الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَالْكَرَاهَةُ سَدٌّ لِلذَّرِيعَةِ وَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ قَوْله تَعَالَى لِنُوحٍ عليه السلام {فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46] وَقَوْلُ نُوحٍ عليه السلام {إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود: 47] مَعْنَاهُ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِجَوَازِ سُؤَالِهِ عِلْمٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِالْجَوَازِ شَرْطٌ فِي جَوَازِ السُّؤَالِ فَمَا لَا يُعْلَمُ جَوَازُهُ لَا يَجُوزُ سُؤَالُهُ وَأَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46] وَاللَّفْظُ الْعَجَمِيُّ غَيْرُ مَعْلُومِ الْجَوَازِ فَيَكُونُ السُّؤَالُ بِهِ غَيْرَ جَائِزٍ وَلِذَلِكَ مَنَعَ مَالِكٌ مِنْ الرَّقْيِ بِهِ
(الْقِسْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ) مِنْ الدُّعَاءِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ الدُّعَاءُ عَلَى غَيْرِ الظَّالِمِ
؛ لِأَنَّهُ سَعَى فِي إضْرَارٍ غَيْرِ مُسْتَحِقٍّ فَيَكُونُ حَرَامًا كَسَائِرِ الْمَسَاعِي الضَّارَّةِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، فَإِنْ قُلْت اللَّهُ سبحانه وتعالى عَالِمٌ بِأَحْوَالِ الْعِبَادِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا فَلَا يُجِيبُ دُعَاءَ مَنْ دَعَا ظُلْمًا لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ إضْرَارٌ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ وَهُوَ سبحانه وتعالى لَا يَظْلِمُ أَحَدًا فَلَا يَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ سَعَيَا لِلْإِضْرَارِ وَلَا وَسِيلَةً لَهُ قُلْت لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ ضَرَرًا وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مُسَلَّمٌ وَلَكِنَّ الْمَدْعُوَّ عَلَيْهِ لَا يَخْلُو غَالِبًا مِنْ ذُنُوبٍ اقْتَرَفَهَا أَوْ سَيِّئَاتٍ اكْتَسَبَهَا مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الدَّاعِي فَيَسْتَجِيبُ اللَّهُ تَعَالَى دُعَاءَ هَذَا الدَّاعِي الظَّالِمِ بِهِ عَلَيْهِ وَيَجْعَلُهُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
فَالْكَرَاهَةُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ وَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ قَوْله تَعَالَى لِنُوحٍ عليه السلام {فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46] وَقَوْلُ نُوحٍ عليه السلام {إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود: 47] مَعْنَاهُ أَنْ أَسْأَلَك مَا لَيْسَ لِي بِجَوَازِ سُؤَالِهِ عِلْمٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِالْجَوَازِ شَرْطٌ فِي جَوَازِ السُّؤَالِ فَمَا لَا يُعْلَمُ جَوَازُهُ لَا يَجُوزُ سُؤَالُهُ، وَأَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46] وَاللَّفْظُ الْعَجَمِيُّ غَيْرُ مَعْلُومِ الْجَوَازِ فَيَكُونُ السُّؤَالُ بِهِ غَيْرَ جَائِزٍ. وَلِذَلِكَ مَنَعَ مَالِكٌ الرَّقْيَ بِهِ) .
قُلْت مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ صَحِيحٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
[الْقِسْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ الدُّعَاءِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ الدُّعَاءُ عَلَى غَيْرِ الظَّالِمِ]
قَالَ (الْقِسْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ الدُّعَاءِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ الدُّعَاءُ عَلَى غَيْرِ الظَّالِمِ لِأَنَّهُ سَعْيٌ فِي إضْرَارٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ فَيَكُونُ حَرَامًا كَسَائِرِ الْمَسَاعِي الضَّارَّةِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، فَإِنْ قُلْت اللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِأَحْوَالِ الْعِبَادِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا فَلَا يُجِيبُ دُعَاءَ مَنْ دَعَا ظُلْمًا لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ إضْرَارٌ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ وَهُوَ سبحانه وتعالى لَا يَظْلِمُ أَحَدًا فَلَا يَكُونُ هَذَا الدُّعَاءُ سَعْيًا لِلْإِضْرَارِ وَلَا وَسِيلَةً لَهُ قُلْت لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ ضَرَرًا، وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مُسَلَّمٌ وَلَكِنَّ الْمَدْعُوَّ عَلَيْهِ لَا يَخْلُو غَالِبًا مِنْ ذُنُوبٍ اقْتَرَفَهَا أَوْ سَيِّئَاتٍ اكْتَسَبَهَا مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الدَّاعِي فَيَسْتَجِيبُ اللَّهُ تَعَالَى دُعَاءَ هَذَا الدَّاعِي الظَّالِمِ بِدُعَائِهِ وَيَجْعَلُهُ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
بِذَلِكَ إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَصْلًا كَانَ عَاصِيًا وَلَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ مَذْهَبَ الِاعْتِزَالِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ إلَّا الْخَيْرَ وَلَا يَفْعَلُ الشَّرَّ إلَّا شِرِّيرٌ وَأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَ نَفْسِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِقُدْرَةٍ خَلْقهَا اللَّهُ فِيهِ وَهُوَ إمَّا كُفْرٌ أَوْ فُسُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ كَمَذْهَبِ الْحَشَوِيَّةِ مِنْ اعْتِقَادِ جِسْمِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا بِنَاء عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ يَسْبِقُ إلَى طَبْعِ الْإِنْسَانِ الْبَشَرِيِّ بِحَسَبِ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ حَتَّى يُرْتَاضَ بِالْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ.
فَمِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ أَحَدٍ إنَّمَا يُرِيدُ بِهَذَا الدُّعَاءِ الْخَيْرَ وَإِنَّهُ يُرِيدُ بِمُقْتَضَى مَا يَسْبِقُ إلَى طَبْعِهِ الْبَشَرِيِّ مِنْ شَائِبَةِ الِاعْتِزَالِ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ شَأْنُ اللَّهِ تَعَالَى يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ. قَالَ فَاحْذَرْ شَائِبَةَ الِاعْتِزَالِ الَّتِي تَسْبِقُ إلَى الطِّبَاعِ وَاقْصِدْ بِنِيَّتِك مَا يَلِيقُ بِجَلَالِ رَبِّك وَلَمْ يُلْفَتْ مَعَ ذَلِكَ إلَى قَرِينَةِ الْحَالِ فِي كَوْنِهِ لَا يُرِيدُ لِنَفْسِهِ إلَّا الْخَيْرَ مَعَ سَلَامَتِهِ مِنْ اعْتِقَادِ الِاعْتِزَالِ مِنْ كَوْنِهَا تُقَيِّدُ مُطْلَقَ دُعَائِهِ كَمَا الْتَفَتَ إلَيْهَا ابْنُ الشَّاطِّ فَقَالَ لَا كُفْرَ وَلَا مَعْصِيَةَ إذَا لَمْ يَنْوِ الدَّاعِي بِهَذَا شَيْئًا أَصْلًا وَكَانَ مِمَّنْ لَمْ يَعْتَقِدْ مَذْهَبَ الِاعْتِزَالِ؛ لِأَنَّ قَرِينَةَ حَالِهِ تُقَيِّدُ مُطْلَقَ دُعَائِهِ، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ افْعَلْ بِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا يَلِيقُ بِعَظَمَتِك أَوْ بِجَلَالِك أَوْ بِكِبْرِيَائِك أَوْ بِذَاتِك أَوْ بِرُبُوبِيَّتِك أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا يَأْتِي مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ هَبْنِي مَا يَلِيقُ بِقَضَائِك وَقُدْرَتِك فَإِنَّ اللَّائِقَ بِعَظَمَتِهِ تَعَالَى وَنَحْوِ ذَلِكَ الْفَضْلُ وَالْعَدْلُ وَهُمَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٌ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عَظَمَتِهِ وَاللَّائِقُ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ الْكَثِيرُ وَالْحَقِيرُ وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ وَمَحْمُودُ الْعَاقِبَةِ وَغَيْرُ مَحْمُودِهَا فَالْكَلَامُ عَلَى هَذَيْنِ الْمِثَالَيْنِ كَالْكَلَامِ عَلَى الْمِثَالِ الْأَوَّلِ بِلَا فَرْقٍ.
2 -
(وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ) مِنْ السِّتَّةِ الدُّعَاءُ بِالْأَلْفَاظِ الْعَجَمِيَّةِ الَّتِي غَلَبَ عَلَى عَادَةِ مُسْتَعْمَلِيهَا مِنْ الْعَجَمِ الضَّلَالُ وَالْفَسَادُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِنُوحٍ عليه السلام {فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46] وَقَوْلِ نُوحٍ عليه السلام {إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود: 47] فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنْ أَسْأَلَك مَا لَيْسَ لِي بِجَوَازِ سُؤَالِهِ عِلْمٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِالْجَوَازِ شَرْطٌ فِي جَوَازِ السُّؤَالِ فَمَا لَمْ يُعْلَمْ جَوَازُهُ لَا يَجُوزُ سُؤَالُهُ وَأَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46] وَاللَّفْظُ الْعَجَمِيُّ لَا سِيَّمَا الصَّادِرُ مِمَّنْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعَجَمِ الضَّلَالُ وَالْفَسَادُ غَيْرُ مَعْلُومِ الْجَوَازِ لِجَوَازِ اشْتِمَالِهِ عَلَى مَا يُنَافِي جَلَالَ الرُّبُوبِيَّةِ فَلِذَا مَنَعَ الْعُلَمَاءُ مِنْ الدُّعَاءِ بِالْأَلْفَاظِ الْعَجَمِيَّةِ الصَّادِرَةِ مِمَّنْ غَلَبَ عَلَى عَادَتِهِمْ مِنْ الْعَجَمِ ذَلِكَ حَتَّى يُعْلَمَ خُلُوصُهَا مِنْ الْفَسَادِ وَمَنَعَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ الرَّقْيِ بِهَا، وَأَمَّا الصَّادِرَةُ مِمَّنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى عَادَتِهِمْ مِنْ الْعَجَمِ ذَلِكَ فَيُكْرَهُ الدُّعَاءُ وَالرَّقْيُ بِهَا سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ.
2 -
(وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ) مِنْ السِّتَّةِ
سَبَبًا لِلِانْتِقَامِ مِنْ هَذَا الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ بِذُنُوبِهِ السَّالِفَةِ كَمَا يُنْفِذُ فِيهِ سَهْمَ الْعَدُوِّ وَالْكَافِرِ وَسَيْفَ الْقَاتِلِ لَهُ ظُلْمًا إمَّا مُؤَاخَذَةً لَهُ بِذُنُوبِهِ أَوْ رَفْعًا لِدَرَجَاتِهِ مَعَ أَنَّ صَاحِبَ السَّيْفِ وَالسَّهْمِ ظَالِمٌ فَكَذَلِكَ صَاحِبُ الدُّعَاءِ ظَالِمٌ بِدُعَائِهِ وَيُنْفِذُ اللَّهُ دُعَاءَهُ كَسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ، وَلِذَلِكَ يُسَلِّطُ اللَّهُ عَلَيْهِ السِّبَاعَ وَالْهَوَامَّ لِلِانْتِقَامِ وَإِنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ فِي حَقِّهَا مَا يُوجِبُ ذَلِكَ وَيُعَاقِبُ هَذَا الدَّاعِي أَيْضًا عَلَى دُعَائِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالْكُلُّ عَدْلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ لَوْ جَوَّزْنَا خُلُوَّ هَذَا الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ مِنْ الذُّنُوبِ مُطْلَقًا وَطَهَارَتِهِ مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ لَجَوَّزْنَا اسْتِجَابَةَ هَذَا الدُّعَاءِ لِيَجْعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَإِظْهَارِ صَبْرِ الْعَبْدِ وَرِضَاهُ فَيَحْصُلَ لَهُ الْجَزِيلُ مِنْ الثَّوَابِ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ عَلَى الظَّالِمِ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِجَوَازِهِ وَالْمُسْتَنَدُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41] لَكِنَّ الْأَحْسَنَ الصَّبْرُ وَالْعَفْوُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
سَبَبًا لِلِانْتِقَامِ مِنْ هَذَا الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ بِذُنُوبِهِ السَّالِفَةِ كَمَا يَنْفُذُ فِيهِ سَهْمُ الْعَدُوِّ وَالْكَافِرِ وَسَيْفُ الْقَاتِلِ لَهُ ظُلْمًا إمَّا مُؤَاخَذَةً لَهُ بِذُنُوبِهِ أَوْ رَفْعًا لِدَرَجَاتِهِ مَعَ أَنَّ صَاحِبَ السَّيْفِ وَالسَّهْمِ ظَالِمٌ فَكَذَلِكَ صَاحِبُ الدُّعَاءِ ظَالِمٌ بِدُعَائِهِ، وَيُنْفِذُ اللَّهُ دُعَاءَهُ كَسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ، وَلِذَلِكَ يُسَلِّطُ اللَّهُ عَلَيْهِ السِّبَاعَ وَالْهَوَامَّ لِلِانْتِقَامِ، وَإِنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ فِي حَقِّهَا مَا يُوجِبُ ذَلِكَ وَيُعَاقِبُ هَذَا الدَّاعِيَ أَيْضًا عَلَى دُعَائِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالْكُلُّ عَدْلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ لَوْ جَوَّزْنَا خُلُوَّ هَذَا الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ مِنْ الذُّنُوبِ مُطْلَقًا وَطَهَارَتَهُ مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ لَجَوَّزْنَا اسْتِجَابَةَ هَذَا الدُّعَاءِ لِيَجْعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَإِظْهَارِ صَبْرِ الْعَبْدِ وَرِضَاهُ فَيَحْصُلَ لَهُ الْجَزِيلُ مِنْ الثَّوَابِ) .
