الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسألتان في شكر المنعم
وفي الأشياء قبل ورود الشرع
ص-
مسألتان على التنزل:
الأولى شكر المنعم
ليس بواجب عقلا؛ لأنه لو وجب لوجب لفائدة وإلا لكان عبثا وهو قبيح، ولا فائدة لله -تعالى-، ولتعاليه عنها. ولا للعبد في الدنيا؛ لأنه مشقة، ولا حظ للنفس فيه، ولا في الآخرة، إذ لا مجال للعقل في ذلك.
قولهم: الفائدة: الأمن من احتمال العقاب في الترك وذلك لازم الخطور، مردود بمنع الخطور في الأكثر.
ولو سلم فمعارض باحتمال العقاب على الشكر؛ لأنه تصرف في ملك الغير. أو لأنه كالاستهزاء. كمن شكر ملكا على لقمة، بل اللقمة بالنسبة إلى الملك أكثر.
الثانية: لا حكم فيما لا يقضي العقل فيه بحسن أو قبح.
وثالثهما: لهم الوقف [عن] الحظر والإباحة.
وأما غيرها فانقسم عندهم إلى الخمسة. لأنها لو كانت محظورة وفرضنا ضدين لكلف بالمحال.
الأستاذ: إذا ملك جواد بحرا لا ينزف [وأحب] مملوكه قطره، فكيف يدرك تحريمها عقلًا؟
قالوا: تصرف في ملك الغير.
قلنا: يبتنى على السمع. [ولو سلم] ففيمن يلحقه ضرر [ما]. ولو سلم فمعارض بالضرر الناجز.
ش ــ اعلم أن بطلان قاعدة التحسين والتقبيح يستلزم بطلان كل فرع مرتب عليها، ولكن عامة الأشاعرة يفردون مسألة شكر المنعم عقلاً، ومسألة الحكم في الأشياء قبل ورود الشرع بالذكر في الإبطال لكثرة دورانهما في المباحث، وههنا التنزل عبارة عن تقدير صحة القاعدة مع استثناء بطلان الفرع المرتب عليها زيادة بيان لبطلانها، وتقديره أن يقال: سلمنا أن تلك القاعدة ثابتة، لكن هذا الفرع غير ثابت تلويحاً إلى أن الفرع الذي له مأخذ واحد إذا بطل دلّ على أن القاعدة غير ثابتة؛ لأنه علة إنيّة لثبوتها، لكنها سلمت من باب إرخاء العنان لتحصيل المقصود.
فأما مسألة شكر المنعم وهو عبارة عن استعمال جميع ما أنعم الله به على العبد من القوى الظاهرة والباطنة فيما خلقت له.
فقد استدل عليها بشرطية هي قوله: لو وجب، لوجب لفائدة، وإلا لكان عبثاً، وهو قبيح.
والفائدة هي: ما يكون الشيء به أحسن حالاً. وبيان الملازمة وبطلان التالي ظاهران فلا بد من فائدة إما للمشكور [53/أ] وهو باطل لتعاليه عنها، أو للشاكر في الدنيا وهو باطل؛ لأن في الشكر على التفسير المارّ مشقة عظيمة، ولا حظ للنفس
فيها. أو في العقبى وهو كذلك؛ إذ لا مجال للعقل في الجزم بحصولها فانتفى الفائدة، فلو وجب كان عبثاً وهو قبيح.
ولقائل أن يقول: لا مجال للعقل في ذلك مطلقاً، أو لعقولنا، والثاني مسلم ولا يدفع، والأول ممنوع؛ لجواز أن يكون لبعض العقول في ذلك مجال كعقول الأنبياء ــ عليهم السلام ــ، وأن يقول: العبث ما لا فائدة فيه، فكان معنى كلامه: لوجب لفائدة وإلا كان بلا فائدة، وهو ليس بصحيح.
وقوله: {{وقولهم} } مبتدأ، وقوله:{{مردود} } خبره، وهو جواب إيراد المعتزلة.
