من آخر آية صعودًا إلى أولها.

قال القاضي عياض: «ولا خلاف أن ترتيب آيات كل سورة على ما هي عليه الآن في المصحف توقيف من الله تعالى، وعلى ذلك نقلته الأمة عن نبيها صلى الله عليه وسلم»

(4)

.

وعلل التحريم الدسوقي بقوله: «وحرم تنكيس الآيات المتلاصقة في ركعة واحدة، وأبطل الصلاة؛ لأنه ككلام أجنبي»

(5)

.

وقال بعضهم: لأن فيه خروجًا بالكلام عن هيئة القرآن

(6)

.

(1)

. المرجع السابق.

(2)

. الثمر الداني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني (ص: 116)، شرح الزرقاني على مختصر خليل (1/ 359)، حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني (1/ 272)، حاشية الدسوقي (1/ 242)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 325)، تفسير القرطبي (1/ 61).

(3)

. شرح الزرقاني (1/ 359).

(4)

. فتح الباري (9/ 40)، شرح النووي على صحيح مسلم (6/ 62).

(5)

. حاشية الدسوقي (1/ 242).

(6)

. ضوء الشموع شرح المجموع (1/ 350).

ص: 407

فكل ما أَخَلَّ بنظم الآيات، وخالف التوقيف المتلقى من الوحي، فهو محرم، وقد تكون الآية الثانية جزءًا متممًا للآية التي قبلها، فيفسد المعنى، وهو كثير في القرآن.

وأما التنكيس المكروه: فهو كما لو قَسَّم قراءة السورة، فقرأ من السورة مرتبة نصفها الأخير، ثم قرأ من نفس السورة مرتبة نصفها الأول، فهذا التنكيس مكروه مطلقًا عندهم، سواء أكان في ركعة واحدة أم في ركعتين.

وإنما لم يحرم؛ لأن القراءة لم تخالف الترتيب التوقيفي المُنَزَّل على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولأنه يشبه تنكيس السور، فكأن النصف الأخير سورة مستقلة، والنصف الأول سورة مستقلة، فلم يخل بنظم القرآن، ولم يخرج القرآن عن هيئته، فكان حكمه حكم تنكيس السور عندهم.

ولماذا كره مع سلامة المعنى، وسلامة الترتيب؟

فيجاب: بأن هذه الصفة لم تنقل.

فإن قيل: إذا لم تنقل، فلماذا لم تحرم؛ لأن صفة العبادة بمنزلة العبادة؟

فيقال في الجواب: إن الله سبحانه وتعالى قد قال: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]، فتدخل هذه الصفة في الامتثال في الجملة.

وقال صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ..

(1)

.

فلم تحرم هذه الصفة احتياطًا للعبادة، وكرهت لكونها لم تنقل، والله أعلم.

وقد يناقش هذا:

بأننا لو نزلنا قراءة الركعة الثانية بالنسبة للركعة الأولى بمنزلة تنكيس السور، فما الجواب عن ذلك إذا وقع مثل هذا التنكيس في ركعة واحدة، والحكم واحد عند المالكية، فإذا وقع في ركعة واحدة فقد اختل الترتيب التوقيفي في آخر آية من النصف الأخير مع أول آية من النصف الأول حين ينتقل إليها، ولا فرق في النهي أن يقع التنكيس مرة واحدة في آيتين، أو يقع مرارًا مع كل الآيات، فهذه صورة من صور التنكيس المحرم، فلماذا كان مكروهًا؟

(1)

. البخاري (793)، ومسلم (45 - 397).

ص: 408

* ويجاب:

إذا كان يمكن لنا أن نجيب نيابة عن المالكية فربما يمكن القول بأحد جوابين:

الجواب الأول:

أن يقال: إن النظر في التنكيس إلى آخر آية من النصف الأخير بالنسبة إلى أول آية من النصف الأول يقع كذلك في تنكيس السور، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما قرأ النساء قبل آل عمران، فإن آخر آية من النساء بالنسبة إلى أول آية من آل عمران فيها صورة من تنكيس الآيات، ومع ذلك اغتفر هذا.

الجواب الثاني:

أن يقال: إنه يشترط أن يقرأ النصف الأول بنية استئناف القراءة، وليس بنية البناء على القراءة السابقة، حتى لا يقع في صورة التنكيس المحرم.

فإن ارتضى هذا التوجيه إخواننا المالكية فالحمد لله، وإلا فليدعوه، فالحق لهم، والله أعلم.

القول الثالث: مذهب الشافعية:

قالوا: يحرم تنكيس الآيات في سورة واحدة، من غير فرق بين أن يكون التنكيس لجميع السورة أو لبعضها، كما لو قرأ نصف السورة الأخير، ثم نصفها الأول، وفي هذا التفريع يفارق مذهب الشافعية مذهب المالكية.

فإذا ترك المصلي الترتيب عمدًا بطلت قراءته، ولم تبطل صلاته، ويلزمه استئناف الواجب منها وهي الفاتحة؛ لوجوبها نصَّا، وإن كان ساهيًا لم يُعْتَدَّ بالمؤخر، ويبني على المرتب من أول الفاتحة إلا أن يطول الفصل فيجب استئناف القراءة، وإن غير المعنى بطلت صلاته، هذا تفصيل مذهب الشافعية

(1)

.

قال ابن حجر الهيتمي: «إن كان التنكيس في آيات سورة واحدة حرم

»

(2)

.

* الدليل على تحريم التنكيس:

سبق لي أن ذكرت في القول السابق الدليل على تحريم التنكيس.

قال ابن حجر الهيتمي: «وإنما حرم تنكيس آيات السورة الواحدة وحكى

(1)

. تحفة المحتاج (2/ 40)، مغني المحتاج (1/ 356)، نهاية المحتاج (1/ 481)،.

(2)

. الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي (ص: 172).

ص: 409

بعضهم الإجماع عليه؛ لإجماعهم على أن ترتيب آيات كل سورة معجزة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الفاعل له، بخلاف ترتيب السور

»

(1)

.

ولأن إثبات الآي لا يجوز إلا بالتواتر، فكذلك مواضعها

(2)

.

(ث-344) وقد روى أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن، قال: حدثنا وكيع وأبو معاوية، قال: حدثنا الأعمش، عن أبي وائل، قال:

جاء رجل إلى عبد الله، فقال: إن فلانًا يقرأ القرآن منكوسًا، قال: ذاك منكوس القلب

(3)

.

[صحيح]

(4)

.

وقد اختلفوا في تفسير أثر ابن مسعود، أَقَصَدَ به تنكيس السور، أم عنى به تنكيس الآيات؟ على قولين، وسوف يأتي مناقشتهما إن شاء الله تعالى عند الكلام على تنكيس السور.

* وجه اختصاص التحريم بكون التنكيس في ركعة واحدة:

يرى الشافعية أن لكل ركعة قراءة مستقلة؛ فهم يتفقون في هذا مع المالكية، ويخالفون الحنفية الذين يرون أن القراءة في الصلاة قراءة واحدة.

* وجه عدم التفريق بين التنكيس آية آية، وبين تنكيس بعض الآيات بالنسبة إلى بعضها الآخر:

يتفق الشافعية مع الحنفية بأنه لا فرق بين أن ينكس السورة كلها، بأن يبدأ من أسفلها صعودًا إلى أولها، أو ينكس بعض السورة بالنسبة إلى بعضها الآخر، وذلك

(1)

. الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي (ص: 172).

(2)

. انظر تفسير سورة الفاتحة لابن رجب (ص: 22).

(3)

. فضائل القرآن للقاسم بن سلام.

(4)

. ورواه حرب الكرماني في مسائل أحمد (170) من طريق وكيع.

ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (30307)، والبيهقي في الشعب (2110) عن أبي معاوية،

ورواه عبد الرزاق في المصنف (7947)، والطبراني في المعجم الكبير (9/ 170) ح 8846، وابن أبي داود في المصاحف (ص: 342)، والمستغفري في الفضائل (141، 142) من طريق سفيان الثوري،

ورواه المستغفري في فضائل القرآن (140) من طريق ابن نمير، كلهم عن الأعمش به.

ص: 410

أن جميع الصورتين توقع في تنكيس الآيات، فإذا قرأ النصف الأخير من السورة أولًا، فإن آخر آية منه فيها تنكيس بالنسبة لأول آية من النصف الأول من السورة، فكلتا الصورتين لم يسلم من تنكيس الآيات.

وإذا كان تنكيس الآيات مُخِلًّا بترتيب القرآن المتلقى بالتوقيف كان كله حرامًا.

القول الرابع:

يحرم تنكيس الآيات مطلقًا داخل الصلاة وخارجها، وهو رواية عن أحمد، ورجحه ابن تيمية.

قال حرب الكرماني: «سألت أحمد: يكره أن يقرأ الرجل من آخر السورة إلى أولها، أويأخذ القلم، فيكتب مثل ذلك، فكرهه كراهة شديدة»

(1)

.

والكراهة الشديدة أقرب إلى التحريم منها إلى الكراهة التنزيهية، وظاهره لا فرق بين الفاتحة وغيرها، ولا بين الصلاة وخارجها.

وقال ابن تيمية: «ترتيب الآيات مأمور به نصًّا، وأما ترتيب السور فمفوَّض إلى اجتهادهم»

(2)

.

وظاهره لا فرق بين الفاتحة وغيرها، وبين الصلاة وخارجها.

قال الخلوتي: «فعلى كلام الشيخ تقي الدين من أنه أيضًا واجب، أنه يحرم أيضًا تنكيس الآيات، ولكن لا تبطل به الصلاة؛ لعدم إخلاله بالنظم»

(3)

.

لعله يقصد: لا تبطل به الصلاة وإن بطلت به القراءة، ووجب معه استئناف الفاتحة، والله أعلم.

* دليل هذا القول:

أن ترتيب الآيات حق التلاوة، فكان محرمًا مطلقًا، داخل الصلاة، وخارجها، وسهوه مبطل للقراءة، ويستأنف الواجب منها كالفاتحة.

وأما إذا ارتكب التنكيس متعمدًا، أتبطل صلاته باعتبار أنه ارتكب محرمًا متعمدًا

(1)

. مسائل حرب الكرماني من أول كتاب الصلاة، ت الغامدي (169)، وانظر الفروع (2/ 182).

(2)

. مجموع الفتاوى (13/ 396).

(3)

. حاشية الخلوتي على منتهى الإرادات (1/ 298).

ص: 411

داخل العبادة، كما ذهب إليه المالكية في التنكيس المحرم، وقال به الشافعية إذا أفسد المعنى، أم أنه يبطل القراءة وحدها، ويوجب استئناف الفاتحة؟ فيه تأمل، والمعتمد في المذهب لا تبطل به الصلاة، كما سيأتي بيانه في القول الخامس، والله أعلم.

قال ابن مفلح: «وعند شيخنا -يعني ابن تيمية- ترتيب الآيات واجب؛ لأن ترتيبها بالنص (ع)»

(1)

. يعني إجماعًا.

القول الخامس: مذهب الحنابلة:

قالوا: يجب ترتيب الفاتحة مطلقًا، فإن تركه عمدًا أو سهوًا لزمه استئنافها، ويكره في غيرها، وهو المعتمد في مذهب الحنابلة

(2)

.

قال في شرح منتهى الإرادات: «أو ترك ترتيبها أي الفاتحة عمدًا أو سهوًا لزمه استئنافها؛ لأن ترك الترتيب مخل بالإعجاز»

(3)

.

وقال أيضًا: «ولا يحرم تنكيس السور، ولا تنكيس الآيات، ولا تبطل به؛ لأنه لا يخل بنظم القرآن، لكن الفاتحة يعتبر ترتيبها، وتقدم، ويكره تنكيس السور والآيات في ركعة أو ركعتين، واحتج أحمد بأنه صلى الله عليه وسلم تعلم على ذلك»

(4)

.

ولا فرق عندهم في تحريم تنكيس الفاتحة بين أن يقدم آية على أخرى، أو يقدم جملة من الآيات على جملة آيات أخرى.

وأما دليلهم على تحريم التنكيس في الفاتحة فقد سبق ذكره في أدلة الشافعية.

وأما كراهتهم التنكيس في قراءة ما زاد على الفاتحة؛ باعتبار أن هذا المقدار إذا بطل بالتنكيس لم يجب استئنافه لعدم وجوبه، لهذا الخلل إذا وقع فيه لم يكن محرمًا كالفاتحة.

* ويناقش:

أن ترتيب الآيات أهو من حقوق التلاوة، أم هو من حقوق الصلاة، فإن كان

(1)

. الفروع (2/ 182).

(2)

. الإقناع (1/ 115، 119)، الكافي (1/ 246)، كشاف القناع (1/ 336، 344)، المغني (1/ 348)، شرح منتهى الإرادات (1/ 188، 189، 191)، الفروع (2/ 183).

(3)

. شرح منتهى الإرادات (1/ 189).

(4)

. المرجع السابق (1/ 191).

ص: 412

الترتيب من حقوق التلاوة؛ لكون التنكيس يخل بنظم الآيات التوقيفي، فإن ذلك يعني تحريم التنكيس مطلقًا، سواء أوقع ذلك في الصلاة أم وقع في خارجها، وسواء أوقع في الفاتحة أم وقع فيما زاد عليها، فلا معنى للتفريق بين الفاتحة وغيرها إلا من حيث وجوب الاستئناف، فإن التنكيس إذا أبطل القراءة وجب استئناف الواجب منها، ولا يجب للصلاة قراءة سوى الفاتحة.

كما أن في قول الحنابلة إشكالًا آخر على قواعد المذهب، فإن تنكيس الآيات إذا كان محرمًا في الفاتحة، وارتكبه عمدًا داخل الصلاة، فإن ارتكاب المحرم عمدًا داخل العبادة يفسدها، فلا أعلم لهم دليلًا أوتعليلًا على إخراج هذه المسألة من إفساد الصلاة حسب قواعد المذهب، فليتأمل.

فإن قيل: إن الترتيب من حقوق التلاوة، فهو غير مختص بالصلاة، لهذا لم يبطل الصلاة تعمد الإخلال به.

* فيجاب:

أن وجوب تلاوة الفاتحة مختص بالصلاة، فلا تجب التلاوة خارج الصلاة، كما أن الضابط في المختص: أن يقوم الدليل الخاص على وجوبه في الصلاة، وإن وجب في غيرها، كما قال الحنابلة بإفساد الصلاة في ترك ستر العورة في الصلاة، وإن كان الستر يجب خارج الصلاة أيضًا، بل هو أولى من ترك ستر العورة، لأن ستر العورة واجب لها، وهو من ارتكاب المحظور، بخلاف ترك الترتيب بالفاتحة فهو واجب فيها، وركن من أركان الصلاة، ومن باب فعل المأمور، فيكون آكد، والله أعلم.

