المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ عصمة الأنبياء - العقائد الإسلامية

[سيد سابق]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌ الإسلام إيمان وعمل:

- ‌ مفهوم الإيمان والعقيدة

- ‌ وحدة العقيدة:

- ‌ لماذا كانت العقيدة واحدة وخالدة

- ‌ منهج الرسل فى غرس هذه العقيدة:

- ‌ الانحراف عن منهج الرسل وأثره:

- ‌معرفة الله

- ‌ وسيلة المعرفة:

- ‌ المعرفة عن طريق العقل:

- ‌ التقليد حجاب العقل:

- ‌ ميادين التفكير:

- ‌ غاية التفكير:

- ‌ المعرفة عن طريق معرفة الأسماء والصفات:

- ‌ اسم الله الأعظم:

- ‌الذات الإلهية

- ‌ العجز عن معرفة حقيقة الأشياء لا ينفى وجودها

- ‌ الطبيعة تؤكد وجود الخالق:

- ‌ الفطرة دليل وجود الله:

- ‌ دلالة الواقع والتجارب:

- ‌ التأييد الإلهى:

- ‌ شواهد النقل:

- ‌ لا سند للإلحاد:

- ‌صفات الله

- ‌ الصفات السلبية:

- ‌ بدء الخلق فى رأى علماء الشرع:

- ‌ الثالوث عقيدة وثنية:

- ‌ الصفات الثبوتية:

- ‌ صفات الذات وصفات الأفعال:

- ‌ صفات الله أعلام هادية:

- ‌حقيقة الإيمان وثمرته

- ‌ ثمار الإيمان:

- ‌القدر

- ‌ الله فاعل مختار:

- ‌ معنى القدر:

- ‌ وجوب الإيمان به:

- ‌ حكمة الإيمان بالقدر:

- ‌ حرية الإنسان:

- ‌ تقرير الإسلام حرية الإرادة:

- ‌ مشيئة الرب ومشيئة العبد:

- ‌ الهداية والإضلال:

- ‌الملائكة

- ‌ من هم الملائكة:

- ‌ مم خُلقوا

- ‌ طبيعتهم:

- ‌ تفاوتهم:

- ‌ عملهم:

- ‌عملهم فى عالم الأرواح

- ‌الجن

- ‌ من هم

- ‌ طريق العلم بهم:

- ‌ المادة التى خلقوا منها

- ‌ الجن مكلفون كالبشر:

- ‌ استماعهم القرآن من الرسول:

- ‌ تسخير الجن لسليمان

- ‌ إبليس والشياطين:

- ‌ كل إنسان معه شيطان

- ‌ الإعراض عن هداية الله يمكن للشيطان:

- ‌ التحذير من عداوة الشيطان:

- ‌ لا سلطان للشيطان على المؤمن:

- ‌ مقاومة الشيطان:

- ‌ حكمة خلق إبليس:

- ‌الكتب السماوية

- ‌ الكتب المدونة

- ‌ مزايا القرآن:

- ‌ تحريف التوراة:

- ‌ تحريف الإنجيل:

- ‌ تصديق القرآن للكتب السابقة:

- ‌ الطريق إلى الحقيقة:

- ‌الرسل

- ‌لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ}

- ‌الرسول بشر

- ‌ الرسول رجل:

- ‌ الغرض من بعثة الرسل:

- ‌ عصمة الأنبياء

- ‌ أولو العزم من الرسل:

- ‌ أفضل الرسل:

- ‌ ختم النبوة والرسالة:

- ‌ دلائل صدقه:

- ‌ التبشير بظهور خاتم الرُّسل:

- ‌ آيات الرسل:

- ‌ الفرق بين آيات الرسل وغيرها من الخوارق:

- ‌ الفرق بين المعجزة والكرامة:

- ‌ معجزة خاتم الأنبياء:

- ‌الروح

- ‌ العلم الحديث والمباحث الروحية:

- ‌ حدوث الروح:

- ‌ الروح والنفس:

