الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويقول:
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (1).
وروى البخارى والبيهقى عن عمران بن الحُصَيْن قال: إنى عند النبى صلى الله علية وسلم، إذ جاءه قوم من بنى تميم فقال:«أقبلوا البشرى (2) يا بنى تميم» ، قالوا: بشرتنا فأعطنا، فدخل ناس من أهل اليمن فقال:«اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم» ، قالوا: قبلنا، جئنا لنتفقه فى الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان؟ قال:«كان الله ولم يكن شىء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض، وكتب فى الذكر كل شىء» .
والذكر هو اللوح المحفوظ، وهو خَلْق عظيم من خلق الله، سجل الله فيه جميع الكائنات التى قدرها، أو هو عبارة عن علم الله المتعلق بسائر الموجودات: كليها وجزئيها، صغيرها وكبيرها.
ومعنى قوله وكان عرشه على الماء: أن العرش فى جهة العلو، والماء تحته فى جهة السفل، وليس معناه أنه ملاصق للماء محمول عليه؛ كما يقال السماء على الأرض، أى أنها فوقها دون ملاصقتها لها.
*
بدء الخلق فى رأى علماء الشرع:
ويظهر من الأحاديث أن العرش هو أول المخلوقات العلوية، وأن الماء هو أول المخلوقات المادية، وأنه خلق قبل العرش كما رواه أحمد والترمذى .. وبعد خلق العرش والماء، خلق الله السماوات والأرض.
(1) سورة الرحمن - الآية 26، 27.
(2)
البشرى: هى أن من أسلم نجا من الخلود فى النار.
ويظهر أيضًا من الحديث الصحيح الذى رواه أحمد والترمذى أن أول المخلوقات المعنوية القلم، فقد رويا عن عبادة بن الصامت أن النبى صلى الله علية وسلم قال:«أول ما خلق الله القلم، ثم قال له اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة» .
وأما ما روى من أن أول المخلوقات العقل، فلم يثبت هذا الحديث، وكذلك حديث:" أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر ".
وليس ثمة دليل يمكن التعويل عليه فى أصل الكائنات من جهة الشرع.
* بدء الخلق فى رأى علماء الفلك وطبقات الأرض:
وعلماء الفلك وطبقات الأرض يتفقون مع علماء الشرع فى أن الكون حدث، وتطور بعد أن لم يكن، ولكنهم يختلفون عنهم فى بداية هذا الحدوث وتطوره.
فالشرع لا يتحدث عن ذلك، بينما هم يقولون كما جاء فى كتاب (تاريخ الأرض) لـ (جورج جامبو): إن الكون بدأ تطوره منذ بليون بليون سنة؛ أما الأرض فقد نشأت حديثًا جدًا إذ لم توجد إلا منذ بليونين من السنين فقط، وظهرت الحياة على الأرض منذ بليون سنة، والحيوانات البرمائية منذ 200 مليون سنة، أما الحيوانات الثديية - التى يعتبر الإنسان أحد فروعها - فقد بدأ ظهورها على الأرض منذ 120 مليون سنة.
والإنسان هو أحدث الوافدين على الأرض، إذ بدأ على صورته الإنسانية منذ 50 مليون سنة.
والله أعلم بحقيقة ذلك.
ولا يصح أن يقال: إن الله خلق الخلق، فمن خلقه؟ لأن هذا السؤال خطأ، لأن
الخالق لا يكون مخلوقًا؛ لأنه لو كان مخلوقًا لاحتاج إلى خالق، وهكذا إلى ما لا نهاية؛ وعقولنا القاصرة لا تدرك حقيقة نفسها، فكيف بحقيقة الذات الإلهية؟ وقد نهينا أن نبحث فيها، ففى حديث عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا: خلق الله الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئًا فليقل: آمنت بالله» (1).
وقد كتب أحد العلماء الباحثين جوابًا عن هذا السؤال موضحًا له بمثال، فقال: " إذا وضعت كتابًا على مكتبك، ثم خرجت من الحجرة، وعدت إليها بعد قليل، فرأيت الكتاب الذى تركته على المكتب موضوعًا فى الدرج، فإنك تعتقد تمامًا أن أحدًا لابد أن يكون قد وضعه فى الدرج؛ لأنك تعلم من صفات هذا الكتاب أنه لا ينتقل بنفسه .. احفظ هذه النقطة، وانتقل معى إلى نقطة أخرى.
لو كان معك فى حجرة مكتبك شخص جالس على الكرسى، ثم خرجت، وعدت إلى الحجرة، فرأيته جالسًا على البساط مثلاً، فإنك لا تسأل عن سبب انتقاله، ولا تعتقد أن أحدًا نقله من موضعه؛ لأنك تعلم من صفات هذا الشخص أنه ينتقل بنفسه، ولا يحتاج إلى من ينقله .. احفظ هذه النقطة الثانية ".
ثم أقول لك: " لما كانت هذه المخلوقات محدثة ونحن نعلم من طبائعها وصفاتها أنها لا توجد بذاتها، بل لابد لها من موجد، عرفنا أن موجدها هو الله تبارك وتعالى، ولما كان كمال الألوهية يقتضى عدم احتياج الإله إلى غيره، بل إن من صفاته قيامه بنفسه، عرفنا أن الله تبارك وتعالى موجود بذاته وغير محتاج إلى من يوجده ..
(1) رواه مسلم.
