المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ المسألة الثانية: في اعتبار قول المبتدع في الإجماع - الردود والنقود شرح مختصر ابن الحاجب - جـ ١

[البابرتي]

فهرس الكتاب

- ‌ المباديء

- ‌ فائدته:

- ‌ استمداده

- ‌ الدليل

- ‌النظر:

- ‌حد العلم

- ‌ الذكر الحكمي

- ‌تقسيم العلم

- ‌معرفة الحد وتقسيمه

- ‌مادة المركب:

- ‌الذاتي

- ‌تمام الماهية

- ‌ الجنس والنوع

- ‌العرضي

- ‌صورة الحد

- ‌ القضية

- ‌ الأمارات

- ‌وجه الدلالة في المقدمتين

- ‌الضروريات

- ‌صورة البرهان

- ‌ القياس الاقتراني

- ‌النقيضان:

- ‌العكس المستوي

- ‌ عكس النقيض

- ‌تقسيم المقدمتين إلى أربعة أشكال

- ‌ الشكل الأول

- ‌ الشكل الثاني

- ‌ الضروب المنتجة

- ‌ الشكل الثالث:

- ‌ الشكل الرابع

- ‌ قياس الخلف

- ‌ مبادئ اللغة

- ‌ اقسامها: مفرد ومركب

- ‌تقسيم المفرد إلى اسم وفعل وحرف

- ‌المركب

- ‌تقسيم آخر للمفرد

- ‌المشترك

- ‌ الترادف

- ‌ وقوعه

- ‌الحقيقة

- ‌المجاز

- ‌اللفظ قبل الاستعمال ليس بحقيقة ولا مجاز

- ‌ مسألة: إذا دار اللفظ بين المجاز والاشتراك

- ‌في وقوع الحقائق الشرعية

- ‌الإيمان والإسلام

- ‌القرآن المعرّب

- ‌المشتق

- ‌ مسألة: اشتراط بقاء المعنى في كون المشتق حقيقة

- ‌ الحروف

- ‌ الحرف لا يستقل بالمفهومية

- ‌الواو

- ‌ مسألة: الواو للجمع المطلق

- ‌ إبتداء الوضع

- ‌ليس بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية

- ‌التحسين والتقبيحومن هنا مبادئ الأحكام الشرعية

- ‌ دليل المعتزلة على أن الحسن والقبح ذاتيان

- ‌مسألتان في شكر المنعموفي الأشياء قبل ورود الشرع

- ‌ مسألتان على التنزل:

- ‌الأولى شكر المنعم

- ‌الوجوب

- ‌الواجب على الكفاية

- ‌ الواجب الموسع

- ‌ما لا يتم الواجب إلا به

- ‌أحكام الحرام

- ‌ مسألة: يستحيل كون الشيء واجباً حراماً من جهة واحدة

- ‌الصلاة في الدار المغصوبة

- ‌المندوب

- ‌المكروه

- ‌أحكام المباح

- ‌خطاب الوضع

- ‌الأول: الحكم على الوصف المعين بكونه سببا

- ‌الثالث: الحكم على الوصف بالشرطية

- ‌ الصحة والبطلان

- ‌الرخصة والعزيمة

- ‌المحكوم فيه الأفعال

- ‌شرط المطلوب: الإمكان

- ‌مساله: لا تكليف إلا بفعل

- ‌مساله: قال الأشعري: لا ينقطع التكليف بفعل حال حدوثه

- ‌المحكوم عليه: المكلف

- ‌الأدلة الشرعية

- ‌ الأدلة الشرعية: الكتاب والسنة والإجماع، والقياس، والاستدلال

- ‌ المحكم والمتشابه

- ‌ السنة وأفعاله ــ صلى الله عليه وسلم

- ‌ المسألة الثالثة: في التقرير

- ‌الإجماع

- ‌ تعريفه

- ‌ ثبوته

- ‌المبتدع

- ‌ المسألة الثانية: في اعتبار قول المبتدع في الإجماع

- ‌ الخبر

- ‌تعريف الخبر

- ‌تسمية غير الخبر إنشاءً وتنبيهاً

- ‌تقسيم الخبر إلى صدق وكذب

- ‌تقسيم الخبر إلى ما يعلم صدقه وإلى ما يعلم كذبه

- ‌ الشرائط المختلف فيها في المخبرين

- ‌خبر الواحد

- ‌شرائط الراوي أربعة

- ‌الأول: البلوغ

- ‌ الثاني: الإسلام

- ‌ الرابع: العدالة

- ‌ الكبائر

- ‌رواية مجهول الحال

- ‌هل العمل بالشهادة والرواية يكون تعديلاً

- ‌ مسألة حكم الحاكم المشترط العدالة بالشهادة تعديل باتفاق

- ‌ إذا قال: أُمِرنا أو نُهِيّنَا أو أوجب، أو حرّم

- ‌ مسألة: إذا قال: من السنة كذا

- ‌ مسألة: إذا قال: كنا نفعل، أو كانوا

- ‌ قراءة الشيخ على الراوي

- ‌ قراءة غير الراوي على الشيخ

- ‌ إذا كذب الأصل الفرع، سقط القبول

- ‌ إذا انفرد العدل بزيادة والمجلس واحد

- ‌ مسألة: [خبر] الواحد في الحد

- ‌حمل الصحابي ما رواه على أحد محمليه

- ‌الخبر المخالف للقياس

- ‌ المنقطع

الفصل: ‌ المسألة الثانية: في اعتبار قول المبتدع في الإجماع

‌المبتدع

ص ــ مسألة: المبتدع بما تضمن كفراً، كالكافر عند المكفر وإلا فكغيره.

وبغيره، ثالثها يعتبر في حق نفسه فقط.

لنا أن الأدلة لا تنتهض دونه.

قالوا: فاسق، فيرد قوله كالكافر والصبي.

وأجيب: بأن الكافر ليس من الأمة، والصبي لقصوره، ولو سُلّم فيقبل على نفسه.

ش ــ‌

‌ المسألة الثانية: في اعتبار قول المبتدع في الإجماع

، وهو المخطئ من أهل القبلة في الأصول. وهو لا يخلو من أن يكون مبتدعاً بما يوجب الكفر بصريحه، كغلاة الروافض والمجسمة، أو لا. فإن كان الأول فلا نزاع في عدم

ص: 536

اعتبار خلافه ووفاقه؛ لأنه كافر، والإجماع كرامة لهذه الأمة خاصة.

وإن كان الثاني، فإن كان مبتدعاً بما تضمن كفراً، أي بما يوجبه لا بصريحه، وهو المخطئ في الأصول بتأويل ففيه الخلاف مَنْ كَفَّرَهُ لم يعتبر كالكافر الأصلي ومَنْ لم يُكَفِّرْهُ جعله كمجتهد مبتدع بغير ما تضمن كفراً، بل بفسق.

وإن كان مبتدعاً بغير ما يتضمن كفراً ففيه ثلاثة مذاهب:

الأول: الاعتبار مطلقاً، لا ينعقد الإجماع بمخالفته، ومال إليه المصنف.

والثاني: انه لا يعتبر مطلقاً؛ لأنه فاسق.

والثالث: أنه تعتبر موافقته في حق نفسه دون غيره، على معنى أنه يجوز له مخالفة الإجماع الذي انعقد بدونه، ولا يجوز لغيره واحتج المصنف على مختاره بما تقريره: أن الأدلة الدالة على الإجماع شاملة له، لكونه من المجتهدين فلا ينعقد بدونه.

ص: 537

وفيه نظر؛ لأن الأدلة هي المقتضية، لكن قيام المقتضي لا يكفي لاتحاد الحكم ما لم ينتف المانع ولم ينتف وهو الفسق المخرج له عن كونه وسطاً، أي عدلاً.

وقال ــ تعالى ــ {وَكَذَلِكَ جَعَلنَاكُمأُمَّةوَسَطالِّتَكُونُواشُهَدَاءَعَلَى النَّاسِ} . ولم تصر الأمة أهلاً للإجماع إلا بصفة العدالة.

وقال المانعون مطلقاً: إنه فاسق فَيُرَدُّ قوله، كالكافر والصبي لاشتراكهم في عدم التحرز عن الكذب.

وأجاب المصنف: بالفرق، بأن الكافر يرد قوله، لأنه ليس من الأمة بخلاف الفاسق؛ فإنه لا يخرج عن الأمة، والصبي يرد؛ لأنه ليس من أهل الاجتهاد بخلاف الفاسق فإن الفرض أنه منهم.

ولو سُلّمَ منع قوله في حق الغير للتهمة، لكنه لا تهمة بالنسبة إلى نفسه فيما اجتهدوا على ما هو له ولم يوافقهم فيقبل.

ولقائل أن يقول: عدم خروجه عن الأمة لا يستلزم، [قبول] قوله؛ إذ ليس كل من هو من الأمة من أهل الإجماع، وإن الفرق غير مرضي عند المحققين، وقد مرّ غير مرة.

وأنه إذا لم يكن من أهل الإجماع صار نفسه وغيره سواء.

ص ــ مسألة: لا يختص الإجماع بالصحابة.

وعن أحمد قولان:

لنا: الأدلة السمعية.

قالوا: إجماع الصحابة قبل مجيء التابعين وغيرهم. على أن ما لا قطع فيه سائغ فيه الاجتهاد. فلو اعتبر غيرهم خولف إجماعهم، وتعارض الإجماعان.

ص: 538

وأجيب: بأنه لازم في الصحابة قبل تحقق إجماعهم، فوجب أن يكون ذلك مشروطاً بعد الإجماع.

قالوا: لو اعتبر، لاعتبر مع مخالفة بعض الصحابة.

وأجيب: بفقد الإجماع مع تقدم المخالفة عند معتبرها.

ش ــ المسألة الثالثة: في أن الإجماع لا يختص بالصحابة ــ رضي الله عنهم ــ وهو مذهب المحققين، بل ينعقد إجماع مجتهدي كل عصر.

وذهب أهل الظاهر إلى اختصاصه بهم.

ونقل عن أحمد ــ رحمه الله ــ قولان:

أحدهما: كما ذهب إليه المحققون.

والثاني: كما ذهب إليه الظاهريون.

