الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع والستون فى قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} الآية
قال اللَّه تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} التوبة: 122.
قال أبو جعفر:
يقول تعالى ذكره: ولم يكن المؤمنون لينفروا جميعًا. وقد بينا معنى الكافة بشواهده وأقوال أهل التأويل فيه فاغنى عن اعادته فى هذا الموضع.
ثم اختلف أهل التأويل فى المعنى الذى عناه اللَّه بهذه الآية، وما النفر الذى كرهه لجميع المؤمنين؟ فقال بعضهم: هو نفر كان من قوم كانوا بالبادية، بعثهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعلمون الناس الإسلام، فلما نزل قوله:{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} انصرفوا عن البادية الى النبي صلى الله عليه وسلم، خشية أن يكونوا ممن تخلف عنه، وممن عنى بالآية، فأنزل اللَّه فى ذلك عذرهم بقوله {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} وكره انصراف جميعهم من البادية الى المدينة (1).
(1) تفسير ابن جرير الطبرى (66/ 11).=
قال أبو جعفر:
حدثنى محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} قال: ناس من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خرجوا فى البوادى فأصابوا من الناس معروفا، ومن الخصب ما ينتفعون به ودعوا من وجدوا من الناس الى الهدى، فقال الناس: لهم ما نراكم قد تركتم
= قال القرطبى فى تفسيره (293 - 297) فيه ست مسائل:
(1)
- وهى أن الجهاد ليس على الأعيان، وإنه فرض كفاية كما تقدم، إذ لو نفر الكل لضاع من وراءهم من العيال.
(2)
- هذه الآية أصل فى طلب العلم.
(3)
- الطائفة فى اللغة: الجماعة، وقد تقع على أقل من ذلك.
(4)
الضمير من {لِيَتَفَقَّهُوا} {وَلِيُنْذِرُوا} للمقيمين مع النبي صلى الله عليه وسلم قاله قتادة ومجاهد.
(5)
- طلب العلم ينقسم قسمين: فرض على الاعيان، كالصلاة، والزكاة، والصيام، وفرض كفاية: كتحصين الحصون، وإقامة الحدود، والفصل بين الخصوم.
(6)
- طلب العلم فريضة عظيمة، ومرتبة شريفة لا يوازيها عمل.
قلت: روى الإمام الترمذى فى سننه من حديث أبى الدرداء قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: من سلك طريقا يلتمس فيه علمًا سلك اللَّه به طريقا إِلى الجنة، وإن الملائكة لتضع اجنحتها رضا لطالب العلم أو كما قال عليه الصلاة والسلام. انظر شرف أصحاب الحديث ص 33 والناسخ والمنسوخ لهبة اللَّه بن سلامة ص 52، والناسخ والمنسوخ لمحمد الصفار ص 169.
أصحابكم وجئتمونا، فوجدوا فى أنفسهم من ذلك حرجا، وأقبلوا من البادية كلهم، حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال اللَّه:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} يبتغون الخير {لِيَتَفَقَّهُوا} وليسمعوا ما فى الناس، فأنزل اللَّه بعدهم {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} الناس كلهم {إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (1)} .
(1) تفسير ابن جرير الطبرى (66 - 67/ 11).
قلت: أثر مجاهد صحيح الاسناد. وهو مقطوع من كلامه رحمه اللَّه تعالى. قال السيوطى فى الدر المنثور (293/ 3): أخرج ابن أبى شيبة، وابن جرير وابن المنذر، وابن أبى حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد فى قوله تعالى {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} الآية ثم ذكر الحديث. انظر فتح القدير للشوكانى (397/ 2).
قال الشوكانى: اختلف المفسرون فى معنى {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} فذهب جماعة الى أنه من بقية أحكام الجهاد، لأنه سبحانه وتعالى لما بالغ فى الأمر بالجهاد والانتدب الى الغزو، كان المسلمون إذا بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سرية الى الكفار ينفرون جميعا، ويتركون المدينة خالية، فأخبرهم اللَّه سبحانه وتعالى بهذا الخبر. انظر تفسير القرطبى (295/ 8) وزاد المسير لابن الجوزى (516 - 517/ 3) وقال الرازى فى تفسيره (225 - 228/ 16): نقل عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا خرج الى الغزو، لم يتخلف عنه إِلا منافق أو صاحب عذر، فلما بالغ اللَّه سبحانه وتعالى عن عيوب المنافقين فى غزوة تبوك، قال المؤمنون: واللَّه لا نتخلف عن شئ من الغزوات مع الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا عن سرية فلما قدم الرسول عليه الصلاة والسلام المدينة، وأرسل السرايا الى الكفار، نفر المسلمون جميعا الى الغزو وتركوه وحده بالمدينة، فنزلت الآية.