وتقريره: لا نسلم عدم جواز أن يكون الشكر للشاكر لفائدة في الدنيا.
قوله: {{لأنه لا حظ للنفس فيها} }.
قلنا: ممنوع؛ فإن الأمن من احتمال العقاب على ترك الشكر الذي يلزم أن يخطر على بال العاقل فائدة.
وجوابه بالرد وهو أن يقال: لا نسلم أن هذا الاحتمال لازم الخطور بالبال ولئن سلّم خطوره، فمعارض باحتمال العقاب على الشكر بوجهين:
أحدهما: أن الشكر تصرف في ملك الغير بغير إذنه، فإن الشكر إنمت هو باستعمال القوى المذكورة التي هي كلها ملك الحق ــ تعالى وتقدس ــ والتصرف في ملك الغير بغير إذنه يحتمل العقاب عليه.
والثاني: أن الشكر على نعم الله كالاستهزاء به، كمن شكر ملكاً عظيماً على لقمة وصلت إليه من جهته، بل اللقمة بالنسبة إلى الملك أعظم قدراً من الدنيا كلها بالنسبة إلى الله ــ تعالى ــ فربما يكون الشكر حينئذٍ سبباً للعقاب فكان العقاب محتملاً.
ولقائل أن يقول: على الأول احتمال العقاب بترك الشكر، إما أن يكون واقعاً في نفس الأمر، أو لا. فإن كان الأول فالأمن منه من أجلّ الفوائد، وإن كان الثاني لزم أن تكون مواعدة الأنبياء بعد مجيئها على خلاف ما في الواقع وذلك باطل، بخلاف الشكر فإن الأنبياء لم يواعدوا عليه أصلاً.
لا يقال: الأنبياء لم يخبروا إلا بعد ورود الشرع، وليس الكلام فيه؛ لأن الاحتمال هو الامكان فلا يتحدد.
وأن يقول: التصرف في ملك الغير بغير إذنه لا يجوز مطلقاً، أو إذا تضرر به الغير. والأول ممنوع، والثاني مسلم، لكنه لا يتضرر، وسيجئ في كلامه.
وأن يقول: إن أريد بالإذن، إذن الشرع فهو عين النزاع، وإن أريد غيره، فلم لا يجوز أن يكون الاقتضاء العقلي إذناً.
وأن يقول: احتمال العقاب إنما يكون بارتكاب قبيح، والقبح إن كان شرعياً فخلاف المفروض، وإن كان عقلياً لزم مدعاهم.
وأما مسألة: الحكم على الأشياء قبل الشرع:
فمذهب الأشاعرة: أن الأفعال قبل الشرع لا حكم لها؛ ضرورة عدم
الشرع، وبطلان الحسن والقبح العقليين.
وأما المعتزلة فقالوا: الأفعال إما أن تكون اضطرارية كالتنفس ونحوه، أو لا، ولا بد من قطع الإباحة في الأول.
والثاني: إما أن يقضي العقل فيها بحسن وقبح، أو لا.
واختلفوا في الثاني على مذاهب ثلاثة:
الأول: الحظر، وهو مذهب معتزلة بغداد.
والثاني: الإباحة، وهو مذهب معتزلة البصرة.
والثالث: التوقف، لهم.
وأفاد بقوله: {{لهم} } أن هذا الاختلاف بين المعتزلة القائلين بوجود الحكم قبل الشرع، لا بين الأشاعرة كما تقدم. ونبه بقوله:{{ثالثها} } على أن ثمة مذهبين آخرين، وإذا كان الثالث التوقف يعلم أن أحد الأولين الحظر والآخر الإباحة.
والأول: أعني الذي يقضي العقل فيه بحسن أو قبح ــ ينقسم عندهم إلى الأقسام الخمسة؛ لأن قضاء العقل فيها إما بالحسن أو بالقبح والأول إما أن لا يترجح وجوده على تركه وهو المباح. أو يترجح وجوده. وحينئذٍ إما أن يذم تاركه وهو الواجب أو لا وهو المندوب.