دليل المحققين: أن الأدلة السمعية الدلة على الإجماع عامة في مجتهدي كل عصر، فلا وجه لاختصاصها بالصحابة.

ولقائل أن يقول: الأدلة السمعية المذكورة في هذا الكتاب زيفها المصنف سوى قوله ــ عليه السلام ــ: {{لا تجتمع أمتي على الضلالة} } وقد عرفت ما فيه.

ودليل أهل الظاهر: أن الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ قبل مجيء التابعين وغيرهم

ص: 539

من الأئمة المجتهدين، أجمعوا على ما لا قطع فيه، أي كل مسألة فيها دليل قاطع يجوز فيه الاجتهاد.

ولو كان إجماع غيرهم صحيحاً لزم مخالفة إجماع الصحابة، وتعارض الإجماعين، واللازم باطل بالإجماع فالملزوم كذلك.

وبيان الملازمة: أن التابعين لو أجمعوا على مسألة اجتهادية لما جاز الاجتهاد فيها بعد إجماعهم، فيلزم مخالفة إجماع الصحابة لأن إجماعهم على الاجتهاد في كل مسألة اجتهادية جائز، ويلزم تعارض الإجماعين، أحدهما إجماع الصحابة على جواز الاجتهاد فيها، والآخر إجماع غيرهم على أنه لا يجوز الاجتهاد فيها.

وأجيب: بأن لذلك لازم في إجماع الصحابة ــ أيضاً؛ لأنهم قبل الإجماع على الحكم أجمعوا على جواز الإجتهاد فيه، وبعد إجماعهم لا يجوز الاجتهاد فيه، فلزم مخالفة إجماعهم، وتعارض إجماعهم وإذا كان كذلك كان الخلاص بأن يقال: إجماعهم على جواز الاجتهاد فيما لا قاطع فيه مشروط بعد الإجماع بعده، وإذا أجمع التابعون بعده زال شرطهم إجماعهم الأول، فيزول الإجماع الأول، فلا يلزم المخالفة، ولا تعارض الإجماعين.

ولقائل أن يقول: لا نسلم لزوم ذلك في إجماع الصحابة؛ لأنهم أجمعوا على جواز الاجتهاد فيما لا قاطع فيه، وإذا أجمعوا على الحكم وجد القاطع فيه فانتفى شرط جواز الاجتهاد فيه، فلا يلزم المخالفة ولا تعارض الإجماعين.

لا يقال: المراد بالقاطع النص القاطع؛ لأن قطعية دلالة النص غير قطعية كما تقدم.

وقالوا ــ أيضاً ــ لو اعتبر إجماع غير الصحابة، لاعتبر مع مخالفة الصحابة، يعني إذا كان في المسألة خلاف بين الصحابة، ثم أجمع التابعون، وجب أن ينعقد الإجماع؛ لأنه كما انعقد إجماعهم مع عدم قول الصحابة فيها فلأن ينعقد معه أولى.

ص: 540

وأجاب بأن من شرط في الإجماع عدم خلاف سابق يمنع الملازمة بأنه إنما لم ينعقد مع مخالفة الصحابة؛ لأن شرطه عدم الخلاف، ولم يوجد.

وأجاب من يشترط ذلك: بمنع بطلان التالي، فإن عنده ينعقد الإجماع.

ولقائل أن يقول لو لم يعتبر إجماع غير الصحابة، لم يعتبر إجماعهم واللازم باطل بالإجماع، فالملزوم كذلك.

بيان الملازمة: أن الإجماع صار حجة، كرامة لهذه الأمة، وإدامة للحجة، وذلك مشترك بينهما؛ إذ الأمة ليست مقولة بالتشكيك، فإن اعتبر فيهما، وإن لم يعتبر لم يعتبر فيهما.

فإن قال: صار حجة لذلك، لكن يشترط كونه صحابياً. منعناه؛ لانتفاء إدامة الحجة باشتراطه.

ص ــ مسألة: لو ندر المخالف مع كثرة المجمعين، كإجماع غير ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ على العول، وغير أبي موسى ــ رضي الله عنه ــ على أن النوم ينقض الوضوء لم يكن إجماعاً قطعياً؛ لأن الأدلة لا تتناوله.

والظاهر أنه حجة لبعد أن يكون الراجح متمسك المخالف.

ش ــ المسألة الرابعة: في أن خلاف الواحد كخلاف الأكثر في عدم [الانعقاد] عند أكثر الأصوليين.

وذلك كخلاف ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ في العول في

ص: 541

الفرائض لعامة الصحابة ــ رضي الله عنهم.

وكخلاف أبي موسى الأشعري ــ رضي الله عنه ــ في كون النوم ناقضاً

ص: 542

للوضوء. وخالفهم بعض المعتزلة، ومحمد بن جرير الطبري.

حجة الأكثرين: أن الأدلة الدالة على ثبوت الإجماع تفيد عموم المؤمنين فتخصيصه ببعض بلا ضرورة تحكم صرف.

ثم القائلون: بأنه ليس بإجماع اختلفوا في كونه حجة. فنفاه بعض وأثبته الآخرون، واختاره المصنف وقال: والظاهر أنه حجة؛ لأن أحد القولين لا بد وأن

ص: 543

يكون حقاً، ويبعد أن يكون قول الأقل؛ إذ الغالب أن متمسك الأكثر راجح، فتركه إلى غيره لا يجوز.

وفيه نظر؛ لأنه ليس بكتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا استدلال؛ لأن مختار المصنف في الاستدلال أنه ثلاثة أقسام تلازم بين حكمين من غير تعيين علة جامعة، واستصحاب وشرع من قبلنا. فكان اختياره لحجيته مخالفاً لاختياره ما ذكره في آخر الكتاب.

ص ــ مسألة: التابعي المجتهد معتبر مع الصحابة.

فإن نشأ بعد إجماعهم فعلى انقراض العصر.

لنا: ما تقدم.

واستدل: لو لم يعتبر، لم يسوغوا اجتهادهم معهم، كسعيد بن المسيب، وشريح، والحسن، ومسروق، وأبى وائل، والشعبي، وابن جبير، وغيرهم.

وعن أبي سلمة: تذاكرت مع ابن عباس وأبي هريرة في عدة الحامل للوفاة، فقال ابن عباس؛ أبعد الأجلين، وقلت أنا: بالوضع. فقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي.

وأجيب: بأنهم إنما سوَّغوه مع اختلافهم.

ش ــ المسألة الخامسة: في أن مخالفة التابعي المجتهد تمنع انعقاد

ص: 544

الإجماع، أو لا.

ذهب أكثر الأصوليين إلى اعتبار موافقته، واختاره المصنف وذهب طائفة إلى عدمه، بل ينعقد الإجماع مع مخالفته. وهذا إذا كان التابعي مجتهداً وقت إجماعهم. وأما إذا بلغ رتبة الاجتهاد بعد إجماع الصحابة، فمن شرط في الإجماع انقراض العصر اعتبر موافقته، ومن لم يشترطه لا يعتبرها.

وقال المصنف للمختار: لنا ما تقدم، يعني أن الدليل الدال على انعقاد الإجماع لا ينتهض دونه؛ لأن الصحابة بدونه بعض المؤمنين، والإجماع بالجميع.

واستدل للمختار بدليل ضعيف، وهو أن الصحابة سوّغوا اجتهادهم معهم، ولو لم يعتبروا موافقتهم لما سوَّغوا؛ لأن غير المعتبر لا يصح تجويزه، فضلاً عن الرجوع إليه. وقد صح رجوع الصحابة إلى التابعين، كسعيد بن المسيب

ص: 545

وشريح، والحسن البصري، ومسروق، والشعبي، وسعيد بن

ص: 546

جبير، فإن عليّاً وعمر وليا القضاء شريحاً، ولم يعترضا عليه فيما خالفهما فيه.

وحكم شريح على علي في خصومه له مع يهودي على خلاف رأي علي، ولم ينكر عليه.

وروى عن ابن عمر أنه سئل عن فريضة فقال: {{سلوا سعيد بن جبير فإنه

ص: 547

أعلم بها مني}}.

وسئل الحسن بن علي ــ رضي الله عنهما ــ عن مسألة فقال: {{سلوا الحسن البصري} }.

وسئل ابن عباس عن النذر بذبح الولد، فأشار إلى مسروق ثم أتاه السائل بجوابه فتابعه.

ص: 548

وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: {{تذاكرت مع ابن عباس وأبي هريرة ــ رضي الله عنهما ــ في عدة الحامل [90/ب] المتوفي عنها زوجها، فقال ابن عباس: أبعد الأجلين من وضع الحمل، وانقضاء أربعة أشهر وعشر، فقلت أنا: بالوضع، فقال أبو هريرة أنا مع ابن أخي} }. وسوغ ابن عباس لأبي سلمة أن يخالفه مع أبي هريرة، وهو تابعي. وأمثال ذلك كثيرة. ووجه ضعفه ما ذكره المصنف أن الصحابة اعتبروا اجتهادهم فيما اختلف فيه الصحابة، فإن الصور المنقولة إنما هي صور وقع الخلاف فيما بين الصحابة لا فيما انعقد عليه إجماعهم، ولا يلزم من اعتبار قولهم في صور الخلاف اعتباره في صورة الإجماع.

ولقائل أن يقول: اللازم أحد الشمولين إمّا شمول الاعتبار في [المجمع]

ص: 549

عليه والمختلف فيه، أو عدمه فيهما؛ لأن اعتبار قوله إمّا أن يكون لدليل أو لا. فإن كان الأول فاللازم شمول الاعتبار لا سيما وهو دافع لا رافع، وإن كان الثاني فاللازم شمول العدم؛ لأن اتباع الصحابة لغيرهم بغير دليل حرام.

ص ــ مسألة: إجماع المدينة من الصحابة والتابعين حجة عند مالك ــ رحمه الله ــ.

وقيل: محمول على أن روايتهم متقدمة.

وقيل: على المنقولات المستمرة، كالأذان والإقامة.

والصحيح: التعميم.

لنا: أن العادة تقضي بأن مثل هذا الجمع المنحصر من العلماء الأحقين بالاجتهاد لا يجمعون إلا عن راجح.