قلت: لم أجد له سندا صحيحا ثابتا إنما هذه الرواية منقطعة أخرجها ابن جرير الطبرى فى تفسيره (67/ 11) وهى لم تكن حجة فى المسئلة إنما يستأنس بها إن شاء اللَّه تعالى.
قال أبو جعفر:
حدثنى المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة (1) قال: ثنا شبل، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، مثل قوله الأول إلا أنه قال: فى حديثه فقال اللَّه: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} فخرج بعض وقعد بعض يبتغون الخير (2).
(1) أبو حذيفة هو موسى بن مسعود النهدى، بفتح النون، أبو حذيفة المصرى، صدوق سيء الحفظ، وكان يصحف، من صغار التاسعة انظر التقريب (288/ 2) خ د ت ق. فإذا قال قائل: كيف أخرج له البخارى فى جامعه الصحيح هو سيء الحفظ فالجواب ما أجاب به الحافظ فى مقدمة فتح البارى (446) وروى عنه البخارى أحاديث أحدها فى العتق عن امرأته بمتابعة الربيع بن يحيى كلاهما عن زائدة بمتابعة عثام بن علي بن هشام بن عروة، عن امرأته فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبى بكر، فى الأمر بالعتاقة فى الكسوف، ثانيها فى الرقاق، حديث ابن مسعود الجنة أقرب الى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك، وقد تابعه عليه وكيع وغيره عن سفيان.
(2)
تفسير ابن جرير الطبرى (67/ 11) وقال أبو جعفر فى نفس هذه الصفحة ثنا إسحاق، قال ثنا عبد اللَّه، عن ورقاء، عن ابن أبى نجيح عن مجاهد كحديثه عن أبى حذيفة.
قلت: إسحاق هو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلى، أبو محمد بن راهويه المروزى، ثقة، حافظ، مجتهد، قرين أحمد بن حنبل، ذكر أبو داود أنه تغير قبل موته بيسير، مات 238 وله 72 سنة / خ م د ت س انظر التقريب (54/ 1) وأما عبد اللَّه هو عبد اللَّه بن يزيد المكى، أبو عبد الرحمن المقرى، أصله من البصرة أو الأهواز، ثقة فاضل اقرأ القرآن نيفا وسبعين سنة من التاسعة مات 213 وقد قارب المائة، وهو من كبار شيوخ البخارى / ع انظر التقريب (462/ 1).=
وقال أبو جعفر: وقال آخرون: معنى ذلك: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} جميعا الى عدوهم، ويتركوا نبيهم صلى الله عليه وسلم وحده.
ثم قال: حدثنى يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: قوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} قال: ليذهبوا كلهم، فلولا نفر من كل حى، وقبيلة طائفة، وتخلف طائفة ليتفقهوا فى الدين ليتفقه المتخلفون مع النبي صلى الله عليه وسلم فى الدين، ولينذروا قومهم يعنى المتخلفين النافرين إذا رجعوا إليهم، لعلهم يحذرون (1).
= وانظر الدر المنثور للسيوطى (292 - 293/ 3) وقال أبو جعفر أيضًا 67/ 11 حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد نحو حديثه عن المثنى عن أبى حذيفة، غير أنه قال: فى حدثه ما نراكم إلا قد تركتم صاحبكم وقال: ليتفقهوا ليسمعوا ما فى الناس.
قلت: هذا الأثر فيه ضعف لأن سنيد الذى هو حسين بن داود المصيصي ضعيف وكان يلقن شيخه حجاج بن محمد المصيصى. انظر التقريب (335/ 1).
(1)
تفسير ابن جرير الطبرى (67/ 11).
