الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْخَاصَّةِ فِي تِلْكَ الْأَعْيَانِ، وَمُقْتَضَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّهُ إذَا عَيَّنَ صَاعًا مِنْ صُبْرَةٍ، وَبَاعَهُ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ لِأَنَّ الْأَغْرَاضَ الصَّحِيحَةَ مُسْتَوِيَةٌ فِي أَجْزَاءِ الصُّبْرَةِ غَيْرَ أَنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِعَدَمِ التَّعَيُّنِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ إذَا عُيِّنَتْ هَلْ تَتَعَيَّنُ أَمْ لَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: ثَالِثُهَا إنْ عَيَّنَهَا الدَّافِعُ تَعَيَّنَتْ لِأَنَّهُ أَمْلَكُ بِهَا، وَهُوَ مَالِكُهَا، وَإِنْ عَيَّنَهَا الْقَابِضُ لَا تَتَعَيَّنُ إلَّا أَنْ تَخْتَصَّ بِصِفَةِ حُلِيٍّ أَوْ سِكَّةٍ رَائِجَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ تَعَيَّنَتْ اتِّفَاقًا، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ عِنْدَنَا، وَبِالتَّعْيِينِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَنَا عَدَمُ التَّعْيِينِ فَبِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ مَالِهِ، وَمَا لَا يَأْخُذُهُ مِنْهُ.
(الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُضْمَنُ بِالطَّرْحِ مِنْ السُّفُنِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُضْمَنُ)
قَالَ مَالِكٌ إذَا طُرِحَ بَعْضُ الْحِمْلِ لِلْهَوْلِ شَارَكَ أَهْلُ الْمَطْرُوحِ مَنْ لَمْ يُطْرَحْ لَهُمْ شَيْءٌ فِي مَتَاعِهِمْ، وَكَانَ مَا طُرِحَ وَسَلِمَ لِجَمِيعِهِمْ فِي نَمَائِهِ وَنَقْصِهِ بِثَمَنِهِ يَوْمَ الشِّرَاءِ إنْ اشْتَرَوْا مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ لِأَنَّهُمْ صَانُوا بِالْمَطْرُوحِ مَا لَهُمْ، وَالْعَدْلُ عَدَمُ اخْتِصَاصِ أَحَدِهِمْ بِالْمَطْرُوحِ إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمْ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَهُوَ سَبَبُ سَلَامَةِ جَمِيعِهِمْ فَإِنْ اشْتَرَوْا مِنْ مَوَاضِعَ أَوْ اشْتَرَى بَعْضٌ أَوْ طَالَ زَمَانُ الشِّرَاءِ حَتَّى تَغَيَّرَتْ الْأَسْوَاقُ اشْتَرَكُوا بِالْقِيَمِ يَوْمَ الرُّكُوبِ دُونَ يَوْمِ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ وَقْتُ الِاخْتِلَاطِ.
وَسَوَاءٌ طَرَحَ الرَّجُلُ مَتَاعَهُ أَوْ مَتَاعَ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ أَمْ لَا قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ، وَلَا يُشَارِكُ مَنْ لَمْ يَرْمِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِأَنَّهُ لَمْ يَطْرَأْ سَبَبٌ يُوجِبُ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْمَطْرُوحِ لَهُ مَعَ غَيْرِهِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَلَيْسَ عَلَى صَاحِبِ الْمَرْكَبِ وَلَا النَّوَاتِيَّةِ ضَمَانٌ كَانُوا أَحْرَارًا أَوْ عَبِيدًا إلَّا أَنْ يَكُونُوا لِلتِّجَارَةِ فَتُحْسَبُ قِيمَتُهُمْ، وَلَا عَلَى مَنْ لَا مَتَاعَ لَهُ لِأَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا وَسَائِلُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ رُكُوبِ الْبَحْرِ إنَّمَا هُوَ مَالُ التِّجَارَةِ، وَيُرْجَعُ بِالْمَقَاصِدِ فِي الْمَقَاصِدِ، وَمَنْ مَعَهُ دَنَانِيرُ كَثِيرَةٌ يُرِيدُ بِهَا التِّجَارَةَ فَكَالتِّجَارَةِ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ وَمَا يُرَادُ لِلْقِنْيَةِ، وَقَالَ ابْنُ بَشِيرٍ لَا يَلْزَمُ فِي الْعَيْنِ شَيْءٌ مِنْ الْمَطْرُوحِ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْغَرَقُ بِسَبَبِهَا لِخِفَّتِهَا، وَقَالَ سَحْنُونٌ يَدْخُلُ الْمَرْكَبُ فِي قِيمَةِ الْمَطْرُوحِ لِأَنَّهُ مِمَّا سَلِمَ بِسَبَبِ الطَّرْحِ.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ إنْ خِيفَ عَلَيْهِ بِصَدْمِ قَاعِ الْبَحْرِ فَطُرِحَ لِذَلِكَ دَخَلَ فِي الْقِيمَةِ، وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ يَدْخُلُ الْمَرْكَبُ، وَمَا فِيهِ لِلْقِنْيَةِ أَوْ التِّجَارَةِ مِنْ عَبِيدٍ، وَغَيْرِهِمْ لِأَنَّ أَثَرَ الْمَطْرُوحِ سَلَامَةُ الْجَمِيعِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
قَالَ الشَّبْرَخِيتِيُّ وَمِنْ أَجْلِ مَا فِي الصُّلْحِ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمُتَخَاصِمَيْنِ لِوِقَايَتِهِمَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْخِصَامِ مِنْ قَبِيحِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ جَازَ الْكَذِبُ فِيهِ مُبَالَغَةً فِي وُقُوعِ الْأُلْفَةِ لِئَلَّا تَدُومَ الْعَدَاوَةُ اهـ.
