الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد للَّه الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وإمام الأولين والآخرين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فإنه لما كان علم المغازى والسير من العلوم النافعة الشريفة التى تنافس فيها المتنافسون، وشمر عن ساعد الجد فى تحصيلها العاملون المخلصون.
اذ هو علم يحث المسلم النبيل عل الاقتداء بنبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإلى التخلق بحقائق أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم التى توصله إلى دار السلام، وإنه لعلم نافع عظيم يطلع المسلم خلال دراسته التى درج عليها المحدثون القدماء فى الاسلام -على ما كانت عليه الصورة الاسلامية الحقيقية فى العهد النبوى الشريف وفى العهود الاولى من الخلافة الاسلامية الراشدة.
وليس ثمة شك، أن دراسة هذا العلم والتعمق فيه لهى دراسة
تعين على تفسير كتاب اللَّه تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال عز من قائل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (1) وقال أيضا: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) وكما صح عن الصديقة بنت الصديق رضي اللَّه تعالى عنهما فيما روى عنها سعد بن هشام رحمه اللَّه تعالى قال: سألت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها، فقلت: أخبرينى عن خلق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقالت رضي الله عنها: كان خلقه القرآن (3).
فالآيتان الكريمتان والحديث وما فى معناها، يدل دلالة واضحة على أنه صلى الله عليه وسلم كان صورة واضحة، ومثالا حيا، لما جاء به كتاب اللَّه تعالى من أحكام، وآداب، ومعاملات، فبقى الحال -برهة من الزمن- فى العهد النبوى الشريف، وفيما بعد من الخلافة الراشدة، -على أحسن ما يرام، لقرب العهد به صلى الله عليه وسلم، ثم تطاول الوقت، وكر الدهر، -وللَّه فى ذلك حكمة بالغة- فاتى على المسلمين
(1) سورة الاحزاب رقم الآية (21).
(2)
سورة آل عمران رقم الآية (31).
(3)
رواه أحمد فى مسنده (45، 91، 111، 163، 188/ 6) ومسلم فى صحيحه فى كتاب المسافرين، وأبو داود فى سننه فى كتاب التطوع، والترمذي فى جامعه فى كتاب البر، والنسائي فى سننه فى قيام الليل، وابن ماجه فى سننه، كتاب الاحكام، والدارمي فى سننه، كتاب الصلاة.
عهد وقعت فيه الكارثة العظمى، والمصيبة الكبرى، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: فيما روى عنه عمرو بن عوف رضي اللَّه تعالى عنه، قال:"فواللَّه ما الفقر أخشى عليكم، ولكنى أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم، كما بسطت علي من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتلهيكم، كما ألهتهم"(1).
فظهر هذا اللهو واضحًا جليًا فى حياة المسلمين بعد أن فقدوا تلك القيادة الرشيدة العالمية، فاستغل الاعداء الماكرون -من اليهود عليهم لعائن اللَّه، ومن لف لفهم من أمم الشرق والغرب فرصة اللهو هذه، فوجهوا خلالها تلك الطعنات الخبيثة، الى صميم رسالتنا الخالدة، والى حاملها صلى الله عليه وسلم، والى أصحابه البررة الكرام، والى كل من حمل هذا العلم صافيا نقيا.
فأول ما بدأ به هؤلاء الاوباش هو أن أوجدوا جماعة كبيرة فى صفوف المسلمين، بعد أن غذوها غذا ماديا الحاديا يمكن أن يحولوا به مجرى التاريخ الاسلامى الحافل، الى ما أرادوا به من ايقاع الفتن، والشرور، والاضطراب، والى كل ما من شأنه أن لا تبقى هذه الأمة المجيدة على اصالتها، وروحها الطاهرة النقية المهذبة عن طريق الوحى السماوى، ورسالتها السامية الخالدة.
(1) أخرجه البخارى فى الصحيح، فى عدة مواضع: الجزية (1) مغازى (12) رقاق (7) ومسلم فى الزهد، حديث رقم (6) الترمذى فى السنن، القيامة، وابن ماجه فتن (18) ومسند الامام أحمد، (137/ 4، 327/ 1).
