الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الطبيعة تؤكد وجود الخالق:
إن وجود الله حقيقة لا شك فى أمرها، ولا مجال لإنكارها، فهو ظاهر كالشمس باهر كفلق الصبح، وكل ما فى الكون شاهد على هذا الوجود الإلهى، ومواد الطبيعة وعناصرها تؤكد أن لها خالقًا ومدبرًا.
فالعالم العلوى، وما فيه من شموس وأقمار ونجوم وكواكب، والعالم الأرضى وما فيه من إنسان وحيوان ونبات وجماد، والترابط الوثيق، والتوازن الدقيق، الذى يؤلف بين هذه العوالم، ويحكم أمرها .. ما هو إلا آية وجود الله، ومظهر تفرده بالخلق، ولا يتصور العقل أن توجد هذه الأشياء بدون موجد، كما لا يتصور أن توجد الصنعة بدون صانع.
فإذا كان العقل يحيل أن تطير طائرة فى الهواء، أو تغوص غواصة فى الماء دون أن يكون فيه صانع للطائرة، ومنشئ للغواصة، فإنه يجزم جزمًا قاطعًا باستحالة وجود هذا الكون البديع، وهذه الطبيعة الجميلة من غير خالق خلقها، ومدبر دبر أمرها.
إن ثمة فروضًا ثلاثة يمكن أن نفرضها فى تعليل الأصل الذى صدر عنه الكون، وليس ثمة فرض وراء هذه الفروض:
الفرض الأول: أن يكون صدور هذا الكون من العدم.
الفرض الثانى: أن تكون الصدفة وحدها هى التى نشأ عنها هذا الكون البديع.
الفرض الثالث: أن يكون ثمة موجد أوجد هذا الكون، وأنشأه.
ولنمض فى مناقشة كل فرض من هذه الفروض:
فالفرض الأول باطل من أساسه؛ لأن المسببات مرتبطة بأسبابها، والنتائج مرهونة بمقدماتها.
ولا يتصور العقل أن يوجد معلول بدون علة، ولا مسبَّب دون أن يسبق بسبب، ولا نتيجة من غير أن يكون لها مقدمات.
فصدور الكون من العدم معناه وجود المعلول بدون علة، والمسبَّب دون سببه والنتيجة دون مقدماتها .. أى أن الكون وجد من نفسه وصدر منقطعًا عن سببه.
ووجود الأشياء من نفسها منقطعة عن أسبابها محال عقلاً وواقعًا؛ لأن وجود الأشياء من نفسها مع انقطاعها عن أسبابها ترجيح لجانب الوجود على جانب العدم بدون مرجح، وترجيح جانب الوجود على جانب العدم بدون مرجح محال.
إننا إذا قلنا: إن الكون وجد من نفسه منقطعًا عن سببه كان ذلك مساويًا لقولنا بأن العدم سبب الوجود.
وهذا غاية فى البطلان؛ لأن العدم لا يتصور أن يكون مصدرًا للوجود، ففاقد الشىء لا يعطيه، وهذا هو ما أشارت إليه الآية الكريمة:
أى هل وجدوا من غير خالق؟! أم خلقوا أنفسهم، فلا يحتاجون إلى أحد يخلقهم؟! وكل هذا مستحيل.
والفرض الثانى وهو أعظم تهافتًا من الفرض الأول، فإن الصدفة لا يمكن أن
(1) سورة الطور - الآية 35، 36.
ينبثق عنها هذا النظام، ولا أن يصدر عنها هذا الإحكام، فهل الصدفة هى التى خلقت الذكر والأنثى، وألفت بينهما هذا التأليف الجميل؟ وهل هى التى خلقت الأرض، وما فيها من إنسان وحيوان ونبات وجماد؟ وهل الصدفة هى التى علقت الأرض فى الهواء وسيرتها فى مدارها الذى لم تنحرف عنه قيد شعرة منذ ملايين السنين؟ وهل الصدفة هى التى سيرت الكواكب والنجوم مع ضخامتها وكثرتها بهذه السرعة المذهلة دون أن تتصادم؟ وهل الصدفة هى التى أوجدت العناصر التى يتألف منها الكون، وهى التى تُنَسِّقها تنسيقًا دقيقًا صالحًا للاستمرار والدوام إلى المدى الذى أراده الله؟
إن الذرة وهى أصغر الأشياء يحار العقل والعلم فى تركيبها المحكم، وتناسقها العجيب، وتآلف أجزائها بعضها مع بعض، فهل هذا التركيب والتأليف والتناسق صدفة؟ لنستمع إلى كلمة العلم فى الذرة:
" تتألف المادة من ذرات لا يمكن رؤيتها بأقوى المجاهر (الميكروسكوب)، ولكى نتصور حجم الذرة علينا أن نتصور أننا لو رصصنا مائة مليون ذرة جنبًا إلى جنب، لبلغ طولها بوصة تقريبًا، ومن ناحية أخرى يوجد فى قطرة من مياه البحر خمسون مليون ذرة من الذهب.