- ‌ الروح بعد مفارقتها للجسد:

- ‌ السؤال فى القبر:

- ‌ مستقر الأرواح:

- ‌أشراط الساعة

- ‌ العلامات الصغرى:

- ‌ العلامات الكبرى:

- ‌ المهدى:

- ‌ خروج المسيح الدجال

- ‌اليوم الآخر

- ‌الإيمان باليوم الآخر

- ‌ لم يخلق الإنسان عبثًا:

- ‌ مفهوم اليوم الآخر:

- ‌ حكمة الاهتمام به:

- ‌ بداية اليوم الآخر:

- ‌ العلم الطبيعى واليوم الآخر:

- ‌ متى هو

- ‌ البعث:

- ‌ أدلة البعث:

- ‌ شبهة منكرى البعث:

- ‌ اختلاف الناس عند البعث:

- ‌ الشفاعة:

- ‌الحساب

- ‌ الحساب هو مقتضى العدل الإلهى:

- ‌ كيفية الحساب:

- ‌ كيفية إحصاء الأعمال وعرضها:

- ‌ العلم وتسجيل الأعمال:

- ‌ دقة الحساب:

- ‌ الله هو الذى يتولى الحساب:

- ‌ الحوض:

- ‌ الصراط:

- ‌الجنة والنار

- ‌ أهوال الجحيم:

- ‌ نسبة نار الدنيا إلى نار الآخرة:

- ‌ أهون الناس عذابًا:

- ‌ المؤمن لا يخلد فى النار:

- ‌ التخاطب بين أهل الجنة وأهل النار:

- ‌ آخر من يدخل الجنة، وآخر من يخرج من النار:

- ‌ الْجَنَّةِ

- ‌ نعيمها

- ‌ أعلى نعيم الجنة:

- ‌ الخلود:

- ‌خاتمة

الفصل: ‌ عصمة الأنبياء

والله عز وجل لا يعذب أحدًا حتى يقيم عليه الحجة، ويقطع عذره.

{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (1).

*‌

‌ عصمة الأنبياء

(2):

الرسل اصطفاهم الله واختارهم:

{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (3).

ونزههم عن السيئات، وعصمهم من المعاصى، صغيرها وكبيرها.

{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} (4).

وحلاهم بالأخلاق العظيمة من الصدق، والأمانة، والتفانى فى الحق، وأداء الواجب، فمنهم الصديق:

(1) سورة الإسراء - الآية 15 .. استدل الأشاعرة والمالكية والكمال بن الهمام بهذه الآية على أن أهل الفترة الذين لم تبلغهم الدعوة ناجون وإن عبدوا الأصنام؛ وذهب أبو حنيفة والماتريديه أنه يشترط فى نجاتهم فى الآخرة ألا يشركوا مع الله غيره، لأن معرفة الله الواحد يكفى فيها العقل .. والأول أظهر، لأن الله يقول:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} " سورة النساء - الآية 115 ".

(2)

العصمة هى أنهم لا يتركون واجبًا، ولا يفعلون محرمًا، ولا يقترفون ما يتنافى مع الخلق الكريم.

(3)

سورة آل عمران - الآية 33.

(4)

سورة آل عمران - الآية 161.

ص: 180

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً} (1).

ومنهم من اصطنعه الله لنفسه:

{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (2).

{فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى *وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} (3).

ومنهم من هو بعين الله:

{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (4).

ومنهم من اجتباه الله وعلمه:

{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (5).

وبعد أن ذكر الله جملة من الأنبياء فى سورة مريم، قال:

{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} (6).

وهم وإن تفاوتوا فى الفضل، إلا أنهم بلغوا الغاية من السمو الروحى والصلة بالله.

(1) سورة مريم - الآية 41.

(2)

سورة طه - الآية 39.

(3)

سورة طه - الآية 40، 41.

(4)

سورة الطور - الآية 48.

(5)

سورة يوسف - الآية 6.

(6)

سورة مريم - الآية 58.