فإن قيل: يجوز أن يكون متمسك غيرهم أرجح، ولم يطلع عليه بعضهم.

قلنا: العادة تقضي باطلاع الأكثر، والأكثر كاف فيما تقدم.

ش ــ المسألة السادسة: في أن إجماع المدينة من الصحابة والتابعين حجة، أو لا.

فذهب الأكثرون إلى أنه لا يكون حجة.

ونقل عن مالك أنه حجة. واستبعد بعضهم هذا النقل عنه فأوّل كلامه بأنه محمول على أن روايتهم متقدمة على رواية غيرهم وآخرون قالوا: إنه محمول على أن إجماع أهل المدينة على المنقولات المستمرة، أي المكرر وقوعها، كالأذان والإقامة، حجة.

ص: 550

فإنهم لو أجمعوا على أن الإقامة فرادى كان حجة. ولو أجمعوا على ما لم يكن متكرراً، لم يكن حجة.

قال المصنف: والصحيح التعميم، يعني أن مذهب مالك أن إجماع أهل المدينة حجة سواء كان على المنقولات المستمرة أو غيرها.

واحتج لذلك: بأن العادة تقضي بأن مثل هذا الجمع من العلماء المنحصرين أي غير منتشرين في الآفاق، الأحقين بالاجتهاد بسبب مشاهدتهم التنزيل وسماعهم التأويل، وعرفانهم بأحوال الرسول، لا يجمعون على حكم من الأحكام إلا عن متمسك راجح، والمتمسك الراجح حجة لا محالة.

فإن قيل: يجوز أن يكون متمسك غيرهم أرجح ولم يطلع عليه بعض أهل المدينة.

ص: 551

أجيب: بأن العادة تقضي باطلاع الأكثر، واطلاع الأكثر كاف في حجية قولهم، وإن لم يكن كافياً في كونه إجماعاً قاطعاً، كما تقدم أن مخالفة النادر للأكثر لا يمنع أن يكون اتفاق الأكثر حجة.

ولقائل أن يقول: لا نسلم أن العادة تقضي بذلك، وأن كونه حجة غير صحيح. كما تقدم أنه ليس بكتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا استدلال، والحجج الشرعية منحصرة في ذلك.

ص ــ واستدل بنحو: {{إن المدينة طيبة تنفي خبثها} }. وهو بعيد.

وبتشبيه عملهم بروايتهم.

وردّ: بأنه تمثيل، لا دليل.

مع أن الرواية ترجح بالكثرة بخلاف الاجتهاد.

ش ــ واحتج بعضهم على مذهب مالك بوجهين آخرين:

أحدهما: قوله ــ صلى الله عليه وسلم ــ: {{إن المدينة طيبة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد} }.

و {{طيبة} } على وزن شيبة، اسم من أسماء المدينة.

ص: 552

ووجهه: أنه يدل على نفي الخبث، والخطأ خبث فيكون منفياً، وما ينتفى عنه الخطأ فهو حجة.

قال المصنف: وهو بعيد؛ إذ لا دلالة على أن قول أهله يكون حجة أصلاً.

الثاني: أن رواية أهل المدينة متقدمة، أي راجحة على رواية غيرهم فيكون عملهم كروايتهم، أي يكون اجتهادهم راجحاً على اجتهاد غيرهم قياساً عليها، فيكون إجماعهم حجة.

ورده المصنف: بأنه مجرد تمثيل خالٍ عن الوصف الجامع، فلا يكون دليلاً، على أن الفرق بين الرواية والاجتهاد ثابت، فإن الرواية ترجح بكثرة الرواة دون الاجتهاد.

وفيه نظر؛ فإن الفرق غير مسموع. كما تقدم غير مرة، ولا نسلم أن الرواية ترجح بكثرة الرواة، بل بالعدالة، والجامع مشاهدتهم للتنزيل وسماعهم التأويل، وعرفانهم بأحوال الرسول.

ص ــ مسألة: لا ينعقد الإجماع بأهل البيت وحدهم، خلافاً للشيعة، ولا بالأئمة الأربعة عند الأكثرين خلافاً لأحمد. ولا بأبي بكر وعمر عند الأكثرين.

قالوا: {{عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي} }.

{{اقتدوا باللذين من بعدي} }.

قلنا: يدل على أهلية اتباع المقلد.

ومعارض بمثل {{أصحابي كالنجوم} } و {{خذوا شطر دينكم عن الحميراء} }.

ش ــ المسألة السابعة: في أن الإجماع هل ينعقد بأهل البيت علي والحسن

ص: 553

والحسين وفاطمة ــ رضي الله عنهم ــ، أو لا.

جوزه الشيعة ونفاه الأكثرون.

ص: 554

احتجت الشيعة بالكتاب قول الله ـتعالاـ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَعَنكُمُالرِّجسَ أَهلَالبَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيرا (33)} والخطأ رجس فيطهر أهل البيت عنه، وإذا كان كذلك كان إجماعهم حجة.

وبالسنة قوله ــ صلى الله عليه وسلم ــ: {{إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي} }.

وأجيب عن الأول: بأن المراد بأهل البيت أزواجه ــ صلى الله عليه وسلم ــ لأن سياق الآية وسياقها فيهم.

وعن الثاني: بأنه من الآحاد، فلا يفيد القطع، والمسألة قطعية.

سلمناه، ولكن لا دلالة له على أن قول العترة وحدها حجة.

ومن الناس من ذهب إلى أن الإجماع ينعقد بالأئمة الأربعة: أبي بكر وعمر

ص: 555

وعثمان وعلي ــ رضي الله عنهم ــ، وهو رواية أحمد، ونفاه الأكثرون.

ومنهم من ذهب إلى أنه ينعقد بقول الشيخين أبي بكر وعمر ــ رضي الله عنهما ــ ونفاه الأكثرون.

استدل الأولون بقوله ــ صلى الله عليه وسلم ــ: {{عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي} } فإنه يدل على وجوب اتباعهم سنتهم، كوجوب اتباع النبي في سنته؛ لأن كلمة {{على} } للوجوب.

ص: 556

واستدل الآخرون بقوله ــ عليه السلام ــ: {{اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر} }.

والجواب عنهما جميعاً: أن الحديثين لا يدلان إلا على أن للأئمة الأربعة وللشيخين أهلية أن يتبعهم المقلدون لا على أن إجماعهم حجة.

وفيه نظر؛ فإن ظاهر الحديثين يدل على وجوب الاقتداء بهم، ومن لم يكن قوله حجة لا يجب الاقتداء به.

وأيضاً: الحديثان معارضان بمثل قوله ــ صلى الله عليه وسلم ــ: {{أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم} } و {{خذوا شطر دينكم عن الحميراء} }. مع أن قول كل واحد من الصحابة

ص: 557

وقولها ليس بحجة.

وفيه نظر؛ فإن الحديث الأول ليس فيه ما يدل على وجوب الاقتداء حتى يستلزم حجية قول كل واحد منهم، غاية ما في الباب أن يدل على جواز الاقتداء، وذلك لا يستلزم أن يكون قوله حجة موجبة.

والحديث الثاني: فيه ما يدل على أن المراد به المسموعات؛ فإن شطر الدين يستبعد أن يثبت بقولها وحدها، فيكون المراد به الرجوع إليها في الرواية.

ص ــ مسألة: لا يشترط عدد التواتر عند الأكثرين.

لنا: دليل السمع.

فلو لم يبق إلا واحد ــ فقيل: حجة؛ لمضمون السمعي.

وقيل: لا؛ لمعني الاجتماع.

ش ــ المسألة الثامنة: في أن بلوغ أهل الإجماع حد التواتر شرط، أو لا.

فمن جوّز الإجماع بالعقل واستحالة الخطأ بحكم العادة، لزمه الاشتراط.

ومن جوزّه بالسمع، لم يشترطه. فلو فرض أنه لم يبق من أهله إلا واحد.

ص: 558

فقيل: حجة، بمضمون السمعي، فإن قوله ــ تعالى ــ:{وَيَتَّبِع غَيرَسَبِيلِ المُؤمِنِينَ} وقوله ــ صلى الله عليه وسلم ــ {{لا تجتمع أمتي على الخطأ} } عام يتناول عدد التواتر دونه، ولم يظهر مخصص فيجري على عمومه، والأمة قد تطلق على الواحد كما في قوله ــ تعالى ــ:{إِنَّ إِبرَاهِيمَكَانَأُمَّةً} .

وقيل: لا يكون حجة؛ لأن الإجماع إنما يتصوّر عند الاجتماع، وأقل ما يقع فيه اثنان، وفي كلام المصنف نظر؛ لأنه قال: لنا دليل السمع وهو ممن استدل على الإجماع بوجهين عقليين، كما تقدم في أوّل الإجماع واستحسن استدلال الغزالي في وجه، وقد عرفت ما فيه.

ص ــ مسألة: إذا أفتى واحد وعرفوا به، ولم ينكره أحد قبل استقرار المذاهب، فإجماع أو حجة.

وعن الشافعي: ليس بإجماع ولا حجة. وعنه خلافه.

وقال الجبّائي: إجماع بشرط انقراض العصر.

ابن أبي هريرة: إن كان فتياً، لا حكماً.

لنا: سكوتهم ظاهر في موافقتهم، فكان كقولهم الظاهر، فينهض دليل السمع.

ص: 559

المخالف يحتمل أنه لم يجتهد، أو وقف، أو خالف فترَوَّى، أو وقّر، أو هاب. فلا إجماع ولا حجة.

قلنا: خلاف الظاهر؛ لأن عادتهم ترك السكوت.

الآخر: دليل ظاهر لما ذكرناه.

الجبائي: انقراض [العصر] يضعف الاحتمال.

ابن أبي هريرة: العادة في الفتيا لا في الحكم.

وأجيب: بأن الفرض قبل استقرار المذاهب.

وأمّا إذا لم ينتشر فليس بحجة عند الأكثر.

ش ــ المسألة التاسعة: إذا ذهب واحد من المجتهدين إلى حكم في صورة، قبل استقرار المذاهب على حكم تلك الصورة، وعلموا صدوره عنه ولم ينكر أحد ففيه خلاف.