* الراجح:

بعد استعراض الأقوال لم أجد قولًا يقول بإباحة تنكيس الآيات، وإنما هو دائر بين التحريم والكراهة، والقول بالتحريم أقوى إن كان عالمًا متعمدًا، وأن الترتيب حق التلاوة، فيحرم داخل الصلاة وخارجها، وفي الفرض والنفل، والتنكيس يبطل القراءة، ويوجب استئناف ما كان واجبًا منها كالفاتحة، وهل تبطل به الصلاة، أو تبطل إن تغير به المعنى الأقرب الثاني، والله أعلم.

* * *

ص: 413

المطلب الثاني في تنكيس سور القرآن

المدخل إلى المسألة:

* تنكيس السور: أن يقرأ سورة ثم يقرأ سورة فوقها سواء أحصل ذلك في ركعة واحدة أم وقع ذلك في ركعتين.

* نزول القرآن على نبينا صلى الله عليه وسلم لم يكن مرتبًا، لا في آياته، ولا في سوره.

* قال ابن تيمية:

ترتيب السور بالاجتهاد، لا بالنص في قول جمهور العلماء

(1)

.

* اختلاف ترتيب مصاحف الصحابة يلزم منه جواز التنكيس.

* لا يحفظ نهي من الشارع ينهى عن التنكيس، ولا يؤثر قول فقهي يقول بتحريم التنكيس، والخلاف دائر بين الكراهة والجواز.

* أمر الشرع بقراءة ما تيسر من القرآن والمطلق على إطلاقه، لا يقيده إلا نص، أو إجماع.

* الكراهة حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل شرعي، والأصل عدم الكراهة.

* أكثر قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على الترتيب وهذا يقتضي الاستحباب إما دائمًا أو غالبًا، ولا يلزم من ترك المستحب الوقوع في المكروه.

* القول بأن التنكيس المأثور كان قبل العرض الأخير للقرآن، قول لا دليل عليه.

[م-544] اختلف الفقهاء في تنكيس السور في الصلاة:

فقيل: يكره في الفريضة دون النافلة، فإن قرأ في الأولى سهوًا سورة الناس كررها في الثانية؛ لأن التكرار أهون من القراءة منكوسًا، وإذا ختم القرآن بالركعة الأولى قرأ من البقرة في الثانية، وهذا مذهب الحنفية

(2)

.

(1)

. الإقناع في فقه الإمام أحمد (1/ 119).

(2)

. الدر المختار شرح تنوير الأبصار (1/ 75)، حاشية ابن عابدين (1/ 546)، مراقي الفلاح (ص: 129)، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 352)، المحيط البرهاني (1/ 304)، البناية شرح الهداية (2/ 311)، البحر الرائق (2/ 102)، النهر الفائق (1/ 237).

ص: 414

وقيل: يكره تنكيس السور مطلقًا، وهو مذهب المالكية، والحنابلة

(1)

.

واستثنى محمد الحطاب المالكي من الكراهة: لو بدأ بسورة الناس فإنه يقرأ السورة التي قبلها أولى من تكرار السورة

(2)

.

وقيل: لا يكره التنكيس، ويستحب الترتيب.

وهو مذهب الشافعية، ورواية عن أحمد، ورجحه ابن تيمية، ولا يلزم من ترك المستحب الوقوع في المكروه

(3)

.

قال ابن تيمية: «يجوز قراءة هذه قبل هذه، وكذا في الكتابة، ولهذا تنوعت مصاحف الصحابة رضي الله عنهم في كتابتها، لكن لما اتفقوا على المصحف في زمن عثمان صار هذا مما سنه الخلفاء الراشدون، وقد دل الحديث على أن لهم سنة يجب اتباعها»

(4)

.

فقوله: (يجب اتباعها) أي يشرع لقوله قبل: يجوز قراءة هذه قبل هذه.

(1)

. حاشية الدسوقي (1/ 242)، حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني (1/ 272)، حاشية العدوي على الخرشي (1/ 355)، التفريع (1/ 96)، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (1/ 324، 325)، الثمر الداني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني (ص: 116)، شرح الزرقاني على مختصر خليل (1/ 359)، تفسير القرطبي (1/ 61)، الإقناع (1/ 119)، الكافي (1/ 246)، كشاف القناع (1/ 344)، المغني (1/ 348)، شرح منتهى الإرادات (1/ 191)، الفروع (2/ 183) ..

(2)

. انظر: حاشية الدسوقي (1/ 242)، حاشية الصاوي (1/ 325).

(3)

. قال النووي في المجموع (3/ 385): «قال أصحابنا: والسنة أن يقرأ على ترتيب المصحف متواليًا، فإذا قرأ في الركعة الأولى سورة، قرأ في الثانية التي بعدها متصلة بها. قال المتولي: حتى لو قرأ في الأولى (قل أعوذ برب الناس) يقرأ في الثانية من أول البقرة، ولو قرأ سورة ثم قرأ في الثانية التي قبلها فقد خالف الأولى، ولا شيء عليه والله أعلم» .

وانظر: تحفة المحتاج (2/ 57)، نهاية المحتاج (1/ 495)، أسنى المطالب (1/ 155)، الحاوي الكبير (2/ 435).

(4)

. الفروع (2/ 182)، تفسير الفاتحة لابن رجب (ص: 22)، الإقناع (1/ 119)، المستدرك على مجموع الفتاوى لابن قاسم (3/ 82).

ص: 415

وقيل: يكره تنكيس السور إذا كانت السورة الأولى متعلقة بالسورة الثانية، كما يقال: إن سورة قريش متعلقة بسورة الفيل، وهو قول لبعض الحنابلة

(1)

.

فصارت الأقوال الأربعة ترجع إلى قولين:

الكراهة، وهي على قولين: إما كراهته مطلقًا، أو كراهته في الفرض.

والجواز، وهو على قولين أيضًا: إما جوازه مطلقًا، أو جوازه في النفل خاصة، وأما التحريم فلا قائل به.

قال ابن بطال: «لا نعلم أن أحدًا منهم قال: إن ترتيب ذلك -يعني السور- واجب في الصلاة وفي قراءة القرآن ودرسه، وإنه لا يحل لأحد أن يتلقن الكهف قبل البقرة، ولا الحج بعد الكهف

»

(2)

.

* دليل من قال: يكره التنكيس مطلقًا:

الدليل الأول:

(ث-345) ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، قال:

قيل لعبد الله: إن فلانًا يقرأ القرآن منكوسًا، فقال عبد الله: ذاك منكوس القلب

(3)

.

(1)

. وجه ارتباط سورة قريش بسورة الفيل على أحد الأقوال، قال ابن كثير في تفسيره (8/ 491):«هذه السورة مفصولة عن التي قبلها في المصحف الإمام، كتبوا بينهما بسم الله الرحمن الرحيم وإن كانت متعلقة بما قبلها. كما صرح بذلك محمد بن إسحاق وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم؛ لأن المعنى عندهما: حبسنا عن مكة الفيل وأهلكنا أهله {لإيلاف قريش} أي: لائتلافهم واجتماعهم في بلدهم آمنين» . اهـ فالله جعلهم كعصف مأكول لتبقى قريش وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف.

وقال العز بن عبد السلام في تفسيره (3/ 491): كان عُمَرُ وأُبَيٌّ رضي الله عنهما يريانهما سورة واحدة لا يفصلان بينهما. اهـ

وقال ابن حجر في الفتح عن اللام في لإيلاف (8/ 730): «قيل: اللام متعلقة بالقصة التي في السورة التي قبلها، ويؤيده أنهما في مصحف أبي بن كعب سورة واحدة

».

وانظر: الفروع لابن مفلح (2/ 183)، المبدع (1/ 433).

(2)

. شرح البخاري لابن بطال (10/ 239).

(3)

. المصنف (30307).

ص: 416

[صحيح]

(1)

.

وجه الاستدلال:

قال أبو عبيد القاسم بن سلام: «يتأوله كثير من الناس أنه نكس: أن يبدأ الرجل من آخر السورة فيقرأها إلى أولها، وهذا شيء ما أحسب أن أحدًا يطيقه، ولا كان هذا في زمان عبد الله، ولا أعرفه؛ ولكن وجهه عندي أن يبدأ من آخر القرآن من المعوذتين، ثم يرتفع إلى البقرة، كنحو ما يتعلم الصبيان في الكتاب؛ لأن السنة خلاف هذا ..... فكان أول القرآن فاتحة الكتاب، ثم البقرة إلى آخر القرآن؛ فإذا بدأ من المعوذتين صارت فاتحة الكتاب آخر القرآن، فكيف تسمى فاتحته، وقد جُعِلَتْ خاتمته؟ ...... وإنما جاءت الرخصة في تَعَلُّم الصبي والعَجَمِي من المفصَّل لصعوبة السور الطوال عليهما؛ فهذا عذر؛ فأمَّا من قرأ القرآن، وحفظه، ثم تعمَّد أن يقرأه من آخره إلى أوَّلِه، فهذا النكسُ المنهيّ عنه؛ وإذا كرهنا هذا، فنحن للنكس من آخر السورة إلى أوَّلها أشدُّ كراهة، إنْ كان ذلك يكون»

(2)

.

* ويجاب:

بأن قوله: (منكوس القلب) دليل على تحريم الفعل، ولم يقل أحد من العلماء: إن تنكيس السور محرم من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، وإنما هو دائر بين الكراهة والجواز، وإنما الذي قيل فيه بالتحريم هو تنكيس الآيات؛ لأنه يخل بنظم القرآن ومعانيه وإعجازه، فيحمل كلام ابن مسعود عليه.

يقول الباقلاني: «إنما عنيا بذلك - يريد ابن مسعود وابن عمر- من يقرأ السورة منكوسة، ويبتدئ من آخرها إلى أولها؛ لأن ذلك حرام محظور

وليس يريد بذلك من قرأ القرآن من أسفل إلى فوق، ومن بدأ بآل عمران وثنى بالبقرة، وكيف يريدون ذلك، وهم قد علموا اختلاف تأليف المصاحف، وأن في الأمة من يبدأ بحفظ ما خف من المفصل، ثم يرتفع إلى حفظ ما طال وصعب، ومنهم من يحفظ متفرقًا من المواضع المختلفة، ويتلوه كذلك، ومن يصلي به فرائضه، ونوافله على هذا الوجه، وهو غير مذموم بل عمل الأمة على تجويز ذلك، وأنه شائع مستقر إلى اليوم، وقول

(1)

. سبق تخريجه، انظر (ث-344).

(2)

. غريب الحديث للقاسم بن سلام (4/ 103).

ص: 417

ابن مسعود (ذاك رجل منكوس القلب) إنما خرج على وجه الذم، فلا ذم على من قرأ البقرة، وثنى بالنحل لو صلى كذلك، ثبت أن التأويل ما قلناه.

ويدل على ذلك قول ابن عمر: ولو رآه السلطان لأدبه، أو عاقبه، وقد علم أنه لا أدب، ولا عقاب على من قرأ البقرة، وثنى بالحج، فصح أن تأويل منكس القراءة تنكيس آيات السور .... »

(1)

.

الدليل الثاني:

أن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته كانت مرتبة، فكان يقرأ سورة السجدة قبل سورة الإنسان في صلاة الصبح

(2)

، ويقرأ سورة سَبِّحْ قبل سورة الغاشية في صلاة

الجمعة

(3)

، وربما قرأ في الجمعة سورة الجمعة قبل سورة المنافقون

(4)

،

ويقرأ في ركعتي الفجر سورة الكافرون قبل سورة الإخلاص، كما في حديث أبي هريرة في مسلم

(5)

، ويقرأ في صلاة العيد الأولى بسورة (ق والقرآن المجيد)، وفي الثانية اقتربت الساعة وانشق القمر

(6)

، ويقرأ في صلاة الوتر إذا أوتر بثلاث بِسَبِّحْ، والكافرون والصمد

(7)

.

(1)

. الانتصار للقرآن لأبي بكر الباقلاني (1/ 286).

(2)

. رواه البخاري (891)، ومسلم (65 - 880) من طريق سفيان الثوري، عن سعد بن إبراهيم، عن الأعرج، عن أبي هريرة.

ورواه مسلم (879) من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

(3)

. رواه مسلم (62 - 878) من طريق إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه، عن حبيب بن سالم مولى النعمان بن بشير، عن النعمان بن بشير.

(4)

. رواه مسلم (64 - 879) من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

ورواه مسلم (61 - 877) من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن ابن أبي رافع، عن أبي هريرة.

(5)

. رواه مسلم (98 - 726) من طريق مروان بن معاوية، قال: حدثنا يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة.

(6)

. رواه مسلم (14 - 891) من طريق مالك، عن ضمرة بن سعيد المزني، عن عبيد الله بن عبد الله، أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي: ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر؟ فقال: كان يقرأ فيهما بـ ق والقرآن المجيد، واقتربت الساعة وانشق القمر.

(7)

. أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده على المسند (5/ 123)، وابن أبي شيبة في المصنف =

ص: 418

* ويناقش:

بأن هذا كان هو الغالب على فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يلتزمه في كل صلواته عليه الصلاة والسلام كما سيأتي بيانه في أدلة القول الثاني إن شاء الله، وإذا كان كذلك كان فعله دليلًا على استحبابه، لا على كراهة التنكيس.

الدليل الثالث:

أن ترتيب المصحف توقيفي؛ لأنه إما أن ذلك كان بتوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة.

وإما أنهم أخذوه على ما كانوا يسمعونه من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن وهب: «سمعت مالكًا يقول: إنما أولف القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

ولهذا قدمت البقرة وآل عمران في الترتيب وإن كان قد نزل قبلهما بضعٌ وثمانون سورة.

(ث-346) وروى البخاري من طريق شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت عبد الرحمن بن زيد، قال:

= (6888، 36468)، والنسائي في المجتبى (1729)، وأبو داود في السنن مختصرًا (1430)، وابن الجارود في المنتقى (271)، وابن حبان (2450) من طريق محمد بن أبي عبيدة، عن أبيه عبد الملك بن معن، عن الأعمش، عن طلحة، عن ذر، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أبي بن كعب.

وأخرجه النسائي (1730)، وعبد بن حميد (176)، والطبراني في الأوسط (1666)، والدارقطني في السنن (1661)، والبيهقي في السنن (3/ 55) من طريق أبي جعفر الرازي عيسى بن أبي عيسى،

وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده على المسند (5/ 123)، وابن ماجه (1171)، وابن حبان (2436) من طريق أبي حفص الأَبَّار، كلاهما (أبو جعفر، وأبو حفص) عن الأعمش عن طلحة بن مصرف، وزبيدًا اليامي، عن ذر به.