ص: 181

{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} (1).

وهكذا نجد النصوص الكثيرة الواردة فى القرآن بشأن الأنبياء والرسل، تضفى عليهم من الطهر والنزاهة والقداسة، ما يجعل منهم النموذج الحى، والصورة المُثْلى للكمال الإنسانى.

ومثل هؤلاء، لا يمكن إلا أن يكونوا معصومين من التورط فى الإثم، ومنزهين عن الوقوع فى المعاصى، فلا يتركون واجبًا، ولا يفعلون محرّمًا، ولا يتصفون إلا بالأخلاق العظيمة التى تجعل منهم القدوة الحسنة، والمثل الأعلى الذى يتجه إليه الناس، وهم يحاولون الوصول إلى كمالهم المقدر لهم.

والله عز وجل هو الذى تولى تأديبهم وتهذيبهم وتربيتهم وتعليمهم، حتى كانوا قممًا شامخة، وأهلاً للاصطفاء والاجتباء.

{أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ *أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (2).

{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} (3).

(1) سورة البقرة - الآية 253.

(2)

سورة الأنعام - الآية 89، 90.

(3)

سورة الأنبياء - الآية 73.

ص: 182

{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (1).

فهذه الآيات أدلة بيّنة على مدى الكمال الإنسانى الذى أفاضه الله على أنبيائه ورسله، ولو لم يكونوا كذلك لسقطت هيبتهم فى القلوب، ولصغر شأنهم فى أعين الناس، وبذلك تضيع الثقة فيهم، فلا ينقاد لهم أحد، وتذهب الحكمة من إرسالهم ليكونوا قادة الخلق إلى الحق، بل لو فعلوا شيئًا مما يتنافى مع الكمال الإنسانى بأن يتركوا واجبًا، أو يفعلوا محرّمًا، أو يرتكبوا ما يتنافى مع الخلق الكريم، لكانوا قدوة سيئة، ولم يكونوا مُثلاً عُليا، ومنارات هدى.

إن رسل الله يدركون بحسهم الذى تميزوا به على غيرهم من البشر، أنهم دائمًا فى حضرة القدس، وأنهم يبصرون الله فى كل شىء، فيرون مظاهر جماله وجلاله، ودلائل قدرته وعظمته، وآثار حكمته ورحمته، يرون ذلك فى أنفسهم وفيمن حولهم: فى الأرض والسماء، وفى الليل والنهار، وفى الحياة والموت، فتمتلئ قلوبهم إجلالاً لله ووقارًا له، فلا يبقى فيها مكان لشيطان، ولا موضع لهوى، ولا جنوح لشهوة، ولا إرادة لشىء سوى إرادة الحق والتفانى فيه والاستشهاد من أجله.

وما ورد فى القرآن الكريم مما يوهم ظاهره بأنهم ارتكبوا ما يتنافى مع عصمتهم، فهو ليس على ظاهره، ويتجلى ذلك فيما نذكره بالنسبة لما نسب لكل نبىّ فيما يلى:

* آدم عليه السلام:

يقول الله عز وجل:

{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} (2).

(1) سورة الأنبياء - الآية 90.

(2)

سورة طه - الآية 121.

ص: 183

فظاهر هذه الآية أن آدم عصى ربه، وغوى، بمخالفة أمر الله، واستجابته لدعوة الشيطان، وأن ذلك كان زلة وقع فيها.

{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} (1).

ولكن إذا أمعنا النظر، رأينا أن هذه المعصية إنما وقعت من آدم نسيانًا منه لعهد الله، ولم يصدر عنه هذا الفعل عن إرادة وقصد، والله عز وجل لا يؤاخذ على الخطأ ولا على النسيان؛ لأن ذلك تكليف بما لا يطاق، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، والأصل فى هذه القاعدة قول الله عز وجل:

{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (2).

وقوله:

{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (3).

والدليل على أن ما وقع من آدم كان نسيانًا وعن غير عمد، قول الله عز وجل:

{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} (4).