وَقَالَ الْفَشْنِيُّ وَيَجُوزُ الْكَذِبُ فِي الصُّلْحِ الْجَائِزِ، وَهُوَ مَا لَا يُحِلُّ حَرَامًا، وَلَا يُحَرِّمُ حَلَالًا مُبَالَغَةً فِي وُقُوعِ الْأُلْفَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، قِيلَ تَمَنَّى جِبْرِيلُ عليه السلام أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ يَسْقِي الْمَاءَ وَيُصْلِحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ اهـ كَمَا فِي حَاشِيَةِ كنون عَلَى عبق.
قُلْت فَإِذَا جَازَ الْكَذِبُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [النحل: 105] لِلْمُصْلِحِ مِنْ أَجْلِ مَا فِي الصُّلْحِ مِنْ الصَّدَقَةِ إلَخْ فَكَيْفَ لَا يَجُوزُ فِيهِ دَفْعُ أَحَدِ الْمُتَخَاصِمَيْنِ لِلْآخَرِ الْمَالَ بِغَيْرِ حَقٍّ مَعَ الْجَهْلِ لِدَرْءِ مَفْسَدَةِ الْخُصُومَةِ، وَلَا يَخْفَاك أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ هُنَا فَرْقٌ آخَرُ غَيْرَ مَا مَرَّ بَيْنَ الصُّلْحِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُقُودِ، وَهُوَ أَنَّ الصُّلْحَ يَجُوزُ فِيهِ دَفْعُ الْمَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ مَعَ الْجَهْلِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْعُقُودِ فَافْهَمْ.
(الْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى بَذْلِ الْمَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ فِي فِدَاءِ الْأُسَارَى وَالْمُخَالَعَةِ وَالظَّلَمَةِ وَالْمُحَارَبِينَ وَالشُّعَرَاءِ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا لِدَرْءِ الْخُصُومَةِ.
(الْوَجْهُ الثَّالِثُ) أَنَّهُ قَاطِعٌ لِلْمُطَالَبَةِ فَيَكُونُ مَعَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ كَالْإِبْرَاءِ فَكَمَا يُصْبِحُ الْإِبْرَاءُ مَعَ الْإِنْكَارِ كَذَلِكَ يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَيْهِ قِيَاسًا، وَلَا يَرِدُ أَنَّ الْإِبْرَاءَ بِغَيْرِ مَالٍ مِنْ الْجِهَتَيْنِ إذْ الصُّلْحُ أَيْضًا يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ الْمَالِ مِنْ الْجِهَتَيْنِ كَالصُّلْحِ عَلَى دَمِ الْعَمْدِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُمْلَكُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ بِالْإِجَارَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُمْلَكُ مِنْهَا بِالْإِجَارَاتِ]
(الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُمْلَكُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ بِالْإِجَارَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُمْلَكُ مِنْهَا بِالْإِجَارَاتِ)
وَهُوَ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ مَتَى اجْتَمَعَتْ فِيهَا ثَمَانِيَةُ شُرُوطٍ مُلِكَتْ بِالْإِجَارَةِ، وَمَتَى انْخَرَمَ مِنْهَا شَرْطٌ مِنْ الثَّمَانِيَةِ لَا تُمْلَكُ وَالْمَنْفَعَةُ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ مَا لَا تُمْكِنُ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ حِسًّا دُونَ إضَافَةٍ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ غَيْرَ جُزْءٍ مِمَّا أُضِيفَ إلَيْهِ فَتَخْرُجُ الْأَعْيَانُ، وَنَحْوُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَنِصْفِ الْعَبْدِ وَنِصْفِ الدَّابَّةِ مَشَاعًا، وَهِيَ رُكْنٌ لِأَنَّهَا الْمُشْتَرَاةُ اهـ.
وَبَاقِي أَرْكَانِهَا أَرْبَعَةٌ كَمَا فِي شُرَّاحِ خَلِيلٍ الْمُؤَجِّرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ وَالْعِوَضُ وَالصِّيغَةُ.