قلت: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوى هو مفسر كبير، وإن كان هو ضعيفا فى الحديث إلا أن لرأيه هذا وقوله وجهة نظر قوية. وسوف يأتى فيما بعد أثر علي بن أبى طلحة عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنه فى هذا الموضوع وهو يؤيد رأيه واللَّه تعالى أعلم. وهذا الأثر ما دام لا يدفع من أن تكون آية: محكمة فلا مانع فيما أظن من قبول قوله هذا. . قال أبو جعفر (67/ 1) فى تفسيره حدثنى المثنى، قال: ثنا عبد اللَّه، قال: ثنى معاوية، عن على عن ابن عباس قوله:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} يقول ما كان المؤمنون لينفروا جميعًا، ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده =
قال أبو جعفر:
حدثنا الحسين (1)، قال سمعت أبا معاذ (2)، يقول ثنا عبيد بن
= {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} يعنى عصبة، يعنى السرايا، إلا بإذنه، فإذا رجعت السرايا، وقد نزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون من النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: إن اللَّه قد أنزل على نبيكم بعدكم قرآنا، وقد تعلمناه فيمكث السرايا يتعلمون ما أنزل اللَّه على نبيهم بعدهم، ويبعث سرايا آخر، فذلك قوله:{لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} يقول: ليتعلمون ما أنزل اللَّه على نبيه، ويعلمونه السرايا إذا رجعت إليهم، لعلهم يحذرون.
قلت أثر علي بن أبى طلحة عن ابن عباس أثر منقطع، ليس بحجة إلا أنه مستأنس به، ورجال إسناده ثقات ما عدا عبد اللَّه بن صالح كاتب الليث بن سعد، فهو متكلم فيه من جهة حفظه انظر التقريب (423/ 1). وقال أيضًا: أى ابن جرير حدثنا بشر، قال: يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} إلى قوله {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} قال: هذا إذا بعث نبى اللَّه صلى الله عليه وسلم الجيوش، أمرهم أن لا يعروا المدينة وتقيم طائفة مع رسوله صلى الله عليه وسلم تتفقه فى الدين.
قلت: هذا الأثر صحيح الاسناد الى قتادة وهو يؤيد الأثر السابق فى معناه.
(1)
الحسين، هو الحسين بن الفرج الخياط عن وكيع، قال ابن معين: كذاب يسرق الحديث، انظر لسان الميزان (307/ 2).
(2)
أبو معاذ هو فضيل بن ميسرة أبو معاذ البصرى، صدوق، من السادسة / بخ د س ق انظر التقريب (114/ 2).=
سليمان (1)، قال سمعت الضحاك (2) يقول: فى قوله {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} . . الآية، كان نبى اللَّه إذا غزا بنفسه لم يحل لأحد من المسلمين أن يتخلف إلا أهل العذر، وكان إذا أقام فأسرت السرايا لم يحل لهم أن ينطلقوا إلا بأذنه، فكان الرجل إذا أسرى فنزل بعده قرآن، تلاه النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه القاعدين معه، فإذا رجعت السرية قال لهم الذين أقاموا مع رسول اللَّه: إن اللَّه أنزل بعدكم على نبيه قرآنا، فيقرؤنهم ويفقهونهم فى الدين، وهو قوله:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} يقول: إذا أقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} يعنى بذلك أنه لا ينبغى للمسلمين أن ينفروا جميعًا ونبى اللَّه قاعد ولكن إذا قعد نبى اللَّه تسرت السرايا، وقعد معه معظم الناس (3).
(1) أما عيد بن سليمان فإنى لم أجد له ترجمة، إلا ما ذكر الذهبى فى ميزان الاعتدال (20/ 3) إِذ قال رحمه الله / 5425 عيد بن سليمان الباهلي المروزى. روى عنه عبد اللَّه بن عثمان. قال السليماني: فيه نظر. قلت: أظن لم يعرفه الذهبى ولذا لم يتكلم عليه أكثر من هذه الحروف واللَّه تعالى أعلم. فإذا كان هذا هو فهو ضعيف. وإذا كان غيره فلا علم لي بذلك واللَّه أعلم.
(2)
أما الضحاك فهو الضحاك بن مزاحم الهلالى، أبو القاسم، أو أبو محمد الخراساني، صدوق كثير الإرسال من الخامسة مات بعد المائة / عم انظر التقريب (373/ 1) قلت: هذا الأثر ضعيف جدا.