قُلْت مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ صَحِيحٌ إلَّا قَوْلَهُ وَإِظْهَارُ صَبْرِ الْعَبْدِ إنْ كَانَ يُرِيدُ بِهِ اشْتِرَاطَ الصَّبْرِ فِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ بِالْمَصَائِبِ وَالْآلَامِ وَشِبْهِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ غَيْرُ مُكْتَسَبٍ عَلَى مَا سَبَقَ لَهُ فِي الْفَرْقِ الثَّالِثِ وَالسِّتِّينَ وَالْمِائَتَيْنِ وَسَبَقَ الْقَوْلُ فِي مُخَالَفَتِي إيَّاهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُرِدْ اشْتِرَاطَ الصَّبْرِ فِي ذَلِكَ بَلْ أَرَادَ إنَّمَا ذَكَرَهُ مِنْ إجَابَةِ دَعْوَةِ الظَّالِمِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمُصِيبَاتِ يَكُونُ سَبَبًا لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الصَّبْرِ وَيَكُونُ أَيْضًا سَبَبًا لِوُقُوعِ الصَّبْرِ مِنْ الصَّابِرِ فَقَدْ خَالَفَ قَوْلَهُ هُنَالِكَ وَنَاقَضَهُ بِهَذَا الْقَوْلِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ (وَأَمَّا الدُّعَاءُ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رحمه الله وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِجَوَازِهِ وَالْمُسْتَنَدُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41] لَكِنَّ الْأَحْسَنَ الصَّبْرُ وَالْعَفْوُ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الدُّعَاءُ عَلَى غَيْرِ الظَّالِمِ لِأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَحْوَالِ الْعِبَادِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا وَأَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ إضْرَارٌ بِغَيْرِ مُسْتَحِقٍّ إلَّا أَنَّ الْمَدْعُوَّ عَلَيْهِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَفَ ذُنُوبًا أَوْ اكْتَسَبَ سَيِّئَاتٍ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الدَّاعِي وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَقِيًّا مِنْ الذُّنُوبِ وَطَاهِرًا مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ فَيَجُوزُ عَلَى الْأَوَّلِ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الدُّعَاءَ وَيَجْعَلَهُ سَبَبًا لِلِانْتِقَامِ مِنْ هَذَا الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ بِذُنُوبِهِ السَّالِفَةِ.
وَيَجُوزُ عَلَى الثَّانِي أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ هَذَا الدُّعَاءَ لِيَجْعَلَهُ سَبَبًا لِرَفْعِ دَرَجَاتِ هَذَا الْعَبْدِ صَبَرَ أَمْ لَا وَسَبَبًا لِوُقُوعِ الصَّبْرِ مِنْ الصَّابِرِ فَيَحْصُلُ لَهُ الْجَزِيلُ مِنْ الثَّوَابِ فَافْهَمْ وَيَكُونَ الدَّاعِي عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ ظَالِمًا بِدُعَائِهِ الَّذِي أَنْفَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سَعَى فِي إضْرَارٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ وَكُلُّ الْمَسَاعِي الضَّارَّةِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ حَرَامٌ فَيُعَاقِبُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى دُعَائِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يُنْفِذُ فِي عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ سَهْمَ الْعَدُوِّ وَالْكَافِرِ وَسَيْفَ الْقَاتِلِ لَهُ ظُلْمًا كَمَا يُسَلِّطُ عَلَيْهِ السِّبَاعَ وَالْهَوَامَّ، وَإِنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ فِي حَقِّهَا مَا يُوجِبُ ذَلِكَ إمَّا مُؤَاخَذَةً لَهُ بِذُنُوبِهِ أَوْ رَفْعًا لِدَرَجَاتِهِ فَكَمَا أَنَّ صَاحِبَ السَّيْفِ وَالرُّمْحِ ظَالِمٌ وَيُنْفِذُ اللَّهُ سَيْفَهُ وَرُمْحَهُ فِي الْمَظْلُومِ وَيُعَاقِبُهُ عَلَى ظُلْمِهِ كَذَلِكَ صَاحِبُ الدُّعَاءِ ظَالِمٌ بِدُعَائِهِ وَيُنْفِذُ اللَّهُ دُعَاءَهُ فِي الْمَظْلُومِ وَيُعَاقِبُهُ عَلَى ظُلْمِهِ أَيْضًا وَالْكُلُّ عَدْلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى.