قيل: إن علم أن سكوتهم عن رضى فهو إجماع قطعي، وإن لم يعلم فحجة، وهو مختار المصنف.

ونقل عن الشافعي أنه ليس إجماعاً ولا حجة. ونقل عنه أيضاً ــ خلاف ذلك، وهو أنه حجة لا إجماع.

ص: 560

ونقل عن الجبائي أنه إجماع بشرط انقراض عصر المجتهدين وعدم إنكارهم عليه.

وعن علي بن أبي هريرة من أصحاب الشافعي أنه إجماع وإن كان فتياً، وليس بإجماع إن كان حكماً من حاكم.

واستدل المصنف على ما اختاره: بأن سكوت أهل عصره من المجتهدين مع حرمته عليهم دليل ظاهر على موافقتهم إياه في ذلك الحكم فكان سكوتهم الظاهر كقولهم الظاهر فينهض دليل السمع على كونه إجماعاً ظاهراً. وهذا دليل كونه إجماعاً، وليس في كلامه ما يدل على الشق الآخر.

وقد قيل: وحينئذٍ إن علمت موافقتهم باطناً كان إجماعاً قطعاً، وإلا كان حجة لأن العمل بالظاهر واجب.

وقال المخالف القائل بما نقل عن الشافعي:

أولاً: سكوتهم محتمل، والمحتمل ليس بحجة. أمّا الكبرى فظاهرة، وأما الصغرى فلأن سكوته قد يكون لأنه لم يجتهد بعد أو وقف في الحكم لم يصل اجتهاده إلى مبلغ. أو خالف في الحكم لكنه لم يظهره؛ لأنه تروّي، أي تفكر في طلب وقت يتمكن من إظهار الخلاف، أو وقّر القائل بترك الإنكار عليه، أو هابه

ص: 561

لعلمه أنه لا يلتفت إلى إنكاره، كما قال ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ في سكوته عن مسألة العول في حياة عمر حين سئل عنه: كان رجلاً مهيباً فهبته}}.

وأجاب المصنف: بأن هذه الاحتمالات خلاف الظاهر؛ لأن عادتهم ترك السكوت عمّا أفتى به أحد إذا لم يكن موافقاً لهم.

وفيه نظر؛ لأن عادتهم كانت ذلك إذا لم يكن ثمة مانع، وكل منها مستقل بالمنع.

وقال الناقل عن الشافعي ــ ثانياً: دليل ظاهر؛ أي سكوتهم دليل ظاهر عند علمهم بحكم ذلك المبني على الموافقة، لرجحان احتمال الموافقة بحكم العادة فيكون حجة لا إجماعاً قطعاً، وهذا دون الأول لما ذكرنا على كونه حجة، وللنظر المذكور آنفاً.

وقال الجبائي: هذه الاحتمالات وإن كانت قوية، لكن شرط انقراض عصر المجتهدين يضعفها فيتقوى احتمال الموافقة.

ولقائل أن يقول: اشتراط انقراض العصر فاسد، لما سنذكره، وهذا مبني عليه، والبناء على الفاسد، فاسد.

وقال علي بن أبي هريرة: العادة تقضي بأن ترك الإنكار في الفتيا للموافقة ظاهراً.

بخلاف حكم الحاكم، فإن الفقهاء يحضرون مجالس الحكم ويشاهدون خطأهم في الأحكام، ويتركون الإنكار عليهم، لمهابتهم ولغير ذلك.

وأجاب المصنف عنه: بأن الفرض قبل استقرار المذهب، وإذا لم يستقر المذهب يجوز إنكار قول الحاكم، كما يجوز إنكار قول المفتي فلا فرق بينهما إذاً.

وفيه نظر؛ فإنه ليس الكلام في جواز الإنكار وعدمه، وإنما [92/ب] الكلام في

ص: 562

تركهم الجائز لمهابته أو لغيره.

وقوله: {{وأمّا إذا لم ينتشر} } معطوف على قوله في مطلع البحث {{وعرفوا به} }، يعني هذه المذاهب فيما إذا أفتي واحد وعرف الباقون به، أي انتشر قوله بين أهل عصره.

وأمّا إذا لم ينتش فليس بحجة عند الأكثرين؛ لاحتمال أن لايكون للباقين في ذلك الحكم قول؛ لعدم خطورة ببالهم، أو يكون له قول مخالف أو موافق، وهي احتمالات متساوية فلا يكون حجة.

ص ــ مسألة انقراض العصر غير شرط عند المحققين.

وقال أحمد وابن فورك: يشترط.

وقيل: في السكوتي.

وقال الإمام: إن كان عن قياس.

لنا: دليل السمع.

واستدل: بأنه يؤدي إلى عدم الإجماع للتلاحق.

وأجيب: بأن المراد عصر المجمعين الأولين أو لا مدخل للاحق.

ش ــ المسألة العاشرة: إذا اتفقت كلمة مجتهدي عصر في لحظة انعقد الإجماع عند المحققين.

وقال أحمد وابن فورك: انقراض العصر شرط

ص: 563

انعقاده.

وقيل: ذلك في الإجماع السكوتي، كالذي مرّ آنفاً.

وقال إمام الحرمين: إن حصل الإجماع عن قياس يشترط ذلك وإلا فلا.

واحتج المصنف للمحققين بالسمع؛ فإن الأدلة السمعية تدل على أن إجماع الأمة حجة من غير تقييده بموت وانقراض عصر، والأصل عدم التقييد، وقد تقدم على ذلك نظر فيذكر.

واستدل ــ أيضاً ــ: بأن اشتراط الانقراض يؤدي إلى عدم الإجماع وما يؤدي إليه باطل قطعاً، وذلك لأنه لو أجمع الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ ولحقهم التابعي في عصرهم يجوز له مخالفتهم، لعدم انعقاد إجماعهم، لعدم انقراض عصرهم. وحينئذٍ

ص: 564

لا يخلو إمّا أن يوافقهم التابعي، أو لا. فإن خالفهم لم يبق إجماعهم إجماعاً، وإن وافقهم ولحق تبع التابعين قبل انقراض عصر التابعين يجوز لهم مخالفتهم؛ لأنه لم ينعقد إجماعهم بعد، فإن خالفوا لم يكن إجماعهم إجماعاً، وهلم جرا إلى زماننا. فلم يتحقق إجماعٌ أبداً.

وأجاب المصنف ــ رحمه الله ــ بأن المراد انعقاد عصر المجمعين الأولين عند حدوث الواقعة، لا انقراض عصر من يتجدد بعدهم، فإذا انقرض عصرهم ولم يظهر منهم ولا من التابعين المدركين عصرهم خلاف، انعقد الإجماع ولم يؤثر حدوث تبع التابعين بعد انقراض عصر المجمعين الأولين.

هذا إذا كان فائدة اشتراط انقراض العصر اعتبار موافقة من أدرك عصر المجمعين الأولين في إجماعهم، كما هو المختار عند بعض المشترطين.

وأمّا إذا كان فائدة الاشتراط جواز رجوع بعض المجتهدين بسبب ظهور فكر أو تحصيل اجتهاد، كما هو المختار عند أحمد لا اعتبار موافقة من سيوجد في إجماعهم فلا مدخل للاحق فينعقد إجماع الأولين عند انقراضهم إذا لم يرجع واحد منهم، ولا تؤثر مخالفة من أدرك عصرهم من التابعين، وهو معنى قوله {{أَوْلَا [93/أ] مدخل للاحق} }.

ص ــ قالوا: يستلزم إلغاء الخبر الصحيح بتقدير [الاطلاع] عليه.

قلنا: بعيد.

وبتقديره فلا أثر له مع القاطع، كما لو انقرضوا.

قالوا: لو لم يشترط لمنع المجتهد من الرجوع عن اجتهاده.

قلنا: واجب لقيام الإجماع.

قالوا: لو لم تعتبر مخالفته لم تعتبر مخالفة من مات؛ لأن الباقي كل الأمة.

قلنا: قد التزمه بعض.

ص: 565

والفرق أن هذا قول بعض من وجد من الأمة، فلا إجماع.

ش ــ قال الذين يشترطون انقراض العصر: لو لم يشترط لزم إلغاء الخبر الصحيح بتقدير الاطلاع عليه؛ فإن الاطلاع عليه ممكن والإجماع المنعقد لا ينقض فلزم أن يترك الخبر.

لكن لا يجوز إلغاء الخبر الصحيح وإبقاء الإجماع لئلا يستمر الخطأ الظاهر.

ولقائل أن يقول: كان اشتراط عدم ظهور خبر صحيح في عصرهم أولى من اشتراط انقراض العصر؛ لأنه شرط بالذات وهذا شرط بالعرض.

وأجاب المصنف: بأن الإلغاء إنما يكون بظهور الخبر الصحيح والإطلاع عليه وذلك بعد البحث والتفتيش بعيد.

سلمناه، ولكن لا أثر له؛ لأنه ظني والإجماع قطعي، والظني لا يؤثر مع القطعي، كما لو انقرض عصر المجمعين ثم اطلع أهل العصر الثاني على الخبر الصحيح المخالف للإجماع، فإنه لا أثر له حينئذ بالاتفاق.

ولقائل أن يقول: لا يقاس ما قبل الانقراض على ما بعده، لجواز أن يؤثر قبله، لإمكان الرجوع قبله إن لم يكن سندهم أرجح من ذلك الخبر الصحيح وعدم إمكانه بعده.

وقالوا ــ أيضاً ــ: لو لم يشترط لمنع المجتهد من الرجوع عن اجتهاده، لأن الرجوع عن الإجماع المنعقد خرق له، وهو ممنوع لكن جاز للمجتهد أن يرجع إذا تغير اجتهاده، فيكون الانقراض شرطاً.

وأجاب بمنع بطلان التالي؛ فإن المجتهد لا يجوز له أن يرجع عن اجتهاده بعد الإجماع؛ لقيام الإجماع.

وقالوا ــ أيضاً ــ لو لم تعتبر مخالفة مجتهد وجِدَ في عصر المجمعين بعد

ص: 566

إجماعهم لم تعتبر مخالفة من مات؛ لأن المجمعين في الصورتين كل الأمة، ومخالفة كل الأمة باطلة، لكنه اعتبرت مخالفة من مات بالاتفاق.