2 -
(الشَّرْطُ الْأَوَّلُ) إبَاحَةُ الْمَنْفَعَةِ، وَذِكْرُ الْمَنْفَعَةِ احْتِرَازٌ مِنْ الْغِنَاءِ وَآلَاتِ الطَّرَبِ وَنَحْوِهِمَا أَيْ كَالْإِجَارَةِ عَلَى إخْرَاجِ الْجَانِّ وَالدُّعَاءِ وَحَلِّ الْمَرْبُوطِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لِعَدَمِ تَحْقِيقِ الْمَنْفَعَةِ كَمَا فِي الْخَرَشِيِّ قَالَ الْعَدَوِيُّ يُفِيدُ أَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ الْمَنْفَعَةَ جَازَ فَقَدْ قَالَ الْأَبِيُّ وَأَمَّا مَا يُؤْخَذُ عَلَى حَلِّ الْمَعْقُودِ فَإِنْ كَانَ يَرْقِيهِ بِالرُّقْيَةِ الْعَرَبِيَّةِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ بِالرُّقَى الْعَجَمِيَّةِ لَمْ يَجُزْ، وَفِيهِ خِلَافٌ، وَكَانَ الشَّيْخُ
وَجَوَابُهُمْ أَنَّ شَأْنَ الْمَرْكَبِ أَنْ يَصِلَ بِرِجَالِهِ سَالِمًا إلَى الْبَرِّ، وَإِنَّمَا يُغْرِقُهُ مَا فِيهِ عَادَةً، وَإِزَالَةُ السَّبَبِ الْمُهْلِكِ لَا يُوجِبُ شَرِكَةً بَلْ فِعْلُ السَّبَبِ الْمُنْجِي، وَهُوَ فَرْقٌ حَسَنٌ فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّ فَاعِلَ الضَّرَرِ شَأْنُهُ أَنْ يَضْمَنَ فَإِذَا زَالَ ضَرَرُهُ نَاسَبَ أَنْ لَا يَضْمَنَ لِعَدَمِ سَبَبِ الضَّمَانِ، وَفَاعِلُ النَّفْعِ مُحَصِّلٌ لِعَيْنِ الْمَالِ فَنَاسَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ أَوْ بَعْضَهُ لِأَنَّ مُوجِدَ الشَّيْءِ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فَإِنْ صَالَحُوا صَاحِبَ الْمَطْرُوحِ بِدَنَانِيرَ، وَلَا يُشَارِكُهُمْ جَازَ إذَا عَرَفُوا مَا يَلْزَمُهُمْ فِي الْقَضَاءِ فَإِنْ خَرَجَ بَعْدَ الطَّرْحِ مِنْ الْبَحْرِ سَالِمًا فَهُوَ لَهُ.
وَتَزُولُ الشَّرِكَةُ أَوْ خَرَجَ وَقَدْ نَقَصَ نِصْفُ قِيمَتِهِ انْتَقَصَ نِصْفُ الصُّلْحِ وَيَرُدُّ نِصْفَ مَا أَخَذَ.
(سُؤَالٌ) إذَا وُجِدَتْ الدَّابَّةُ الْمُصَالَحُ عَلَيْهَا فِي التَّعَدِّي أَوْ الْعَارِيَّةِ تَكُونُ لِمَنْ صَالَحَ عَلَيْهَا، وَهَا هُنَا الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ لِصَاحِبِهِ فَمَا الْفَرْقُ؟
(جَوَابُهُ) التَّعَدِّي يَنْقُلُ الْمُتَعَدَّى عَلَيْهِ لِلذِّمَّةِ بِالْقِيمَةِ فَيَكُونُ لَهُ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لِلْمُتَعَدَّى عَلَيْهِ فَلَا يُجْمَعُ لَهُ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ عَنْهُ، وَالْبَحْرُ شَيْءٌ تُوجِبُهُ الضَّرُورَةُ فَلَا يَحْصُلُ الصُّلْحُ فِيهِ بَيْعًا لَا يُنْتَقَضُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي السَّفِينَةِ غَيْرُ الْآدَمِيِّينَ لَمْ يَجُزْ رَمْيُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِطَلَبِ نَجَاةِ الْبَاقِينَ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ، وَيَبْدَأُ بِطَرْحِ الْأَمْتِعَةِ ثُمَّ الْبَهَائِمِ لِشَرَفِ النُّفُوسِ قَالَ وَهَذَا الطَّرْحُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَاجِبٌ، وَلَا يَجْرِي فِيهِ الْقَوْلَانِ اللَّذَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي دَفْعِ الدَّاخِلِ عَلَيْك الْبَيْتَ لِطَلَبِ النَّفْسِ أَوْ الْمَالِ، وَلَا مَنْ اُضْطُرَّ إلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَفِيهِمَا قَوْلَانِ:(أَحَدُهُمَا) يَجِبُ الدَّفْعُ وَالْأَكْلُ. (وَثَانِيهِمَا) لَا يَجِبَانِ لِقِصَّةِ ابْنَيْ آدَمَ، وَلِقَوْلِهِ عليه السلام «كُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ» ، وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ عُثْمَانُ رضي الله عنه فِي تَسْلِيمِ نَفْسِهِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ التَّارِكَ لِلْقَتْلِ وَالْأَكْلِ هُنَالِكَ تَارِكٌ لِئَلَّا يَفْعَلَ مُحَرَّمًا، وَهَا هُنَا لِبَقَاءِ الْمَالِ.