(تَنْبِيهٌ) أَجَازَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الدُّعَاءَ عَلَى الظَّالِمِ وَادَّعَى الْأَصْلُ أَنَّ دَلِيلَهُ قَوْله تَعَالَى {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41] . قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِانْتِصَارِ الَّذِي هُوَ الِانْتِصَافُ مِنْهُ عَلَى دَرَجَةٍ لَا يَكُونُ فِيهَا زِيَادَةً عَلَى قَدْرِ الظُّلْمِ وَبِالْوَجْهِ الَّذِي أُبِيحَ الِانْتِصَافُ بِهِ وَجَوَازُ الِانْتِصَافِ لَا يَسْتَلْزِمُ جَوَازَ الدُّعَاءِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ بِتَيْسِيرِ أَسْبَابِ الِانْتِصَافِ مِنْهُ فَقَدْ يُسَوَّغُ دَعْوَى دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَيْهِ ضِمْنًا لَا صَرِيحًا، وَأَمَّا الدُّعَاءُ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِهِ لَا ضِمْنًا وَلَا صَرِيحًا اهـ فَمِنْ هُنَا قَالَ الْأَصْلُ وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ وَحَيْثُ قُلْنَا بِجَوَازِ الدُّعَاءِ عَلَى الظَّالِمِ فَلَا تَدْعُو عَلَيْهِ بِمُؤْلِمَةٍ مِنْ أَنْكَادِ الدُّنْيَا لَمْ تَقْتَضِهَا جِنَايَتُهُ عَلَيْك بِأَنْ يَجْنِيَ عَلَيْك جِنَايَةً فَتَدْعُوَ عَلَيْهِ بِأَعْظَمَ مِنْهَا فَتَكُونَ جَانِيًا عَلَيْهِ بِالْمِقْدَارِ الزَّائِدِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] بَلْ تَدْعُو عَلَيْهِ بِمُؤْلِمَةٍ مِنْ أَنْكَادِ الدُّنْيَا تَقْتَضِيهَا جِنَايَتُهُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَدْعُوَ عَلَيْهِ بِمُلَابَسَةِ مَعْصِيَةٍ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى وَلَا بِالْكُفْرِ صَرِيحًا أَوْ ضِمْنًا بِأَنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ اُرْزُقْهُ سُوءَ الْخَاتِمَةِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى طَلَبِ الْكُفْرِ.
وَإِنْ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43] أَيْ مِنْ مَعْزُومِهَا وَمَطْلُوبِهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنْ زَادَ فِي الْإِحْسَانِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ دَعَا لَهُ بِالْإِصْلَاحِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الظُّلْمِ فَقَدْ أَحْسَنَ إلَى نَفْسِهِ بِمَثُوبَةِ الْعَفْوِ وَتَحْصِيلِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَإِلَى الْجَانِي بِالتَّسَبُّبِ إلَى إصْلَاحِ صِفَاتِهِ وَإِلَى النَّاسِ بِالتَّسَبُّبِ إلَى كِفَايَتِهِمْ شَرَّهُ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنْ الْإِحْسَانِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَفُوتَ اللَّبِيبَ لَا سِيَّمَا وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا دَعَا بِمَكْرُوهٍ عَلَى غَيْرِهِ تَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ وَلَك مِثْلُهُ وَإِذَا دَعَا بِخَيْرٍ لِأَحَدٍ تَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ وَلَك مِثْلُهُ.
(تَنْبِيهٌ) مِنْ الظُّلْمَةِ مَنْ إذَا عَلِمَ بِالْمُسَامَحَةِ وَالْعَفْوِ زَادَ طُغْيَانُهُ وَلَا يَرْدَعُهُ إلَّا إظْهَارُ الدُّعَاءِ عَلَيْهِ فَلْيَكُنْ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43] أَيْ مِنْ مَعْزُومِهَا وَمَطْلُوبِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ زَادَ فِي الْإِحْسَانِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ دَعَا لَهُ بِالْإِصْلَاحِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الظُّلْمِ فَقَدْ أَحْسَنَ إلَى نَفْسِهِ بِمَثُوبَةِ الْعَفْوِ وَتَحْصِيلِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَإِلَى الْجَانِي بِالتَّسَبُّبِ إلَى إصْلَاحِ صِفَاتِهِ وَإِلَى النَّاسِ كَافَّةً بِالتَّسَبُّبِ إلَى كِفَايَتِهِمْ شَرَّهُ فَهَذِهِ ثَلَاثُ أَنْوَاعٍ مِنْ الْإِحْسَانِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَفُوتَ اللَّبِيبَ لَا سِيَّمَا وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذْ دَعَا بِمَكْرُوهٍ عَلَى غَيْرِهِ تَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ وَلَك مِثْلُهُ، وَإِذَا دَعَا بِخَيْرٍ تَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ وَلَك مِثْلُهُ) قُلْت لَيْسَ فِي الْآيَةِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ عَلَى الظَّالِمِ، وَإِنَّمَا فِيهَا الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الِانْتِصَارِ وَالِانْتِصَارُ هُوَ الِانْتِصَافُ مِنْهُ عَلَى دَرَجَةٍ لَا يَكُونُ فِيهَا زِيَادَةٌ عَلَى قَدْرِ الظُّلْمِ وَبِالْوَجْهِ الَّذِي أُبِيحَ الِانْتِصَافُ بِهِ، وَجَوَازُ الِانْتِصَافِ لَا يَسْتَلْزِمُ جَوَازَ الدُّعَاءِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ بِتَيْسِيرِ أَسْبَابِ الِانْتِصَافِ مِنْهُ فَقَدْ يُسَوِّغُ دَعْوَى دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ ضِمْنًا لَا صَرِيحًا، وَأَمَّا الدُّعَاءُ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا بِضِمْنٍ وَلَا صَرِيحٍ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ إنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ دَعَا لَهُ فَقَدْ أَحْسَنَ إلَى نَفْسِهِ وَإِلَى الْجَانِي صَحِيحٌ أَيْضًا، وَمَا عَقَّبَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ الْمُخْبِرِ عَنْ الْمَلَائِكَةِ تَقُولُ وَلَك مِثْلُهُ إنْ كَانَ أَرَادَ حَمْلَهُ عَلَى إطْلَاقِهِ فِي الدُّعَاءِ بِالْمَكْرُوهِ، وَكَذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ بِالْمَحْبُوبِ فَلَا أَرَى ذَلِكَ صَحِيحًا بَلْ إنْ دَعَا عَلَى ظَالِمٍ بِأَنْ يُصَابَ بِمِثْلِ مَا أَصَابَ بِهِ فَلَا يَقُولُ الْمَلَكُ وَلَك مِثْلُهُ، وَإِنَّمَا يَقُولُ الْمَلَكُ ذَلِكَ إذَا دَعَا عَلَى بَرِيءٍ أَوْ عَلَى جَانٍ بِأَزْيَدَ فِي جِنَايَتِهِ هَذَا فِي جَانِبِ الْمَكْرُوهِ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ فِي جَانِبِ الْمَحْبُوبِ فَلَا أَرَاهُ إلَّا عَلَى إطْلَاقِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ (تَنْبِيهٌ مِنْ الظَّلَمَةِ مَنْ إذَا عَلِمَ بِالْمُسَامَحَةِ وَالْعَفْوِ زَادَ طُغْيَانُهُ وَلَا يَرْدَعُهُ إلَّا إظْهَارُ الدُّعَاءِ عَلَيْهِ فَلْيَكُنْ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