(3)
تفسير ابن جرير الطبرى (687/ 11).
قال السيوطى فى الدر (292/ 3) أخرج البيهقي فى المدخل عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنه كما ذكره ابن جرير عن الضحاك بن مزاهم وقد يكون الاسناد صحيحا أو حسنا إن شاء اللَّه تعالى. بالكتاب موجود بمكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ولم ترقم صفحاته.
قال أبو جعفر:
وأولى الأقوال فى تأويل ذلك بالصواب: أن يقال: تأويله: وما كان المؤمنون لينفروا جميعًا ويتركوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وحده، وإن اللَّه نهى بهذه الآية المؤمنين به أن يخرجوا فى غزو وجهاد وغير ذلك من أمورهم، ويدعوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وحيدا، ولكن عليهم إذا سرّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، سرية أن ينفر معها من كل قبيلة من قبائل العرب، وهى الفرقة، طائفة وذلك من الواحد الى ما بلغ من العدد، كما قال اللَّه جل ثناؤه {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} يقول: فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة، وهذا الى هاهنا على أحد الأقوال التى رويت عن ابن عباس، وهو قول الضحاك، وقتادة، وإنما قلنا: هذا القول أولى الأقوال فى ذلك بالصواب لأن اللَّه تعالى ذكر حظر التخلف خلاف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المؤمنين به من أهل المدينة، مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن حولها من الأعراب لغير عذر يعذرون به إذا خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لغزو وجهاد عدو، قبل هذه الآية بقوله:{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} فكان معلوما ذلك، إذ كان قد عرفهم فى الآية التى قبلها اللازم لهم من فرض النفر، والمباح لهم من تركه، فى حال غزو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وشخوصه عن مدينته لجهاد عدو، وأعلمهم أنه لا يسعهم التخلف خلافه إلا لعذر، بعد استنهاضه بعضهم وتخليفه بعضهم أن يكون عقب تعريفهم ذلك، تعريفهم الواجب عليهم عند مقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمدينته، وأشخاص غيره عنها،
كما كان الابتداء بتعريفهم الواجب عند شخوص وتخليفه بعضهم (1).
قال أبو جعفر:
وقال آخرون: هذه الآية نزلت في أهل الإسلام قلة، فلما كثروا نسخها اللَّه، وأباح التخلف لمن شاء، فقال {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} ثم قال أبو جعفر: حدثنى يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فى قوله:{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} فقرأ حتى بلغ {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قال: هذا حين كان الإسلام قليلا فلما كثر الإسلام بعد، قال:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} الى آخر الآية (2).
(1) تفسير ابن جرير الطبرى (70/ 11).
قلت: ترجيح أبى جعفر بين هذه الأقوال المختلفة وجيه جدا لأن ذلك يؤدى الى الجمع بين الآيتين المتعارضتين ظاهرا وليس هناك تعارض فى الحقيقة وزد على ذلك: إن الطائفة النافرة: لها معاينة فى نصر اللَّه لأهل الإسلام وهذا من الواقع تفقه ومعرفة وإيمان، وتصديق، ويقين، والطائفة الجالسة مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لها فقهها الخاص، وعليها أن تبلغ ما تفقهت به من علم ووحى لغيرها من القادمين إليها، وهذا المعنى فى كلا الطائفتين ظاهر واضح بيّن، واللَّه تعالى أعلم.
(2)
تفسير ابن جرير الطبرى (65/ 11).
رجال هذا الاسناد كلهم ثقات، إلا ان القائل هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوى ضعيف، انظر التقريب (480/ 1) ولا يمكن أن يقاوم كلامه هذا كلام هؤلاء الأئمة الذين =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= سبق ذكرهم فى الاسناد الأول.