فظهر الوضع فى حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل ظهور تلك الفلسفة العلمانية اللادينية التى ضيعت على هذه الامة ثقافتها الدينية، وسياستها الحكيمة، فأخذ هذا الوضع يتطور تطورا خطيرا، ولم يكن محصورا على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فحسب بل فى أحاديث الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم، التى توقع بينهم الفرقة، والشقاق.
أخرج الحاكم فى مستدركه، بإسناده عن عبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه تعالى عنه فى قصة وفاة أبي ذر رضي اللَّه تعالى عنه، وفيه، أن عثمان نفى أبا ذر إلى الربذة الحديث (1).
وفى إسناد هذا الخبر، بريدة بن سفيان الاسلمى، وهو شيعي رافضى، كما قال عنه الذهبى فى الميزان: بريدة بن سفيان الاسلمي، قال البخاري: فيه نظر وقال أبو داود: لم يكن بذاك، وكان يتكلم فى عثمان.
وقال الدارقطي: متروك. وقيل كان يشرب الخمر، وهو مقل (2).
وقال الحافظ ابن حجر: ليس بالقوي، وفيه رفض من السادسة (3).
قلت: إن لم يكن هذا الحديث قد بلغ درجة الوضع إلا أنه قريب منه، وهو حديث منكر، وقد أخرجه ابن إسحاق فى السيرة (4)، ومحمد
(1) انظر الحاكم فى المستدرك (50 - 51/ 3).
(2)
ميزان الاعتدال للذهبي (306/ 1).
(3)
تقريب التهذيب (96/ 1) وتهذيب التهذيب (433 - 434/ 1).
(4)
سيرة ابن هشام (168/ 4).
ابن جرير الطبري فى تاريخه (1) وكما سترى الكلام على هذا الحديث فى موضعه من هذه الرسالة، فى وفاة أبي ذر رضي اللَّه تعالى عنه بالتفصيل (2).
هكذا بدأ هذا الهجوم على الاسلام، منذ أول يوم عن هذا الطريق اللاذع الرهيب الذى اتخذه المستشرقون، اساسا قويا، ومنهاجا صلبا فى الهجوم على الاسلام بعد أن مهد لهم الطريق، عن هؤلاء الوضاعين الكذابين المنتسبين الى الاسلام -والاسلام منهم براء- فنشط هؤلاء المستشرقون نشاطا مرموقا فى مهمتهم الشيطانية فى الهجوم الشنيع الخفي الذى لا يتمكن من إدراكه أحد إلا من رزقه اللَّه تعالى، علما واسعا، وثقافة عالية.
أورد المستشرق الالماني جوزيف هوروفتس فى ترجمة ابان بن عثمان الاموى رحمه اللَّه تعالى بعد أن ساق فى ترجمته عدة روايات مختلفة بطرق فنية رائعة مع ذكر مصادرها كما سيأتى فحاول أخيرا أن يتكلم بشئ خفي يمس به عدالة هذا التابعى الإِمام فلم يجد ما يبرر به إمام النقد العلمى إن وجه إليه، فحاول -بطريق فنى رائع أجمل- فى أن يأتي بشئ يقربه عينه ويثلج صدره، ويطفئ غيظه فأتى فى ترجمة ابان بن عثمان هذه العبارة (ولم تقصر عناية أهل المدينة على العلوم الدينية وحدها، بل عنوا أعظم عناية بالموسيقي والشعر).
(1) تاريخ الأمم والملوك (371/ 2).
(2)
انظر الفصل الثاني والثلاثين ص 303 - 309.
ومن الخطا أن يظن أنه لا توجد صلات بين العلماء والشعراء، وإن علماء الدين كانوا جميعا معادين للشعر، بل وجد فى المدينة نفسها اعلام من العلماء الدينيين قد برزوا فى قول الشعر، وأشهر مثل لذلك تتحقق فيه هذه الصلة، عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، حفيد عتبة بن مسعود، وهو ممن حارب مع النبي- فى أحد، وقد خصص أبو الفرج الاصبهاني فى "كتاب الاغانى" فصلا لعبيد اللَّه هذا، وأورد طائفة من شعره، وفعل مثل ذلك ابن سعد أيضا فى طبقاته، وهو معدود من فقهاء المدينة السبعة، وحينما تيّمَه حب هذلية حسناء دعا الفقهاء الستة الآخرين فى اشعاره التى يخاطبها بها، ليشهدوا على قوة حبه الذى برح به قال:
أحبك حبا لو علمت ببعضه
…
لجدت عليّ ولم يصعب عليك شديد
وحبك -يا أم الصبي- مدلهى
…
شهيدى أبو بكر، وأى شهيد
ويعلم وجدى القاسم بن محمد
…
وعروة ما القى بكم، وسعيد
ويعلم ما أخفى سليمان علمه
…
وخارجة يبدى لنا ويعيد
متى تسألى عما أقول فتخبرى
…
فللحب عندى طارف وتليد (1)
قلت: من العجب جدا أمر هذه الابيات التى هي ترجمة صحيحة عن نفسية عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة إن صح الاسناد إليه.