وإذا وضَعْت النقطتين السابقتين إلى جانب هذا الكلام، اتضح لك هذا المقام، والعقل البشرى أقصر من أن يتورط فى أكثر من ذلك.
* ليس كمثله شىء:
والله سبحانه لا يماثله شىء، ولا يماثل شيئًا، فكل ما خطر ببالك، فهو بخلاف ذلك، يقول الله سبحانه:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1).
ومماثلة غير الله فى بعض الصفات، إنما هى من حيث التسمية لا من حيث الحقيقة، فإذا قيل: إن فلانًا عالم
وحىّ وموجود وقادر وحكيم ورحيم، فهو من حيث الظاهر فقط، ومع ذلك فإن وجود العلم والحياة، والقدرة والحكمة والرحمة فى الله كاملة غاية الكمال، ووجودها فى الأفراد ناقصة غاية النقص، بالإضافة إلى الله جل شأنه.
{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2).
إن الإنسان خُلق ضعيفًا، والله قوى عزيز.
والإنسان خلق فقيرًا، والله غنى حميد.
والإنسان والد ومولود، والله لم يلد ولم يولد.
والإنسان نساى، والله لا يضل ولا ينسى.
والإنسان ناقص، والله هو الكمال المطلق.
والإنسان محكوم عليه بالموت، والله حىّ لا يموت.
(1) سورة الشورى - الآية 11.
(2)
سورة النحل - الآية 60.
يقول سبحانه:
فالآية تقرر:
1 -
أن الله واحد فى ألوهيته لا يعبد معه غيره؛ لأنه هو الحى التام الحياة والقيوم الذى قامت به السماوات والأرض.
2 -
وأنه مقدس عن مماثلة غيره من الأحياء، فلا يأخذه نوم، ولا سنة ولا فتور يسبق النوم.
3 -
وأن الكون كله: أرضه وسماؤه مملوك له، وأن كل ما فيه ومن فيه خاضع له، لا يخرج عن تقديره وتدبيره.
4 -
وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ومشيئته.
5 -
وأن علمه محيط بكل شىء: الماضى والحاضر والمستقبل.
6 -
ولا يدرك أحد شيئًا من علمه إلا بالقدر الذى يشاؤه.
7 -
وأن كرسيه وسع السماوات والأرض.
8 -
وأنه لا يثقله حفظهما، وهو العلىّ العظيم.
وقد سئل النبى صلى الله علية وسلم: صف لنا ربك .. فأنزل الله عزوجل:
(1) سورة البقرة - الآية 255.
أى لم يكن له مماثل ولا مكافئ.
وما ورد فى الآيات الكريمة والسنّة المطهرة مما يوهم بظاهره مشابهة الله لخلقه فى بعض صفاتهم، فنؤمن به بدون تشبيه، ولا تمثيل، ولا تعطيل، ويسعنا ما يسع السلف رضى الله عنهم وأرضاهم.
وأحسن ما يقال فى ذلك ما قاله الإمام الشافعى: " آمنت بكلام الله على مراد الله، وبكلام رسول الله على مراد رسول الله ".
* الأحد:
وهو سبحانه واحد فى ذاته وصفاته وأفعاله.
ووحدة الذات: معناها أن ذاته ليست مركبة من أجزاء، وأنه لا شريك له فى ملكه:
{سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (2).
ووحدة الصفات معناها: أنه ليس لأحد صفة تشبه صفة من صفاته.
ووحدة الأفعال معناها: أنه ليس لأحد غيره فعل من الأفعال، فالله خالق كل شىء، ومبدع كل شىء، فهو سبحانه مستقَل بالإيجاد والإبداع:
فهو (أحد)، أى أنه واحد فى ذاته وصفاته وأفعاله، وأن جميع الأمور إليه، وكل شىء فى قبضته.
(1) سورة الإخلاص.
(2)
سورة الزمر - الآية 4.
وهو (الصمد)، أى الغنى الذى يقصده الناس فى حوائجهم.
(لم يلد): لم ينبثق عنه ولد، فهو كامل غاية الكمال.
(ولم يولد): لم ينبثق عن غيره؛ لأنه لا أول لوجوده.
(ولم يكن له كفوًا أحد): لم يكن له أحد يساويه، ويماثله.
ولو وجد مع الله شريك له فى إلهيّته لبطل نظام هذا الكون العجيب:
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (1).
أى لو كان فى السماوات والأرض آلهة تدبر أمرهما غير الخالق لهما لاختل نظامهما لتنازع المشرفين عليهما؛ لأن كل واحد يريد أن يكون هو المتصرف؛ وهذا كقوله:
{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا
يَصِفُونَ} (2).
وقد تضمنت الآية:
1 -
أن الله سبحانه لم يتخذ ولدًا لاستلزام انفصال الولد عن أبيه، وذلك يقتضى التركيب المحال على الله، ولأن الولد يجانس أباه ويماثله، والله ليس كمثله شىء.
2 -
والله لا ينبغى أن يكون معه من إله؛ لأنه لو كان معه إله يشاركه فى الألوهية، ويخلق معه، لذهب كل واحد بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض .. أى غالب بعضهم بعضًا ليوسع ملكه، ولو حصل هذا لفسد نظام العالم.
ولو كان معه آلهة كما يزعم المشركون، لطلبوا مغالبة الله ومزاحمة ذى الجلال.
(1) سورة الأنبياء - الآية 22.
(2)
سورة المؤمنون - الآية 91.
(3)
سورة الإسراء - الآية 42، 43.