ولم يذكر أبو عبيدة زبيدًا اليامي في إسناده.

ورواه عبد الله بن أحمد في زوائده على المسند (5/ 123) من طريق جرير بن حازم، عن زبيد، عن ذر به. وهذه متابعة من جرير للأعمش.

(1)

. تفسير القرطبي (1/ 60)، المسالك في شرح موطأ مالك (3/ 367)، شرح البخاري لابن بطال (10/ 239).

ص: 419

سمعت ابن مسعود يقول في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء: أنهن من العتاق الْأُوَلِ، وهن من تلادي

(1)

.

قال ابن كثير: والمراد منه ذكر ترتيب هذه السور في مصحف ابن مسعود كالمصاحف العثمانية، وقوله:(من العتاق الأول) أي من قديم ما نزل، وقوله:(وهن من تلادي) أي من قديم ما قنيت وحفظت.

* ويناقش:

أن ترتيب مصحف ابن مسعود، وإن وافق في بعض السور، فهو مخالف في بعضها الآخر كالمفصل مثلًا وسيأتي التدليل على ذلك في أدلة القول الثاني، ولا أحد يدعي أن ترتيب مصحف ابن مسعود أو مصحف أُبَيٍّ، أومصحف عليٍّ رضي الله عنهم أنها كانت موافقة في الترتيب لمصحف عثمان رضي الله عنه، إلا أن ترتيب عثمان رضي الله عنه مقدم على ترتيب غيره لكون الصحابة رضوان الله عليهم رضوه، وتلقوه بالقبول، واستقر عليه الأمر.

الدليل الرابع:

(ح-1406) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، عن عثمان بن عبد الله بن أوس الثقفي،

عن جده أوس بن حذيفة، قال: كنت في الوفد الذين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم أسلموا من ثقيف، من بني مالك، أنزَلَنَا في قبة له، فكان يختلف إلينا بين بيوته، وبين المسجد، فإذا صلى العشاء الآخرة انصرف إلينا، ولا نبرح حتى يحدثنا .... فمكث عنا ليلة لم يأتنا حتى طال ذلك علينا بعد العشاء، قال: قلنا: ما أمكثك عنا يا رسول الله؟ قال: طرأ عليَّ حزب من القرآن، فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه، قال: فسألَنْاَ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبحنا، قال: قلنا: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة سورة، وثلاث عشرة سورة، وحزب المفصل من قاف حتى يختم

(2)

.

(1)

. صحيح البخاري (4708، 4739، 4994).

(2)

. المسند (4/ 9، 343).

ص: 420

[ضعيف]

(1)

.

(1)

. في إسناده عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، روى عنه جماعة على رأسهم ابن المبارك وابن مهدي، والثوري، ووكيع، وأبو نعيم الفضل بن دكين، وجماعة، وروى له مسلم حديثًا واحدًا متابعة.

وحديثه على قسمين: الأول: ما رواه عن عمرو بن شعيب.

فهذا قال فيه ابن عدي: فأما سائر أحاديثه فإنه يروي عن عمرو بن شعيب أحاديثه مستقيمة. انظر الكامل (5/ 277).

وقد صحح البخاري حديثًا تفرد به، رواه أبو داود (1151) من طريقه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم التكبير في الفطر سبع في الأولى، وخمس في الآخرة، والقراءة بعدهما كلتيهما.

ونقل الترمذي في العلل الكبير (154) عن البخاري أنه قال: حديث عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده هو صحيح أيضًا. يعني حديث التكبير في العيدين.

ونقل الحافظ في تلخيص الحبير عن أحمد، وابن المديني، والبخاري أنهم صححوه، والثابت عن أحمد أنه عمل به، والعمل أعم من القول بالصحة.

القسم الثاني: ما رواه الطائفي عن غير عمرو بن شعيب فيعتبر بها، وفيها المقبول والمردود، فلا يقبل ما يتفرد به، ومنه حديثنا هذا، ففيه علتان:

إحداهما: تفرده بذكر صفة التحزيب. والثانية: الاختلاف عليه في إسناده ورفعه، والله أعلم.

وما ورد من اختلاف كلام أئمة الجرح والتعديل في الطائفي فينبغي حمله على هذين القسمين، فمن قواه فإنما نظر إلى أحاديثه عن عمرو بن شعيب.

ومن ضعفه فقد نظر إلى كثرة أوهامه في سائر حديثه، وقد لخص ابن عدي حاله، حيث جعل أحاديثه عن عمرو بن شعيب مستقيمة، واعتبره في جملة من يكتب حديثه. أي للاعتبار، والله أعلم.

قال ابن عدي: وأما سائر حديثه فعن عمرو بن شعيب، وهي مستقيمة، وهو ممن يكتب حديثه. الكامل في الضعفاء (5/ 277).

واختلف فيه قول يحيى بن معين، فقال فيه: صالح، وقال مرة: صويلح وقال فيه أيضًا: ليس به بأس، يكتب حديثه، وقال فيه أيضًا: ليس حديثه بذاك القوي، وقال مرة: ضعيف.

فقوله: (صالح، وصويلح) مطلقة، لم تضف للحديث، فهي دون قوله (صالح الحديث) فهي محمولة على صلاح الدين، والقاسم المشترك بين هذه الأقوال المختلفة قول ابن معين: يكتب حديثه، أي للاعتبار، فليس مُطَّرَحًا، وليس مقبولًا بإطلاق.

وذكره ابن حبان في الثقات (8913)، وإذا اقتصر على مجرد ذكره في الثقات دون أن يكون مع ذلك عبارة تعديل كأن يقول: مستقيم الحديث ونحوها، فذلك يعني أنه لا يعلم فيه جرحًا، وهي أدناا درجات التوثيق عند ابن حبان، بخلاف من قال فيهم: ثقة، أو قال: مستقيم الحديث.

وقال العجلي في ثقاته (846): ثقة. =

ص: 421

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ولما ذكره ابن خلفون في كتاب الثقات، قال: وثقه علي بن المديني.

وقال البخاري عنه كما في العلل الكبير للترمذي (154): مقارب الحديث.

وقال ابن شاهين: صالح. تاريخ أسماء الثقات (655).

و قال أبو حاتم: ليس بقوي، لين الحديث، بابه طلحة بن عمرو وعمر بن راشد وعبد الله بن المؤمل. الجرح والتعديل (5/ 97).

وقال البرقاني (258): سألت الدارقطني عنه

فقال: طائفي يعتبر به.

وفي التقريب صدوق يخطئ ويهم.

فالأقرب ما قاله الدارقطني: يعتبر به.

كما أن شيخه عثمان بن عبد الله بن أوس له أحاديث يسيرة لا تتجاوز عشرة أحاديث بحسب ما وصل إلينا من حديثه، أشهرها هذا الحديث، وقد روى الثوري عنه هذا الحديث إن صح الطريق إليه، فقد تفرد به بعض الضعفاء عن الثوري كما سيأتي، وروى عنه جماعة، ولم يوثقه من المتقدمين غير ابن حبان، حيث ذكره في ثقاته، وقال الذهبي: محله الصدق، وفي التقريب مقبول. أي حيث يتابع، وإلا فلين الحديث.

والحديث له علتان:

الأولى: تفرد الطائفي عبد الله بن عبد الرحمن بذكر تحزيب القرآن على هذه الصفة، ومثله لا يحتمل تفرده.

ورواه الثوري، عن عثمان بن عبد الله، عن أوس بن حذيفة، قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتينا كل ليلة، فيحدثنا، فأبطأ علينا ليلة، فقلنا له: ما شأنك؟ فقال: طرأ عليَّ جزء من القرآن، فأحببت أن لا أخرج حتى أقضيه.

فهذا الطريق رواه الطبراني في الكبير (1/ 221) ح 600، قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي (هو مطين ثقة)، حدثنا عمر بن محمد بن الحسن الأسدي (قال النسائي: صدوق)، حدثني أبي، قال: حدثنا سفيان به.

وهذا الطريق ليس فيه موضع الشاهد، وهو تحزيب القرآن على سبعة أحزاب، آخرها المفصل، وبداية الأخير من سورة (ق)، إلا أن هذا الطريق ليس بالقوي، تفرد به عن الثوري محمد بن الحسن الأسدي، وقد تكلم فيه:

قال يحيى بن معين، أدركته، وليس بشيء.

وقال أبو حاتم: شيخ.

وضعفه يعقوب بن سفيان.

وقال أبو داود: صالح، يكتب حديثه. أي للاعتبار

والثوري له أصحاب يعتنون بمروياته، فتفرد الأسدي عن الثوري مع لينه لا يحتمل.

فقد ذكر وفد ثقيف من غير طريقه، وليس فيه ذكر التحزيب. =

ص: 422

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= فقد روى أبو داود الطيالسي (1206)،

وأحمد (4/ 8)، والنسائي في الكبرى (3430)، وفي المجتبى (3982)، وأبو موسى المديني في اللطائف (344)، عن محمد بن جعفر،

والدارمي (2490) أخبرنا هاشم بن القاسم.

والطبراني في الكبير (1/ 217) ح 592، من طريق علي بن الجعد، أربعتهم رووه عن شعبة، عن النعمان بن سالم، قال: سمعت أوسًا يقول: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف، فكنا في قبة، فنام من كان فيها غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجلٌ فسارَّه، فقال: اذهب فاقتله، ثم قال: أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: بلى، ولكنه يقولها تَعَوُّذًا، فقال: رده، [وفي رواية: ذره] ثم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها حرمت عليَّ دماؤهم وأموالهم، إلا بحقها.

فهذا حديث صحيح، وليس فيه تحزيب القرآن الذي انفرد فيه الطائفي.

العلة الثانية: الاختلاف على الطائفي في إسناده، وفي رفعه ووقفه.

أما الاختلاف في الإسناد:

فقيل: عن الطائفي، حدثني عثمان بن عبد الله بن أوس الثقفي، عن جده أوس بن حذيفة.

وقيل: عنه، عن عثمان بن عبد الله بن أوس، عن أبيه، عن جده.

وقيل: عن عثمان بن عبد الله بن أوس، عن عمه عمرو بن أوس، عن أبيه أوس.

وقيل: عنه، عن عثمان بن عبد الله بن أوس، عن أبيه.

وقيل: عنه، عن عثمان بن عمرو بن أوس، عن أبيه.

وقيل: عنه، عن عثمان بن عبد الله، مرسلًا، ليس فيه أبوه، ولا جده. وإليك تفصيل ما أجمل:

أما رواية الطائفي، عن عثمان بن عبد الله بن أوس الثقفي، عن جده أوس بن حذيفة.

فرواه أبو داود الطيالسي كما في مسنده (1204)، ومن طريقه أبو نعيم في معرفة الصحابة (985)، والبغوي في معجم الصحابة (52)، والخطيب في موضع أوهام الجمع والتفريق (1/ 327).

وقُرَّانُ بن تمام كما في مسند أبي داود (1393)، والمعجم الكبير للطبراني (1/ 220) ح 599، ومعجم الصحابة لابن قانع (1/ 30)، وتهذيب الكمال للمزي (19/ 411).

وأبو خالد الأحمر في مسند ابن أبي شيبة (539)، والتاريخ الكبير للبخاري (2/ 16)، وسنن أبي داود (1393)، وسنن ابن ماجه (1345)، والآحاد والمثاني لابن أبي عاصم (1523، 1578)، ومشكل الآثار للطحاوي (1373).

وأبو نعيم: الفضل بن دُكَيْن، كما في فضائل القرآن لأبي عبيد (ص: 185)، والطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 510)، ومشكل الآثار للطحاوي (1371)، والمعجم الكبير للطبراني (1/ 220) ح 599، وفضائل القرآن للمستغفري (528)، ومعرفة الصحابة لأبي نعيم (985)، والبيان في عد آي القرآن لأبي عمرو الداني (300)، ومعجم الصحابة للبغوي =

ص: 423

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= (52)، وتاريخ ابن أبي خيثمة، السفر الثاني (164)، وتهذيب الكمال للمزي (19/ 411)،

وعبد الرحمن بن مهدي كما في مسند أحمد (4/ 9، 343)، ومعرفة الصحابة لأبي نعيم (985)، والمزي في تهذيب الكمال (19/ 411)،

وعبيد بن عقيل كما في تاريخ المدينة لابن شبة (2/ 508، 509)،

وأبو أحمد الزبيري كما في الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 510)، وشعب الإيمان (1988).

ومروان بن معاوية كما في فضائل القرآن للقاسم بن سلام (ص: 184)، وفضائل القرآن للمستغفري (527)،

وعيسى بن يونس، كما في الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم (1579) ومعجم الصحابة لابن قانع (1/ 31)، ومعرفة الصحابة لأبي نعيم (985)، وموضح أوهام الجمع والتفريق للخطيب (1/ 326)، والكنى والأسماء للدولابي (2114)، وتاريخ ابن أبي خيثمة، السفر الثاني (165).

وأبو عامر العقدي كما في الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 510)، وتهذيب الآثار للطبري (مسند عمر)(1107، 1108)، ومعجم الصحابة للبغوي (52).

كلهم (الطيالسي، وقُرَّانُ، وأبو نعيم، وابن مهدي، وعبيد، والزبيري، ومروان، وأبو عامر العقدي، وعيسى بن يونس) تسعتهم رووه عن عبد الله بن الرحمن، عن عثمان بن عبد الله بن أوس الثقفي، عن جده أوس بن حذيفة به، وفيه: فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبحنا، قال: قلنا: كيف تحزبون القرآن

الحديث، فكان السؤال عن تحزيب الصحابة للقرآن.

وخالفهم وكيع كما في مصنف ابن أبي شيبة في المصنف (8583)، ومشكل الآثار (1372)، والمعجم الكبير للطبراني (1/ 221) ح 599، والمزي في تهذيب الكمال (19/ 411، 412)، فرواه عن عبد الله بن عبد الرحمن به، مرفوعًا، وفيه: فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزب القرآن؟ فقالوا: كان يحزبه ثلاثًا

إلخ، فكان صريحًا بالرفع.

واللفظان يؤولان إلى معنى واحد، فإن قولهم:(كيف تحزبون القرآن)؟ سؤال لمجموعهم بما فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبعد أن يكون الصحابة رضوان الله عليهم يحزبون القرآن في حياته على صفة تخالف تحزيب النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.

وأما رواية عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، عن عثمان بن عبد الله بن أوس، عن أبيه، عن جده:

فرواه الحكيم محمد بن علي الترمذي في نوادر الأصول (953)، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب الثقفي، قال: حدثنا عثمان بن عبد الله بن أوس، عن أبيه، عن جده، قال:

فذكر الحديث مختصرًا.