والثاني: إما أن يذم فاعله وهو الحرام. أو لا وهو المكروه.
وأفاد أيضاً ــ بقوله: {{عندهم} } أن هذه الأقسام الخمسة تحققها قبل الشرع إنما هو على رأي المعتزلة.
واعلم أن المصنف لم يتعرض لإبطال مذهبهم في الأفعال الاضطرارية لأن نفي الإباحة عنها لا يشبه أوضاع الملّة الحنفية السهلة السمحة البيضاء. ولا لإبطال الأفعال الاختيارية التي يقضي العقل فيها بحسن أو قبح، اكتفاءً بما قيل في إبطال قاعدة الحسن والقبح وإنما تعرض للتي لم يقض بشيء منهما فبدأ بإبطال مذهب الحاظر بما تقريره: أنها لو كانت محظورة، أي محرمة قبل الشرع، وفرضنا ضدين كالحركة والسكون، لزم التكليف بالمحال، لامتناع خلو المحل عنها، والتالي باطل.
وفيه نظر؛ لأن التكليف لا يكون إلا بالعقل أو الشرع، والفرض عدمهما فكان غلطاً صرفاً. ولأن مثل تلك الصورة تكون من الضروريات، وليس الكلام فيها.
والأستاذ أبو إسحاق رد مذهب هذه الطائفة بتمثيل إقناعي قال: إذا ملك جواد بحراً لا ينزف، أي لا ينفد ماؤه، وأحب مملوكه قطرة منه. فكيف يدرك تحريمه عقلاً؟ يعني أنه لا يتصور منع الجواد مملوكه عن تلك القطرة. فكذلك الباري ــ تقدس ذاته ــ المالك المطلق لا يمنع مملوكه من الاستلذاذ بنعمه.
ولقائل أن يقول: هذه خطابة لم تفد شيئاً؛ لأن الحكم بالعدم إما أن يكون بالعقل أو بالشرع، والفرض عدمهما.
والقائلون بالحظر قالوا: مباشرة الأفعال المذكورة تصرف في ملك الغير بغير إذنه، وهو حرام كما في الشاهد، وهذا كلام باطل، لِمَا مَرّ أن الفرض عدم محرم شرعي وعقلي.
وأجاب المصنف بأن كون التصرف حراماً في ملك الغير بغير إذنه لا يكون إلا
بالشرع ولا شرع.
ولئن سلم أنه ليس بالشرع بل بالعقل ولكنه [54/أ] حرام إذا تضرر الغير به، وأما إذا لم يتضرر كالاستضلال بجدار الغير والاقتباس بناره فلا. ولئن سلم حرمته مطلقاً، لجواز أن يتضرر المتصرف به آجلاً، لكنه معارض بالضرر الناجز، أي الحاضر؛ فإن الترك يوجب الضرر في الحال، ودفعه واجب. وهذا كله باطل؛ لِمَا مَرّ من عدم الحاكم.
ص ــ وإن أراد المبيح أن لا حرج، فمسلم. وإن أراد خطاب الشارع فلا شرع. وإن أراد حكم العقل بالتخيير فالفرض أنه لا مجال للعقل فيه.
قالوا: خلقه وخلق المنتفع به، فالحكمة تقتضي الإباحة.
قلنا: إنه معارض بأنه ملك غيره وخلقه ليصبر فيثاب. وإن أراد الواقف أنه وقف لتعارض الأدلة ففاسد.
ش ــ هذا إبطال مذهب القائل بالإباحة.
وتقريره: المبيح إن أراد بكونه مباحاً أن لا حرج في الفعل والترك فهو مسلم لعدم الحاكم بالحرج، وإن أراد بالإباحة خطاب الشارع وهو الإذن الشرعي في الفعل مع نفي الحرج فلا إباحة قبل الشرع، وإن أراد بالإباحة حكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك، فلا إباحة؛ إذ الكلام في الأفعال التي ليس للعقل فيها مدخل.