ولقائل أن يقول: إنما اعتبر مخالفة من مات لبقائها بالاستصحاب في زمان الإجماع، ولا إجماع مع المخالفة. وليس مخالفة من يحدث كذلك.

وأجاب المصنف أولاً: بمنع انتفاء التالي بناءً على قول بعض الأصوليين أنها غير معتبرة؛ لأن الباقي كل الأمة.

وثانياً: بالفرق، فإن المجمعين في المقيس كل إذا لم يكن غيرهم موجوداً بخلافهم في المقيس عليه، فإن قولهم قول بعض من وجد من الأمة، إذا كان غيرهم عند اتفاقهم موجوداً، فلا يكون قولهم إجماعاً.

ولقائل أن يقول: زال المانع عن الإجماع بموته، والموجود حينئذ كل الأمة في الصورتين.

ص ــ مسألة: لا إجماع إلا عن مستند لأ [نه] يستلزم الخطأ؛ ولأنه مستحيل عادة.

قالوا: لو كان عن دليل لم يكن له فائدة.

قلنا: فائدته سقوط البحث وحرمة المخالفة، وأيضاً فإنه [93/ب] يوجب أن يكون عن غير دليل ولا قائل به.

ش ــ المسألة الحادية عشرة: في أن الإجماع لا يكون إلا عن مستند عند المحققين، سواء كان دليلاً أو أمارة.

ص: 567

وقال قوم: يجوز أن يكون لا عن مستند، واستدل للمحققين بوجهين:

أحدهما: أن حصوله بغير مستند يستلزم خطأ الإجماع؛ لأن القول في الدين بلا دليل أمارة الخطأ.

ولقائل أن يقول: الإجماع دليل في الدين فلا يحتاج إلى دليل آخر.

والثاني: أن العادة يستحيل اجتماع الجمع الكثير من العلماء المجتهدين على حكم من غير سند.

وفيه نظر؛ لكن الدلائل السمعية الدالة على حجيته لا تدل على شيء من ذلك، والعادة يستحيل الاجماع على حكم بغير سند، إذاً لم يكن قولهم حجة للاحتياج إذ ذاك إلى حجة.

وأمّا من كان قولهم حجة فلا نسلم الإحالة بل طلب الدليل يكون مستحيلاً حينئذٍ؛ إذ الدليل لا يحتاج إلى دليل.

فإن قيل: قولهم حجة إذا كان عن دليل.

قلنا: قول النزاع.

واستدل للآخرين: بأنه لو لم ينعقد إلا عن دليل لم يكن للإجماع فائدة للاستغناء به عنه.

وأجاب: بأن فائدته سقوط البحث، وحرمة مخالفة ذلك الحكم بعد انعقاده.

ولقائل أن يقول: سقوط البحث بين المجتهدين ليس أمراً مرغوباً فيه يجعل فائدة، بل هو حجر في واسع.

ص: 568

وأمّا حرمة المخالفة، فإمّا أن تكون مطلقة أو عند إجماع معارض والأول ممنوع، والثاني مسلّم، لكن مخالفة كل دليل لم يعارضه معارض حرام.

ص ــ مسألة: يجوز أن يجمع عن قياس.

ومنعت الظاهرية، الجواز.

وبعضهم: الوقوع.

لنا: القطع بالجواز كغيره.

والظاهر، الوقوع كإمامة أبي بكر، وتحريم شحم الخنزير وإراقة نحو الشيرج.

ش ــ المسألة الثانية عشرة: الموجبون للسند اختلفوا في جوازه عن قياس، فجوّزه الأكثرون، ومنعه الظاهرية ومن المجوّزين من منع الوقع عنه.

استدل الأكثرون على الجواز: بأنه إذا فرض ذلك لم يلزم منه محال وهو أمارة الجواز. وعلى ظهور الوقوع، بإمامة أبي بكر ــ رضي الله عنه ــ بالقياس على تقديم الرسول إيّاه في الصلاة، ثم أجمعوا

ص: 569

عليها.

وكذلك أجمعوا على تحريم شحم الخنزير بالقياس على لحمه.

وأجمعوا على إراقة نحو الشيرج من المائعات إذا وقعت فيه فأرة بالقياس على السمن.

ص ــ مسألة: إذا أجمع على قولين وأحدث قول ثالث، منعه الأكثر.

كوطيء البكر، قيل: بمنع الرد، وقيل: مع الأرش. فالرد مجاناً. ثالث.

وكالجد مع الأخ، قيل: المال كله للجد، وقيل: المقاسمة. فالحرمان ثالث.

وكالنية في الطهارات، قيل: تعتبر، وقيل: في البعض. فالتعميم بالنفي ثالث.

وكالفسخ بالعيوب الخمسة، قيل: يفسخ بها، وقيل: لا. فالفرق ثالث.

والصحيح: التفصيل.

إن كان الثالث يرفع ما اتفقنا عليه فممنوع، كالبكر، والجد، والطهارات [94/أ] وإلا فجائز، كفسخ النكاح ببعض، وكالأم؛ فإنه يوافق في كل صورة مذهباً.

لنا: أن الأول مخالفة الإجماع فمنع. بخلاف الثاني. كما لو قيل: لا يقتل

ص: 570

مسلم بذمي، ولا يصح بيع الغائب.

وقيل: يقتل، ويصح، لِمَ يُمْنَع يقتل ولا يصح، وعكسه باتفاق.

ش ــ المسألة الثالثة عشرة: إذا أجمع أهل العصر على قولين مختلفين في مسألة، واستقر رأي جميعهم فيها على المذهبين، لا يجوز لثالث أن يحدث قولاً ثالثاً مطلقاً عند الأكثرين.

وجوّزه بعض الظاهرية والشيعة مطلقاً.

ومنهم من فصل فقال: إن كان الثالث رافعاً لما اتفقا عليه كان باطلاً وإلا فلا. ومثل لذلك أمثلة: وذلك كما إذا وطيء المشتري بكراً، ثم وجد بها عيباً، فإنه قيل: لا يردها، وقيل: يردها وأرش البكارة.

ص: 571

فالقول بردها مجاناً، يعني بلا أرش باطل.

وكالجد مع الإخوة في الميراث، قيل: المال كله للجد.

وقيل: يقسم المال بينهم متساويا. فالقول بحرمان الجد قول ثالث.

وكالنية في الطهارات، قيل: تعتبر في جميعها، أي الوضوء والغسل والتيمم.

وقيل: تعتبر في بعض منها، وهو التيمم. فالقول بتعميم النفي بأن لا تعتبر في شيء منها، قول ثالث.

وكفسخ النكاح بالعيوب الخمسة التي هي: البرص، والجذام،

ص: 572

والجنون، والجَبُّ، والعُنَّة في الزوج، والقَرَن والرَّتَق مع الثلاثة الأول في الزوجة.

قيل: يفسخ بها.

وقيل: لا يفسخ بشيء منها. فالفرق بالفسخ ببعض دون بعض قول ثالث.

كالأبوين مع أحد الزوجين، قيل: للأم ثلث كل المال.

وقيل: ثلث ما بقى بعد فرض أحد الزوجين. والقول بالتفصيل: بأن يكون

ص: 573

لها ثلث الجميع في إحدى الصورتين، وثلثما تبقى في أخرى قول ثالث.

واختار المصنف التفصيل فقال في صورة البكر: الرد مجاناً يرفع ما اتفقا عليه؛ لأنهما اتفقا على امتناع الرد من غير أرش.

وكالجد مع الأخ فإن حرمان الجد يرفع ما اتفقا عليه فإنهما اتفقا على عدم حرمان الجد.

وكالطهارات فإن التعميم في النفي يرفع ما اتفقا عليه، فإنهما اتفقا على اشتراطها في بعض، فلا يجوز ذلك كله.

وقال في صورة فسخ النكاح: إن القول الثالث، وهو الفسخ ببعض دون بعض لا يرفع ما اتفقا عليه، فإن يكون موافقاً لكل من القولين في صورة.

وكالأم، فإن القول الثالث، وهو أن يكون لها ثلث الجميع مع الزوج وثلث ما تبقى مع الزوجة، ليس برافع لما اتفقا عليه فيكون جائزاً.

ولقائل أن يقول: ليس بين الرافع وغيره فرق في المنع عن الجواز، وذلك لأنه يستلزم جواز اجتماع الأمة على الخطأ؛ لجواز أن يكون القول الثالث حينئذٍ حقاً فقد أجمعوا على الخطأ، وذلك باطل.

واحتج المصنف لما اختاره: بأن الأول، أي القول الثالث الرافع لما اتفقا عليه مخالف فلإجماع، فيكون ممنوعاً؛ لأن خرق الإجماع لا يجوز بالاتفاق.

بخلاف الثاني، أي الثالث الذي لا يرفع فإنه ليس [94/ب] مخالفاً للإجماع فكان جائزاً. ونظر لذلك بما لو قيل: لا يقتل مسلم بذمي، ولا يصح بيع الغائب.

ص: 574

وقيل: يقتل مسلم بذمي، ويصح بيع الغائب، فإن القول الثالث، وهو أن يقتل مسلم بذمي، ولا يصح بيع الغائب، وعكسه، لا يمنع بالاتفاق؛ لأنه لم يرفع ما اتفقا عليه بل يكون موافقاً لكل من القولين في مسألة دون أخرى. وقد علمت آنفاً أن مأخذ الامتناع ليس رفع ما اتفقا عليه وإنما هو استلزام جواز الخطأ على الأمة، وما ذكره ليس نظير ما نحن فيه؛ لأن ما نحن فيه في مادة واحدة وذلك في مادتين بل ذلك نظير ما يقال.

قيل: لا تجب النية في الوضوء، ولا تحل المرأة المبانة بالوطء بنكاح فاسد.

وقيل: تجب النية في الوضوء، وتحل المبانة بذلك، وليس ذلك مما نحن فيه، فإن ذلك كثير في أوضاع الفقه.

ص ــ قالوا: فَصّلَ ولم يُفَصّل أحدٌ، فقد خالف الإجماع.

قلنا: عدم القول به ليس قولاً بنفيه، وإلا امتنع القول في واقعة تتجدد. ويتحقق بمسألتي الذمي والغائب.