قال أبو جعفر (65/ 11) فى تفسيره: والصواب من القول فى ذلك عنده: هو أن اللَّه عنى بها الذين وصفهم بقوله {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} . . . الآية ثم قال جل ثناؤه: ما كان لأهل المدينة الذين تخلفوا عن رسول اللَّه، ولا لمن حولهم من الأعراب الذين قعدوا عن الجهاد معه أن يتخلفوا خلافه، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، وذلك أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان ندب فى غزوته تلك كل من أطاق النهوض محه، الى الشخوص إلا من أذن له، أو امره بالمقام بحده، فلم يكن لمن قدر على الشخوص التخلف، فندد جل ثناؤه من تخلف منهم، فأظهر نفاق من كان تخلفه منهم نفاقا، وعذر من كان تخلفه لعذر، وتاب على من كان تخلفه تفريطا، من غير شك ولا أرتياب فى أمر اللَّه إذا تاب من خطأ ما كان منه من الفعل.
فأما التخلف عنه فى حال استغنائه -فلم يكن محظورا، إذا لم يكن عن كراهته منه صلى الله عليه وسلم ذلك، وكذلك حكم المسلمين اليوم ازاء إمامهم فليس بفرض على جميعهم النهوض معه إلا فى حال حاجته إليهم لما لابد للإسلام وأهله من حضورهم، واجتماعهم، واستنهاضه إياهم، فيلزم حينئذ طاعته، وإذا كان ذلك معنى الآية.
فلم تكن احدى الآيتين اللتين ذكرنا ناسخة للأخرى، إذ لم تكن أحداهما نافية حكم الأخرى من كل وجوه، ولا جاء خبر يوجه الحجة بأن أحداهما ناسخة للأخرى.
قلت: كلام جيد، وتوجيه وجيه وتوفيق حسن انظر تفسير ابن كثير (268 - 271/ 4) مع البغوى. إذ يقول رحمه اللَّه تعالى: تحت قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} الخ التوبة: 122 هذا بيان من اللَّه تعالى، لما أراد من =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= نفير الاحباء مع الرسول صلى الله عليه وسلم فى غزوة تبوك، فإنه قد ذهب طائفة من السلف الى أنه كان يجب النفير على كل مسلم، إذا خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال تعالى:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} وقال: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ} الآية. قال فنسخ ذلك بهذه الآية، وقد يقال: إن هذا بيان لمراده تعالى من نفير الأحياء كلها، شرذمة من كل قبيلة لم يخرجوا كلهم، ليتفقه الخارجون مع الرسول بما ينزل عليه من الوحى، وينذروا قومهم، إذا رجعوا إليهم بما كان من أمر العدو فيجتمع لهم الأمران فى هذا التفسر المعين. وقال البغوى فى تفسيره (268/ 4) مع ابن كثير: قال ابن عباس: فى رواية الكلبى لما أنزل اللَّه عز وجل عيوب المنافقين الذين تخلفوا عنه فى غزوة تبوك، كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث السرايا فكان المسلمون ينفرون جميعا الى الغزو، ويتركون النبي صلى الله عليه وسلم وحده، فأنزل اللَّه عز وجل هذه الآية وهذا نفى بمعنى النهى.
قلت: لا عبرة برواية الكلبى لأنه متروك انظر ترجمته فى التقريب (163/ 2) إذ قال الحافظ: محمد بن السائب بن بشر، الكلبى، أبو النضر الكوفى، النسابة المفسر، متهم بالكذب ورمى بالرفض، من السادسة مات سنة 146 هـ ت فق انظر زاد المسير لابن الجوزى (516 - 517/ 3): ذكر ابن الجوزى أربعة أقوال فى نزول هذه الآية ثم قال: واختلف المفسرون فى المراد بهذا النفير على قولين: أحدهما: أنه النفير الى العدو، فالمعني: ما كان لهم أن ينفروا بأجمعهم، بل تنفر طائفة وتبقى طائفة مع النبي صلى الله عليه وسلم {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} يعنى فرقة القاعدين. فإذا رجعت السرايا، وقد نزل بعدهم قرآن، وتجدد أمر، اعلموهم به وأنذروهم به إذا رجعوا إليهم، وهذا المعني مروى عن ابن عباس رضي الله عنهما. والثاني: أنه النفير الى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، بل تنفر منهم طائفة ليتفقه هؤلاء الذين ينفرون، لينذروا قومهم المتخلفين، هذا قول الحسن، وهو أشبه بظاهر الآية.
قلت: إذن يظهر من هذين المعنيين أن لا نسخ بين الآيتين واللَّه تعالى أعلم.