الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حد العلم
ص- والعلم قيل: لايحد. فقال الإمام: لعسره.
ش- لما كان العلم مذكورا في تعريف أصول الفقه، أراد أن يبنيه ولما كان في بيانه بالحد خلاف ذكره. فمنهم من ذهب إلى أنه يحد وآخرون إلى خلافه، واختلفوا فقال إمام الحرمين؛ لا يحد لعسره، وقال الغزالي: إنه
يعسر تحديده على الوجه الحقيقي بعبارة محررة جامعة للجنس الذاتي، فأن أكثر المدركات الحسية مثل الروائح والطعوم مما يعسر حده لصعوبة الاطلاع على ذاتياتها المشتركة، والمختصة، وإذا كان حال المدركات كذلك، فما قولك في الادراكات، ولكن يمكننا أن نشرح معناه بتقسيم ومثال. هذا كلامه، وهو يدل على أنه أراد بتحديده التحديد بالحد الحقيقي، لا تعريفه مطلقا، فسقط ما قيل عليه: أن المثال والتقسيم أن افادا التمييزصلحا للتعريف الرسمي، وإلا لم يصلحا للتعريف.
وكذا قيل: تحديده عسر؛ لأنه فيه إضافة اشتبهت أنها من عوارضه أو من الذاتيات. لأن هذا الاشتباه أن منع لا يمنع إلا من التحديد بالحد الحقيقي لا مطلقا بل بالنسبة إلى من اشتبهت عليه.
ص- وقيل: لأنه ضروري من وجهين، أحدهما: أن غير العلم لا يعلم إلا بالعلم، فلو علم العلم بغيره كان دور، وأجيب: بأن توقف تصور غير العلم على
حصول العلم بغيره، لا على تصوره، فلا دور.
ش- قال الإمام فخر الدين الرازي: لا يمكن تحديده لكونه ضروريا (من وجهين:
أحدهما: أنه لو لم يكن ضروريا لامتنع تصوره، والثاني ظاهر الفساد فالمقدم مثله.
وبيان الملازمة: أنه لو لم يكن ضروريا) لكان كسبيا؛ إذ لا واسطة بينهما وحينئذ لا يعلم إلا بغيره، لا متناع كون الشيء معرفا لنفسه، وغير العلم لا يعلم إلا بالعلم، فيتوقف معرفة العلم على غيره ومعرفة غيره عليه فيلزم الدور، فيلزم امتناع تصوره.
قال المصنف: "وأجيب بأن توقف تصور غير العلم على حصول العلم بغيره، لا على تصوره، فلا دور".
وقيل في تقريره: توقف تصور غير العلم على حصول العلم بغيره لا على تصور العلم بغيره، وحصول نفس العلم لا يتوقف على العلم بغيره، بل تصور العلم يتوقف على العلم بغيره، فلا دور.
وأقول: ليس دليل الإمام، ولا الجواب عنه صحيحاً؛ أما الدليل فعدم صحته من وجهين:
أحدهما: أن الثاني ليس بفاسد؛ لأن العلم إذا كان متصوراً لا يخلو إما أن يكون نكته حقيقية، أو بوجه ما، والثاني: ليس ما نحن فيه، والأول عين النزاع.
والثاني: أن قوله: "غير العلم لا يعلم إلا بالعلم" مغالطة، ويتبين ذلك بمثال: الإنسان غير العلم لا محالة، ويعرف بقولنا: حيوان ناطق، وليس بشيء منهما علما، ولا صادقا عليه. لا يقال: ليس مراد الإمام من قوله: "لا يعلم" لا يعرف؛ لأنا نقول حينئذ (8 / ب) النزاع؛ إذا الكلام في تحديد العلم.