كَانَ الصَّحِيحُ - كَمَا قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ - أَنَّ مُرِيدَ الْمَعْصِيَةِ لَيْسَ بِعَاصٍ إلَّا إنْ اقْتَرَنَ بِإِرَادَتِهِ الْمَعْصِيَةَ قَوْلٌ فِي الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ فِي الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ فِعْلٌ فَذَلِكَ مَعْصِيَةٌ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ الْإِرَادَةِ فَلَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ» فَإِرَادَةُ الْكُفْرِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ عُمُومِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَلَا أَعْلَمُ لِهَذَا الْحَدِيثِ الْآنَ مُعَارِضًا فَلَا كُفْرَ لِمُرِيدِ الْكُفْرِ حَيْثُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ الْكُفْرُ بِقَوْلٍ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْكُفْرُ قَوْلًا، أَوْ بِفِعْلٍ إنْ كَانَ ذَلِكَ فِعْلًا فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مُرِيدُ مَا يَلْزَمُ عَنْهُ الْكُفْرُ كَافِرًا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَتْ إرَادَتُهُ كُفْرَ الْغَيْرِ بِقَصْدِ نَفْعِهِ لِرُجْحَانِ الْكُفْرِ عِنْدَهُ عَلَى الْإِيمَانِ فَهَذَا كُفْرٌ، وَإِنْ كَانَتْ إرَادَتُهُ كُفْرَ الْغَيْرِ بِقَصْدِ إضْرَارِهِ فَهِيَ مَعْصِيَةٌ غَيْرُ كُفْرٍ اهـ قُلْت، وَكَذَا إنْ أَرَادَ مَعْصِيَةَ الْغَيْرِ بِقَصْدِ نَفْعِهِ بِالْمَعْصِيَةِ لِرُجْحَانِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى الطَّاعَةِ عِنْدَهُ أَوْ أَرَادَ مَعْصِيَةَ الْغَيْرِ بِقَصْدِ إضْرَارِهِ فَهِيَ لِمَكَانِ الرِّضَا بِالْمَعْصِيَةِ فِي الْأَوَّلِ وَإِضْرَارِ الْغَيْرِ فِي الثَّانِي فَافْهَمْ. بَلْ الْأَحْسَنُ لِلْمَظْلُومِ الصَّبْرُ وَالْعَفْوُ عَنْ الظَّالِمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43] أَيْ مِنْ مَعْزُومِهَا وَمَطْلُوبِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
فَإِنْ زَادَ فِي الْإِحْسَانِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ دَعَا لَهُ بِالْإِصْلَاحِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الظُّلْمِ فَقَدْ أَحْسَنَ إلَى نَفْسِهِ بِمَثُوبَةِ الْعَفْوِ وَتَحْصِيلِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَإِلَى الْجَانِي بِالتَّسَبُّبِ إلَى إصْلَاحِ صِفَاتِهِ وَإِلَى النَّاسِ كَافَّةً بِالتَّسَبُّبِ إلَى كِفَايَتِهِمْ شَرَّهُ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنْ الْإِحْسَانِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَفُوتَ اللَّبِيبَ لَا سِيَّمَا وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا دَعَا بِمَكْرُوهٍ عَلَى بَرِيءٍ أَوْ عَلَى جَانٍ بِأَزْيَدَ مِنْ جِنَايَتِهِ تَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ وَلَك مِثْلُهُ، وَإِنْ دَعَا بِخَيْرٍ لِأَحَدٍ جَانِيًا أَوْ بَرِيئًا تَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ وَلَك مِثْلُهُ. نَعَمْ يَنْبَغِي فِي الظَّالِمِ الَّذِي لَا يَرْدَعُهُ إلَّا إظْهَارُ الدُّعَاءِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْعَفْوُ عَنْهُ فِيمَا بَيْنَك وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ لَا يَظْهَرَ لَهُ ذَلِكَ بَلْ أَظْهِرْ مَا فِيهِ صَلَاحُهُ مِنْ دُعَائِك عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَنْ يَجُودُ إذَا جُدْت عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي إظْهَارُ ذَلِكَ لَهُ.
2 -
(وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ) مِنْ السِّتَّةِ الدُّعَاءُ بِطَلَبِ وُقُوعِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْوُجُودِ إمَّا لِنَفْسِهِ كَأَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ أَمِتْهُ كَافِرًا أَوْ اسْقِهِ خَمْرًا أَوْ أَعِنْهُ عَلَى الْمَكْسِ الْفُلَانِيِّ أَوْ وَطْءِ الْأَجْنَبِيَّةِ الْفُلَانِيَّةِ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَإِمَّا لِغَيْرِهِ عَدُوِّهِ كَقَوْلِهِ اللَّهُمَّ لَا تُمِتْ فُلَانًا عَلَى الْإِسْلَامِ اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ مَنْ يَقْتُلُهُ أَوْ يَأْخُذُ مَالَهُ أَوْ صَدِيقِهِ كَقَوْلِهِ اللَّهُمَّ يَسِّرْ لَهُ الْوِلَايَةَ الْفُلَانِيَّةَ أَوْ السَّفَرَ الْفُلَانِيَّ وَصُحْبَةَ الْوَزِيرِ فُلَانٍ أَوْ الْمَلِكِ فُلَانٍ وَيَكُونُ جَمِيعُ ذَلِكَ مُشْتَمِلًا عَلَى مَعْصِيَةٍ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى فَجَمِيعُ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ تَحْرِيمَ الْوَسَائِلِ وَمَنْزِلَتُهُ مِنْ التَّحْرِيمِ مَنْزِلَةُ مُتَعَلِّقِهِ فَالدُّعَاءُ بِتَحْصِيلِ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ
الْعَفْوُ عَنْهُ بَيْنَك وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تُظْهِرْ لَهُ ذَلِكَ بَلْ أَظْهِرْ لَهُ فِيهِ صَلَاحَهُ وَاسْتِصْلَاحَهُ وَمَنْ يَجُودُ إذَا جُدْت عَلَيْهِ كَانَ سِمَةَ خَيْرٍ فَيَنْبَغِي إظْهَارُ ذَلِكَ لَهُ وَحَيْثُ قُلْنَا بِجَوَازِ الدُّعَاءِ عَلَى الظَّالِمِ فَلَا تَدْعُو عَلَيْهِ بِمُلَابَسَةِ مَعْصِيَةٍ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى وَلَا بِالْكُفْرِ فَإِنَّ إرَادَةَ الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ وَإِرَادَةَ الْكُفْرِ كُفْرٌ بَلْ تَدْعُو عَلَيْهِ بِإِنْكَادِ الدُّنْيَا وَلَا تَدْعُو عَلَيْهِ بِمُؤْلِمَةٍ لَمْ تَقْتَضِهَا جِنَايَتُهُ عَلَيْك بِأَنْ يَجْنِيَ عَلَيْك جِنَايَةً فَتَدْعُوَ عَلَيْهِ بِأَعْظَمَ مِنْهَا فَهَذَا حَرَامٌ عَلَيْك؛ لِأَنَّك جَانٍ عَلَيْهِ بِالْمِقْدَارِ الزَّائِدِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الضَّوَابِطَ وَلَا تَخْرُجْ عَنْهَا.