أى أن آدم نسى عهد الله الذى وصاه به حين ارتكب ما نهاه عنه من الأكل من الشجرة، ولم يوجد له عزم على فعل ما نهى عنه .. وحيث لم يوجد له عزم على فعل ما نهى عنه، وحيث لم يوجد العزم على المعصية، فلا توجد المؤاخذة.

وإنما اعتبر القرآن ذلك النسيان عصيانًا نظرًا لمقام آدم الذى خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، وعلّمه الأسماء كلها،

(1) سورة البقرة - الآية 36.

(2)

سورة الأحزاب - الآية 5.

(3)

سورة البقرة - الآية 286.

(4)

سورة طه - الآية 115.

ص: 184

والذى شأنه هكذا يجب أن يكون يقظًا كأقوى ما تكون اليقظة، بحيث لا ينسى وصاية الله له وعهده إليه، فهذا: من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين.

* نوح عليه السلام:

أما نوح عليه السلام فما وقع منه فهو أنه سأل الله عن هلاك ابنه مع من هلكوا فى الطوفان، مع وعد الله بنجاته ونجاة أهله، فقال:

{رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ *قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ *قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَاّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1).

فلم يكن لنوح عليه السلام علم بأنّ نسب ابنه إليه قد انتفى بكفره وإعراضه عن دعوة الله، فسأل الله كيف هلك مع الوعد بنجاة أهله، وابنه من أهله؟ فعلمه الله أن الصلة الدينية والنسب الروحى أقوى من صلة الدم، فإذا انقطعت هذه الصلة، ذهبت بصلة النسب والدم، فقال له معلمًا إياه:{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} معللاً ذلك بأن عمله غير صالح، ومادام ذلك كذلك، فليس هناك صلة نسبية، وبذلك ينتفى نسبه من أبيه، فلا يكون من أهله الذين وعدوا بالنجاة.

وكان على نوح عليه السلام وهو الأب الثانى للبشر - الذى بذل حياته لله، ولبث فى قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعو إلى الله، ويجاهد فى سبيله، كان عليه أن

(1) سورة هود - الآية 45 - 47.

ص: 185

يفطن لهذا المعنى، وأن يدركه، فلما لم ينتبه إليه، وغلبت عليه عاطفة الأُبُوّة اعتبر ذلك نقصًا بالنسبة لمقامه الرفيع، ومنزلته الكبرى التى حباه الله بها .. ومن ثم فقد لجأ إلى الله أن يغفر له هذه العثرة التى لم يقصد إليها؛ ولم يكن له علم بها فقال:

{رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَاّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .

* إبراهيم عليه السلام:

وجاء فى دعاء إبراهيم عليه السلام قوله:

{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} (1).

ونحن لا نعرف لإبراهيم خطيئة، والذى نعلمه أن الله قد اتخذه خليلاً، وأضفى عليه من صفات الكمال ما هو خليق به.

{وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (2).

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (3).

وطلبه من الله أ، يغفر له خطيئته، ليست خطيئة بالمعنى الذى يتبادر إلى الذهن، وإنما هى ما يستشعره فى نفسه من قصور فى تفانيه فى الله، وأداء رسالته، نظرًا لمكانته السامية، ومنزلته الرفيعة.

(1) سورة الشعراء - الآية 82.

(2)

سورة البقرة - الآية 130.

(3)

سورة النحل - الآية 120 - 122.

ص: 186

* يوسف عليه السلام:

والله يقول فى يوسف عليه السلام:

{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} (1).

وليس فى هذا ما يدل أدنى دلالة على أن يوسف هَمَّ بالفاحشة، لأن المقصود بالهَمّ هنا الهَمّ بالضرب والأذى .. وذلك أن امرأة العزيز راودته عن نفسه، فغلقت الأبواب، ودعته إلى نفسها، فاستعصم، وأبى، وقال:

{مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (2).