وَاقْتِنَاؤُهُ لَيْسَ وَاجِبًا، وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ وَسَفْكُ الدَّمِ مُحَرَّمٌ، وَمَا وُضِعَ الْمَالُ إلَّا وَسِيلَةٌ لِبِنَاءِ النَّفْسِ، وَلَمْ يُوضَعْ قَتْلُ الْغَيْرِ، وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ وَسِيلَةً لِذَلِكَ، وَلَا يَضْمَنُ الطَّارِحُ هُنَا مَا طَرَحَهُ اتِّفَاقًا وَلِمَالِكٍ فِي أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ لِلْمَجَاعَةِ قَوْلَانِ بِالضَّمَانِ وَعَدَمِهِ، وَلَا يَضْمَنُ بِدَفْعِ الْفَحْلِ إذَا قَتَلَهُ لِأَنَّهُ كَانَ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ قَتْلُهُ صَوْنًا لِلنَّفْسِ فَقَدْ قَامَ عَنْ صَاحِبِهِ بِوَاجِبٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ رضي الله عنهما لَا يَضْمَنُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السَّفِينَةِ إلَّا الطَّارِحُ إنْ طَرَحَ مَالَ غَيْرِهِ، وَإِنْ طَرَحَ مَالَ نَفْسِهِ فَمُصِيبَتُهُ مِنْهُ وَلَوْ اسْتَدْعَى غَيْرُهُ مِنْهُ ذَلِكَ، وَوَافَقُونَا إذَا قَالَ اقْضِ عَنِّي دَيْنِي فَقَضَاهُ، وَفِي اقْتِرَاضِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا الْغَائِبِ وَاقْتِرَاضِ الْوَصِيِّ لِلْيَتِيمِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
أَيْ ابْنُ عَرَفَةَ يَقُولُ إنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ النَّفْعُ جَازَ انْتَهَى اهـ وَقَالَ خَلِيلٌ فِي الْمُخْتَصَرِ عَاطِفًا عَلَى مَا لَا يَجُوزُ مِنْ الْإِجَارَةِ، وَلَا تَعْلِيمِ غِنَاءٍ أَوْ دُخُولِ حَائِضٍ لِمَسْجِدٍ أَيْ لِخِدْمَتِهِ أَوْ دَارٍ لِتُتَّخَذَ كَنِيسَةً كَبَيْعِهَا لِذَلِكَ اهـ.
قَالَ عبق، وَمِثْلُ تَعْلِيمِ الْغِنَاءِ تَعْلِيمُ آلَاتِ الطَّرَبِ كَالْعُودِ وَالْمِزْمَارِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ عَلَى الْعِوَضِ فَرَّعَ ثُبُوتَهُ عَلَى مِلْكِ الْمُعَوَّضِ، وَلِخَبَرِ «أَنَّ اللَّهَ إذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ» اهـ.
وَقَالَ الْعَدَوِيُّ عَلَى الْخَرَشِيِّ قَضِيَّةُ أَنَّ حُكْمَ الْغِنَاءِ الْمُجَرَّدِ عَنْ مُقْتَضَى التَّحْرِيمِ الْكَرَاهَةُ أَنْ تَكُونَ الْإِجَارَةُ عَلَى تَعْلِيمِ الْغِنَاءِ مَكْرُوهَةً لَا حَرَامًا اهـ.
وَقَالَ الْحَفِيدُ فِي الْبِدَايَةِ أَجْمَعُوا عَلَى إبْطَالِ كُلِّ مَنْفَعَةٍ كَانَتْ لِشَيْءٍ مُحَرَّمِ الْعَيْنِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْفَعَةٍ كَانَتْ مُحَرَّمَةً بِالشَّرْعِ مِثْلُ أَجْرِ النَّوَائِحِ، وَأَجْرِ الْمُغَنِّيَاتِ اهـ.
أَيْ، وَمِثْلُ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى صَنْعَةِ آنِيَةِ مِنْ نَقْدٍ كَمَا فِي شُرَّاحِ الْمُخْتَصَرِ.
2 -
(الشَّرْطُ الثَّانِي) قَبُولُ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُعَاوَضَةِ احْتِرَازًا مِنْ النِّكَاحِ كَذَا فِي الْأَصْلِ، وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ، وَلَا يَظْهَرُ إلَّا إذَا أَرَادَ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ فَفِي بِدَايَةِ الْحَفِيدِ الْمُجْتَهِدِ ابْنِ رُشْدٍ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ، وَجَمِيعُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى تَحْرِيمِهَا لِأَنَّ الْأَخْبَارَ تَوَاتَرَتْ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ التَّحْرِيمُ فَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَفِي بَعْضِهَا يَوْمَ الْفَتْحِ، وَفِي بَعْضِهَا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَفِي بَعْضِهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَفِي بَعْضِهَا فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَفِي بَعْضِهَا عَامَ أَوْطَاسٍ اهـ مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْهُ بِتَصَرُّفٍ.
وَأَمَّا إجَارَةُ الْفُحُولِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالدَّوَابِّ لِلنُّزُوِّ فَفِي الْبِدَايَةِ أَيْضًا أَجَازَ مَالِكٌ أَنْ يُكْرِيَ الرَّجُلُ فَحْلَهُ عَلَى أَنْ يَنْزُوَ أَكْوَامًا مَعْلُومَةً، وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَا الشَّافِعِيُّ، وَحُجَّةُ مَنْ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ مَا جَاءَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ عَسِيبِ الْفَحْلِ، وَمَنْ أَجَازَهُ شَبَّهَهُ بِسَائِرِ الْمَنَافِعِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَغْلِيبُ الْقِيَاسِ عَلَى السَّمَاعِ اهـ الْمُحْتَاجِ مِنْهُ.
وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فِيمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ شُعَيْبٍ مَعَ مُوسَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] فَإِنَّهَا وَإِنْ قُلْنَا إنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَرِدْ نَاسِخٌ، وَلَمْ يَرِدْ هُنَا نَاسِخٌ إلَّا أَنَّهَا إجَارَةُ عَيْنٍ أَجَّلَهَا، وَسَمَّى عِوَضَهَا، وَهُوَ عَقَدُهُ عَلَى إحْدَى ابْنَتَيْهِ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا الصُّغْرَى الَّتِي أَرْسَلَهَا فِي طَلَبِهِ، وَقِيلَ الْكُبْرَى، وَلَا يَرِدُ عَدَمُ تَبْعِيضِ الْبُضْعِ إذْ لَا يَلْزَمُ تَبْعِيضُ الْعِوَضِ فَلِذَا زَادَ ابْنُ عَرَفَةَ لَفْظَةَ بَعْضُهُ فِي تَعْرِيفِ الْإِجَارَةِ بِقَوْلِهِ بَيْعُ مَنْفَعَةِ مَا أَمْكَنَ نَقْلُهُ غَيْرَ سَفِينَةٍ وَلَا حَيَوَانٍ لَا يُعْقَلُ بِعِوَضٍ غَيْرِ نَاشِئٍ عَنْهَا بَعْضُهُ يَتَبَعَّضُ بِتَبَعُّضِهَا اهـ.