فَإِنْ قُلْت فَإِنْ قَالَ اللَّهُمَّ اُرْزُقْهُ سُوءَ الْخَاتِمَةِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى طَلَبِ الْكُفْرِ هَلْ يَكُونُ هَذَا الدَّاعِي كَافِرًا أَوْ لَا لِأَنَّ إرَادَةَ الْكُفْرِ كُفْرٌ وَالطَّالِبَ مُرِيدٌ لِمَا طَلَبَهُ قُلْت الدَّاعِي لَهُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
الْعَفْوُ عَنْهُ بَيْنَك وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تُظْهِرْ لَهُ ذَلِكَ بَلْ أَظْهِرْ لَهُ مَا فِيهِ صَلَاحُهُ وَاسْتِصْلَاحُهُ وَمَنْ يَجُودُ إذَا جُدْت عَلَيْهِ كَانَ سِمَةَ خَيْرٍ فَيَنْبَغِي إظْهَارُ ذَلِكَ لَهُ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ. قَالَ (وَحَيْثُ قُلْنَا بِجَوَازِ الدُّعَاءِ عَلَى الظَّالِمِ فَلَا يَدْعُ عَلَيْهِ بِمُلَابَسَةِ مَعْصِيَةٍ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى وَلَا بِالْكُفْرِ فَإِنَّ إرَادَةَ الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ وَإِرَادَةَ الْكُفْرِ كُفْرٌ) قُلْت لَيْسَ هَذَا الْإِطْلَاقُ عِنْدِي بِصَحِيحٍ بَلْ إنْ اقْتَرَنَ بِإِرَادَةِ الْمَعْصِيَةِ قَوْلٌ فِي الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ فِي الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ فِعْلٌ فَذَلِكَ مَعْصِيَةٌ وَإِلَّا فَلَا عَلَى مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ» فَإِرَادَةُ الْكُفْرِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ عُمُومِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَلَا أَعْلَمُ لِهَذَا الْحَدِيثِ الْآنَ مُعَارِضًا فَلَا كُفْرَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. هَذَا فِي إرَادَةِ الْمَرْءِ أَنْ يَعْصِيَ أَوْ أَنْ يَكْفُرَ فَكِلَا الْإِرَادَتَيْنِ مَعْصِيَةٌ لَا كُفْرٌ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَقَوْلُهُ (بَلْ تَدْعُو عَلَيْهِ بِإِنْكَادِ الدُّنْيَا وَلَا تَدْعُ عَلَيْهِ بِمُؤْلِمَةٍ لَمْ تَقْتَضِهَا جِنَايَتُهُ عَلَيْك بِأَنْ يَجْتَنِيَ عَلَيْك جِنَايَةً فَتَدْعُوَ عَلَيْهِ بِأَعْظَمَ مِنْهَا فَهَذَا حَرَامٌ عَلَيْك؛ لِأَنَّك جَانٍ عَلَيْهِ بِالْمِقْدَارِ الزَّائِدِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الضَّوَابِطَ وَلَا تَخْرُجْ عَنْهَا) .
قُلْت مَا قَالَهُ فِيهِ صَحِيحٌ. قَالَ (فَإِنْ قُلْت فَإِنْ قَالَ اللَّهُمَّ اُرْزُقْهُ سُوءَ الْخَاتِمَةِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى طَلَبِ الْكُفْرِ هَلْ يَكُونُ هَذَا الدَّاعِي كَافِرًا أَوْ لَا لِأَنَّ إرَادَةَ الْكُفْرِ كُفْرٌ وَالطَّالِبَ مُرِيدٌ لِمَا طَلَبَهُ؟ قُلْت الدَّاعِي لَهُ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
أَقْبَحُ الدُّعَاءِ وَدَلِيلُ أَنَّ الدُّعَاءَ بِالْمُحَرَّمِ مُحَرَّمٌ مَا رُوِيَ مَنْ دَعَا لِفَاسِقٍ بِالْبَقَاءِ فَقَدْ أَحَبَّ أَنْ يُعْصَى اللَّهُ تَعَالَى وَمَحَبَّةُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَرَّمَةٌ.
2 -
(وَالْقِسْمُ السَّادِسُ) مِنْ السِّتَّةِ الدُّعَاءُ الْمُوهِمُ اسْتِئْنَافَ صِفَتَيْ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ كَقَوْلِ الدَّاعِي اللَّهُمَّ قَدِّرْ لَنَا أَوْ اقْضِ لَنَا بِالْخَيْرِ وَاسْتِئْنَافُ الْعِلْمِ كَقَوْلِ الدَّاعِي اللَّهُمَّ اجْعَلْ سَعَادَتَنَا مَقْدُورَةً فِي عِلْمِك. قَالَ الْأَصْلُ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الدُّعَاءَ بِوَضْعِهِ اللُّغَوِيِّ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْمُسْتَقْبَلَ لِأَنَّهُ طَلَبٌ وَالطَّلَبُ فِي الْمَاضِي مُحَالٌ فَيَكُونُ مُقْتَضَى الدُّعَاءِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَنْ يَقَعَ تَقْدِيرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ الزَّمَانِ وَالتَّقْدِيرِ جَمِيعِهِ وَقَعَ فِي الْأَزَلِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ فِي الْأَوَّلِ اللَّهُمَّ قَدِّرْ إلَخْ، وَكَذَا قَوْلُهُ فِي الثَّانِي اللَّهُمَّ اقْضِ إلَخْ لِأَنَّ مَعْنَى اقْضِ مُسَاوٍ فِي الْمُعَرَّفِ جَمِيعِهِ وَقَعَ فِي الْأَزَلِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ فِي الْأَوَّلِ اللَّهُمَّ قَدِّرْ إلَخْ، وَكَذَا قَوْلُهُ فِي الثَّانِي اللَّهُمَّ اقْضِ إلَخْ؛ لِأَنَّ مَعْنَى اقْضِ مُسَاوٍ فِي الْمُعَرَّفِ لِمَعْنَى قَدِّرْ يَقْتَضِي مَذْهَبَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا قَضَاءَ فِي الْأَزَلِ وَأَنَّ الْأَمْرَ أَنِفَ كَمَا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ الْخَوَارِجِ وَهُوَ فِسْقٌ بِالْإِجْمَاعِ.