وإزاء هذا الاستعصام والتأبى والترفع عن التسفل، همت امرأة العزيز بضربه وإلحاق الأذى به، بعد أن عجزت عن إغرائه بكل وسيلة، فهَمّ هو بأن يعاملها بالمثل دفاعًا عن نفسه، لولا أن رأى أن ذلك لا يليق بأمثاله من أصحاب النفوس الكبيرة، ولاسيما أن هذا البيت أواه، وأكرمه؛ فضلاً عن أنها سيدته التى تبنته، وأنها زوجة رجل عظيم فى أمة عظيمة.

فلولا أن رأى ذلك كله، وهو صاحب شعور نبيل وعاطفة جياشة، لقابلها بالمثل، ولأذاها بالضرب المبرح.

ولكنه كذلك لا يرضى بالاستكانة، ويقف ذليلاً يتلقى الضربات من امرأة أصابها جنون الشهوة الحيوانية - وهو من هو - فآثر أن يفر منها تفاديًا من الحرج الذى تعرض له، ولكنها أبت إلا أن تتابعه لتثأر لنفسها منه.

{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} (3).

(1) سورة يوسف - الآية 24.

(2)

سورة يوسف - الآية 23.

(3)

سورة يوسف - الآية 25.

ص: 187

فكان فى ذلك خلاصه.

والذى يدل على هذا أبلغ دلالة:

أولاً: أن الله آتاه العلم والحكمة.

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (1).

ثانيًا: أنه أجاب امرأة العزيز بعد المراودة، بما يدل دلالة قاطعة على أن السوء لا يخطر على قلبه.

{إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (2).

فالذى يقول هذا لا يتصور منه الهم بالفحش.

ثالثًا: أن الله صرف عنه السوء والفحشاء، وأخلصه لنفسه.

{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (3).

ومن كان كذلك لا يمكن أن تتوجه نفسه مجرد توجه إلى سوء أو إلى فحش، لا فى القوم ولا فى العمل.

رابعًا: أن كل هَمّ فى القرآن إنما يقصد به الهَمّ بالأذى، كالضرب والقتل.

{وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} (4).

{وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} (5).

وهكذا لو تتبعنا جميع أسباب براءة يوسف عليه السلام من الهَمّ بالفاحشة، لوجدناها من الكثرة بحيث لا يتسع لها هذا المختصر.

(1) سورة يوسف - الآية 22.

(2)

سورة يوسف - الآية 23.

(3)

سورة يوسف - الآية 24.

(4)

سورة غافر - الآية 5.

(5)

سورة التوبة - الآية 74.

ص: 188

* موسى عليه السلام:

والله عز وجل يقول فى موسى عليه السلام:

{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ *قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (1).

فموسى عليه السلام دخل المدينة، فوجد فيها مصريًا وإسرائيليًا من قومه، وهما يتضاربان، إلا أن الإسرائيلى الذى هو من شيعته وقومه ضعيف غير قادر على مقاومة المصرى، فاستغاث بموسى، لينقذه منه، فحدث - كما يحدث غالبًا فى مثل هذه المواقف - أن ضرب موسى المصرى بيده ضربة أصابت منه مقتلاً، ولم يقصد إلى قتله قط، وإنما قصد أن يمنع عدوانه عن أخيه، فحدث القتل الخطأ الذى لا مؤاخذة عليه إلا من حيث عدم التحرى والوعى الكامل، ولاسيما لمن هم فى أعلى المستوى البشرى كـ موسى، ونحوه من أولى العزم، ولذلك رجع إلى ربه ذاكرًا خطأه طالبًا من الله العفو والغفران.

* داود عليه السلام:

يقول الله سبحانه وتعالى فى داود عليه السلام:

{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ *إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ

(1) سورة القصص - الآية 15، 16.

ص: 189

فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ *إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ *قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ *فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} (1).

وهذه القصة ليس فيها ما يدل على أن داود عليه السلام قد عصى ربه بارتكاب ما ينافى العصمة.