وتتألف الذرة من نواة تدور حولها كهارب سلبية (إلكترونات) فى أفلاك مستديرة، وبين الاثنين فراغ يشبه الفراغ بين الكواكب والشمس من حيث النسبة بين الحجم والأبعاد.
ويبلغ وزن أخف نواة 1850ضعف وزن الإلكترون، ولو رصصت عشرون ألف نواة جنبًا إلى جنب لبلغ طول قطرها قطر الذرة، أو بعبارة أخرى نسبة النواة إلى الذرة كرأس الدبوس بالنسبة إلى منزل متوسط الحجم.
وتدور الإلكترونات حول النواة فى أفلاك كأفلاك الكواكب، إذ تدور حول الشمس، ولكن هذه الأفلاك أكثر حساسية وأقل تحديدًا من أفلاك الكواكب، ولو أن المادة المؤلفة من النوى الذرية مكدسة مع بعضها أى بدون الفراغ الموجود بين النواة والالكترونات، لبلغ وزن قطعة نقدية فى حجم القرشين حوالى 40 مليون طن.
وتتألف النواة من كهارب موجبة (بروتونات) يساوى عددهم عدد الكهارب السالبة (الإلكترونات) التى تدور حول النواة .. ويجد إلى جوار البروتونات كهارب أخرى متعادلة الشحنة تسمى نيوترونات، ولو استطعنا أن نخلخل من هذه الرابطة التى تربط بين البروتونات والنيوترونات، ولو استطعنا أن نخلخل من هذه الرابطة التى تربط بين البروتونات والنيوترونات، أو بالأحرى لو استطعنا أن نهيئ السبل لهروب نيترون واحد من مجموع النيوترونات التى تحيط بالبروتونات إذن لانطلقت طاقة كبرى كان (أينشتين) أول من قدرها بأنها تساوى الكتلة فى مربع سرعة الضوء مقدرًا بالسنتيمتر فى الثانية " (1).
فإذا انتقلنا من الذرة، ورفعنا رؤوسنا إلى الشمس رأينا العلم يقول:
" الشمس هى كرة متأججة بنار أشد وطيسًا من كل نار على الأرض، وهى أكبر من الأرض بأكثر من مليون مرة، أما بعدها عنا فنحو 92500000 ميل، هذا وإن هى إلا نجمة، وليست هى فى عداد النجوم الكبرى.
وهناك مشكلة أخرى أعى حلها النهائى عقول العلماء والفلكيين، هى أن الشمس - كما يؤخذ من علم طبقات الأرض - لم تزل تشع نفس المقدار أو نحوه من الحرارة مدة ملايين من السنين، فإن كانت الحرارة الصادرة عنها نتيجة احتراقها، فكيف لم تفن مادتها مع توالى العصور؟ فلا شك أن طريقة الاحتراق الجارية فيها غير ما نعهد ونألف، وإلا لكفاها 6000 سنة لتحترق، وتنفد حرارتها.
(1) مستقبلنا الذرى - تأليف إدوارد تيللر وألبرت لانر - من كتاب الطاقة الإنسانية.
أما فضل الشمس علينا، فليس أنها مصدر نورنا ونارنا فقط، بل هى محور نظامنا السيَّارى، ومصدر حياتنا أيضًا، فهى التى تبخر مياه البحر، وترفعها غيومًا فى الجو، وتنزلها أمطارًا على الأرض، حيث تجرى جداول وأنهارًا تروى زرعنا وتنمى أغراسنا، وتثير الرياح، وتهيج الأنواء، فتطهر الهواء وتنقيه، وتزجى السفن والمراكب فى عُباب المحيط، وهى التى تجر المركبات، وتدير الآلات البخارية، وما الفحم الحجرى إلا حرارة نورها المدخرة منذ قديم الأدهار؛ لينتفع بها بنو العصور المتأخرة، ولا حياة لولا الشمس لحيوان، ولا لنبات؛ فالحيوانات تنتعش بحرارتها، والأطيار تغرد بأنوارها وتسبح تسبيحًا، وبحرارتها وأنوارها تبزغ النباتات، وتنمو الأشجار، وتزهر الأزهار، وتنضج الأثمار .. فنحن مدينون للشمس بمأكلنا ومشربنا، وهى علة وجودنا على هذه الأرض ".
فإذا تجاوزنا الشمس وجدنا أن:
" أقرب نجم إلينا بعد الشمس يعادل بُعده 260000 مرة بعد الشمس عنا ".