قَالَ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الدُّعَاءِ الثَّالِثِ لِأَنَّ الَّذِي يَتَقَدَّرُ فِي الْعِلْمِ هُوَ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ الْقَدِيمَةُ فَكُلَّمَا يَسْتَحِيلُ اسْتِئْنَافُ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِهِ يَسْتَحِيلُ اسْتِئْنَافُ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِهِ فَيَسْتَحِيلُ اسْتِئْنَافُ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِالسَّعَادَةِ فَيَكُونُ مُحَرَّمًا لِمَا مَرَّ. نَعَمْ لَا يَكُونُ قَوْلُهُ اللَّهُمَّ اُقْدُرْ أَوْ اقْضِ إلَخْ مُحَرَّمًا لِلْإِيهَامِ الْمَذْكُورِ إلَّا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَعَدَمِ النِّيَّةِ أَمَّا إنْ أَرَادَ بِالتَّقْدِيرِ التَّيْسِيرَ مَجَازًا فَلَا حُرْمَةَ وَلَا مَعْصِيَةَ وَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ التَّقْدِيرَ فِيمَا وَرَدَ عَنْ الشَّارِعِ صلى الله عليه وسلم مِنْ «قَوْلِهِ فِي الِاسْتِخَارَةِ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ وَرَضَّنِي بِهِ» بِمَعْنَى التَّيْسِيرِ مَجَازًا اهـ، وَقَالَ ابْنُ الشَّاطِّ مَا خُلَاصَتُهُ إنَّ الدُّعَاءَ بِالْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَإِنْ أَوْهَمَا اسْتِئْنَافَ صِفَتَيْ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ لَا يَفْتَقِرَا إلَى نِيَّةٍ كَمَا قَالَ الْأَصْلُ بَعْدَ أَنْ وَرَدَ عَنْ الشَّارِعِ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ فِي الِاسْتِخَارَةِ وَاقْدُرْ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى اسْتِحَالَةِ اسْتِئْنَافِ صِفَتَيْ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ قَرِينَةٌ صَارِفَةٌ وَمُعَيِّنَةٌ لِلْحَمْلِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالدُّعَاءِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مَا يَجُوزُ مِنْ اسْتِئْنَافِ الْمَقْدُورِ، وَالْمُرَادُ فَلَا امْتِنَاعَ فِيهِمَا لِلْإِيهَامِ الْمَذْكُورِ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ الثَّالِثُ فَيَمْتَنِعُ لِإِيهَامِهِ اسْتِئْنَافَ الْعِلْمِ كَمَا قَالَ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنْ الشَّارِعِ اسْتِئْنَافُ الْعِلْمِ فِيمَا عَلِمْت مِثْلُ مَا وَرَدَ فِي اسْتِئْنَافِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الِاسْتِخَارَةِ وَاقْدُرْ فَلَيْسَ الْإِيهَامُ هُنَا مِثْلَ الْإِيهَامِ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِعَدَمِ وُرُودِ الْإِيهَامِ هُنَا عَنْ الشَّارِعِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا عَلِمْت وَوُرُودَهُ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم هُنَاكَ. اهـ.
قُلْت وَوَجْهُ مَا قَالَهُ ابْنُ الشَّاطِّ أَنَّ مُوهِمَ مَا يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
(الْقِسْمُ الْأَوَّلُ) مَا وَرَدَ هُوَ نَفْسُهُ فِي كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ كَالِاسْتِوَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وَالْفَوْقِيَّةِ فِي قَوْله تَعَالَى {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] وَالْإِتْيَانِ فِي قَوْله تَعَالَى
حَالَتَانِ تَارَةً يُرِيدُ الْكُفْرَ بِالْعَرَضِ لَا بِالذَّاتِ فَيَقَعُ تَابِعًا لِمَقْصُودِهِ لَا أَنَّهُ مَقْصُودُهُ فَهَذَا لَيْسَ بِكَافِرٍ كَمَا قَالَ عليه السلام «وَدِدْت أَنْ أُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أُحْيَا فَأُقْتَلَ» فَقَدْ طَلَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ كُفْرٌ لَكِنَّهُ عليه السلام مُرَادُهُ وَمَقْصُودُهُ مَنَازِلُ الشُّهَدَاءِ وَمَا عَدَا ذَلِكَ وَقَعَ تَابِعًا لِمَقْصُودِهِ لَا أَنَّهُ مَقْصُودُهُ فَمِثْلُ هَذَا لَا حَرَجَ فِيهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَكَذَلِكَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ مِنْ قَوْلِهِ {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [المائدة: 29] مَقْصُودُهُ إنَّمَا هُوَ السَّلَامَةُ مِنْ الْقَتْلِ لَا مِنْ أَنْ يَقْتُلَ وَيَصْدُرَ مِنْهُ مَعْصِيَةُ الْقَتْلِ.