قالوا: يستلزم تخطئة كل فريق، وهم كل الأمة.

قلنا: الممتنع تخطئة كل الأمة فيما اتفقوا عليه.

ص: 575

ش ــ المانعون مطلقاً قالوا: الفصل بين عيب وعيب في جواز الفسخ مخالف للإجماع؛ لأنه لم يفصل بينهما أحد من الفريقين.

وأجيبوا: بأن الفرقتين لم تقل واحدة منهما بالفصل، ولكن عدم القول بالفصل ليس قولاً بعدم الفصل، وإلا لامتنع القول بحكم واقعة متجددة لم يكن فيها قول لمن سبق؛ لأن عدم القول قول بالعدم، لكنه ليس كذلك، فلم يكن القول بالفصل مخالفاً للإجماع، ويتحقق ما ذكرنا أن عدم القول بالفصل لا يستلزم القول بنفي الفصل بمسألتي الذمي والغائب. فإن الفصل جوّز فيهما وإن لم يقل واحد من الفريقين به.

ولقائل أن يقول: الكلام فيما اختلف أهل العصر على قولين:

في مسألة واستقرت المذاهب على ذلك، هل يكون إجماعهم نفياً لثالث، أو لا.

والواقعة المتجددة ليست من ذلك، وإن نفي الثالث ليس مستنداً إلى عدم قولهم حتى يقال: عدم القول ليس قولاً بالعدم وإنما هو مستند إلى استقرارهم على القولين، وذلك معنى آخر غير عدم القول بالضرورة.

وأمّا مسألة الذمي والغائب فقد تقدم الكلام عليهما.

وقال المانعون مطلقاً ــ أيضاً ــ القول بالفصل يستلزم تخطئة كل من الفريقين؛ لأن القول الثالث مخالف لكل منهما في بعض ما ذهبوا إليه، وذلك تخطئة لكل الأمة؛ لأن الفريقين كل الأمة، وذلك غير جائز؛ لأنهم معصومون عنها بما مرّ من السمع.

ص: 576

وأجيبوا: بأن تخطئة كل الأمة بحيث تكون تخطئة بعضهم في أمرٍ، وتخطئة الآخرين في غير ذلك غير ممتنع، بل الممتنع تخطئتهم فيما اتفقوا عليه. والقول بالفصل لم يستلزم ذلك.

وفيه نظر؛ لأن عدم الفصل متفق عليه، فلا يكون الجواب دافعاً.

ص ــ الآخر: اختلافهم [95/أ] دليل على أنها اجتهادية.

قلنا: ما منعناه، لم يختلفوا فيه.

ولو سلّم فهو دليل قبل تقرر إجماع مانع منه.

قالوا: لو كان لأنكِرَ لمّا وقع.

وقد قال ابن سيرين في مسألة الأم مع زوج وأب بقول ابن عباس. وعكَسَ آخَرُ.

قلنا: لأنها كالعيوب الخمسة، فلا مخالفة لإجماع.

ش ــ يعني الذي جوّز إحداث قول ثالث مطلقاً قال: اختلافهم في المسألة دليل على أنها اجتهادية، والاجتهادية يجوز فيها الأخذ بما أدى إليه الاجتهاد، والقول الثالث ما أدى إليه الاجتهاد، فيجوز الأخذ به.

وأجيبوا: بأن ما منعناه من إحداث القول الثالث، كالردّ مجاناً لم يختلفوا فيه، فلا يكون ما يجوز فيه الأخذ بالاجتهاد.

ولو سُلِّمَ أنه مختلف فيه، لكن الاختلاف دليل جواز الاجتهاد قبل تقرر إجماع من المجتهدين مانع عن الاجتهاد، والفرض وجوده.

وفيه نظر؛ لأن الكلام في مانعيّة هذا الإجماع.

وقالوا ــ أيضاً ــ: لو امتنع إحداث ثالث لأنكِرَ إذا وقع؛ لأن عادة المجتهدين إنكار المنهي عنه، لكنه لم ينكر؛ فإن الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ اختلفوا في مسألة

ص: 577

زوج أو زوجة وأبوين، فقال ابن عباس للأم ثلث الجميع في الصورتين، وقال الباقون: ثلث الباقي بعد فرض أحد الزوجين.

وأحدث التابعون قولاً ثالثاً، فقال ابن سيرين: للأم في صورة الزوج ثلث الجميع، ومع الزوجة ثلث ما تبقى، وعكس تابعي آخر، ولم ينكر أحد.

ولقائل أن يقول: لا نسلم عدم الإنكار، وعدم النقل لا يدل على عدمه؛ لأنها ليست من الحوادث المحتاجة إليه.

ولو سُلِّمَ جاز أن يكون عدم الإنكار لعدم الالتفات إلى المخالفة؛ لعدمه وقوعها في محلها.

وأجيبوا: بأنه إنما لم ينكر أحد؛ لأن هذه المسألة كالعيوب الخمسة في أن القول الثالث فيها لا يرفع ما اتفقا عليه.

وفيه نظر؛ لأن فيه جهة أخرى للمنع غير رفع المتفق عليه، وقد تقدم.

ص ــ مسألة: يجوز إحداث دليل آخر وتأويل آخر عند الأكثر.

لنا: لا مخالفة لهم فجاز.

ص: 578

وأيضاً: لو لم يجز لأنكر. ولم يزل المتأخرون يستخرجون الأدلة والتأويلات.

قالوا: اتبع غير سبيل المؤمنين.

قلنا: مؤول فيما اتفقوا وإلا لزم المنع في كل متجدد.

قالوا: {تَأمُرُونَبِالمَعرُوفِ} .

قلنا: معارض بقوله: {وَتَنهَونَعَنِ المُنكَرِ} . فلو كان منكراً لنهوا عنه.

ش ــ المسألة الرابعة عشرة: إذا استدل أهل الإجماع بدليل أو تأويل في حكم، هل يجوز لمن بعدهم إحداث دليل آخر أو تأويل آخر، أو لا.

فإن كان الآخر قادحاً في دليل أهل الإجماع وتأويلهم، لم يجز بالاتفاق. وإن لم يقدح في ذلك فالأكثرون على جوازه. محتجين بأن إحداث الدليل الثاني، أو التأويل الثاني ليس مخالفة للإجماع، فجاز إحداثه.

وبأنه لو لم يجز ذلك لأنكر السلف إذا وقع؛ إذ العادة تقضي بإنكار ما لا يجوز. لكن لم يزل المتأخرون يستخرجون الأدلة والتأويلات ولم ينكر عليهم أحد.

ولقائل أن يقول: المانعون عن الجواز من المتأخرين، أو من المتقدمين وعلى كل تقدير ثبت الإنكار يصح قوله:{{ولم ينكر أحد} }.

وقال المانعون: إحداث ذلك اتباع لغير سبيل المؤمنين؛ لسكون أهل الإجماع عنه وذلك حرام توعد عليه.

ص: 579

وأجيبوا: بأن سبيل المؤمنين في الآية مأوّل بما اتفقوا عليه فيكون اتباع غير سبيل المؤمنين مخالفتهم فيما اتفقوا عليه لا احداث ما سكتوا عنه ولو لم يأوّل بذلك لزم المنع من كل متجدد سكت عنه المتقدمون، والكلام على منع المتجدد قد تقدم.

وقالوا ــ أيضاً ــ: قوله ــ تعالى ــ: {تَأمُرُونَبِالمَعرُوفِ} خطاب مشافهة وهو لا يتناول إلا العصر الأول لعدم المشافهة في غيرهم فوجب أن يكون العصر الأول آمرين بكل معروف؛ لأن اللام للاستغراق وكل ما لم يأمروا به لم يكن معروفاً بل يكون منكراً.

والدليل أو التأويل الآخر لم يأمروا به فيكون منكراً، فلا يجوز إحداثه.

ولقائل أن يقول: وجب على العصر الأول الأمر بكل معروف إجمالاً أو تفصيلاً. والثاني متعذر بالضرورة، والأول مسلّم، لكن لِمَ لا يجوز أن يكون إحداث دليل أو تأويل آخر معروفاً داخل تحت أمرهم بالإجماع، فإن فيه تقوية واستظهاراً للأحكام الشرعية ولا شك أن ذلك معروف.

وأجيبوا: بالمعارضة بقوله: {وَتَنهَونَعَنِ المُنكَرِ} ، فإنه يقتضي نهيهم عن كل منكلا للام فلو كان إحداث ذلك منكراً لنهو عنه.

وهذا ضعيف؛ لأن المعارضة أسوأ حال المناظر؛ لتسليمه دليل الخصم ويجوز أن يجابوا بأن الواجب عليهم النهي عن المنكر إجمالاً فيجوز أن يكون إحداث الدليل أو التأويل الآخر منكراً لكونه على خلاف ما اتفقوا عليه فيكون داخلاً تحت نهيهم.

ص ــ مسألة اتفاق العصر الثاني على أحد قولي العصر الأول بعد أن استقر خلافهم.

قال الأشعري وأحمد والإمام والغزالي: ممتنع.

وقال بعض المجوّزين: حجة.

ص: 580

والحق أنه بعيد إلا في القليل. كا [لا] ختلاف في أم الولد، ثم زال.

وفي الصحيح أن عثمان كان ينهى عن المتعة.

قال البغوي: ثم صار إجماعاً.

الأشعري: العادة تقضي بامتناعه.

وأجيب: بمنع العادة وبالوقوع.

قالوا: لو وقع لكان حجة، فيتعارض الإجماعان؛ لأن استقرار خلافهم دليل إجماعهم على تسويغ كل منهما.

وأجيب: بمنع الإجماع الأول.

ولو سُلِّمَ فمشروط بانتفاء القاطع، كما لو لم يستقر خلافهم.

ش ــ المسألة الخامسة عشرة: إذا اختلف العصر الأول في مسألة واستقر الخلاف بينهم بحيث صار أحد القولين مذهباً لبعض، والآخر مذهباً لغيره، هل يجوز أن يتفق العصر الثاني على أحد القولين، أو لا؟

فذهب الأشعري وأحمد وإمام الحرمين والغزالي إلى عدمه.