هذا الإسناد منكر، تفرد به علي بن الحسن بن بشر الترمذي والد الحكيم الترمذي، وهو مجهول، ولم يروه عنه إلا ابنه الحكيم الترمذي.

وقد خالف عليًّا الترمذيَّ جماعة من الثقات رووه عن أبي نعيم كرواية الجماعة، منهم:

أبو عبيد القاسم بن سلام كما في فضائل القرآن له (ص: 185)، وفضائل القرآن للمستغفري =

ص: 424

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= (528)، والبيان في عد آي القرآن لأبي عمرو الداني (300).

وابن سعد، كما في الطبقات الكبرى (5/ 510)،

وفهد بن سليمان، كما في مشكل الآثار للطحاوي (1371)،

وفضيل بن محمد الملطي، كما في المعجم الكبير للطبراني (1/ 220) ح 599، ومعرفة الصحابة لأبي نعيم (985)، وتهذيب الكمال للمزي (19/ 411)

وهارون بن عبد الله كما في معجم الصحابة للبغوي (52)،

وابن أبي خيثمة كما في التاريخ الكبير، السفر الثاني (164)، كلهم رووه عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، عن عثمان بن عبد الله بن أوس الثقفي، عن جده أوس بن حذيفة، وهو المعروف.

وقد تابع مروانُ بن معاوية في إحدى روايتيه عليَّ بن الحسن بن بشر الترمذي،

فرواه البخاري في التاريخ الكبير (2/ 16) من طريق يعقوب بن محمد، ثنا مروان بن معاوية، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، عن عثمان بن عبد الله بن أوس، عن أبيه عن جده به. وهذه متابعة لرواية الحكيم الترمذي، إلا أن يعقوب بن محمد الزهري المدني ضعيف، وقد خالفه من هو أوثق منه.

خالفه أبو عبيد القاسم بن سلام كما في فضائل القرآن (242).

وخلف بن الوليد العتكي (ثقة) كما في تاريخ المدينة لابن شبة (2/ 509)، كلاهما روياه عن مروان بن معاوية عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، عن عثمان بن عبد الله، عن جده كرواية الجماعة.

وأما رواية عبد الله بن عبد الرحمن، عن عثمان بن عبد الله، عن عمه عمرو بن أوس، عن أبيه.

تفرد بذلك أبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، فرواه ابن سعد في الطبقات (5/ 510، 511) وابن شبة في تاريخ المدينة (2/ 508)، عنه قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى، قال: حدثني عثمان بن عبد الله بن أوس، عن عمه عمرو بن أوس، عن أبيه أوس، قال: كنت في الوفد حين قدمتْ ثقيفٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلهم في قبة في المسجد

فذكر الحديث. ورواية الجماعة الطيالسي، وقُرَّانَ، وأبي نعيم، وابن مهدي، وعبيد، والزبيري، ومروان، وأبي عامر العقدي، وعيسى بن يونس هي المحفوظة.

وأما رواية عبد الله بن عبد الرحمن، عن عثمان بن عبد الله بن أوس، عن أبيه.

فأخرجه ابن نصر المروزي في قيام الليل (كما في المختصر)(ص: 156)، قال: حدثنا يحيى: أخبرنا المعتمر، سمعت عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، قال: حدثني عثمان بن عبد الله بن أوس، عن أبيه، قال: فنزل وفد الأحلاف على المغيرة بن شعبة، ونزل وفد بني مالك على النبي صلى الله عليه وسلم فَضُرِب أو ضَرَبَ عليهم قبة له

قال يحيي: قال بعض أصحابنا: إن هذا الحديث عن جده، وهو حدثنا عن أبيه.

وأخرجه الطبراني في الكبير (17/ 42) ح 87، حدثنا ورد بن أحمد بن لبيد البيروتي =

ص: 425

وجه الاستدلال:

دل الحديث على أن هذا الترتيب، ومنه ترتيب المفصل كان متلقًّى من

= (روى عنه الطبراني في معاجمه الثلاثة، ولم يوثق ففيه جهالة)، عن صفوان بن صالح، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى الطائفي، عن عثمان بن أوس، عن أبيه، قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف

وذكر الحديث ..

تابعه الحسن بن سفيان النسوي وهو ثقة، رواه أبو نعيم في معرفة الصحابة (5077) من طريقه، عن صفوان بن صالح به.

قال الطبراني: «هكذا رواه الوليد بن مسلم، عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، عن عثمان بن عمرو بن أوس، عن أبيه، وخالفه وكيع، وقران بن تمام وغيرهما، فرووه عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن عثمان بن عبد الله بن أوس، عن جده أوس بن حذيفة» .

وأما رواية عبد الله بن عبد الرحمن، عن عثمان بن عبد الله، مرسلًا، ليس فيها أبوه، ولا جده.

فرواه ابن شبة في أخبار المدينة (2/ 509)، قال: حدثنا سهل بن يوسف، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن، عن عثمان بن عبد الله، قال: لما خرج وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل الأحلاف على المغيرة بن شعبة، وأنزل المالكيين، وفيهم عثمان بن أبي العاص، في قبة بينه وبين المسجد، قال عثمان بن أبي العاص: فكان يأتينا إذا انصرف من العشاء، فيقوم على باب قبتنا فيحدثنا، فمنا النائم ومنا المستيقظ .... وذكر الحديث هكذا مرسلًا، وتفرد بذكر عثمان ابن اُبي العاص في لفظه.

قال ابن معين كما في الاستيعاب لابن عبد البر (1/ 120): إسناد هذا الحديث صالح، وحديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحزيب القرآن ليس بالقائم. اهـ

ظاهر العبارة أن الكلام كله لابن معين، لكن ورد في التاريخ الكبير لابن أبي خيثمة السفر الثاني (166):«سئل يحيى بن معين، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى، عن عثمان بن عبد الله بن أوس، عن جده أوس. فقال: صالح» . اهـ يعني هذا الإسناد.

وكذلك هو في معجم الصحابة للبغوي (53)، وليس فيهما: حديثه ليس بالقائم.

والذي يظهر أن قوله: إسناد هذا الحديث صالح. هذا كلام ابن معين، وأما قوله: وحديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحزيب القرآن ليس بالقائم. فهو من كلام ابن عبد البر، أفاده الحافظ في أسد الغابة (1/ 316).

وسئل أبو حاتم عن هذا الحديث، فقال: حديث أبي برزة أصح منه. يعني حديث أبي برزة: بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل العشاء، والحديث بعدها. انظر فتح الباري لابن رجب (5/ 174)، والله أعلم.

وحسن إسناده الحافظ ابن كثير في تفسيره، ت سلامة (1/ 50).

ص: 426

النبي صلى الله عليه وسلم، حيث بدأ بتقديم الطوال، فالمئين، فالمثاني، وختم بالمفصل، وإذا كان الترتيب بالنص كرهت مخالفته.

* ونوقش:

بأن الحديث ضعيف، ولو صح فإنه دليل على ترتيب المفصل وحده.

قال ابن حجر: «ويحتمل أن الذي كان مرتبًا حينئذٍ حزب المفصل خاصة، بخلاف ما عداه، فيحتمل أنه كان فيه تقديم وتأخير، كما ثبت من حديث حذيفة، أنه صلى صلى الله عليه وسلم فقرأ النساء بعد البقرة وقبل آل عمران»

(1)

.

وهذا التوجيه يشكل عليه أن ترتيب المفصل في مصحف ابن مسعود رضي الله عنه مخالف لهذا الترتيب، فلوكان ترتيب المفصل مأثورًا عن النبي صلى الله عليه وسلم ما خالفه مصحف ابن مسعود رضي الله عنه، انظر ترتيب مصحفه في أدلة القول الثاني، والله أعلم.

الدليل الخامس:

إجماع الأمة من زمن عثمان رضي الله عنه إلى يومنا هذا على هذا الترتيب، وحرمة مخالفته في كتابة المصاحف ورسمها، فقد رتبه عثمان رضي الله عنه، وقَبِلَه الصحابة في عهده، واتفقوا عليه، ولم يعترض أحد منهم عليه، فكان إجماعًا، وتلقته الأمة بالقبول من بعدهم إلى عصرنا هذا، فيكره مخالفته لما فيه من خروج عن إجماعهم، لا سيما وأن عثمان بن عفان من الخلفاء الراشدين المهديين الذين أُمِرْنَا باتباع سنتهم، والاقتداء بهديهم.

* ويناقش:

بأن وجوب تأليف المصحف مرتبًا في الرسم والخط على القول بوجوبه، لا يعني لزوم مثل ذلك في تلاوة القرآن في الصلاة، أو قراءته في الدرس، فمن قرأ خارج الصلاة الكهف قبل البقرة، أو قرأ الحج قبل الأنبياء لم يكن عليه حرج في ذلك، وإن استحب الترتيب داخل الصلاة، وسيأتي مزيد بيان لذلك في أدلة القول الثاني إن شاء الله تعالى.

وسبق لنا قول ابن تيمية: «يجوز قراءة هذه قبل هذه، وكذا في الكتابة، ولهذا

(1)

. فتح الباري (9/ 43).

ص: 427

تنوعت مصاحف الصحابة رضي الله عنهم في كتابتها»

(1)

.

فدل كلام ابن تيمية على أن القول بجواز ترتيب السور حتى في الرسم والكتابة محفوظ، والله أعلم.

الدليل السادس:

لو كان ترتيب السور بالاجتهاد لرتبه الصحابة على تاريخ نزوله، ولبدؤوا بالمكي منه قبل المدني، بدْءًا بما أنزل منه أولًا، ثم بما أنزل بعده على ترتيب نزوله، فيكون بذلك أقرب إلى معرفة تاريخ تشريع الأحكام، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، وما يحتاج إليه من معرفة الأحكام، ولقد كانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولًا، وقد قُرِن بينهما، وقد توسطت الأنفال بين سورتين طويلتين: هما الأعراف والتوبة، مع أنها ليست طويلة، كما أن الصحابة لم يرتبوا السور المفتتحة بالتسبيح، بل فصلوا بينها بسورة قد سمع، والممتحنة، والمنافقون، بينما هي متماثلة في افتتاح كُلٍّ منها بتسبيح الله، كل ذلك يدل على أن الترتيب توقيفي، وإذا كان كذلك فيكره مخالفته.

* ورد هذا من أكثر من وجه:

الوجه الأول: لو صح سماع ترتيب بعض السور من الرسول صلى الله عليه وسلم كالسبع الطوال، وترتيب سورة بني إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء كما دل عليه أثر ابن مسعود المتقدم، فلا يمكن القول بأن هذا يصدق على ترتيب جميع السور، ولهذا وقع الخلاف في الترتيب بين مصاحف الصحابة قبل أن يتفقوا على هذا الترتيب الذي اجتهد فيه الصحابة زمن عثمان رضي الله عنه.

الوجه الثاني: أن ترتيب السور بحسب النزول لا يصح إلا بنقض آيات سور القرآن، وإفساد نظمها، وتغييرها عما حُدَّ لهم، وقد تبين من المسألة السابقة أن ترتيب آيات القرآن توقيفي بالإجماع، متلقى من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تجد السورة مدنية، وفيها آيات مكية، وتجد السورة مكية، وفيها آيات مدنية، وتجد في السورة الواحدة تقدم الناسخ على المنسوخ، لهذا لا يمكن ترتيب المصحف بحسب النزول.

(1)

. الفروع (2/ 182)، تفسير الفاتحة لابن رجب (ص: 22)، الإقناع (1/ 119)، المستدرك على مجموع الفتاوى لابن قاسم (3/ 82).

ص: 428

الوجه الثالث: لو سلمنا أن ترتيب السور توقيفي، فهو بالنسبة للرسم والكتابة، وأما في حق التلاوة فقد قام الدليل الإيجابي على جواز تنكيس السور، وقد وقع مثل هذا من الرسول صلى الله عليه وسلم، كما وقع من الصحابة، فلا يكون ترتيب السور كتابة في المصحف دليلًا على كراهة التنكيس، والله أعلم.

* دليل من قال: يجوز التنكيس ويستحب الترتيب:

الدليل الأول:

قال الله تعالى: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20].

وقال صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ....

(1)

.

وجه الاستدلال:

أن الأمر بقراءة القرآن في الصلاة جاء مطلقًا في الكتاب والسنة، والمطلق على إطلاقه، فيدخل في الامتثال كل من قرأ من القرآن سواء أكانت السور مرتبة أم لا؛ لأن النصوص المطلقة لا يقيدها إلا نصوص شرعية، أو إجماع، والله أعلم.

الدليل الثاني:

كراهة التنكيس حكم شرعي من أحكام التكليف، يفتقر في إثباته إلى دليل شرعي، ولم يثبت نهي من الشارع ينهى فيه عن تنكيس سور القرآن في الصلاة، والأصل عدم الكراهة.

فإن قيل: كيف تستحبون الترتيب، ولم يَأْتِ بالترتيب أمر من الشارع يأمر فيه بمراعاة ترتيب السور؟

فالجواب أن ترتب الاستحباب مأخوذ من كون الترتيب هو غالب فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

الدليل الثالث:

(ح-1407) ما رواه مسلم من طريق الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن المستورد بن الأحنف، عن صلة بن زفر،

عن حذيفة، قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع

(1)

. البخاري (793)، ومسلم (45 - 397).

ص: 429

بها، ثم افتتح النساء، فقرأها، ثم افتتح آل عمران، فقرأها

الحديث

(1)

.

وجه الاستدلال:

قَدَّمَ النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة الصلاة النساء على آل عمران، فدل على جواز التنكيس، أو أن ترتيب السور كان باجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم حين قدموا آل عمران على النساء، وإذا كان الترتيب اجتهاديًّا لم تكن مخالفته مكروهة شرعًا، والله أعلم.

* وأجيب على هذا:

بأن ما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم من مخالفة للترتيب فمحمول على أحد أمور، منها:

إما لبيان أن هذا الترتيب ليس بواجب، وهذا لا ينافي كراهة التنكيس.

وإما أن هذا كان قبل العرض الأخير، وذلك أن جبريل عليه السلام كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في كل عام مرة، فعرض عليه القرآن مرتين في العام الذي قُبِضَ فيه

(2)

، فالعرضة الأخيرة هي التي اعتمدها الصحابة، واستقر عليها الأمر، وربما تكون العرضة الأخيرة لم تبلغ أُبَيًّا وابن مسعود رضي الله عنهما.

وإما أن هذا كان في النفل، والنفل أوسع من الفرض.