ويعتبر هذا شيئًا ضئيلاً جدًا بالنسبة لنجوم المجرة التى أسماها القدماء (طريق التبانة)؛ بل تعتبر المجموعة الشمسية ذرة إذا قيست بالمجرة؛ إذ أنها تحتوى على مائة مليون نجم موزعة فيما يشبه القرص المفرطح الرقيق نسبيًا.
ويقول (هيربرت سبنسر جونز) مؤلف كتاب (الفلك العام):
" إن الضوء يستغرق مائة ألف سنة ضوئية ليصل بين طرفى المجرة، ومعلوم أن الضوء يسير بسرعة 176000 ألف ميل فى الثانية، أو 300000 ألف كيلومتر .. وعلى هذا فإن السنة الضوئية تعادل عشر مليون مليون كيلومتر.
وليست هذه المجرة التى تبلغ هذا الحد من الضخامة التى لا يقوى العقل على استيعابها إلا واحدة من كثيرات لم يحصها العد.
وبقى أن نعرف أن أقرب مجرة لمجراتنا تبعد سبعمائة ألف سنة ضوئية " (1).
أفبعد هذا يتصور العقل أن يكون ذلك ناشئًا بطريق الصدفة؟
إن القول بالصدفة فى خلق الكون لا يتصوره العقل، ولا يقره العلم، ولا يقوله إنسان إلا إذا فقد أخص خصائصه من الإدراك والتمييز.
قال الفيلسوف الألمانى (إدوارد هارنمان) خليفة (شوبنهور) فى كتابه (المذهب الدرونى): " إن الرأى الذى مقتضاه عدم وجود القصد فى الكون عند الدارونيين لا يقوم عليه دليل، وهو من الأوهام التى لا أساس لها من العلم ".
وقال الأستاذ (فون باير) الألمانى فى كتابه (دحض مذهب دارون): " وإذا كانوا يعلنون الآن بصوت جهورى بأنه لا يوجد قصد فى الطبيعة، وأن الكون لا تقوده إلا ضرورات عمياء، فأنا أعتقد أن من واجباتى أن أعلن عقيدتى فى ذلك، وهى أنى - على العكس - أرى جميع هذه الضرورات تكشف عن أغراض سامية " .. قال الأستاذ الكبير (محمد فريد وجدى) رحمه الله بعد أن ذكر هذا الكلام الأخير: " ولو شئنا الاستئناس بمئات من أقطاب العلم والفلسفة على رأى عدم وجود القصد فى الخليقة، لما كلفنا ذلك أكثر من النقل ".
ومتى ثبت وجود القصد فى الكون، فقد ثبت وجود المدبر الحكيم جل وعلا من طريق محسوس لا سبيل للجدل فيه، مصداقًا لقوله تعالى:
{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (2).
وإذا لم يصح الفرض الأول، ولا الفرض الثانى؛ لأنهما خارجان عن دائرة العقل والمنطق والعلم، لم يبق إلا الفرض الثالث:
(1) قصة الكون من السديم إلى الإنسان، من كتاب الطاقة الإنسانية.
(2)
سورة إبراهيم - الآية 10.
وهو أن لهذا الكون خالقًا ومدبرًا، وهذا هو مقتضى العقل والمنطق السليم الذى دعا (سقراط) إلى الإيمان بالله، وإفحام (أريستوديم) الذى ينكر الألوهية فى المحاورة التى نذكرها فيما يلى:
سقراط: أيوجد رجال تعجب بمهارتهم وجمال صنائعهم؟
أريستوديم: نعم أعجب فى الشعر القصصى بـ (هومير)، وفى التصوير بـ (زوكيس)، وفى صناعة التماثيل بـ (بوليكتيت).
سقراط: أى الصناع أولى بالإعجاب، الذى يخلق صورًا بلا عقل ولا حراك، أم الذى يبدع كائنات ذات عقل وحياة؟
أريستوديم: طبعًا الذى يبدع الكائنات المتمتعة بالعقل والحياة، إذا لم تكن من نتائج الاتفاق.
سقراط: وهل يمكن أن يكون من الاتفاق أن تُعطَى الأعضاء لمقاصد وغايات خاصة، عين ترى، وأذن تسمع، وأنف يشم، ولسان يتذوق؛ والعين تحاط بحراسة لحساسيتها وضعفها، فتقفل عند النوم، أو عند الحاجة، وتحرس بالرموش والحواجب؛ ويجعل للأذن جهاز خارجى يجمع لها الصوت .. وهل يمكن أن يكون كل ذلك من نتائج الاتفاق؟ والميل المودع فى النفوس للتناسل، والحنان المخلوق فى قلوب الأمهات بالنسبة للأولاد - مع ندرة أن ينفع ولد أباه أو أمه -، والطفل الذى يلهم الرضاعة بمجرد ولادته .. هل يمكن أن يكون ذلك كله من نتائج الاتفاق؟