فعلينا أن نرجع الى ترجمة عبيد اللَّه هذا المذكور حتى نعرف عن شخصيته، وحقيقته هل هذه الابيات تتفق مع ترجمته؟ أو هناك فى دس
(1) انظر المغازى الأولى ومؤلفوها جوزيف هورفتس ترجمة حسين نصار 6 - 7 الطبعة الحلبية الاولى سنة 1369 هـ بمصر.
من دسائس الأعداء الماكرين؟ قال الحافظ ابن حجر فى ترجمته: قال الواقدى: كان عالما، وكان ثقة فقيها، كثير الحديث، والعلم، شاعرا، وقد عمى، وقال العجلى: كان أعمى، وكان أحد فقهاء المدينة، تابعي ثقة، رجل صالح جامع للعلم، وهو معلم عمر بن عبد العزيز.
وقال أبو زرعة: ثقة مأمون، امام.
وقال ابن حبان فى الثقات: كان من سادات التابعين.
وقال ابن جرير الطبرى: كان مقدما فى العلم، والمعرفة بالاحكام، والحلال والحرام، وكان مع ذلك شاعرا مجيدا.
وقال ابن عبد البر: كان أحد الفقهاء العشرة، ثم السبعة الذين تدور عليهم الفتوى، وكان عالما فاضلا مقدما فى الفقه، تقيا، شاعرا محسنا، لم يكن بعد الصحابة الى يومنا فيما علمت فقيه أشعر منه ولا شاعر أفقه منه.
وقال عمر بن عبد العزيز: لو كان عبد اللَّه حيا ما صدرت الا عن رأيه انتهي كلام الحافظ ملخصا (1) قلت وهو من رجال الكتب الستة وقد أخرج له البخاري جملة من الاحاديث فى الاحكام، قبل أن ندرس اسناد هذه الابيات نقف هنا قليلا، ونسأل الاستاذ جوريف هوروفتس كيف أدخلت هذه الابيات المنسوبة الى عبيد اللَّه بن عبد اللَّه ابن عتبة فى ترجمة أبان بن عثمان، وأنت تتكلم على مؤلفى المغازى الأولى، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه لم يكن مؤلف المغازى مع اعترافك؟
(1) تهذيب التهذيب (23 - 24/ 7)
ب - وهل هناك ارتباط وثيق مع المعاني التى تحمل هذه الابيات فى طياتها مع الشخصية المباكة التى ترى ما قيل فى ترجمتها؟
ثم السؤال الأخير:
جـ - هل درست اسناد هذه الابيات؟
وأنا أتولى الجواب:
أ - لا مناسبة أبدا بين ايراد هذه الابيات فى ترجمة ابان بن عثمان بن عفان رحمه اللَّه تعالى. الا للنيل من شخصية مماثلة فى الزهد، والورع، واسقاط عدالته.
ب - لا تتفق هذه المعاني القبيحة التى تشم منها رائحة الزنا مع شخصية عبيد اللَّه بن عبد اللَّه المذكور المترجم لها آنفا.
جـ - اما الاسناد فهو كاد أن يكون موضوعا كما سترى.
قال أبو الفرج الاصبهاني (1):
حدثنا محمد بن جرير الطبرى، والحرمى بن العلاء، ووكيع، قالوا: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثنى اسماعيل بن يعقوب، عن أبي الرتاد، عن أبيه، قال: قدت المدينة امرأة من ناحية مكة، من هذيل، وكانت جميلة، فخطبها الناس، وكادت تذهب بعقول أكثرهم، فقال فيها عبيد اللَّه بن عبد اللَّه ابن عتبة بن مسعود ثم ساق الابيات المذكورة.
(1) الأغانى (96/ 8) طبعة بولاق.