* ورد هذا الجواب:

بأن هذه احتمالات عقلية، فإما هذا، وإما هذا، وإما ذاك، فليس على هذه الاحتمالات إلا مجرد التجويز العقلي، وإلا لتعين أحدها، ويحتمل مع هذه الثلاثة احتمال رابع، وهو الأصل، وهو أنه فعل هذا لبيان الجواز، وأن التنكيس ليس بمكروه، وكون الترتيب هو الغالب من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم يؤخذ منه استحباب الترتيب، لا كراهة التنكيس، ولا يلزم من ترك المستحب الوقوع في المكروه، فالقول: إن التنكيس المنقول من فعل النبي صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز مع بقاء الكراهة مردود من أكثر من وجه.

الوجه الأول: أن المكروه شرعًا: هو ما نهى عنه الشارع، لا على سبيل الإلزام، ولم يرد في هذا الباب نهي عن التنكيس حتى يقال بالكراهة.

(1)

. رواه مسلم (203 - 772).

(2)

. رواه البخاري (4998) من طريق أبي بكر بن عياش، عن أبي حصين (عثمان بن عاصم الأسدي)، عن أبي صالح (السمان)، عن أبي هريرة.

ص: 430

الوجه الثاني: لو داوم النبي صلى الله عليه وسلم على ترتيب السور في الصلاة، ولم ينقل عنه مخالفته للترتيب، لقيل: إن مخالفة الترتيب خلاف الأولى، وهو أدنى صور الكراهة، فلما أُثِر التنكيس من فعله صلى الله عليه وسلم، ولم يحفظ نهي عن التنكيس، لم نكره ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وقلنا باستحباب الترتيب؛ لكونه الأكثر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من ترك المستحب الوقوع في المكروه، والله أعلم.

الوجه الثالث: أن بيان الجواز يمكن أن يكون بفعله مرة واحدة، أما إذا فعل أكثر من مرة فلا يمكن القول بالجواز مع بقاء الكراهة.

الوجه الرابع: أن بيان الجواز يمكن أن يكون بالقول دون الحاجة إلى مواقعة المكروه شرعًا، والقول له عموم أكثر من الفعل؛ لأن الفعل يتطرق له احتمالات كثيرة، من دعوى النسيان والخصوصية، والاستحباب، وبيان الجواز، بخلاف القول.

الدليل الرابع:

(ح-1408) ما رواه البخاري ومسلم من طريق عبد الله بن وهب، حدثنا عمرو، عن ابن أبي هلال، أن أبا الرجال: محمد بن عبد الرحمن، حدثه، عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن، وكانت في حجر عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم،

عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلًا على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم بقل هو الله أحد، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟، فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخبروه أن الله يحبه

(1)

.

(ح-1409) وروى البخاري معلقًا، قال: قال عبيد الله: عن ثابت،

عن أنس بن مالك رضي الله عنه، كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، وكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح: بقل هو الله أحد، حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه، فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة، ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بأخرى، فإما تقرأ بها، وإما أن تدعها، وتقرأ بأخرى، فقال: ما أنا

(1)

. صحيح البخاري (7375)، وصحيح مسلم (263 - 813).

ص: 431

بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت، وإن كرهتم تركتكم، وكانوا يرون أنه من أفضلهم، وكرهوا أن يَؤُمَّهُمْ غيره، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر، فقال: «يا فلان، ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك، وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة فقال: إني أحبها، فقال: حبك إياها أدخلك الجنة

(1)

.

[اختلف فيه في وصله وإرساله، وأعله الدارقطني بالإرسال]

(2)

.

(1)

. صحيح البخاري (1/ 155).

(2)

. الحديث مداره على ثابت البناني، عن أنس، وله عن ثابت أربعة طرق:

الطريق الأول: عبيد الله بن عمر، عن ثابت.

أخرجه أبو يعلى (3335)، وعنه ابن حبان (794)، والطبراني في الأوسط (898)، حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري،

ورواه ابن خزيمة (537) وأبو عوانة في مستخرجه مختصرًا (3952)، والحاكم في المستدرك (878)، وعنه البيهقي في الشعب (2309)، من طريق إبراهيم بن حمزة،

وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (2/ 88) وابن منده في التوحيد (6) من طريق محرز بن سلمة، ثلاثتهم (الزبيري، وإبراهيم بن حمزة، ومحرز) رووه عن عبد العزيز ابن محمد الدراوردي، عن عبيد الله بن عمر، عن ثابت البناني، عن أنس.

قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، من حديث عبيد الله بن عمر، عن ثابت. اهـ

وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وقد احتج البخاري أيضًا مستشهدًا بعبد العزيز بن محمد في مواضع من الكتاب. اهـ

وقد علقه البخاري جازمًا به عن عبيد الله بن عمر، فهو صحيح عنده إلى عبيد الله بن عمر.

وقد أعل هذا الحديث بأنه من رواية الدراوردي، عن عبيد الله بن عمر، وقد جاء في الجرح والتعديل (5/ 395): قال أحمد، وذكر الدراوردي، فقال: ما حدث عن عبيد الله بن عمر، فهو عن عبد الله بن عمر. اهـ ومعلوم أن عبد الله بن عمر بن حفص المكبر ضعيف.

وقال النسائي: ليس به بأس، وحديثه عن عبيد الله بن عمر منكر.

وقال الدارقطني كما في أطراف الغرائب والأفراد (2/ 43): «غريب من حديث عبيد الله، عن ثابت، تفرد به عبد العزيز الدراوردي عنه» .

وقال الطبراني: لم يَرْوِ هذا الحديثَ عن عبيد الله إلا عبد العزيز. اهـ

فكأن الترمذي والدارقطني والطبراني لم يقفوا على متابعة سليمان بن بلال أو لم يعتدوا بها.

فقد أخرجه أبو عوانة في مستخرجه (3951) من طريق أيوب بن سليمان بن بلال (وثقه أبو داود، وقال الدارقطني: لا بأس به، وقال الأزدي والساجي: يحدث بأحاديث لا يتابع عليها. قال ابن حجر: ثقة لينه الساجي بلا دليل) عن أبي بكر بن أبي أويس (عبد الحميد بن =

ص: 432

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= عبد الله بن أبي أويس ثقة)، عن سليمان بن بلال، عن عبيد الله بن عمر، عن ثابت به، بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: لِمَ تلزم قراءة قل هو الله أحد؟ قال: إني أحبها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإن حبك إياها أدخلك الجنة.

وهذه متابعة جيدة للدراوردي، وقوله صلى الله عليه وسلم: لم تلزم قراءة قل هو الله أحد؟ ظاهره الإطلاق، وهو محمول على ملازمة قراءتها في الصلاة في كل ركعة، كما في رواية الدراوردي.

ورواه إسماعيل بن أبي أويس، (متكلم فيه، وقد أخرج له الشيخان من صحيح حديثه، وكان إسماعيل قد أخرج للبخاري أصوله وأذن له أن ينتقي منها) واختلف عليه على ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: رواه البخاري عن إسماعيل بن أبي أويس، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن عبيد الله بن عمر به.

رواه الترمذي (2901) حدثنا محمد بن إسماعيل (الإمام البخاري) به.

وهذا الطريق قد توبع فيه ابن أبي أويس، تابعه مصعب بن عبد الله الزبيري، وإبراهيم بن حمزة، ومحرز بن سلمة كما تقدم.

ثم إنه من رواية البخاري عن إسماعيل بن أبي أويس، وقد علمت أن إسماعيل أخرج أصوله للإمام البخاري، فنظر فيها، وانتقى منها ما رآه صحيحًا، ولهذا حين علقه البخاري في صحيحه طوى من إسناده إسماعيل بن أبي أويس، وشيخه الدراوردي، وعلقه عن عبيد الله ابن عمر، عن ثابت، عن أنس جازمًا به، فهو صحيح عنده إلى من علقه عنه، فتأمل.

الوجه الثاني: رواه إسماعيل بن أبي أويس، عن أخيه أبي بكر بن أبي أويس (عبد الحميد بن عبد الله بن أبي أويس ثقة)، عن سليمان بن بلال، عن عبيد الله بن عمر، عن ثابت به، بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: لم تلزم قراءة قل هو الله أحد؟ قال: إني أحبها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإن حبك إياها أدخلك الجنة.

أخرجه أبو عوانة (3951) حدثنا محمد بن يحيى (الذهلي)

وابن منده في التوحيد (5) من طريق يحيى بن جعفر بن الزبرقان،

والبيهقي في الشعب (2310) من طريق الحسن بن علي بن زياد،

والمقدسي في الأحاديث المختارة (1751) من طريق يحيى بن أبي طالب، أربعتهم رووه عن إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن عبيد الله بن عمر.

وهذا الطريق قد توبع فيه ابن أبي أويس قد تابعه فيها أيوب بن سليمان بن بلال كما تقدم، وهو ثقة، فزال ما يخشى من تفرد الدراوردي فيه عن عبيد الله بن عمر.

الوجه الثالث: عن ابن أبي أويس، عن أبيه، عن سليمان بن بلال، عن عبيد الله بن عمر.

رواه البزار في مسنده (6999)، قال: وجدت في كتابي عن محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا ابن أبي أويس، عن أبيه، عن سليمان بن بلال، عن عبيد الله بن عمر به.

فهذا قد تفرد به ابن أبي أويس، ولم يتابع عليه، فأخشى أن يكون الخطأ من البزار، فإن الترمذي =

ص: 433

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= قد رواه عن البخاري، عن إسماعيل بن أبي أويس، عن الدراوردي، إن كان البزار قد حفظه، فإن في حفظه شيئًا، فالحمل فيه على ابن أبي أويس، وإلا كان الحمل فيه على البزار، والله أعلم.

فصار إسماعيل بن أبي أويس يروي حديث عبيد الله بن عمر على ثلاثة أوجه، اثنان منها قد توبع عليهما، وهما روايته عن أخيه أبي بكر، وروايته عن الدراوردي.

وأما روايته عن أبيه، فلم يتابع عليه، ومعلوم أن ما شاركه فيه غيره فإنه صالح للاعتبار؛ لأنه من أهل الصدق، إنما يخشى من غفلته وسوء حفظه، والله أعلم.

وتابع عبيد الله بن عمر في ثابت راويان ضعيفان كما سيأتي بيانه فيما تبقى من طرقه.

الطريق الثاني: مبارك بن فضالة، عن ثابت.

رواه أحمد (3/ 141) حدثنا أبو النضر.

ورواه أيضًا (3/ 150) حدثنا حسين بن محمد،

ورواه أحمد (3/ 141) حدثنا خلف بن الوليد.

ورواه ابن الضريس في فضائل القرآن (278)، والترمذي (5/ 170)، وابن الأعرابي في معجمه (2153)، عن أبي الوليد الطيالسي.

ورواه عبد بن حميد في مسنده كما في المنتخب (1306) حدثنا هاشم بن القاسم.

ورواه أيضًا (1374) أخبرني عمرو بن عاصم الكلابي،

ورواه الدارمي (3478) حدثنا يزيد بن هارون،

ورواه أبو يعلى في مسنده (3336)، وعنه ابن حبان (792)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (690) عن حوثرة بن أشرس، كلهم عن مبارك بن فضالة، عن ثابت، عن أنس بن مالك جاء رجل إلى رسول الله، فقال: إني أحب هذه السورة، قل هو الله أحد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حبك إياها أدخلك الجنة. هكذا رواه بهذا اللفظ أكثر الرواة عن مبارك بن فضالة.

ورواه عمرو بن عاصم الكلابي، عن مبارك، بلفظ: قيل: يا رسول الله، إن هاهنا رجلًا لا يصلي صلاة إلا قرأ فيها: قل هو الله أحد، منها ما يفردها، ومنها ما يقرؤها مع سورة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وما تريد إلى هذا؟ قال: يا رسول الله إني أحبها، قال: حبها إذن أدخلك الجنة.

والكلابي: وثقه ابن سعد كما في الطبقات (7/ 305)، وقال ابن معين: صالح، وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أبو داود: لا أنشط لحديثه. وفي التقريب: صدوق في حفظه شيء.

وعلة هذا الإسناد: مبارك بن فضالة، في حفظه شيء وهو كثير الخطأ والتدليس.

ضعفه أحمد وقال النسائي في السنن الكبرى: لا يحتج به، وقال البرقاني: سمعت الدارقطني يقول: مبارك بن فضالة لين كثير الخطأ، بصري يعتبر به.

وقال أبو زرعة: يدلس كثيرًا، فإذا قال: حدثنا فهو ثقة، وقد صرح بالتحديث من شيخه ثابت كما في سنن الدارمي.

وقال ابن حجر: صدوق يدلس ويسوي. =

ص: 434

وجه الاستدلال:

قال البخاري: باب الجمع بين السورتين في الركعة

وبسورة قبل سورة.

فاستدل به البخاري على جواز تنكيس السور في الصلاة، فإنه إذا قرأ سورة

= فتعقبه المعلمي اليماني: وأما التسوية فقد فتشت في مظان ترجمة مبارك من كتب الرجال والتواريخ، والسؤالات وغيرها، فلم أقف على من صرح بذلك، أو ذكر عنه ما يفهم منه ذلك، وقد ذكره الحافظ ابن حجر في طبقات المدلسين: ولم يزد على قوله: مشهور بالتدليس.

الطريق الثالث: شريك بن عبد الله القاضي، عن ثابت.

أخرجه ابن الأعرابي في معجمه (1143)، قال: أخبرنا إبراهيم بن جبلة، أخبرنا أبو الوليد، أخبرنا شريك، عن ثابت عن أنس، أن رجلًا قال: يا رسول الله: إني أحب هذه السورة قل هو الله أحد. قال: حبك إياها أدخلك الجنة.

فشيخ ابن الأعرابي إبراهيم بن جبلة فيه جهالة، وشريك سَيِّئُ الحفظ، فهذا الطريق لم يصح إلى شريك، ولو صح فإن شريكًا فيه ما علمت.

الطريق الرابع: حماد بن سلمة عن ثابت.

خالف حماد بن سلمة عبيد الله بن عمر، ومبارك بن فضالة، وشريكًا،

قال الدارقطني في العلل وقد سئل عن هذا الحديث (12/ 37): «يرويه عبيد الله بن عمر، ومبارك بن فضالة، عن ثابت، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخالفهما حماد بن سلمة، فرواه عن ثابت، عن حبيب بن سبيعة، عن الحارث مرسلًا، وحماد بن سلمة أشبه بالصواب» .

والحارث مختلف في صحبته، فقال أبو حاتم الرازي: له صحبة كما في الجرح والتعديل (3/ 102)، وقال الدارقطني حديثه مرسل.