وكل ما يمكن أن يقال فى هذا .. إنه قضى بين الخصمين بعد أن سمع من أحدهما، وقبل أن يسمع من الآخر؛ والتعجيل بالحكم قبل الاستماع إلى الطرفين، يعتبر فى نظر القضاء مخالفة، ولاسيما إذا كان القاضى نبيًا كـ داود عليه السلام، ممن أوتوا الحكمة وفصل الخطاب.

ويمكن أن يقال أيضًا: إنه خاف من تسور الخصمين المحراب، ودخولهما عليه بغتة، وهو بين يدى الله؛ خاف أن يقتلاه - كما كانت عادة بنى إسرائيل من قتلهم الأنبياء - فكان هذا الخوف - وهو فى المحراب وماثل بين يدى الله - مما لا يليق بمكانته، وعظيم قدرته، وحسن صلته بالله، مالك ناصية كل شىء.

وسواء أكان ما ينسب إلى داود عليه السلام من العجلة فى الحكم، أو من

(1) سورة ص - الآية 21 - 25.

ص: 190

الخوف من القتل، فقد ظن أنه مُختبر بما وقع له، فاستغفر ربه، وخر راكعًا منيبًا إلى الله، راجعًا إليه.

ولا يمكن أن تتضمن القصة التى ذكرت فى القرآن معنى آخر وراء ذلك مما ينتقص من قدر نبىّ عظيم.

وما ذكر من أن المقصود بالنعجة هى المرأة، وأن داود اغتصب زوجة أحد قواده بحيلة احتالها عليه، فهو من الإسرائيليات المكذوبة، ومن الدخيل الذى يتنافى مع عظمة الرسالة، وكمال النبوة، وشرف الدعوة التى انتدب الله لها خيار خلقه وصفوة عباده.

* سليمان عليه السلام:

يقول الله سبحانه وتعالى فى سليمان عليه السلام:

{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ *قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (1).

والابتلاء الذى تعرض له سليمان عليه السلام وهو المرض الذى جعل منه جسدًا ملقى على الكرسىّ لا يستطيع معه الحركة - كان سببًا فى ضعف نفسه، وضعف مقاومته، فتاب إلى الله من هذا الضعف الذى يعترى البشر عادة، وكان الأجمل به يتجمل بالصبر الجميل.

ويقال إن سليمان كان له ولد فاجر، انتزع ملكه من أبيه، فكان ذهاب ملك سليمان على يد ابنه الفاجر ابتلاء له، ثم ردّ الله ملكه إليه بعد أن سلب منه، فسأل الله عقب ذلك أن يغفر له ما يمكن أن يكون قد حدث من تقصير فى شكر الله، وسأله أن يهبه ملكًا لا ينبغى لأحد من بعده، فاستجاب الله له.

(1) سورة ص - الآية 34، 35.

ص: 191

* محمد صلى الله عليه وسلم:

وجاء فى القرآن الكريم:

{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (1).

{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً *لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً *وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} (2).

وظاهر الآية الأولى، يوهم بأن للرسول صلى الله عليه وسلم ذنبًا، وأن عليه أن يستغفر الله.

وظاهر الآية الثانية، يفيد بأن الله غفر له صلى الله عليه وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

والمعروف من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه معصوم قبل البعثة وبعدها، فقد عصمه الله تعالى من عبث الطفولة ولهو الشباب، فلم يله كما كان يلهو غيره، لأنه أعد لحمل رسالة الهدى والنور؛ وقد أشار إلى هذا فيما حدَّث به عن نفسه فقال:«ما هممت بشىء مما كان أهل الجاهلية يعملونه غير مرتين، كل ذلك يحول الله بينى وبينه، ثم ما هممت به حتى أكرمنى الله برسالته، قلت ليلة للغلام الذى يرعى معى بـ أعلى مكة: لو أبصرت لى غنمى حتى أدخل مكة، وأسمر بها كما يسمر الشباب، فقال: أفعل، فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة، سمعت عزفًا، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: عرس فلان بفلانة، فجلست أسمع، فضرب الله على أذنى، فنمت، فما أيقظنى إلا حر الشمس، فعدت إلى صاحبى، فسـ ألنى، فـ أخبرته، ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك، ودخلت مكة، فـ أصابنى مثل أول ليلة .. ثم ما هممت بسوء» .