وأما الجواب "فعدم صحته من جهة اللفظ والمعنى"، أما الأولى: فلأن ما ذكره المصنف الغاز وتعمية، فأن المقصود بيان اختلاف جهة التوقف لدفع الدور، وذلك يحتاج إلى ذكر الجهتين، ولم يذكر إلا جهة واحدة حيث قال: "توقف تصور غير
العلم على حصول العلم بغيره، لا على تصوره" يريد بذلك أن غير العلم إذا علم بالعلم كان تصوره موقوفا على حصول العلم بغير العلم لاعلى تصور العلم، وذلك ليس بكاف حتى يقول: "والعلم إذا عرف بغيره كان تصوره موقوفا على تصور ذلك الغير لا حصوله ليعلم أن الموقوف عليه في إحدى الجهتين هو الحصول، وهوليس بالموقوف، بل غيره وهو التصور فيندفع الدور".
وأما الثانية: فلأن تصور غير العلم، هو حصول العلم بالغير، فيتوقف تصوره على حصوله توقف الشيء على نفسه وهو باطل، لا يقال تصور غير العلم أخص من حصوله توقف الشيء على نفسه وهو باطل، لا يقال تصور غير العلم أخص من حصول العلم بغيره، لأن العلم ينقسم إلى التصور والتصديق، ولا امتناع في توقف الخاص على العام؛ لأنا نقول: غير العلم أخص من حصول العلم لا من حصول العلم بالغير، لأن حصول العلم بالغير فيما نحن فيه لا يكون إلا تصورا، لأن الكلام في التحديد.
ص- الثاني أن كل أحد يعلم وجوده ضرورة. وأجيب بأنه لا يلزم من حصول أمر تصوره أو تقدم تصوره.
ش- الوجه الثاني من الدليل على ضرورة العلم، أن كل أحد يعلم وجوده ضرورة، وهو علم خاص. وإذا كان العلم الخاص ضروريا، فالعلم المطلق أولى أن يكون ضروريا.
والجواب: أن الضروري حصوله ولا نزاع في ذلك، وإنما هو في تصوره.
وقوله: "أو تقدم تصوره" اختلف الشارحون في توجيهه:
فقيل: ذكره لدفع أن يتوهم أن حصوله أن لم يستلزم تصوره حدا جاز أن يستلزم تقدم تصوره شرطاً.
وقيل: هو جواب عما يقال حصول العلم يستلزم تقدم تصوره؛ لأنه من الكيفيات النفسانية الحاصلة باختيار صاحبها فيكون حصول العلم مسبوقا بالاختيار المسبوق بالقصد المسبوق بتصور المقصود فيكون حصول العلم مسبوقا بتصوره فيلزم من حصول العلم تقدم تصوره.
وتقرير الجواب: أنه لا يلزم من حصول العلم تقدم تصوره.
قوله: "لأن حصوله مسبوق باختيار صاحبه" قلنا: ممنوع، بل حصوله بفضل الله فلم يكن مسبوقا بفضل صاحبه، فلم يلزم تقدم تصوره على حصوله.
وأقول: يجوز أن يكون "أو" بمعنى "بل" وإنما ذكره؛ لأن اللازم من الدليل تقدم تصور العلم المطلق فأنه استدل بالخاص على المطلق والمطلق مقدم لا محالة (9/أ) فاستدرك كلامه بإبطال ما لزم من الدليل.
ثم أقول: كل من الدليل والجواب فاسد، أما الدليل، فلأنه يقال: الضرورة المذكورة فيه إما أن تتعلق بالحصول أو بالتصور، فأن كان الأول فليس بمتصل بمحل النزاع، وأن كان الثاني فهو ممنوع بل هو مصادرة.
وأما الجواب: فلأن قوله لا يلزم من حصول أمر تصوره، إنما يتم إذا ثبت أن الضرورة للحصول لا لتصور العلم، وليس بثابت على أنه مشتمل على مستدرك وهو قوله:"أو تقدم تصوره" على بيان الشارحين، وأما على بياننا فهو قوله: " لا يلزم
من حصوله أمر تصوره"؛ لأن اللازم من الدليل تقدم التصور ودافعه قوله "أو تقدم تصوره".