ويبقى الترجيح بين رواية حماد، وبين رواية عبيد الله بن عمر ومن تابعه، وحماد بن سلمة أعلم بحديث ثابت من عبيد الله بن عمر، خاصة إذا علمنا أن عبيد الله بن عمر مروياته عن ثابت قليلة جدًّا، فليس له في الكتب التسعة إلا حديثان، هذا أحدهما، وحديث آخر عن الاستسقاء، في الصحيحين ولم يتفرد به عن ثابت، وأحاديثه خارج الكتب التسعة لا تبلغ عشرة أحاديث، ولم أجد وقتًا في النظر فيما يثبت منها، فلا يقارن بحماد في روايته عن ثابت، والله أعلم.

قال الحافظ ابن رجب كما في فتح الباري (7/ 72): «حماد بن سلمة ذكر كثير من الحفاظ أنه أثبت الناس في حديث ثابت، وأعرفهم به، والحارث هذا اختلف: هل هو صحابي أو لا؟ فقال أبو حاتم الرازي: له صحبة. وقال الدارقطني: حديث مرسل، وخرجا في الصحيحين معنى هذا الحديث من رواية أبي الرجال، عن عمرة، عن عائشة

». وذكر الحديث.

فعلى ترجيح أن يكون مرسلًا فقد اعتضد بحديث عائشة المتفق عليه، والمرسل إذا صح سنده حجة عند الجمهور، وحجة عند الشافعية إذا اعتضد بمثله، والله أعلم.

ص: 435

الإخلاص في الركعة الأولى فسيقع في التنكيس في قراءة الركعة الثانية إلا أن يقرأ إحدى المعوذتين، والظاهر أنه لا يداوم على قراءة إحدى المعوذتين في جميع صلواته تحاشيًا للتنكيس.

* ونوقش هذا الاستدلال:

بأن حديث عائشة المتفق عليه يحتمل أنه كان يختم قراءة كل ركعة بسورة الإخلاص كما يدل عليه نصًّا في حديث أنس، وهو الظاهر.

ويحتمل أنه كان يختم بها القراءة في آخر ركعة يقرأ فيها، وعلى التأويل الأول يكون الحديث دليلًا على جواز التنكيس مع غيرها بخلاف التأويل الثاني.

وأما حديث أنس فرجح الدارقطني أنه مرسل، والحديث المرسل مختلف في الاحتجاج به، فاحتج به الحنفية والمالكية، وأحمد في رواية، وقال الشافعي: ليس بحجة إلا أن يعتضد بمثله، وهو رواية عن أحمد.

* ويجاب:

على ترجيح أنه مرسل، فهو صالح للاحتجاج، فهذا المرسل قد اعتضد بحديث عائشة المتفق عليه، كما ذكرت ذلك في التخريج، والاحتمال في حديث عائشة أكان يختم بها في كل ركعة أم كان يختم بها القراءة في آخر ركعة؟ هذا الإجمال في حديث عائشة يجب أن يحمل على المُبَيَّن من حديث أنس، فهو صريح بأنه كان يختم بها قراءة كل ركعة، والله أعلم.

الدليل الخامس:

(ث-347) ما رواه الطحاوي من طريق سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه،

عن عبد الله بن عامر، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ في الصبح بسورة الكهف، وسورة يوسف

(1)

.

[صحيح].

فإن قيل إن الواو لا تقتضي ترتيبًا، فالجواب:

(ث-348) أن الطحاوي أخرج من طريق مسلم بن إبراهيم، عن حماد بن زيد، عن بديل بن ميسرة،

(1)

. شرح معاني الآثار (1/ 180).

ص: 436

عن عبد الله بن شقيق، قال: صلى بنا الأحنف بن قيس صلاة الصبح بعاقول الكوفة، فقرأ في الركعة الأولى الكهف، والثانية بسورة يوسف، وقال: صلى بنا عمر رضي الله عنه صلاة الصبح فقرأ بهما فيها

(1)

.

[صحيح]

(2)

.

قال ابن رجب: «وهذا يدل على أنه لا يكره قراءة القرآن على غير ترتيب المصحف، فيقرأ في الركعة الأولى سورة، وفي الثانية بسورة قبلها في ترتيب المصحف»

(3)

. اهـ

وعمر رضي الله عنه من الخلفاء الراشدين المأمورون باتباع سنتهم.

الدليل السادس:

(ث-349) ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف، قال: حدثنا عبد الأعلى، عن الْجُرَيْرِيِّ، عن أبي العلاء،

عن أبي رافع، قال: كان عمر، يقرأ في صلاة الصبح بمائة من البقرة، ويتبعها بسورة من المثاني، أو من صدور المفصل، ويقرأ بمائة من آل عمران، ويتبعها بسورة من المثاني، أو من صدور المفصل

(4)

.

[صحيح]

(5)

.

فهذا الأثر والذي قبله قد فعله عمر رضي الله عنه، وهو يصلي بالصحابة رضوان الله عليهم، وما أنكر أحد منهم فعله، فكان إجماعًا سكوتيًّا على جواز تنكيس السور بلا كراهة، والله أعلم.

الدليل السابع:

(ح-1410) ما رواه أبو داود، من طريق إسماعيل بن جعفر، عن إسرائيل،

(1)

. شرح معاني الآثار (1/ 180).

(2)

. رواه الفريابي في كتاب الصلاة كما في الفتح (2/ 257)، ومن طريقه أخرجه الحافظ في تغليق التعليق (2/ 313)، عن قتيبة، عن حماد بن زيد به.

(3)

. فتح الباري (7/ 68).

(4)

. المصنف (3563).

(5)

. والجريري وإن كان قد اختلط إلا أن سماع عبد الأعلى من أصحهم سماعًا منه قبل اختلاطه، والله أعلم.

ص: 437

عن أبي إسحاق، عن علقمة، والأسود، قالا:

أتى ابن مسعود رجل، فقال: إني أقرأ المفصل في ركعة، فقال: أَهَذًّا كهذ الشعر، ونثرًا كنثر الدقل؟ لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ النظائر السورتين في ركعة، الرحمن والنجم في ركعة، واقتربت والحاقة في ركعة، والطور والذاريات في ركعة، وإذا وقعت، ونون في ركعة، وسأل سائل والنازعات في ركعة، وويل للمطففين وعبس في ركعة، والمدثر والمزمل في ركعة، وهل أتى ولا أقسم بيوم القيامة في ركعة، وعم يتساءلون والمرسلات في ركعة، والدخان وإذا الشمس كورت في ركعة»، قال أبو داود: هذا تأليف ابن مسعود رحمه الله

(1)

.

ورواه الفريابي من طريق يحيى بن آدم، عن إسرائيل به بنحوه، وفيه:

ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ النظائر في كل ركعة: الرحمن والنجم في ركعة، والطور والذاريات في ركعة، ويا أيها المزمل ويا أيها المدثر في ركعة، وويل للمطففين وعبس في ركعة، وهل أتى على الإنسان ولا أقسم بيوم القيامة في ركعة، وعم يتساءلون والمرسلات في ركعة، والدخان وإذا الشمس كورت في ركعة

(2)

.

[الحديث في الصحيحين دون تسمية النظائر]

(3)

.

(1)

. سنن أبي داود (1396).

(2)

. فضائل القرآن للفريابي (124).

(3)

. حديث ابن مسعود رواه عنه جماعة من أصحابه، منهم الأسود وعلقمة، وأبو وائل شقيق بن سلمة، ومسروق، وزر بن حبيش، ونهيك بن سنان ولا يصح عنه، وإليك بيان مروياتهم:

الطريق الأول: الأسود وعلقمة عن ابن مسعود.

رواه أبو إسحاق، عنهما مقرونين، ورواه عن أبي إسحاق إسرائيل، وأبو خيثمة:

أما رواية إسرائيل عن أبي إسحاق.

فأخرجها أبو داود (1396) من طريق إسماعيل بن جعفر،

والفريابي في فضائل القرآن (124) من طريق يحيى بن آدم،

والطوسي في مختصر الأحكام (500) من طريق عبيد الله بن موسى.

والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 14) من طريق شبابة، أربعتهم رووه عن إسرائيل به.

قال أحمد: إسرائيل عن أبي إسحاق فيه لين، سمع منه بآخرة. الجرح والتعديل (2/ 331).

وقال أبو طالب والفضل بن زياد للإمام أحمد: من أحب إليك يونس أو إسرائيل في أبي إسحاق؟ قال: إسرائيل؛ لأنه صاحب كتاب. =

ص: 438

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وقال أبو داود: قلت لأحمد: إسرائيل إذا انفرد بحديث يحتج به؟ قال: إسرائيل ثبت في الحديث.

وقال عيسى بن يونس: قال إسرائيل: كنت أحفظ حديث أبي إسحاق كما أحفظ السورة من القرآن. اهـ

فإسرائيل ثبت في جده أبي إسحاق.

وأما رواية زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق.

فرواها أحمد (1/ 418)، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا زهير، عن أبي إسحاق به، ولفظه:

أن رجلًا أتاه، فقال: قرأت المفصل في ركعة، فقال: بل هذَذْت كهذِّ الشعر، أو كنثر الدقل، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل كما فعلت، كان يقرأ النظائر: الرحمن، والنجم، في ركعة.

قال: فذكر أبو إسحاق عشر ركعات، بعشرين سورة على تأليف عبد الله، آخرهن: إذا الشمس كورت، والدخان.

ومن طريق يحيى بن آدم أخرجه الفريابي في فضائل القرآن (122، 123).

ورواه الطحاوي (1/ 346) من طريق أبي داود (يعني الطيالسي) ومن طريق أبي غسان (مالك بن إسماعيل ثقة).

وأخرجه الطبراني في الكبير (10/ 32) ح 9855، وفي الأوسط (1977)، من طريق عمرو بن مرزوق،

وأخرجه المستغفري في فضائل القرآن (901) من طريق أبي نعيم (الفضل بن دكين) أربعتهم (يحيى بن آدم، والطيالسي، وأبو غسان، وعمرو بن مرزوق، وأبو نعيم)، رووه عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق به.

وأبو خيثمة: زهير بن معاوية ثقة، إلا أن روايته عن أبي إسحاق كان بعد تغيره، وقد تابعه إسرائيل.

وظاهر رواية أبي داود أن تسمية هذه السور من قِبَل ابن مسعود رضي الله عنه، وقد تفرد بتسمية السور أبو إسحاق، عن الأسود وعلقمة عن ابن مسعود.

وقد رواه أبو ائل شقيق بن سلمة كما في الصحيحين، ومسروق الأجدع، وزر بن حبيش، عن ابن مسعود، ولم يذكروا أسماء السور تفصيلًا.

وقد جاء في البخاري ما يدل على أن ذلك كان من قبل علقمة إلا أنه ذكرها مجملة.

فقد روى البخاري في صحيحه (4996) من طريق أبي حمزة، عن الأعمش، عن شقيق، قال: قال عبد الله: لقد تعلمت النظائر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤهن: اثنين اثنين في كل ركعة. فقام عبد الله ودخل معه علقمة، وخرج علقمة فسألناه، فقال: عشرون سورة من أول المفصل على تأليف ابن مسعود: آخرهن الحواميم: حم الدخان، وعم يتساءلون.

وجاء في مسلم ما يدل على أن علقمة ذكر عدد السور مجملة بعد أن سأل ابن مسعود عنها، فقد رواه مسلم (276 - 822) من طريق أبي معاوية، عن الأعمش به، وفيه:

فجاء علقمة ليدخل عليه، فقلنا له: سله عن النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في ركعة، فدخل عليه، فسأله، ثم خرج علينا، فقال: عشرون سورة من المفصل تأليف عبد الله. =

ص: 439

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= فذكر علقمة السور على سبيل الإجمال، سواء أكان ذلك من قوله كما في رواية البخاري، أم كان ذلك بعد أن سأل ابن مسعود، كما في مسلم، من رواية أبي معاوية، عن الأعمش، وهو من أثبت أصحابه.

وإذا كانت تسمية السور إجمالًا قد صح من طريق علقمة عن ابن مسعود، فإن تفصيلها إنما جاء من رواية أبي إسحاق، عن الأسود وعلقمة،

فكان يحتمل أن هذا التفصيل من رواية أبي إسحاق عن الأسود، فيكون الإسناد إلى الأسود متصلًا.

ويحتمل وهو أرجح أن هذا التفصيل من رواية أبي إسحاق عن علقمة، كما تبين رواية الصحيحين، وأبو إسحاق لم يسمع من علقمة شيئًا، فيكون منقطعًا.

قال ابن أبي حاتم: قال أبي وأبوزرعة: أبو إسحاق لم يسمع من علقمة شيئًا. انظر: المراسيل لابن أبي حاتم (524).

وكذا قال الدارقطني في العلل (904).

بل قال شعبة: «كنت عند أبي إسحاق الهمداني، فقيل له: إن شعبة يقول: إنك لم تسمع من علقمة شيئًا، قال: صدق. المراسيل لابن أبي حاتم (525).

فصارت الرواية التي جاء فيها ذكر السور مفصلة فيها أكثر من علة:

الأولى: احتمال الانقطاع؛ لاحتمال أن يكون ذلك من رواية أبي إسحاق عن علقمة.

الثانية: تفرد أبي إسحاق بذكر السور مفصلة في روايته عن علقمة والأسود، مخالفًا لرواية أبي وائل في الصحيحين ومسروق وزر وغيرهم، حيث ذكروها مجملة في الجملة، فلا يمكن الجزم بثبوت هذا التفصيل من جهة الإسناد، والله أعلم.

الثالثة: أن أبا إسحاق لم يذكر من الحواميم إلا الدخان، بينما في البخاري (5043)، ومسلم (278 - 822) من رواية واصل الأحدب، عن أبي وائل: ثماني عشرة من المفصل، وسورتين من آل حم.

وقد جاء ذكر بعض النظائر من غير طريق أبي إسحاق، رواه إبراهيم النخعي، عن نهيك، كما في الطريق التالي.

الطريق الثاني: إبراهيم النخعي، عن نهيك بن سنان، عن ابن مسعود رضي الله عنه.

رواه أحمد (1/ 417) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 345، 346)، والطبراني في الكبير (10/ 35) ح 9868، وحرب الكرماني في مسائله ت الغامدي (160)، من طريق أبي عوانة (وضاح اليشكري)،

وأخرجه الطبراني في الكبير (10/ 35) ح 9868، من طريق شعبة، كلاهما عن حصين (هو ابن عبد الرحمن السلمي)، قال: حدثني إبراهيم، عن نَهِيك بن سنان السلمي،

أنه أتى عبد الله بن مسعود، فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة، فقال: هَذًّا مثل هذِّ الشعر، أو نثرًا مثل نثر الدقل، إنما فصل لتفصلوا، لقد علمت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن عشرين سورة: الرحمن والنجم على تأليف ابن مسعود، كل سورتين في ركعة، وذكر الدخان=

ص: 440

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وعم يتساءلون في ركعة.