وقالت الحنفية وبعض الشافعية والمعتزلة: يجوز.

ثم المجوّزون اختلفوا، فقال بعضهم: إنه ليس بحجة، وقال آخرون: إنه حجة.

ص: 581

وقال المصنف: والحق أن اتفاق أهل العصر الثاني على أحد القولين بعيد، إلا في المخالف القليل؛ لأن اتفاقهم عليه لا يكون إلا [96/أ] عن دليل قاطع، أو جلي والعادة تمنع عدم اطلاع الأكثر على القاطع، أو الجلي، وذلك كاختلاف الصحابة في بيع أم الولد على قولين:

فذهب الأكثرون منهم إلى عدم الجواز، والأقلّون إلى الجواز، ثم أجمع التابعون على عدم الجواز.

ص: 582

وكذا اختلفوا في نكاح المتعة. فذهب الأكثرون إلى عدم جوازه. والأقلّون إلى جوازه.

وجاء في الخبر الصحيح أن عثمان نهى عن المتعة، هكذا قال

ص: 583

البغوي، ثم صار عدم جوازه إجماعاً باتفاق التابعين.

ص: 584

واستدل الأشعري على المنع: بأن العادة تقضي بامتناع اتفاق أهل العصر الثاني على أحد القولين لامتناع تطابق الآراء على أحد القولين دون الآخر مع أن لكل منهما دليلاً.

وأجاب: بمنع اقتضاء العادة؛ لجواز أن يكون سند أحدهما جلياً فيصار إليه.

ص: 585

وبأن مثل هذا الاتفاق واقع، كما مرّ، والوقوع دليل الجواز وقال غيره من القائلين: بالامتناع، لو وقع ذلك لكان حجة للدلائل السمعية الدالة على عصمة الأمة من الخطأ، ولو كان حجة لتعارض إجماع العصر الأول على تجويز كل من القولين؛ لأن استقرار خلافهم على القولين يدل على إجماعهم على تجويز كل منهما.

وإجماع العصر الثاني على أحد القولين؛ فإنه يدل على عدم تجويز القول الآخر.

وأجاب: بمنع الإجماع الأول، فإن اتفاقهم إجماع على عدم جواز إحداث قول ثالث. لا على أن العمل بكل منهما جائز، بل كل منهما يدعي أن العمل بغير ما ذهب إليه غير جائز.

ولو سُلِّمَ أن اختلافهم على القولين دليل على إجماعهم على جواز الأخذ بكل منهما، لكن لا نسلم تعارض الإجماعين؛ لأن الإجماع الأول مشروط بانتفاء القاطع الذي هو الإجماع الثاني، كما لو لم يستقر خلافهم فإنه يدل على إجماعهم على تسويغ كل منهما بشرط انتفاء القاطع الذي هو الإجماع. وإذا كان الإجماع الأول مشروطاً بانتفاء القاطع زال عند الإجماع الثاني، لزوال شرطه، فلا تعارض بينهما.

ولقائل أن يقول: أمّا المنع فهو صحيح، وأمّا التنزل بأن الأول إجماع بشرط انتفاء القاطع، وهو الإجماع الثاني، فليس بصحيح؛ لأن الإجماع الذي سبقه خلاف ليس بقاطع.

ص ــ المجوّز: وليس بحجة. لو كان حجة لتعارض الإجماعان. وقد تقدم.

قالوا: لم يحصل الاتفاق.

وأجيب: بأنه يلزم إذا لم يستقر خلافهم.

قالوا: لو كان حجة لكان موت الصحابي المخالف يوجب ذلك؛ لأن الباقي كل الأمة الأحياء.

وأجيب: بالالتزام. والأكثر {{على خلافه} }.

ص: 586

الآخر: لو لم يكن حجة لأدى إلى أن تجتمع الأمة الأحياء على الخطأ والسمع يأباه.

وأجيب: بالمنع.

والماضي ظاهر الدخول، لتحقق قوله. بخلاف من لم يأت.

ش ــ الذين قالوا بجواز اتفاق العصر الثاني على أحد القولين ولم يقولوا بحجيته، احتجوا بثلاثة أوجه:

الأول: لو كان ذلك حجة لحصل اتفاق كل الأمة؛ لأنه الموجب لحجيته، لكنه لم يحصل؛ لأنه مسبوق لخلاف مستقر، وقول من مات لم يبطل لبقاء دليله.

وأجاب: بأن ما ذكرتم إن صح لزم [96/ب] عدم حجية اتفاقهم إذا لم يستقر خلاف الأولين؛ لأن الدليل ناهض فيه بعينه، ولمانعٍ أن يمنع نهوض الدليل فيما إذا لم يستقر الخلاف؛ لأن بطلان التالي بأنه مسبوق بالخلاف المستقر. وليس ذلك في صورة النقض موجوداً، وللاستقرار تأثير فيه؛ فإن غير المستقر غير معتدٍ به.

والثالث: أنه لو كان اتفاق أهل العصر الثاني على أحد القولين حجة لكان موت الصحابي المخالف للباقين يوجب أن يكون قول الباقين حجة؛ لأن قول الباقين بعد موته قول كل الأمة الأحياء، كاتفاق أهل العصر الثاني على أحد القولين.

وأجاب المصنف: بالإلتزام، أي بالتزام كون قول الباقي حجة بعد موت المخالف، فإنه مذهب لبعض، لكن الأكثر على خلاف هذا المذهب وهذا الالتزام لا

ص: 587

يكون جواباً من جهتهم.

وأجيب من جهتهم: بالفرق، بأن قول المخالف الذي مات، قول من وجد في العصر الأول، فيجب اعتباره في إجماع أهل العصر الأول.

وقول المنقرضين ليس قول من وجد في العصر الثاني، فلا يعتبر في إجماع أهل العصر الثاني. وقد مرّ الكلام على الفرق غير مرة.

واحتج المجوّز القائل بحجيته: بأنه لو لم يكن حجة، لأدى إلى اجتماع الأمة الأحياء على الخطأ، وهو باطل؛ لأن الأدلة السمعية دالة على عصمة الأمة عن الخطأ.

وبيان الملازمة: أن اجتماعهم إمّا أن يكون على الحق أو الخطأ. فإن كان الأول وجب اتباعه، وما ليس بحجة لا يجب اتباعه، فكان حجة. وإن كان الثاني، لزم اجتماعهم على الخطأ.

وأجاب بمنع انتفاء التالي؛ لأن الأدلة السمعية لا تدل إلا على عصمة كل الأمة عن الخطأ، وليسوا كذلك؛ لأن الماضي، أي من مات داخل في الأمة ظاهراً لتحقق قوله. بخلاف من لم يأت بعد فإنه ليس بداخل في كل الأمة الموجودين لعدم تحقق قوله.

ولقائل أن يقول: كل ممن مات ومن لم يأت ليس بداخل في كل الأمة الموجودين حقيقة، وإنما هو بطريق المجاز، وكلاهما في ذلك سواء، ولا أثر لتحقق قوله فيما مضى إذا كان الكلام فيما هو موجود من الأمة في الحال.

ص ــ مسألة: اتفاق أهل العصر عقيب الاختلاف إجماع وحجة، وليس ببعيد. وأمّا بعد استقراره فقيل: ممتنع.

وقال بعض المجوّزين: حجة.

وكل من اشترط انقراض العصر، قال: إجماع.

وهي كالتي قبلها، إلا أن كونه حجة، أظهر؛ لأنه لا قول لغيرهم على خلافه.

ش ــ المسألة السادسة عشرة: اتفاق أهل عصر على حكم بعد اختلافهم فيه

ص: 588

وقبل استقراره، إجماع وحجة عند الأكثرين.

قال المصنف: وليس وقوع هذا الإجماع بعيداً؛ لجواز أنهم بعد اختلافهم وقفوا على سند جلي أوجبهم الاتفاق.

وأمّا إذا كان بعد استقرار خلافهم فقد اختلف فيه، فمن لم يشترط في الإجماع انقراض العصر، منهم من قال: بامتناعه.

ومنهم من قال: بجوازه، وهو ليس بحجة.

ومنهم من قال: بجوازه، وهو حجة.

ومن شرط ذلك قال هو إجماع.

وهذه المسألة كالتي قبلها اختلافاً واحتجاجاً واعتراضاً وجواباً. إلا أن كون هذا حجة أظهر من ثمة؛ لأن ههنا لا قول لغيرهم على خلاف ما اتفقوا عليه حتى يلزم أن لا يكون اتفاقهم اتفاق كل الأمة بخلاف ثمة، فإن أهل العصر الثاني بعض الأمة؛ لأن لغيرهم قولاً على خلاف ما اتفقوا عليه.

ص ــ مسألة: اختلفوا في جواز عدم علم الأمة بخبر أو دليل راجح إذا عمل على وفقه.

المجوّز: ليس إجماعاً، كما لو لم يحكموا في واقعة.

النافي: اتبعوا غير سبيل المؤمنين.

ص: 589

ش ــ المسألة السابعة عشرة: إذا كان في الواقع دليل أو خبر يقتضي حكماً على المكلفين، وليس لذلك الحكم دليل آخر، لا يجوز للأمة عدم العلم به؛ لأنه لا يخلو إمّا أن يعمل بذلك الحكم، أو لا. فإن عُمِلَ به كان عملاً بلا دليل، وهو لا يجوز. وإن لم يُعْمَل به كان تركاً للحكم المتوجه على المكلف.

وإذا كان في الواقع دليل أو خبر راجح، أي بلا معارض وقد عُمِلَ على وفق ذلك الدليل أو الخبر بدليل آخر، فهل يجوز عدم علم الأمة به، أو لا؟

فمنهم من جوزه. واحتج بأن اشتراك جميعهم في عدم العلم بذلك الدليل أو الخبر الراجح لم يوجب محذوراً؛ إذ ليس ذلك إجماعاً يوجب المتابعة، بل عدم علمهم بذلك كعدم حكمهم في واقعة لم يحكموا فيها بشيء، فجاز أن يسعى غيرهم في طلب الدليل أو الخبر ليعلم.

ومنهم من نفاه. واحتج بأنه لو جاز عدم علم جميعهم بذلك الدليل أو الخبر حرم تحصيل العلم به، لكن لا يحرم تحصيل العلم أبداً.