وفيه نظر؛ لجواز أن يلتزم الخصم الوجه الأول، وحينئذٍ يكون الإبطال باطلاً.
وقال القائلون بالإباحة: خلق ما ينتفع به، وخلق من ينتفع به وذلك لا يخلو
عن حكمة وإلا كان عبثاً، والحكمة منه حصول الفائدة وهي لا تكون للخالق لتعاليه عنها فتعين المنتفع به لها بالالتذاذ أو الاجتناب، أو الاستدلال على الصانع، وكل ذلك بالتناول فكان مباحاً وفيه نظر؛ لأنه مبني على نفي العبث وقد عرفت ما فيه.
وقوله: وكل ذلك بالتناول. ليس بصحيح؛ لأن الاستدلال قد يكون من جهة الباصرة لا من جهة الذائقة.
وأجاب المصنف بمعارضة ومناقضة:
أما المعارضة: فبأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه فيحرم وفيه نظر، أما أولاً: فلأنه أبطله حين استدل به القائل بالحظر. وأما ثانياً: فلأن الحاكم بالحرمة غير موجود.
وأما المناقضة: فهي أنا نمنع عدم الانتفاع بدون التناول، لجواز أن يكون خلقه ليصبر المكلف على ترك التناول فيثاب على الصبر. وفيه نظر؛ لأن الحاكم بهذا الجواز إما العقل أو الشرع، والفرض خلافهما.
وقوله: {{وإن أراد الواقف} } بيان إبطال مذهب الواقف.
وتقريره: الواقف عن الحكم بالحظر والإباحة، إن وقف لتعارض أدلة الحظر والإباحة ففاسد؛ لأن التعارض إنما يكون بين موجودين وقد بينا بطلانهما. وإن وقف لأن الحكم بهما موقوف على الشرع، والمفروض خلافه كان حقاً وفيه نظر؛ لأن الوقف لذلك مناقض لمذهبهم، فكيف يقف به؟ على أن القسمة غير حاصرة، لجواز أن يقف باعتبار أن [54/ب] المُحَسّن إننا هو العقل، والفرض في أفعال لا تدخل تحت حكمه فلا بد من الوقف.
ص ــ الحكم.
قيل: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين. فورد مثل: {والله خلقكم وما تعملون} فزيد بالاقتضاء أو التخيير. فورد كون الشيء دليلاً وسبباً وشرطاً. فزيد أو الوضع، فاستقام.
وقيل: بل هو راجع إلى الاقتضاء أو التخيير.
وقيل: ليس بحكم.
ش ــ هذا هو الأصل الثاني، وذكر فيه مقدمة. وثلاث عشرة مسألة المقدمة في تعريف الحكم وأقسامه.
قيل في تعريفه: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين.
والخطاب: توجيهه ما أفاد نحو الحاضر أو من في حكمه. وأريد به ههنا ما توجه نحو المستمع، أو من في حكمه.
فالخطاب: كالجنس، يتناول المحدود وغيره، كخطاب الملك، والبشر. وبإضافته إلى الله خرج خطاب غيره.
وقوله: {{المتعلق بأفعال المكلفين} } يخرج مثل قوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّالقَيُّومُ} فإنه خطاب الله، لكنه لم يتعلق بأفعال المكلفين.
واعترض: بأنه غير مطرد، فإن مثل قوله:{وَاللَّهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُونَ (96)} ليس بحكم، والحد صادق عليه، فزيد عليه {{بالاقتضاء أو التخيير} } فاطرد إذ ليس في البعض طلب أو تخيير. فانتفض العكس بالزيادة؛ لأن كون الشيء دليلاً، كدلوك الشمس للصلاة، وسبباً كالزنى لوجوب الحد، أو شرطاً كالوضوء للصلاة أحكام، والحد ليس بصادق عليها؛ إذ ليس طلب ولا تخيير. فيفرق الأصوليون حينئذٍ، فمنهم من التزم الاختلال فزاد على التعريف {{أو الوضع} } فاستقام التعريف طرداً وعكساً. فإن الله ــ تعالى ــ لما جعل الدلوك دليلاً على وجوب الصلاة، والزنا سبباً لوجوب الحد، والوضوء شرطاً لصحة الصلاة، كان ذلك كله بوضع الله ــ تعالى ــ فيدخل بسبب كونه وضعاً تحت الحكم.