ص- ثم نقول: لو كان ضروريا لكان بسيطا؛ إذ هو معناه، ويلزم أن يكون كل معنى علما.
ش- لما فرغ من إبطال الدليلين شرع في الاستدلال على امتناع كونه ضروريا فقال: لو كان العلم ضروريا لكان بسيطا، واللازم باطل فالملزوم مثله وبين الملازمة له إذ هو معناه؛ أي البسيط معنى الضروري أو بالعكس لأن الضروري ما لا يتوقف تصوره على تصور غيره، فيكون بسيطا.
وبين بطلأن اللازم بقوله: "ويلزم أن يكون كل معنى علما".
وتقريره: وليس ببسيط وإلا لكان كل معنى علما واللازم باطل فالملزوم مثله أما الملازمة فلأن العلم يصدق عليه المعنى فلو لم يكن كل معنى علما كان المعنى أعم من العلم. فيلزم تركب العلم من المعنى المشترك والمختص وقد فرض كونه بسيطا هذا خلف، وفيه بحث من وجهين:
الأول: أن تفسير الضروري بالبسيط تفسير بالتشهي. فسره بما يشتهي ليورد عليه ما يشتهي، فإن تفسير الضروري عندالجمهور هو: مالا يتوقف حصوله على طلب وفكر، والضروري بهذا المعنى يجوز أن يكون مركبا لجواز أن تكون أجزاؤه ضرورية فلا يحتاج إلى طلب وفكر وأن كان تصوره موقوفا على تصور أجزاءه الذى هو غيره.
والثاني: أنه على تقدير أن يكون العلم أخص من المعنى لا يلزم تركبه لجواز
أن يكون المعنى عرضا عاما للعلم.
ص- وأصح الحدود: صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض. فيدخل إدراك الحواس كالأشعري، وإلا زيد في الامور المعنوية.
ش- الذين يجوزون تحديد العلم ذكروا له حدودا يطول ذكرها وقال المصنف: " أصلح الحدود، صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض" بوجه.
وقالوا: الصفة ما تقوم بغيره، فيتناول العلم وغيره.
وقوله: "توجب تمييزا" يعني لمن قامت به. يخرج الصفات النفسانية التي لا توجب له ذلك كالحياة وما هو مشروط بها".
وقوله: "لا يحتمل النقيض بوجه" يخرج الظن والاعتقاد والوهم فأنها وأن كانت توجب له تمييزا لكنه يحتمل النقيض إما في الذهن أو في الخارج.
قوله: "فيدخل إدراك الحواس كالأشعري" يعني أن اقتصر على هذا (9/ب) المقدار المذكور في التعريف يدخل إدراك النفس المحسوسات بواسطة الحواس الظاهرة والباطنة في حد العلم كما هو مذهب أبى الحسن الأشعري: إن الإدراكات
نوع من العلم، وإلا زيد في الامور المعنوية، وهو المعنى بقول صاحب الإحكام "بين المعاني الكلية"، أي وأن لم يقتصر ويراد أن لا يدخل الادراكات في حد العلم زيد قوله:" في الأمور المعنوية"؛ فأن الإدراكات إنما تميز بين المحسوسات الجزئية. هذا ما ذكروا، وفيه نظر:
أما (الأول) فلأن هذا الحد إما للعلم بالمعنى الأعم المنقسم إلى التصور والتصديق فأن كان الأول فقيد "لايحتمل النقيض" غير صحيح؛ لأن الظنون والاعتقادات علم بهذا المعنى وهما يحتملأن النقيض والتصورات الساذجة، وهو حصول صورة الشيء من غير اعتبار كونه مطابقا أو غير مطابق. علم بهذا المعنى ولم يعتبر فيه عدم احتمال النقيض.