(1) سورة محمد - الآية 19.

(2)

سورة الفتح - الآية 1 - 3.

ص: 192

وكذلك كان صلى الله عليه وسلم مدة حياته لا يخطر السوء على قلبه، وإذا كان ذلك كذلك، فما معنى الذنب الذى أمر أن يستغفر منه، والذى قد غفر له ما تقدم منه وما تأخر؟

مما لا جدال فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تصدر عنه بعض التصرفات التى لم يوح إليه شىء بخصوصها، بل كان أمرها متروكًا إلى اجتهاده الخاص، فكان فى بعض الأحيان يؤديه اجتهاده إلى ما هو حسن، متجاوزًا ما هو أحسن منه، فاعتبر وقوفه عند الرأى الحسن، وعدم إصابته ما هو أحسن منه ذنبًا بالنسبة إليه وبالإضافة إلى مكانته من العلم والعقل والفقه؛ وقد ذكر القرآن أمثلة لذلك:

فمنها اجتهاده فى أسرى بدر، وقبوله الفداء، وقد عتب الله عليه عتبًا أبكاه:

{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1).

أى لولا أن كتاب الله وحكمه سبق بعدم مؤاخذة المجتهد على اجتهاده، لعاقبكم بالعذاب العظيم على قبول الفداء، وعدم الإثخان فى الأرض.

ولما نزلت هذه الآية بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبكى معه أبو بكر رضي الله عنه بكاءً شديدًا، وقال:«لو نزل عذاب من السماء، ما نجا غير عمر» .

ففى هذه الحادثة، لم يكن من الرسول إلا الاجتهاد فى قضية لم يوح إليه فيها بشىء،

(1) سورة الأنفال - الآية 67، 68.

ص: 193

ولم يخطىء فى حكمه فيها، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ، وإنما عدل عما هو أحسن إلى ما هو حسن.

ومنها أنه قبل أعذار المتخلفين عن الغزو دون تمحيص هذه الأعذار، ليتبين له من هو صادق ممن هو كاذب.

{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (1).

ومن ذلك عتاب الله تعالى له فى إخفائه أمر زواجه زينب بنت جحش - بعد طلاق متبناه زيد بن حارثة لها - وكان الله قد أمره بذلك، ليبطل تقليدًا من تقاليد الجاهلية، إذ كانت هذه التقاليد تقضى بتحريم زواج زوجة المتبنى، مثل تحريم الزواج بزوجة الابن من النسب، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجد حرجًا مثل أى إنسان عندما يتحرج من مخالفة التقاليد، والخروج على العادات؛ وقد رفع الله عنه الحرج بعد العتب اليسير.

{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً *مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} (2).

(1) سورة التوبة - الآية 43.

(2)

سورة الأحزاب - الآية 37، 38.

ص: 194

وما قيل غير ذلك فهو محض اختلاق.

ومما يدخل فى هذا النطاق، قول الله عز وجل:

{عَبَسَ وَتَوَلَّى*أَن جَاءهُ الأَعْمَى*وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى*أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى*أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى*فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى *وَمَا عَلَيْكَ أَلَاّ يَزَّكَّى*وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى*وَهُوَ يَخْشَى*فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى} (1).

فهذا عتب من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم حين طمع فى إسلام بعض صناديد قريش فأقبل عليهم يدعوهم إلى الله، وهم ينصتون له، ويقبلون عليه.