ومنهم من منع الاختلال، وقال: لا حاجة إلى هذا القيد.
واختلفوا فمنهم من قال: إن ما هو من باب الوضع أحكام راجعة إلى الاقتضاء أو التخيير؛ لأن كون الدلوك دليلاً راجع إلى الوجوب، وهو من الاقتضاء. وكذا كون الزنا سبباً للحد، وكون الوضوء شرطاً لصحة الصلاة راجع إلى الإباحة وهو التخيير.
ومنهم من قال: إلى أن ما هو من باب الوضع ليست بأحكام بل علامات لها؛ لأن المعنى من كون الدلوك دليلاً على وجوب الصلاة، أن وجوبها يظهر عنده، وكذا سببية الزنا، وشرطية الوضوء.
وإذا لم تكن أحكاماً لا يصح قيده بالوضع، لئلا يدخل في الحد ما ليس من المحدود.
وخلله كثير فمنه: أنه ذكر الخطاب وأراد به ما وقع به الخطاب وهو مجاز.
ومنه: أن المراد بالمكلفين إن كان الحقيقة دار، وإن كان المجاز اختل.
ومنه: أن الحكم إما أن يكون قديماً أو حادثاً، ولا سبيل إلى الأول؛ لأن فعل العبد يوصف به، ووصف الحادث، حادث بالضرورة.
ولا إلى الثاني؛ لأنه عرف بخطاب الله، وهو قديم لا محالة.
ولم أورد شيئاً مما اعترض به في الشروح؛ فإنه كثير لا يحتمل ذكره هذا المختصر.
ص ــ وقيل: الحكم، خطاب الشارع بفائدة شرعية تختص به، أي لا تفهم إلا منه؛ لأنه إنشاء فلا خارج له.
ش ــ هذا تعريف آخر للحكم لبعض الأصوليين، واختاره منا صاحب البديع.
فقوله: {{خطاب} } كالجنس، وبإضافته إلى الشارع خرج خطاب غيره.
والفائدة ما يكون الشيء به أحسن حالاً، وخرج باتصافها بالشرعية الخطاب الذي يفيد فائدة عقلية أو حسية، كالإخبار عن المعقولات والمحسوسات.
وبقوله: {{تختص به} }، أي تختص الفائدة بخطاب الشارع، خرج أخبار الشارع عن المغيبات، مثل قوله ــ تعالى ــ:{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2)} ؛ لأن المراد بالاختصاص هو أن لا تفهم تلك الفائدة الشرعية إلا من ذلك الخطاب. والإخبار الشرعي وإن كان خطاباً بفائدة شرعية، لكن تفهم تلك الفائدة من غير ذلك الخطاب. وهذا لأن الحكم إنشاء ليس لنسبته خارج يعرف منه نسبته الذهنية فلا يعلم إلا من نفس الخطاب بخلاف الإخبار فإن لنسبته الذهنية خارجاً يطابقه أو لا يطابقه، فيمكن معرفتها منه، ولهذا كان محتملاً للصدق والكذب باعتبار تطابق النسبتين ــ أعني الذهنية والخارجية ــ وعدمه.
والنظر الأول في التعريف المتقدم، والثالث اثنان ههنا.
وآخر: أخذ الشارع والشرعية في تعريف الحكم الشرعي.
وآخر: أن الفائدة تقتضي مستفيداً البتة، والشارع متعالٍ عنها فكان المخاطب.
ويكون تقدير كلامه: الحكم: خطاب الشارع بأمر يكون المخاطب أحسن حالاً به. فلا يكون متناولاً للإباحة.