وَنَمْنَعُ كَوْنَ الِانْتِفَاعِ بِالْبُضْعِ لَيْسَ مُتَمَوِّلًا بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ غَصَبَ امْرَأَةً وَوَطِئَهَا يَلْزَمُهُ مَهْرُهَا كَمَا فِي الْخَرَشِيِّ وَالْعَدَوِيِّ عَلَيْهِ فَتَأَمَّلْ بِإِمْعَانٍ.
2 -
فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ مَالِهِ نَظَرًا لَهُ قُلْنَا الْقِيَاسُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ بِجَامِعِ السَّعْيِ فِي الْقِيَامِ عَنْ الْغَيْرِ بِوَاجِبٍ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ حِفْظُ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَمَنْ بَادَرَ مِنْهُمْ قَامَ بِذَلِكَ الْوَاجِبِ (احْتَجُّوا) بِأَنَّ السَّلَامَةَ بِالطَّرْحِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ بِخِلَافِ الصَّائِلِ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْآدَمِيِّينَ وَأَمْوَالِ الْقِنْيَةِ.
(الْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ) أَنَّهُ يُنْتَقَضُ بِطَعَامِ الْمُضْطَرِّ فَإِنَّ الْمُضْطَرَّ يَضْمَنُ مَعَ احْتِمَالِ هَلَاكِهِ بِمَا أَكَلَ بَلْ يُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْعَادَةِ فَقَطْ، وَقَدْ شَهِدْت بِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ السَّلَامَةِ فِيهِمَا مَعَ احْتِمَالِ النَّقِيضِ
(وَعَنْ الثَّانِي) مَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْفَرْقِ مَعَ أَنَّ الطُّرْطُوشِيَّ قَالَ: الْقِيَاسُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْقِنْيَةِ وَالتِّجَارَةِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ صَوْنُ الْأَمْوَالِ، وَالْكُلُّ يُثْقِلُ السَّفِينَةَ
(الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ عَمِلَ مِنْ الْأُجَرَاءِ النِّصْفَ مِمَّا اُسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ يَكُونُ لَهُ النِّصْفُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ عَمِلَ النِّصْفَ لَا يَكُونُ لَهُ النِّصْفُ)
اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي الْإِجَارَاتِ أَنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا عَلَى أَنْ يَخِيطَ لَهُ ثَوْبَيْنِ أَوْ يَبْنِيَ لَهُ دَارَيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَفَعَلَ أَحَدَهُمَا، وَهُوَ النِّصْفُ اسْتَحَقَّ النِّصْفَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَوَقَعَ فِيهَا أَيْضًا أَنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا عَلَى أَنْ يَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا عَشَرَةً فِي عَشَرَةٍ تَكُونُ مُرَبَّعَةً مِنْ كُلِّ جِهَةٍ عَشَرَةً، وَيَكُونُ عُمْقُهَا عَشَرَةً فَعَمِلَ خَمْسَةً فِي خَمْسَةٍ أَوْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ صُنْدُوقًا عَشَرَةً فِي عَشَرَةً فَعَمِلَ خَمْسَةً فِي خَمْسَةٍ مُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْقَاعِدَةِ أَنَّ لِهَذَيْنِ نِصْفَ الْأُجْرَةِ لِأَنَّهُمَا قَدْ عَمِلَا خَمْسَةً، وَهِيَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ عَمِلَ مِنْ الْأُجَرَاءِ النِّصْفَ مِمَّا اُسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ النِّصْفُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ عَمِلَ النِّصْفَ لَا يَكُونُ لَهُ النِّصْفُ) قُلْت هَذَا الْفَرْقُ فَاسِدُ الْوَضْعِ فَاحِشُ الْخَطَأِ فَإِنَّهُ قَاعِدَةٌ وَاحِدَةٌ لَا غَيْرُ، وَكُلُّ مَنْ عَمِلَ النِّصْفَ فَلَهُ النِّصْفُ لَا مَحَالَةَ، وَإِنَّمَا يَجْرِي الْوَهْمُ عَلَى الْأَغْبِيَاءِ فَيَظُنُّونَ أَنَّ مَنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى عَشَرَةٍ فِي عَشَرَةٍ فَعَمِلَ ذَلِكَ فَقَدْ عَمِلَ جَمِيعَ مَا اُسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ، وَأَنَّهُ مَتَى اُسْتُؤْجِرَ عَلَى ذَلِكَ فَعَمِلَ خَمْسَةً فِي خَمْسَةٍ أَنَّهُ عَمِلَ النِّصْفَ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ عَمِلَ الثُّمُنَ مِمَّا اُسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ كَيْفَ، وَقَدْ بَيَّنَ الْمُؤَلِّفُ ذَلِكَ بَعْدَ هَذَا فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْفَرْقِ، وَالْعَجَبُ مِنْهُ كَيْفَ ظَنَّ أَنَّ التَّرْجَمَةَ صَحِيحَةٌ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ النِّصْفَ، وَلَكِنْ الْغَفْلَةَ لَازِمَةٌ لِمَنْ لَمْ يُعْصَمْ مِنْ الْبَشَرِ، وَلَكِنْ هَذِهِ الْغَفْلَةُ لَا يُعْذَرُ صَاحِبُهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَمَا قَالَهُ فِي حِكَايَةِ الْفُرُوقِ الْخَمْسَةِ صَحِيحٌ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