وَإِنْ لَزِمَ عَنْ ذَلِكَ مَعْصِيَةُ أَخِيهِ بِمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ لَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ قَالَ عليه الصلاة والسلام «كُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ» فَأَمَرَهُ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَقْتُلَهُ غَيْرُهُ وَلَا يَعْزِمَ هُوَ عَلَى الْقَتْلِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ إنَّمَا هُوَ السَّلَامَةُ وَوَقَعَ غَيْرُ ذَلِكَ تَبَعًا
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
حَالَتَانِ: تَارَةً يُرِيدُ الْكُفْرَ بِالْعَرَضِ لَا بِالذَّاتِ فَيَقَعُ تَابِعًا لِمَقْصُودِهِ لَا أَنَّهُ مَقْصُودُهُ فَهَذَا لَيْسَ بِكَافِرٍ كَمَا قَالَ عليه السلام «وَدِدْت أَنْ أُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أَحْيَا فَأُقْتَلَ» فَقَدْ طَلَبَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ كُفْرٌ لَكِنَّهُ عليه السلام مُرَادُهُ وَمَقْصُودُهُ مَنَازِلُ الشُّهَدَاءِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ وَقَعَ تَابِعًا لِمَقْصُودِهِ لَا أَنَّهُ مَقْصُودُهُ فَمِثْلُ هَذَا لَا حَرَجَ فِيهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) قُلْت قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مُرِيدَ الْكُفْرِ لَيْسَ بِكَافِرٍ مَا لَمْ يَقَعْ مِنْهُ الْكُفْرُ بِقَوْلٍ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْكُفْرُ قَوْلًا أَوْ بِفِعْلٍ إنْ كَانَ ذَلِكَ فِعْلًا فَمُرِيدُ مَا يَلْزَمُ عَنْهُ الْكُفْرُ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ كَافِرًا. قَالَ (وَكَذَلِكَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ مِنْ قَوْلِهِ {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [المائدة: 29] مَقْصُودُهُ إنَّمَا هُوَ السَّلَامَةُ مِنْ الْقَتْلِ لَا مِنْ أَنْ يَقْتُلَ وَيَصْدُرَ مِنْهُ مَعْصِيَةُ الْقَتْلِ، وَإِنْ لَزِمَ عَنْ ذَلِكَ مَعْصِيَةُ أَخِيهِ بِمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ لَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ) قُلْت لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ كُفْرٌ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ (وَلِذَلِكَ قَالَ عليه الصلاة والسلام «كُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ» فَأَمَرَهُ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَقْتُلَهُ غَيْرُهُ وَلَا يَعْزِمَ هُوَ عَلَى الْقَتْلِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ إنَّمَا هُوَ السَّلَامَةُ وَوَقَعَ غَيْرُ ذَلِكَ تَبَعًا) قُلْت قَوْلُهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَقْتُلَهُ غَيْرُهُ وَلَا يَعْزِمَ هُوَ عَلَى الْقَتْلِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ مَا أَمَرَهُ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَقْتُلَهُ غَيْرُهُ وَلَا نَهَاهُ أَنْ يَعْزِمَ هُوَ عَلَى الْقَتْلِ فَإِنَّهُ لَمْ يَجْرِ فِي لَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذِكْرُ إرَادَتِهِ وَلَا ذِكْرُ عَزْمِهِ بَلْ أَمَرَهُ بِالِاسْتِسْلَامِ وَتَرْكِ الْمُقَاتَلَةِ الَّتِي
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210] وَالْمَجِيءِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] وَالْوَجْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] وَالْيَدِ فِي قَوْله تَعَالَى {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] وَالنُّزُولِ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ «يَنْزِلُ رَبُّنَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا» وَالصُّورَةِ فِي حَدِيثِهِمَا أَيْضًا «إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ» فَهَذَا يَجُوزُ إطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ أَمَّا مَعَ التَّأْوِيلِ التَّفْصِيلِيِّ كَمَا هُوَ طَرِيقَةُ الْخَلَفِ بِأَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِوَاءِ الِاسْتِيلَاءُ وَالْمُلْكُ كَمَا قَالَ
قَدْ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ
…
مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ
وَبِالْفَوْقِيَّةِ التَّعَالِي فِي الْعَظَمَةِ دُونَ الْمَكَانِ وَبِالْإِتْيَانِ إتْيَانُ رَسُولِ عَذَابِهِ أَوْ رَحْمَتِهِ وَثَوَابِهِ، وَكَذَا النُّزُولُ وَبِالْوَجْهِ الذَّاتُ أَوْ الْوُجُودُ وَبِالْيَدِ الْقُدْرَةُ وَيَرْجِعُ ضَمِيرٌ عَلَى صُورَتِهِ إلَى الْأَخِ الْمُصَرِّحِ فِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى الَّتِي رَوَاهَا مُسْلِمٌ بِلَفْظِ «إذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَتَجَنَّبْ الْوَجْهَ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ» وَالْمُرَادُ بِالصُّورَةِ الصِّفَةُ وَأَمَّا مَعَ التَّأْوِيلِ الْإِجْمَالِيِّ وَيُفَوَّضُ عِلْمُ الْمَعْنَى الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ النَّصِّ تَفْصِيلًا إلَيْهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ طَرِيقُ السَّلَفِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ لَمَّا سُئِلَ عَنْ قَوْله تَعَالَى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ كَمَا فِي شَرْحِ عَبْدِ السَّلَامِ عَلَى جَوْهَرَةِ التَّوْحِيدِ.
(وَالْقِسْمُ الثَّانِي) مَا وَرَدَ نَظِيرُهُ فِي كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ وَإِلَى مِثَالِهِ وَحُكْمِهِ أَشَارَ الْعَلَّامَةُ الْأَمِيرُ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ الشَّيْخِ عَبْدِ السَّلَامِ عَلَى جَوْهَرَةِ التَّوْحِيدِ بِقَوْلِهِ وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ قَالَ جِسْمٌ كَالْأَجْسَامِ فَاسِقٌ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَى اسْتِظْهَارِ بَعْضِ أَشْيَاخِنَا كُفْرَهُ كَيْفَ، وَقَدْ صَحَّ وَجْهٌ لَا كَالْوُجُوهِ وَيَدٌ لَا كَالْأَيْدِي نَعَمْ لَمْ تَرِدْ عِبَارَةُ جِسْمٍ فَلْيُتَأَمَّلْ اهـ بِلَفْظِهَا قُلْت وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ قَوْلُ الْقَائِلِ إنَّهُ تَعَالَى فِي مَكَان لَيْسَ كَمَكَانِ الْحَوَادِثِ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ اسْتِوَاءٌ عَلَى الْعَرْشِ لَا كَالِاسْتِوَاءِ عَلَى السَّرِيرِ نَعَمْ لَمْ تَرِدْ عِبَارَةُ مَكَان بَلْ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: حَدِيثُ «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ» يُفِيدُ أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ الْمَكَانِ أَزَلًا إذْ لَوْلَا تَنَزُّهُهُ عَنْ الْجِهَةِ لَكَانَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فِي مِعْرَاجِهِ أَقْرَبَ مِنْ يُونُسَ فِي نُزُولِ الْحُوتِ بِهِ لِقَاعِ الْبَحْرِ كَمَا أَفَادَهُ الْأَمِيرُ فِي الْحَاشِيَة الْمَذْكُورَةِ.
(وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ) مَا لَمْ يَرِدْ هُوَ وَلَا نَظِيرُهُ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ وَإِلَى مِثَالِهِ وَحُكْمِهِ أَشَارَ الْعَلَّامَةُ الْأَمِيرُ فِي الْحَاشِيَة الْمَذْكُورَةِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْفَلَاسِفَةُ إلَى أَنَّهُ تَعَالَى الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَتَّصِفُ بِالْوُجُودِ أَصْلًا حَتَّى إذَا قَالُوا الْإِنْسَانُ مَوْجُودٌ فَمَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ تَعَلُّقًا بِالْوُجُودِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