زاد أبو عوانة فيه: فقلت لإبراهيم: أرأيت ما دون ذلك، كيف أصنع؟ قال: ربما قرأت أربعًا في ركعة.

فظاهر الحديث أن إبراهيم يرويه عن نهيك بن سنان، فيكون الإسناد موصولًا، وتكون هذه الرواية فيها متابعة لرواية أبي إسحاق، عن علقمة والأسود، ونهيك فيه جهالة.

وقد رواه غيره فذكروا نهيك بن سنان على أنه صاحب القصة، وليس له ذكر في إسناد الحديث.

فقد رواه الشيخان من طريق أبي وائل، قال: جاء رجل يقال له: نهيك بن سنان إلى عبد الله، فقال: يا عبد الله

وذكر الحديث.

ولا يعرف نهيك بالرواية، لا عن ابن مسعود، ولا عن غيره، ولهذا لم يترجم له البخاري في التاريخ الكبير، ولا ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل.

كما أنه لا يعرف أن أحدًا روى عنه إلا ما جاء في طريق إبراهيم النخعي هذا، فيترجح على ذلك أن يكون إسناد إبراهيم هكذا، عن إبراهيم، أن نهيك بن سنان أتى عبد الله بن مسعود، فقال له: قرأت المفصل

كما هي رواية أبي وائل.

وإبراهيم لم يسمع من ابن مسعود، فيكون مرسلًا. انظر فضل الرحيم الودود، المجلد الخامس عشر لفضيلة الشيخ ياسر آل عيد، قرأته له، والكتاب ليس قريبًا مني لوضع الصفحة.

وقد يكون إبراهيم سمع هذا التفصيل من علقمة، فإن علقمة هو الذي سأل ابن مسعود عن أسماء النظائر التي كان يقرن بينهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وقفت على رواية إبراهيم لهذا الحديث موصولًا عن علقمة، إلا أن الطرق إلى إبراهيم ضعيفة جدًّا، وليس فيها ذكر التفصيل في النظائر.

وسواء أرجحنا أن الرواية عن إبراهيم عن ابن مسعود أن نهيك بن سنان

أم رجحنا أن الرواية عن إبراهيم، عن نهيك، عن ابن مسعود كما هو ظاهر الإسناد، فالحديث ضعيف ففي الافتراض الأول لعلة الانقطاع، وفي الافتراض الثاني لجهالة نهيك.

فإن قيل: إن الطبراني قد رواه في المعجم الكبير (10/ 35) 9867، من طريق مغيرة (هو ابن مقسم)، عن إبراهيم، عن نهيك بن سنان، قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود، فقال: إني قرأت المفصل

الحديث.

فهذا يدل على أن نَهِيكًا له رواية عن ابن مسعود، وهي متابعة لرواية حصين وأبي عوانة، عن إبراهيم.

فالجواب أن هذه الرواية خطأ قطعًا؛ لأن الرجل الذي سأل ابن مسعود هو نهيك بن سنان وليس غيره، فهذا دليل على أن مغيرة لم يضبط إسناد الرواية.

وقد قال أحمد: بأن عامة ما رواه مغيرة عن إبراهيم إنما سمعه من غيره، إشارة إلى تدليسه، وهو هنا قد عنعن.

فصار عندنا إسنادان منقطعان في تفصيل السور:

أحدهما رواية أبي إسحاق عن الأسود وعلقمة، وهي أتمها في سرد جميع النظائر.

والثاني: رواية إبراهيم، عن نهيك، عن ابن مسعود. وهذه الرواية ذُكِر فيها اثنان من النظائر العشرين. =

ص: 441

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= فاتفقت الروايتان على جعل النجم نظيرة للرحمن، والبداءة بالرحمن قبل النجم، فصارت بالمجموع صالحة للاحتجاج على جواز التنكيس بحسب ترتيب مصحف عثمان، وقد لا يكون فيها تنكيس بحسب ترتيب مصحف ابن مسعود رضي الله عن الجميع.

واختلفا في نظيرة سورة الدخان، حيث ذكر أبو إسحاق في روايته نظيرتها سورة إذا الشمس كورت، وجعل إبراهيم نظيرتها عم يتساءلون، وهذا أصح؛ لكونه موافقًا لما رواه البخاري (4996) من طريق أبي حمزة، عن الأعمش عن شقيق، قال: قال عبد الله: لقد تعلمت النظائر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤهن اثنين اثنين، في كل ركعة، فقام عبد الله ودخل معه علقمة، وخرج علقمة فسألناه، فقال: عشرون سورة من أول المفصل على تأليف ابن مسعود، آخرهن الحواميم: حم الدخان وعم يتساءلون.

فخلص لنا مما سبق: أن النظائر التي كان يقرن بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي عشرون سورة، هذا مقطوع بصحته.

وتبين من البحث شذوذ ما ذكر بأن نظيرة الدخان إذا الشمس كورت، والصحيح أن نظيرتها عم يتساءلون.

ثبوت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرن في التلاوة بين الرحمن والنجم، حيث اتفقت عليه رواية أبي إسحاق عن الأسود وعلقمة، ورواية إبراهيم عن ابن مسعود، فهو حسن لغيره بمجموع الطريقين.

والحكم بأن فيها تنكيسًا إنما هو بحسب ترتيب مصحف عثمان رضي الله عنه، وقد لا يكون فيها تنكيس بحسب ترتيب مصحف ابن مسعود رضي الله عنه.

هذا ما يتعلق برواية حصين بن عبد الرحمن، عن إبراهيم النخعي، وقد خولف حصين:

خالفه عيسى بن قرطاس فرواه عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله أن رجلًا أتاه، قال: إني قرأت المفصل في ركعة، قال: هذًّا كهذِّ الشِّعر، إني لأعلم النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤهن أو يقرأ بهن. سورتين من المفصل في ركعة.

أخرجه البزار (1566)، والطبراني في الكبير (10/ 33) ح 9857، والشاشي في مسنده (313)، وابن عدي في الكامل (6/ 443). وأبو بكر الإسماعيلي في معجم شيوخه (1/ 373).

وعيسى بن قرطاس قال النسائي: متروك الحديث.

قال فيه ابن معين: ليس بثقة.

وقال ابن حبان: «كان ممن يروي الموضوعات عن الثقات، لا يحل الاحتجاج به» .

وقال البزار: «لا نعلم روى عيسى بن قرطاس عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله؛ إلا هذا الحديث» .

قلت: ذكر ابن عدي في الكامل من مناكيره أربعة أحاديث منها هذا الحديث، ثم قال: ولعيسى غير ما ذكرت، وليس بالكثير، وهو ممن يكتب حديثه.

وتابع حصينًا أبو حمزة ميمون الأعور القصار، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله.

أخرجه الطبراني في الكبير (10/ 33) 9856،). وفي الأوسط (4573) من طريق زيد بن الحريش (فيه جهالة)، حدثنا صُغْدِيُّ بن سنان (ضعيف). =

ص: 442

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وأخرجه البزار (1572) من طريق محبوب بن الحسن، كلاهما (صغدي ومحبوب) عن أبي حمزة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: أعطوا كل سورة حقها. هذا لفظ البزار -وعند الطبراني: حظها- من الركوع والسجود فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقرأ إلا عشرين سورة في عشر ركعات.

وفي رواية البزار: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع من القرآن إلا عشرين سورة من المفصل.

ورواه الخطيب في المتفق والمفترق (3/ 2089) من طريق يوسف بن عطية الوراق (متروك).

والآجري في أخلاق حملة القرآن (1) من طريق سعيد بن زيد (هو الجهضمي) كلاهما عن أبي حمزة، عن إبراهيم به، بلفظ: لا تنثروه نثر الدقل، ولا تهذوه هَذَّ الشعر، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة.

ورواه البيهقي في السنن (3/ 20) وفي الشعب (1884)، من طريق المغير (هو ابن مسلم القسملي)، عن أبي حمزة، عن إبراهيم، قال: قال عبد الله: اقرؤوا القرآن، وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة. اهـ فسقط ذكر علقمة من إسناده.

وميمون أبو حمزة الأعور قال أحمد كما في العلل لابنه (3214): أبو حمزة ميمون صاحب إبراهيم متروك الحديث.

وسأل ابن هانئ أحمد عنه، فقال: ليس بشيء. سؤالاته (2177).

وقال ابن معين: ليس بشيء، لا يكتب حديثه.

وقال النسائي: ليس بثقة.

كما تابعهم في الرواية عن إبراهيم: يزيد بن الوليد عند البزار (1567) من طريق إسماعيل بن مسلم (ضعيف) عن يزيد بن الوليد (لم يوثقه إلا ابن حبان ففيه جهالة)، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله؛ أن رجلًا جاء إليه، فقال له: تحسن النظائر؟ فقال: لقد قرأت الليلة المفصل في ركعة، فقال: هذًّا كهذِّ الشِّعر، أو نَثْرًا كنثر الدقل، لقد علمت القرآن الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ به، عشرين سورة من أول المفصل، سورتين في ركعة.

قال البزار: ولا نعلم روى يزيد بن الوليد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله؛ إلا هذا الحديث.

قلت: قد روى الطبراني (10/ 86) ح 10036، من طريق إسماعيل بن مسلم (هو المكي ضعيف)، عن يزيد بن الوليد، عن إبراهيم عن علقمة، قال: قام عبد الله عند الصفا عند صدع فيه، فقال: هاهنا والذي لا إله إلا هو قام الذي أنزلت عليه سورة البقرة.

فتبين من هذا أن رواية إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله لا يصح منها شيء، على اختلاف في متونها، وأحسنها ما رواه حصين بن عبد الرحمن السلمي، قال: حدثني إبراهيم، عن نَهِيك بن سنان السلمي، عن ابن مسعود، وقد علمت ما فيه.

وقد روى ابن أبي شيبة في المصنف ت عوامة (3723)، حدثنا وكيع، قال: حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، أنه كان يقرأ في الفجر في الركعة الأولى بـ حم الدخان، والطور، =

ص: 443

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= والجن، ويقرأ في الثانية بآخر البقرة، وآخر آل عمران، وبالسورة القصيرة.

وإسناده صحيح، إلا أنه مقطوع على علقمة.

وبهذا نكون قد استوفينا تخريج طريق علقمة والأسود، وتضمن الكلام على طرقهما تخريج طريق رواية إبراهيم، عن نهيك بن سنان.

الطريق الثالث: مسروق عن ابن مسعود.

رواه إسرائيل، واختلف عليه فيه:

فرواه عبد الله بن رجاء، عن إسرائيل، عن أبي حصين، عن يحيى بن وثاب، عن مسروق، عن عبد الله، وأتاه رجل فقال: إني قرأت الليلة المفصل في ركعة، فقال: هَذَّا كهذ الشعر لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ النظائر عشرين سورة من المفصل من آل حم.

أخرجه محمد بن يحيى الذهلي في جزئه (40)، النسائي في المجتبى (1006)، وفي الكبرى (1080)، عن عبد الله بن رجاء،

وعبد الله بن رجاء: في التقريب: صدوق يهم.

وأبو حصين: هو عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي ثقة ثبت، قال ابن مهدي: لا ترى حافظًا يختلف على أبي حصين.

وباقي الإسناد كلهم ثقات مشهورون.

وخالفه وكيع، فرواه عن إسرائيل، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن، قال: أعط كل سورة حظها من الركوع والسجود.

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ت محمد عوامة (3731).

وأبو عبد الرحمن إن كان هو ابن مسعود فهو منقطع موقوف.

وإن كان هو السلمي، وهو الراجح فهو مقطوع، والمقاطيع: هي الموقوفات على التابعين.

ولم يتابع وكيع في إسناده عن إسرائيل، بينما توبع إسرائيل من رواية عبد الله بن رجاء عنه، تابعه شعبة، وقيس بن الربيع.

أما متابعة شعبة، فأخرجها الطبراني (10/ 33) ح 9859، من طريق أبي سعيد مولى بني هاشم، حدثنا شعبة، عن حصين أو أبي حصين، به، بلفظ: جاء رجل، فقال: إني قرأت المفصل في ركعة، فقال: هذًّا كهذِّ الشعر، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ النظائر سورتين عشرين سورة.

غريب من حديث شعبة، انفرد به عن شعبة أبو سعيد عبد الرحمن بن عبد الله بن عبيد البصري مولى بني هاشم، روى له البخاري متابعة، ووثقه ابن معين والدارقطني، واختلف قول أحمد فيه، فقال أبو حاتم كما في الجرح والتعديل (5/ 254): كان أحمد يرضاه وما كان به بأس.

وحكى العقيلي عن أحمد أنه قال: كان كثير الخطأ.

ووثقه أحمد في رواية. =

ص: 444

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ونقل القباني أنه جاء عن أحمد أنه كان لا يرضاه.

وفي التقريب: صدوق ربما أخطأ، فتفرده عن شعبة لا يحتمل، فلوكان هذا محفوظًا من حديث شعبة لرواه عنه أصحابه.

وأما متابعة قيس بن الربيع: فرواه الفريابي في فضائل القرآن (125) من طريق قيس (هو ابن الربيع) عن أبي حصين به، بلفظ: لقد حفظت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهن سورتين في كل ركعة. . . الرحمن والنجم في ركعة، والذاريات والطور في ركعة، واقتربت والحاقة في ركعة، والمزمل والمدثر في ركعة، وويل للمطففين وعبس في ركعة، وهل أتى على الإنسان ولا أقسم بيوم القيامة في ركعة، والمرسلات وعم يتساءلون في ركعة، وإذا الشمس كورت، والدخان في ركعة.

انفرد بسرد النظائر عن أبي حصين قيس بن الربيع، وقيس بن الربيع كبر فتغير، وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه، فلا يحتمل تفرده بمثل ذلك عن أبي حصين.

قال عمرو بن علي: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عن قيس بن الربيع، وكان عبد الرحمن حدثنا عنه قبل ذلك، ثم تركه. الجرح والتعديل (7/ 96).

وقال حرب بن إسماعيل الكرماني: قلت لأحمد بن حنبل: قيس بن الربيع أي شيء ضعفه؟ قال: روى أحاديث منكرة. المرجع السابق.

وقال أحمد بن حنبل: كان له ابن يأخذ حديث مسعر وسفيان الثوري والمتقدمين، فيدخلها في حديث أبيه، وهو لا يعلم. الكامل (6/ 39).