(الشَّرْطُ الثَّالِثُ) كَوْنُ الْمَنْفَعَةِ مُتَقَوِّمَةً احْتِرَازًا مِنْ التَّافِهِ الْحَقِيرِ الَّذِي لَا يُقَابَلُ بِالْعِوَضِ أَيْ بِالْمَالِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ كَاسْتِئْجَارِ نَارٍ لِيُوقِدَ مِنْهَا سِرَاجًا، وَقَدْ نَصَّ ابْنُ يُونُسَ أَنَّ مَنْ قَالَ ارْقَ هَذَا الْجَبَلَ وَلَك كَذَا أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ كَمَا فِي الْحَطَّابِ قَالَ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي فُرُوعٍ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْمَنْفَعَةَ هَلْ هِيَ مُتَقَوِّمَةٌ أَمْ لَا كَالْمُصْحَفِ وَالْأَشْجَارِ لِلتَّجْفِيفِ كَمَا فِي الْبُنَانِيِّ عَلَى عبق قَالَ الْخَرَشِيُّ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْمُصْحَفِ لِمَنْ يَقْرَأُ فِيهِ لِجَوَازِ بَيْعِهِ خِلَافًا لِابْنِ حَبِيبٍ فِي مَنْعِهِ إجَارَتَهُ اهـ.
قَالَ الْعَدَوِيُّ عَلَيْهِ أَيْ لِأَنَّ إجَارَتَهُ كَأَنَّهَا ثَمَنُ الْقُرْآنِ بِخِلَافِ بَيْعِهِ فَإِنَّهُ ثَمَنٌ لِلْوَرَقِ، وَالْخَطِّ فَابْنُ حَبِيبٍ يُوَافِقُ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ، وَيُخَالِفُ فِي إجَارَتِهِ فَقَدْ بِيعَتْ الْمَصَاحِفُ فِي أَيَّامِ عُثْمَانَ رضي الله عنه فَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ذَلِكَ فَكَانَ إجْمَاعًا اهـ.
وَفِي الْأَصْلِ وَاخْتُلِفَ فِي اسْتِئْجَارِ الْأَشْجَارِ لِتَجْفِيفِ الثِّيَابِ فَمَنَعَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ اهـ أَيْ، وَأَجْزَأَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ نَظَرًا إلَى أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِمَّا يَتَأَثَّرُ الشَّجَرُ بِهِ، وَيَنْقُصُ مَنْفَعَةُ كَثِيرَةٍ مِنْهُ فَهِيَ مَنْفَعَةٌ تَتَقَوَّمُ كَمَا فِي عبق، وَفِي الْخَرَشِيِّ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ، وَالْخِلَافُ فِيهَا خِلَافٌ فِي حَالٍّ هَلْ هَذِهِ مَنْفَعَةٌ مُتَقَوِّمَةٌ أَمْ لَا اهـ.
2 -
(الشَّرْطُ الرَّابِعُ) أَوْ تَكُونُ أَيْ الْمَنْفَعَةُ مَمْلُوكَةً احْتِرَازًا مِنْ الْأَوْقَافِ عَلَى السُّكْنَى كَبُيُوتِ الْمَدَارِسِ وَالْخَوَانِقِ، وَكَذَا كُلُّ بِلَادٍ فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً، وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي مَكَّةَ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَّا أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا مُحْتَجًّا بِمَا رُوِيَ «أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ قَتَلَ قَوْمًا فَوَدَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» ، وَهُوَ دَلِيلُ الصُّلْحِ، وَلَا خِلَافَ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً مُحْتَجِّينَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ مُجَاهِدًا بِالْأَسْلِحَةِ نَاشِرًا لِلْأَلْوِيَةِ بَاذِلًا لِلْأَمَانِ لِمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْعَنْوَةِ قَطْعًا قَالُوا وَيَجِبُ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا وَدَى الطَّائِفَةَ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ» لِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم أَمَّنَهُمْ وَعَصَمَ دِمَاءَهُمْ جَمِيعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَكَانَ مُقْتَضَى اتِّفَاقِ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً أَنْ لَا يَقُولُوا بِجَوَازِ كِرَاءِ دُورِهَا لَا سِيَّمَا، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ أَرْضَ الْعَنْوَةِ تَصِيرُ وَقْفًا بِمُجَرَّدِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا سَوَاءٌ كَانَتْ أَرْضَ زِرَاعَةٍ أَوْ أَرْضَ دُورٍ كَمَا فِي تُحْفَةِ الْمُرِيدِ السَّالِكِ لِلْبُنَانِيِّ الْمَكِّيِّ لَكِنْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْوَلِيدِ ابْنُ رُشْدٍ فِي كِرَاءِ دُورِ مَكَّةَ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ عَنْ مَالِكٍ.
(الْأُولَى) الْمَنْعُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الْبُنَانِيُّ الْمَكِّيُّ فِي رِسَالَتِهِ تُحْفَةُ الْمُرِيدِ السَّالِكِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ سَمَاعُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ اهـ.
وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ
(وَالثَّانِيَةُ) الْجَوَازُ قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الْبُنَانِيُّ الْمَكِّيُّ أَيْضًا، وَفِي مُقَدِّمَاتِ ابْنِ رُشْدٍ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ إجَازَةُ ذَلِكَ
نِصْفُ الْعَشَرَةِ لَكِنْ قَالَ الْفُضَلَاءُ لَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْبِئْرِ الثُّمُنُ، وَفِي مَسْأَلَةِ الصُّنْدُوقِ الرُّبْعُ فَلَمْ يَجْرُوا فِي ذَلِكَ عَلَى قَاعِدَةِ الْإِجَارَةِ، وَلَمْ يَجْرُوا أَيْضًا فِي الْمُخَالَفَةِ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ، وَوَجْهُ صِحَّةِ مَا قَالُوهُ أَنَّ الْبِئْرَ كُلَّمَا نَزَلَ فِيهَا ذِرَاعًا فَقَدْ شَالَ مِنْ التُّرَابِ بِسَاطًا مِسَاحَتُهُ عَشَرَةٌ فِي عَشَرَةٍ، وَذَلِكَ مِائَةٌ فَكُلُّ ذِرَاعٍ يُنْزِلُهُ فِي الْبِئْرِ حِينَئِذٍ مِائَةُ ذِرَاعٍ، وَالْأَذْرُعُ عَشَرَةٌ وَعَشَرَةٌ فِي مِائَةٍ بِأَلْفٍ فَالْمُسْتَأْجِرُ عَلَيْهِ أَلْفُ ذِرَاعٍ فَلَمَّا عَمِلَ خَمْسَةً فِي خَمْسَةٍ شَالَ فِي الذِّرَاعِ الْأَوَّلِ تُرَابَ خَمْسَةٍ فِي خَمْسَةٍ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ فَكُلُّ ذِرَاعٍ مِنْ هَذَا الْمَعْمُولِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَالْأَذْرُعُ الْمَعْمُولَةُ خَمْسَةٌ وَخَمْسَةٌ فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ بِمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ عِشْرِينَ، وَذَلِكَ مَا عَمِلَهُ، وَنِسْبَتُهُ إلَى الْأَلْفِ نِسْبَةُ الثُّمُنِ فَيَسْتَحِقُّ الثُّمُنَ.
وَأَمَّا الصُّنْدُوقُ فَلَيْسَ فِيهِ بَقْرٌ، وَإِلَّا اسْتَوَتْ الْمَسْأَلَتَانِ بَلْ أَلْوَاحٌ يُلَفِّقُهَا فَهُوَ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى سِتَّةِ أَلْوَاحٍ كُلٌّ مِنْهَا عَشَرَةٌ، وَذَلِكَ دَائِرُهُ أَرْبَعَةٌ وَقَعْرُهُ وَغِطَاؤُهُ فَكُلُّ لَوْحٍ عَشَرَةٌ فِي عَشَرَةٍ فَهُوَ مِائَةُ ذِرَاعٍ، وَالْأَلْوَاحُ سِتَّةٌ فَالْمُسْتَأْجِرُ عَلَيْهِ سِتُّمِائَةٍ، عَمِلَ سِتَّةً فِي خَمْسَةٍ فَيَكُونُ كُلُّ لَوْحٍ مِنْهَا خَمْسَةً وَعِشْرِينَ الْمُتَحَصِّلَةُ مِنْ ضَرْبِ خَمْسَةٍ فِي سِتَّةٍ، وَعِشْرُونَ فِي سِتَّةٍ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، وَنِسْبَتُهَا إلَى سِتِّمِائَةٍ كَنِسْبَةِ الرُّبْعِ فَلَهُ الرُّبْعُ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنَّهَا مِنْ أَبْدَعِ مَا يُلْقَى فِي مَسَائِلِ الْمُطَارَحَاتِ عَلَى الْفُقَهَاءِ، وَكَمْ يَخْفَى عَلَى الْفَقِيهِ وَالْحَاكِمِ الْحَقُّ فِي الْمَسَائِلِ الْكَثِيرَةِ بِسَبَبِ الْجَهْلِ بِالْحِسَابِ وَالطِّبِّ وَالْهَنْدَسَةِ فَيَنْبَغِي لِذَوِي الْهِمَمِ الْعَلِيَّةِ أَنْ لَا يَتْرُكُوا الِاطِّلَاعَ عَلَى الْعُلُومِ مَا أَمْكَنَهُمْ:
فَلَمْ أَرَى فِي عُيُوبِ النَّاسِ شَيْئًا
…
كَنَقْصِ الْقَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ
(الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَضْمَنُهُ الْأُجَرَاءُ إذَا هَلَكَ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَضْمَنُونَهُ)
اعْلَمْ أَنَّ الْهَلَاكَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ مَا هَلَكَ بِسَبَبِ حَامِلِهِ مِنْ عِثَارٍ أَوْ ضَعْفِ حَبْلٍ لَمْ يَغْرُرْ بِهِ أَوْ ذَهَابِ دَابَّةٍ أَوْ سَفِينَةٍ بِمَا فِيهِمَا فَلَا ضَمَانَ، وَلَا أُجْرَةَ، وَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ لِيَحْمِلَهُ قَالَهُ مَالِكٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ مَا هَلَكَ بِعِثَارٍ كَالْهَالِكِ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ، وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ لِرَبِّ السَّفِينَةِ بِحِسَابِ مَا بَلَغَتْ.