وآخر: أنه استدل على التعريف بقوله: لأنه إنشاء، وقد تقدم الكلام على فساده.
بدأ يقسم الحكم الشرعي
إلى واجب ومندوب، وحرام وكراهة وإباحة
ص ــ فإن كان طلباً لفعل غير كفٍ، ينتهض تركه في جميع وقته، سبباً للعقاب فوجوب.
وإن انتهض فعله خاصة للثواب فندب.
وإن كان طلباً للكف عن فعل ينتهض فعله سبباً للعقاب فتحريم ومن يسقط {{غير كف} } في الوجوب يقول: {{طلباً لنفي فعل} } في التحريم.
وإن انتهض الكف خاصة للثواب فكراهة.
وإن كان تخييراً فإباحة. وإلا فوضعي. وفي تسمية الكلام في الأزل خطاباً، خلاف.
ش ــ هذا بيان أقسام الحكم.
وتقريره: الحكم الشرعي إن كان طلباً لفعل غير كف ينتهض ترك ذلك الفعل في جميع وقته سبباً للعقاب، فهو الوجوب.
وخرج بقوله: {{طلباً} } التخيير والوضع، وبقوله:{{غير كف} } الحرمة والكراهة فإنها طلب فعل كف عند من يقول إن الكف فعل.
وبقوله: {{ينتهض تركه سبباً [55/ب] للعقاب، أي [يصير تركه سبباً لاستحقاق العقاب، يخرج عنه الندب].
وقوله: {{في جميع وقته} } لئلا تخرج الصلاة في أول الوقت فإن تركها فيه لا ينتهض سبباً للعقاب بل في جميع وقتها. وإن كان طلباً لفعل غير كف ينتهض فعله خاصة سبباً لاستحقاق الثواب فندب.
وقوله: {{خاصة} } لبيان عدم ترتب شيء على تركه. وإن كان الحكم طلباً لكف عن فعل يكون فعله سبباً لاستحقاق العقاب فتحريم.
والأولى أن يقال: فحرمة، لتطابق قوله:{{وجوب، وندب} }.
وقوله: {{ومن يُسْقِط غير كف في الوجوب} } إشارة إلى قول من يقول الكف غير فعل، ويسقط {{غير كف} } في تعريف الوجوب؛ لأن ذكر الفعل يغني عنه، ويقول في تعريف التحريم: إنه طلب لنفي فعل يكون فعله سبباً للعقاب. وإن كان الحكم طلباً لكف انتهض ذلك الكف خاصة سبباً للثواب، فكراهة.
وقوله: {{خاصة} } لمثل ما تقدم. وإن كان الحكم تخيير المكلف بين الفعل والترك فإباحة. وإلا؛ أي وإن لم يكن الحكم طلباً ولا تخييراً فوضعي، وفيه بحث.
أما أولاً: فلأن الحكم خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع.
والمراد بالاقتضاء: الطلب، وبالتخيير: الإباحة لا محالة. وهو ينقسم إلى
خمسة أقسام، ومورد القسمة مشترك بالضرورة فيكون في كل من الوجوب والإباحة الاقتضاء والتخيير والوضع. وذلك باطل بالبديهة.
لا يقال: قوله: {{بالاقتضاء} } في تعريف الحكم فصل للوجوب. و {{التخيير} } فصل للإباحة، و {{الوضع} } للوضعي؛ لأنه حينئذٍ يلزم أن يكون الفصل داخلاً في طبيعة الجنس، وذلك باطل.
وأما ثانياً: فإنه ينقسم للواجبات المؤقتة دون غيرها.
وأما ثالثاً: فلأنه لم يتناول الوجوب [بالكفاية].
وقوله: {{وفي تسمية الكلام في الأزل خطاباً} } إشارة إلى اختلاف الأصوليين فيها، فإن منهم من ذهب إلى أن الخطاب هو ما قصد به إفهام المتهيء للفهم فسماه خطاباً؛ لأنه يقصد به الإفهام في الجملة.