وقال يحيى بن معين: قيس بن الربيع ليس حديثه بشيء. وقال مرة أخرى: هو ضعيف الحديث لا يساوي شيئًا. الجرح والتعديل (7/ 96).

هذا ما يتعلق بطريق مسروق، عن ابن مسعود رضي الله عنه.

الطريق الرابع: زر بن حبيش، عن ابن مسعود.

رواه أحمد (1/ 412)، والطحاوي في المشكل مختصرًا (3/ 402)، حدثنا عفان بن مسلم ومنصور بن صقير (ضعيف)، حدثنا حماد بن سلمة (صدوق إلا إذا روى عن ثابت وحميد الطويل فثقة)، حدثنا عاصم (هو ابن أبي النجود)، عن زر أن رجلًا قال لابن مسعود: كيف تعرف هذا الحرف: ماء غير ياسن أم آسن؟ فقال: كل القرآن قد قرأتَ؟ قال: إني لأقرأ المفصل أجمع في ركعة واحدة، فقال: أهذَّ الشعر لا أبا لك؟ قد علمت قرائن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان يقرن، قرينتين، قرينتين، من أول المفصل، وكان أول مفصل ابن مسعود: الرحمن. هذا لفظ أحمد.

عفان من أثبت أصحاب حماد بن سلمة، فإن كان يخشى من شيء فيخشى من تفرد عاصم بن أبي النجود عن زر، حيث لم يتابع في روايته عنه.

الطريق الأخير، وهو أقواها في الجملة: أبو وائل شقيق بن سلمة، عن ابن مسعود: =

ص: 445

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= رواه عن أبي وائل جماعة من أصحابه، منهم الأعمش، وواصل بن حيان الأحدب، ومنصور بن المعتمر، وعمرو بن مرة، وسيار أبو الحكم، وسلمة بن كهيل، وغيرهم، وإليك تخريج طرقهم:

أما رواية الأعمش، عن أبي وائل:

فرواها البخاري (4996) من طريق أبي حمزة (هو محمد بن ميمون السكري).

ومسلم (275 - 822) من طريق وكيع.

وأيضًا (276 - 822) من طريق أبي معاوية،

وأيضًا (277 - 822) من طريق عيسى بن يونس، أربعتهم عن الأعمش به، وأكتفي بالصحيحين عن غيرهما.

ولفظ أبي حمزة عن الأعمش: لقد تعلمت النظائر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤهن، اثنين اثنين في كل ركعة، فقام عبد الله ودخل معه علقمة، وخرج علقمة فسألناه، فقال: عشرون سورة من أول المفصل على تأليف ابن مسعود، آخرهن الحواميم: حم الدخان، وعم يتساءلون.

ولم يذكر قصة الرجل الذي قرأ المفصل في ركعة.

ولفظ وكيع عن الأعمش: جاء رجل يقال له نهيك بن سنان إلى عبد الله، فقال: يا أبا عبد الرحمن كيف تقرأ هذا الحرف؟ ألفًا تجده أم ياء {من ماء غير آسن} ، أو: من ماء غير ياسن؟ قال: فقال عبد الله: وكلَّ القرآن قد أحصيتَ غير هذا، قال: إني لأقرأ المفصل في ركعة، فقال عبد الله: هذًّا كهذِّ الشِّعر، إن أقوامًا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع، إن أفضل الصلاة الركوع والسجود، إني لأعلم النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن، سورتين في كل ركعة، ثم قام عبد الله، فدخل علقمة في إثره، ثم خرج، فقال: قد أخبرني بها.

ولفظ أبي معاوية عن الأعمش: بمثل حديث وكيع، غير أنه قال: فجاء علقمة ليدخل عليه، فقلنا له سله عن النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في ركعة، فدخل عليه فسأله، ثم خرج علينا، فقال: عشرون سورة من المفصل، في تأليف عبد الله.

ولفظ عيسى بن يونس عن الأعمش: إني لأعرف النظائر التي كان يقرأ بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اثنتين في ركعة، عشرين سورة في عشر ركعات.

وأما رواية واصل بن حيان الأحدب، عن أبي وائل.

فرواها البخاري حدثنا أبو النعمان (عارم)،

ومسلم (278 - 822) حدثنا شيبان بن فروخ، كلاهما حدثنا مهدي بن ميمون، حدثنا واصل الأحدب به. وأكتفي بالصحيحين عن غيرهما.

ولفظ أبي النعمان: غدونا على عبد الله، فقال رجل: قرأت المفصل البارحة، فقال: هذًّا كهذِّ الشِّعر، إنا قد سمعنا القراءة، وإني لأحفظ القرناء التي كان يقرأ بهن النبي صلى الله عليه وسلم، ثماني عشرة سورة من المفصل، وسورتين من آل حم.

ولفظ شيبان فيه قصة حيث ذكر دخولهم على ابن مسعود، وتسبيحه إلى حين طلوع الشمس، =

ص: 446

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وفيه:

فقال رجل من القوم: قرأت المفصل البارحة كله، قال: فقال عبد الله: هذًّا كهذِّ الشعر، ثم ذكر بقية الحديث بمثل رواية عارم.

وأما رواية عمرو بن مرة، عن أبي وائل.

فرواها البخاري (775) حدثنا آدم.

ومسلم (822) من طريق محمد بن جعفر، كلاهما عن شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت أبا وائل، قال: جاء رجل إلى ابن مسعود، فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة، فقال: هذًّا كهذِّ الشِّعر، لقد عرفت النظائر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن، فذكر عشرين سورة من المفصل، سورتين في كل ركعة .. وفي رواية مسلم: سورتين سورتين في كل ركعة.

وأكتفي بالصحيحين عن غيرهما.

وأما رواية منصور بن المعتمر، عن أبي وائل، فرواه منصور واختلف عليه فيه:

فرواه زائدة بن قدامة كما في صحيح مسلم (279 - 822)، ومستخرج أبي نعيم على صحيح مسلم (1860)،

وجرير بن عبد الحميد كما في المعجم الكبير للطبراني (10/ 35) ح 9866، كلاهما عن منصور به، بلفظ: قال: جاء رجل من بني بجيلة، يقال له: نهيك بن سنان إلى عبد الله، فقال: إني أقرأ المفصل في ركعة، فقال عبد الله: هذًّا كهذِّ الشعر، لقد علمت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهن، سورتين في ركعة. واقتصر جرير على قوله: لقد علمت النظائر

إلخ.

ورواه الحسين بن واقد كما في فضائل القرآن للمستغفري (906)، عن منصور به، بلفظ: بينا نحن جلوس عند ابن مسعود إذ جاء نهيك بن سنان فقال: أبا عبد الرحمن كيف تقرأ هذا الحرف {مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} أو (غير ياسن)؟ قال: أو كل القرآن قد أحصيت غيرها؟ قال: إني لأقرأ المفصل في ركعة، قال: فغضب ثم قال: أهذًّا كهذِّ الشعر، لقد علمت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهن كل سورتين في ركعة، وعد السور: الرحمن والنجم والذاريات والطور واقتربت الساعة والحاقة والواقعة ونون والنازعات وسأل سائل والمدثر والمزمل والمطففين وعبس وهل أتى على الإنسان، ولَا أقسم بيوم القيامة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت وحم الدخان.

انفرد بسرد النظائر حسين بن واقد، عن منصور مخالفًا رواية زائدة وجرير عن منصور، وهما مقدمان عليه، فقد يكون الحمل على الراوي عن الحسين بن واقد، فقد رواه عنه الحسين بن سعد بن سعيد، عن جده الحسين بن واقد، وفيه جهالة، وشيخ المستغفري عبيد الله بن عبد الله التاجر لم أقف له على ترجمة، والله أعلم.

وجاء في سرد النظائر من طريق حسان بن إبراهيم، عن محمد بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن شقيق بن سلمة، قال: قال عبد الله: لقد علمت النظائر التي كان يصلي بهن رسول اللهصلى الله عليه وسلم: الذاريات والطور، واقتربت والنجم، والرحمن والواقعة، ونون والحاقة، والمزمل ولا أقسم =

ص: 447

وجه الاستدلال:

دل حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يراعي الترتيب بين بعض النظائر التي كان يقرن بينها في الركعة، فكان يقرأ الرحمن قبل النجم، ويقرأ الطور قبل الذاريات، ويقرأ المطففين قبل عبس، ويقرأ الإنسان قبل القيامة، وهكذا.

= بيوم القيامة، وهل أتى على الإنسان والمرسلات، وعم يتساءلون والنازعات، وعبس وويل للمطففين، وإذا الشمس كورت وحم الدخان.

أخرجه الطبراني في الكبير (10/ 34/9861).

لم يروه عن سلمة بن كهيل إلا ابنه محمد، تفرد به عنه حسان بن إبراهيم الكرماني.

ومحمد بن سلمة بن كهيل، فيه لين.

قال الدارقطني: يعتبر به.

وقال أحمد: مقارب الحديث. سؤالات أبي داود عنه (400).

وقال ابن معين: ليس بشيء.

وقال ابن سعد: كان ضعيفًا. وذكره ابن حبان في الثقات.

والراوي عنه حسان بن إبراهيم الكرماني، قال ابن عدي: حدث بأفرادات كثيرة، وهو من أهل الصدق، إلا أنه يغلط.

وقال النسائي: ليس بالقوي.

ووثقه أحمد، وقال أبو زرعة: لا بأس به.

وأما رواية سيار أبي الحكم، عن أبي وائل.

فرواه أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن (ص: 175)، ومن طريقه الطبراني في الكبير (10/ 34) ح 9860،

وأحمد (1/ 427)، ومن طريقه الطبراني في الكبير (10/ 34) ح 9860،

ورواه سعيد بن منصور في سننه (156)، ومن طريقه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 346)،

ورواه البيهقي في الشعب (1991) من طريق محمد بن الصباح، أربعتهم (أبو عبيد، وأحمد، وسعيد بن منصور، وابن الصباح) رووه عن هشيم، قال: أخبرنا سيار، عن أبي وائل، قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود، فقال: إني قرأت البارحة المفصل في ركعة، فقال عبد الله: أنثرًا كنثر الدقل، وهذَّا كهذَّ الشعر؟ إني لأعلم النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن سورتين في ركعة.

وفي رواية سعيد بن منصور: جاء إليه رجل، فقال: إني قرأت المفصل البارحة في ركعة، فغضب، وقال: إنما فُصِّل لتفَصِّلوه، هذًّا كهذِّ الشِّعر، ونثرًا كنثر الدقل؟ لقد علمت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن، بسورتين في كل ركعة، بسورتين في كل ركعة.

وهذا سند صحيح، وهو موافق لرواية الصحيح.

ص: 448

فكان الحديث دليلًا على أحد أمرين إما على جواز تنكيس السور.

وإما على أن ترتيب مصحف عثمان كان اجتهادًا من الصحابة لأن ترتيب مصحف ابن مسعود يختلف عنه، وإذا كان ترتيب السور ليس توقيفًا من الشارع لم تكره مخالفته، وإن استحب مراعاته لاتفاق الصحابة عليه فيما بعد، ولكونه الغالب من فعله صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.

والمقصود بالنظائر: قيل: هي السور التي يشبه بعضها بعضًا في الطول والقصر. ورجحه ابن رجب

(1)

.

وقيل: هي السور المتماثلة في المعاني من مواعظ وحكم وقصص. ورجحه ابن حجر

(2)

.

الدليل الثامن:

(ث-350) ما رواه البخاري من طريق ابن جريج أخبرهم، قال: أخبرني يوسف بن ماهك، قال:

إني عند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، إذ جاءها عراقي، فقال: أي الكفن خير؟ قالت: ويحك، وما يضرك؟ قال: يا أم المؤمنين، أريني مصحفك؟ قالت: لم؟ قال: لعلي أولف القرآن عليه، فإنه يقرأ غير مؤلف، قالت: وما يضرك أَيَّهُ قرأت قبل؟ .... فقال في آخره: فأخرجتْ له المصحف، فأملتْ عليه آي السور

(3)

.

وجه الدلالة:

قوله: (وما يضرك أَيَّهُ قرأت قبل) دليل على عدم كراهة التقديم والتأخير في السور، والله أعلم.

* دليل من قال: يكره التنكيس في الفرض دون النفل:

الدليل الأول:

(ح-1411) ما رواه مسلم من طريق الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن

(1)

. فتح الباري لابن رجب (7/ 74).

(2)

. فتح الباري لابن حجر (2/ 259).

(3)

. صحيح البخاري (4993).

ص: 449

المستورد بن الأحنف، عن صلة بن زفر،

عن حذيفة، قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء، فقرأها، ثم افتتح آل عمران، فقرأها

الحديث

(1)

.

فهذا الحديث إنما وقع في صلاة الليل، فلا يصح دليلًا على إباحة التنكيس في صلاة الفرض؛ لأن النفل أوسع من الفرض.

الدليل الثاني:

أن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفريضة كانت مرتبة، فكان يقرأ سورة السجدة قبل سورة الإنسان في صلاة الصبح

(2)

، ويقرأ سورة سبح قبل سورة الغاشية في صلاة

الجمعة

(3)

، وربما قرأ في الجمعة سورة الجمعة قبل سورة المنافقون

(4)

.

فإذا انْضَمَّ هذا الدليل إلى الدليل الذي قبله دل بمجموع الدليلين على إباحة التنكيس في صلاة النفل، وكراهته في صلاة الفرض.

الدليل الثالث:

ولأن النفل أوسع بابًا من الفرض، ولهذا صحت صلاة النفل على الدابة غير متوجه إلى القبلة، ولم تصح الفريضة، وصح النفل جالسًا مع القدرة على القيام، لهذا قدر الحنفية قراءة النفل كل ركعة فعلًا مستقلًّا، بخلاف الفرض فإن القراءة فيها عندهم بمنزلة القراءة الواحدة، والله أعلم.

(1)

. رواه مسلم (203 - 772).

(2)

. رواه البخاري (891)، ومسلم (65 - 880) من طريق سفيان الثوري، عن سعد بن إبراهيم، عن الأعرج، عن أبي هريرة.

ورواه مسلم (879) من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

(3)

. رواه مسلم (62 - 878) من طريق إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه، عن حبيب بن سالم مولى النعمان بن بشير، عن النعمان بن بشير.

(4)

. رواه مسلم (64 - 879) من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

ورواه مسلم (61 - 877) من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن ابن أبي رافع، عن أبي هريرة.

ص: 450

* الراجح:

أرى أن مذهب الشافعية هو القول الوسط، وبه تجتمع الأدلة، وأن التنكيس جائز، والترتيب مستحب، ولا يلزم من ترك المستحب الوقوع في المكروه، والله أعلم.

* * *

ص: 451