فأن قيل: قوله: "لايحتمل النقيض" أعم من أن لا يكون له نقيض فلا يحتمله لعدمه، وأن يكون له نقيض ولا يحتمله.
قلنا: حينئذ يلزم أن تكون البهائم كلها عالمية؛ فأن فيها صفة توجب لها تمييزا بين النار والماء مثلا، تهربن منها، وتنكثبن عليه عند العطش، ولا يحتمل
النقيض؛ لأن ذلك تصور لا نقيض له.
وأن كان الثاني، فلا نسلم اندراج إدراك الحواس تحت الحد.
وأما ثانيا: فلأن الكلام في جواز تحديد مطلق العلم، ومطلق العلم لا يحصل به للنفس المتصفة به التمييز بين حقائق المعاني الكلية، بل التمييز إنما يحصل بعلوم خاصة، وما حكى عن أبى الحسن الأشعري أن العلم الواحد يجوز أن يتعلق بمعلومات كثيرة غير مرضي؛ إذ كان العلم تابعا للمعلوم.
وأما ثالثا: فلأن الضمير في قوله: "لا يحتمل" أن كان راجعا إلى "تمييزا" فليس بصحيح؛ لأن نقيض التمييز بين الحقائق الكلية، وسلب التمييز بين الحقائق غير ممكن، وأن كان غير راجح إليه فليس في الكلام ما يصلح أن يكون مرجعا.
وأما رابعا: فلأن هذا الحد لا يدخل في علم الله - تعالى -؛ لأن صفاته - تعالى ليست عين ذاته ولا غيرها، فلا يمكن أن توجب تمييزا لمن اتصف بها. أما بالنظر إلى أنها ليست غيرها فلئلا يكون فاعلا وقائلا.
وأما بالنظر إلى أنها ليست عينها فلئلا يلزم تأثرها عما ليس ذاته.
وأما بالنظر إلى الجهتين جميعا فلتضاعف المحدود.
وأما خامسا: فلأنه ليس له في القول الشارح ذكر أصلا.
ص- واعترض بالعلوم العادية فأنها تستلزم جواز النقيض عقلاً.
وأجيب بأن الجبل إذا علم بالعادة أنه حجر استحال أن يكون حينئذ ذهبا ضرورة، وهو المراد، ومعنى التجويز العقلي أنه لو قدر لم يلزم منه (10/ا) محال لنفسه، لأنه محتمل.
ش- اعترض على هذا الحد بعدم انعكاسه؛ لخروج العلوم العادية منه وبيانه: أن العلم لابد وأن يكون لموجب حس أو عقل أو برهان أوعادة والعادي لم يدخل فيه، لأنه يحتمل النقيض عقلا، فأن الجبل إذا علم بالعادة كونه حجرا، يجوز العقل وقوع نقيضه بأن لا يكون حجرا بل ينقلب ذهبا؛ إذ هو ممكن في نفسه، والممكن يجوز أن يقع بقدرة الفاعل المختار فيخرج عن الحد.
وأجاب المصنف: بأن الجبل إذا علم بالعادة أنه حجر استحال أن يكون حينئذ ذهبا ضرورة، وهو المراد، يعني أن المراد بقولنا:"لا يحتمل النقيض بوجه" أن العلم إذا تعلق بالجبل حال كونه جبلا وإلا يلزم اجتماع النقيضين، وهذا المعنى غير التجويز العقلي هو أنه لو قدر مقدر نقيض متعلق العلم لم يلزم من تقديره ذلك محال لنفسه، لأنه ممكن لذاته لا أنه عبارة عن الاحتمال، وهذا كما ترى يصرح بأن التجويز العقلي هو الإمكان الذاتي.
وعدم الاحتمال هو الامتناع لغيره، والممكن لذاته يجوز أن يكون ممتنعا بالغير عادة كان أو غيرها فلا يحتمل الوقوع لا في الخارج ولا عند الحاكم بتقديره في نفسه