وفى هذه الأثناء حضر عبد الله بن أم مكتوم، وأخذ يقاطع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول له: علمنى مما علمك الله، ويكرر ذلك، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يضيق بهذه المقاطعة، ويعبس من الضيق؛ ومع أن الرجل أعمى لا يبصر هذا العبوس، ومع ذلك عاتبه الله فيه ن فكان لما لقيه بعد، يقول له:«أهلاً بمن عاتبنى فيه ربى» .

ومن هذا ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ قول الله عز وجل:

{أَفَرَأَيْتُمُ اللَاّتَ وَالْعُزَّى *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} (2).

تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترجى.

فهذا كذب محض، وافتراء أحقر من أن يناقش، وليس فيه صلة بين هذه الأكذوبة، وبين قول الله عز وجل:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَاّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ

(1) سورة عبس - الآية 1 - 10.

(2)

سورة النجم - الآية 19، 20.

ص: 195

فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1).

فإن الآية تقرر أنه ما من نبىّ، ولا رسول تمنى هداية قومه، واستجابتهم دعوته إلا جاء الشيطان واضعًا أمامه العقبات، وميئسًا له من الوصول إلى الهدف الذى يستهدفه، إلا أن الله سبحانه يعجِّل بإزالة ما يلقى الشيطان من وسوسة تيئسُهُ ويحيى فى نفسه الأمل والرجاء.

هذا هو ما نسب إلى رسل الله وأنبيائه، وهو لم يخرج عن كونه هنات هينات لا تصل إلى درجة المعصية، ولا تتنافى مع العصمة، ولا تنقص من أقدارهم السامية، أو تنال من مكانتهم الرفيعة.

ويأبى اليهود والنصارى إلا أن يجرحوا كثيرًا من الأنبياء والرسل، وينسبوا إليهم ما نزَّههم الله عنه، وصانهم منه، بل إن كتبهم ترمى بعض الأنبياء بكبائر الإثم والفواحش.

والنصارى تغالوا فى هذا، وبالغوا فيه، ليوجبوا العصمة للمسيح وحده، وهم يقصدون بهذا إقامة الأدلة على أن عيسى إله منزه عن الخطايا من جهة، وأنه جاء ليخلص الإنسان من خطيئة أبيه آدم، والتى ورثها عنه أبناؤه، ويفدى البشر بنفسه من جهة أخرى.

وعقيدة الفداء هذه هى أساس ديانة النصارى، ولكن كتبهم - مع اعتقادنا بتحريفها - تكفى فى الرد عليهم.

(1) سورة الحج - الآية 52.

ص: 196

ففيها نصوص قاطعة بأن يوحنا أفضل من المسيح وأعظم منه، وأنه هو الذى تولى تعميده، وأنه معصوم من كل خطيئة، وأنه لم يشرب خمرًا قط.

بينما نسب إلى المسيح أنه شريب خمر، كما نسب إليه عدم استجابته لدعوة أمه حينما دعى إليها (1).

ففى إنجيل لوقا (1 - 65) أنه يكون عظيمًا أمام الرب، وخمرًا ومسكرًا لا يشرب، ومن بطن أمه يمتلئ بروح القدس.

وفيه (66) كانت يد الرب معه.

وقال المسيح فيه (متّى 11) الحق أقول لكم إنه لم يضم بين المولدين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان.

وقال فيه (18) جاء يوحنا لا يأكل، ولا يشرب، فيقولون: فيه شيطان وجاء ابن الإنسان يأكل ويشرب، فيقولون: هو ذا إنسان أكول وشريب خمر محب للعشارين والخطاة.

أما عيسى عليه السلام فقد شهدت الأناجيل بأنه أهان أمه، وهى التى فضلها الله على نساء العالمين.

فقد جاء فى إنجيل لوقا (2 - 8) فأخبروه قائلين: أمك وأخوتك واقفون خارجًا يريدون أن يروك؛ فأجاب وقال: أمى وإخوتى هم الذين يسمعون كلمة الله، ويعملون بها.

(1) ونحن ننزهه عن هذا، ونعتقد أنه كان وجيهًا فى الدنيا والآخرة ومن الصالحين.

ص: 197