وبيان الملازمة: أنه حينئذٍ يكون عدم علمهم به سبيل المؤمنين، فلو طلبوا العلم لاتبعوا غير سبيل المؤمنين.

وردّ: بأن السبيل ما يختاره الإنسان لنفسه من قول أو عمل. وعدم العلم ليس مختاراً لأحد، فلا يكون سبيلاً لهم.

ص ــ مسألة: المختار امتناع ارتداد الأمة سمعاً.

لنا: دليل السمع.

ص: 590

واعترض: بأن الارتداد يخرجهم.

وردّ: بأنه يصدق أن الأمة ارتدت، وهو أعظم الخطأ.

ش ــ المسألة الثامنة عشرة: المختار امتناع ارتداد كل الأمة سمعاً؛ فإن الأدلة السمعية دالة على امتناع اجتماعهم على الضلال والخطأ، ولا ضلال وخطأ أعظم من الارتداد ــ والعياذ بالله.

واعترض: بأنها تدل على امتناع الأمة على ذلك. وهم بالارتداد خرجوا عنها.

وأجاب بما معناه: أنهم إذا ارتدوا صدق عليهم أنهم أجمعوا على الارتداد وهو أعظم خطأ. وتحقيقه أن زوال اسم الأمة عنهم إنما هو بعد الارتداد بالذات، لكونه معلول الارتداد، فعند حصول الارتداد هم من الأمة حقيقة.

ص ــ مسألة: مثل قول الشافعي: إن دية اليهودي ثلث.

لا يصح التمسك بالإجماع فيه.

ص: 591

قالوا: اشتمل الكامل، والنصف عليه.

قلنا: فأين نفي الزيادة؟

فإن أبدى مانع أو نفي شرط أو استصحاب.

فليس من الإجماع في شيء.

ش ــ المسألة التاسعة عشرة: إذا اختلف في [97/ب] ثبوت الأقل والأكثر في مسألة، لا يصح دعوى الإجماع في إثبات الأقل.

وذلك مثل قول الشافعي ــ رحمه الله ــ: دية اليهودي ثلث دية المسلم، لا يصح أن يتمسك في إثباته بالإجماع؛ لأن دعواه تشتمل على أمرين:

أحدهما: إن كان مجمعاً عليه، وهو الثلث، فالآخر ليس كذلك وهو نفي الزيادة.

ومنهم من صحح ذلك، وقال: ديته إمّا مثل دية المسلم أو نصفه أو ثلثه بالإجماع، والكامل والنصف يشتمل على الثلث، فالقول بالثلث ثابت بالإجماع.

وأجاب عنه بدليل المانعين، وهو أن الثلث وإن كان مجمعاً عليه، لكن نفي الزيادة ليس كذلك، فالمجموع لا يكون مجمعاً عليه.

والقائل بالثلث مطلوبه مركب من الأمرين جميعاً. فإن قال: نفي الزيادة ليس بثابت باعتبار مانع منها، أو بانتفاء شرط، أو هو ثابت بالاستصحاب لم يكن حينئذٍ نفي الزيادة بالإجماع.

وهذا إنما يتم إذا كان مطلوب الخصم إثبات الأمرين بالإجماع، أمّا إذا كان

ص: 592

مطلوبه إثبات الثلث به، ويلزم من ذلك نفي الزيادة فإنه لا يتم.

ص ــ مسألة: يجب العمل بالإجماع بنقل الواحد.

وأنكره الغزالي.

لنا: نقل الظني موجب [فا] لقطعي أولى.

وأيضاً: نحن نحكم بالظاهر.

قالوا: إثبات أصل بالظاهر.

قلنا: التمسك الأول قاطع، والثاني مبني على اشتراط القطع.

والمعترض مستظهر من الجانبين.

ش ــ المسألة العشرون: الإجماع المنقول بنقل الآحاد إلينا يجب العمل به عند الأكثرين.

وقال بعض أصحاب أبي حنيفة، والغزالي: لا يجب العمل به.

واحتج للأكثرين: بأن الظني، كالخبر إذا نقله الآحاد وجب العمل به فالقطعي، وهو الإجماع أولى.

وفيه نظر؛ لأن الخبر من حيث الأصل كالإجماع، والظن وقع في طريقه فلا فرق بينهما، وبطل الأولية.

وبقوله ــ عليه الصلاة والسلام ــ: {{نحن نحكم بالظاهر} }، فإنه يدل على

ص: 593

أنه ــ صلى الله عليه وسلم ــ أنه يحكم بالظاهر، فوجب على الأمة أن يحكموا ــ أيضاً ــ بالظاهر؛ لأن الحديث صدر في معرض تعليم الأحكام، والظاهر يتناول الإجماع المنقول بطريق الآحاد؛ إذ اللام للاستغراق.

ولقائل أن يقول: لا نسلم أن اللام للاستغراق، ألا ترى أنه لم يحكم بشهادة الفرد العدل من أصحابه. فدل على أن المراد به معهود ليس نقل الإجماع لا محالة، بل الظاهر من الحديث نفي أن يحكم أحدٌ بما يعلمه الله من باطن الأمر ما لم يظهر ذلك ظهوراً شرعياً نفياً للتهمة.

وقال المنكرون: الإجماع المنقول إلينا بالآحاد أصل من أصول الفقه وكل ما هو كذلك لا يثبت بالظاهر؛ لأنه قاعدة علميّة يتوصل بها إلى المسائل العلمية،

ص: 594

والظاهر لا يفيد العلم. وما ذكرتم من الدليلين ظاهر فلا يفيد المطلوب.

ولقائل أن يقول: لا نسلم أنه قاعدة علميه، لاحتماله النقيض.

سلمناه، ولكن يتوصل بها إلى مسائل ظنية، والظن فيها كاف.

وأجاب المصنف: بأن التمسك الأول، وهو القياس الذي يستدل به أولاً قطعي؛ لأنه قياس بطريق الأولى، فلا يكون الإثبات به إثباتاً بالظاهر وفيه نظر؛ لأن الأولوية باطلة بما تقدم.

والتمسك الثاني ــ وهو الحديث ــ ظاهر، وإثبات الأصل بالظاهر مبني على اشتراط القطع في أدلة الأصول. فمن شرط القطع فيها منع إثبات الأصل بالظاهر، فمنع إثبات الإجماع بالحديث المذكور. ومن لم يشترط لم يمنع.

ثم قال المصنف: والمعترض مستظهر من الجانبين، أي متمكن من منع دليل النافي والمثب.

أمّا المثبت، فبأن يقول: لا نسلم أن كل دليل ظني يجب العمل به.

وأما النافي، فبأن يقول: لا نسلم امتناع ثبوت الأصل بالظواهر.

ص ــ مسألة: إنكار حكم الإجماع القطعي.

ثالثها المختار أن نحو العبادات الخمس، يكفر.

ش ــ المسألة الحادية والعشرون في أن إنكار الإجماع القطعي يوجب الكفر، أو لا. وفيه ثلاثة مذاهب.

الأول: أنه يوجبه مطلقاً؛ لأن إنكاره يستلزم إنكار سند قاطع، وذلك يستلزم

ص: 595

إنكار صدق الرسول الموجب للكفر.

وفيه نظر؛ لأن إنكاره لا يستلزم إنكار سند قاطع، لكونه ليس بشرط.

والثاني: أنه لا يوجبه مطلقاً؛ لأن أصل أدلة الإجماع لا تفيد القطع، فالفرق كذلك.

والثالث، وهو مختار المصنف: أنه إن كان الإجماع في أمر عُلِمَ قطعاً كونه من الدين، كالعبادات الخمس، كان إنكار حكمه كفراً وإلا فلا.

وفيه نظر؛ لأن الإجماع الظني ــ أيضاً ــ إنكار حكمه في مثل ذلك يكون كفراً. فلم يكن ذلك من جهة الإجماع بل من جهة ما دلّ قطعاً على كونه من أمور الدين.

وعلى هذا كان القطعي والظني سواء، فتخصيصه بالقطعي هدر.

ص ــ مسألة التمسك بالإجماع فيما لا تتوقف صحته عليه، صحيح. كرؤية الباري، ونفي الشريك.

ولعبد الجبار في الدنيوية قولان.

لنا: دليل السمع.

ش ــ المسألة الثانية والعشرون: التمسك بالإجماع إنما يصح فيما لا يتوقف العلم بكون الإجماع حجة على العلم به، لئلا يدور. وذلك مثل رؤية الباري، ونفي

ص: 596

الشريك. فإن العلم بكون الإجماع حجة لا يتوقف على العلم بكونه مرئياً وواحداً؛ لإمكان أن تعلم حجية الإجماع قبل أن يعلم كل منهما.

وللقاضي عبد الجبار في الأمور الدنيوية، مثل الآراء والحروب في صحة التمسك به قولان.

قال المصنف: لنا، أن الدليل السمعي دلّ على التمسك به مطلقاً، فوجب المصير إليه؛ لأن الأصل عدم التقييد.

*

*

*

ص: 597

في السند والمتن

ص ــ ويشترك الكتاب والسنة والإجماع في السند والمتن.

فالسند: الإخبار عن طريق المتن.

والخبر قول مخصوص للصيغة والمعنى.

فقيل: لا يحد لعسره.

وقيل: لأنه ضروري من وجهين:

أحدهما: أن كل أحد يعلم أنه موجود ضرورة. فالمطلق أولى. والاستدلال على أن العلم ضروري، لا ينافي كونه ضرورياً.

بخلاف الاستدلال على حصوله ضرورة.

ورُدّ بأنه يجوز أن يحصل ضرورة [ولانتصوره] أو بتقدم تصوره.

والمعلوم ضرورة ثبوتها أو نفيها. وثبوتها غير تصورها.

الثاني: التفرقة بينه وبين غير ضرورة]. وقد تقدم مثله.

ش ــ لما فرغ من المباحث المخصوصة بكل واحد من الأدلة الثلاثة شرع في المباحث المشتركة بينها فقال: {{ويشترك الكتاب والسنة والإجماع في السند والمتن} }.

فالسند [98/ب] الإخبار عن طريق المتن وذلك نوعان:

ص: 598