(الثَّانِي) مَا غَرَّ فِيهِ بِضَعْفِ حَبْلٍ يَضْمَنُ الْقِيمَةَ بِمَوْضِعِ الْهَلَاكِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ التَّفْرِيطِ، وَلَهُ مِنْ الْكِرَاءِ بِحِسَابِهِ، وَقِيلَ بِمَوْضِعِ الْحَمْلِ لِأَنَّهُ مِنْهُ ابْتِدَاءُ التَّعَدِّي.
(الثَّالِثُ) مَا هَلَكَ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ بِالْبَيِّنَةِ فَلَهُ الْكِرَاءُ كُلُّهُ، وَعَلَيْهِ حَمْلُ مِثْلِهِمْ مِنْ مَوْضِعِ الْهَلَاكِ لِأَنَّ أَجْزَاءَ الْمَنْفَعَةِ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ. (الرَّابِعُ) مَا هَلَكَ بِقَوْلِهِمْ مِنْ الطَّعَامِ لَا يُصَدَّقُونَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا كَمَا فِي تَبْصِرَةِ اللَّخْمِيِّ ثُمَّ قَالَ، وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَاتِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ الَّذِي بِهِ الْفَتْوَى، وَعَلَيْهِ جَرَى الْعَمَلُ مِنْ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى وَالْقُضَاةِ بِمَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ قَالَ، وَبِهِ قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَطَاوُسٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو يُوسُفَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ كَمَا فِي شَرْحِ الْعَيْنِيِّ عَلَى الْبُخَارِيِّ اهـ.
(وَالثَّالِثَةُ) الْكَرَاهَةُ قَالَ الْبُنَانِيُّ الْمَكِّيُّ فِي تُحْفَةِ الْمُرِيدِ السَّالِكِ وَمِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ مَنْ ذَهَبَ إلَى كَرَاهَةِ بَيْعِ دُورِ مَكَّةَ وَكِرَائِهَا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا ثُمَّ قَالَ فِيهَا أَيْضًا قَالَ فِي الْمُوَازَنَةِ، وَقَدْ سَمِعْت أَنَّ مَالِكًا ايَكْرَهُ كِرَاءَ بُيُوتِ مَكَّةَ ثُمَّ قَالَ فَإِنْ قَصَدَ بِالْكِرَاءِ الْآلَاتِ وَالْأَخْشَابَ جَازَ، وَإِنْ قَصَدَ فِيهِ الْبُقْعَةَ فَلَا خَيْرَ فِيهِ اهـ.
قَالَ الْحَطَّابُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْكَرَاهَةَ عَلَى بَابِهَا أَيْ لِلتَّنْزِيهِ اهـ.
(وَالرَّابِعَةُ) تَخْصِيصُهَا أَيْ الْكَرَاهَةِ بِالْمَوْسِمِ لِكَثْرَةِ النَّاسِ، وَاحْتِيَاجِهِمْ لِلْوَقْفِ قَالَ الْبُنَانِيُّ الْمَكِّيُّ أَيْضًا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ، وَحَكَى الدَّاوُدِيُّ عَنْهُ أَيْ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ كِرَاءَهَا فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ خَاصَّةً انْتَهَى، وَهَكَذَا حَكَاهُ اللَّخْمِيُّ عَنْهُ أَيْضًا اهـ.
وَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ (الْأَمْرُ الْأَوَّلُ) أَنَّهُمْ اسْتَثْنَوْا فِي مَشْهُورِهِمْ الْمَذْكُورِ مَكَّةَ نَظَرًا إلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَنَّ بِهَا عَلَى أَهْلِهَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا فَتَكُونُ أَرْضُ مَكَّةَ وَدُورُهَا مِلْكًا لِأَهْلِهَا قَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْدَةِ إنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً غَيْرَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَنَّ عَلَى أَهْلِهَا أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا فَأَرْضُهَا إذًا وَدُورُهَا لِأَهْلِهَا، وَلَكِنْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ التَّوْسِيعَ عَلَى الْحُجَّاجِ إذَا قَدِمُوهَا فَلَا يَأْخُذُوا مِنْهُمْ كِرَاءً فِي مَسَاكِنِهَا فَهَذَا حُكْمُهَا فَلَا عَلَيْك بَعْدَ هَذَا فُتِحَتْ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا، وَإِنْ كَانَتْ ظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً انْتَهَى كَمَا فِي تُحْفَةِ الْمُرِيدِ لِلْبُنَانِيِّ الْمَكِّيِّ
(الْأَمْرُ الثَّانِي) قَالَ الْأَصْلُ، وَمِثْلُهُ لِسَنَدٍ فِي الذَّخِيرَةِ كَمَا فِي تُحْفَةِ الْمُرِيدِ السَّالِكِ لِلْبُنَانِيِّ الْمَكِّيِّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَرْضِ الْعَنْوَةِ هَلْ تَصِيرُ وَقْفًا بِمُجَرَّدِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ الطُّرْطُوشِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَنْ مَالِكٍ أَوْ لِلْإِمَامِ قَسْمُهَا كَسَائِرِ الْغَنَائِمِ أَوْ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي ذَلِكَ، وَالْقَاعِدَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا أَنَّ مَسَائِلَ الْخِلَافِ إذَا اتَّصَلَ بِبَعْضِ أَقْوَالِهَا قَضَاءُ حَاكِمٍ تَعَيَّنَ الْقَوْلُ بِهِ، وَارْتَفَعَ الْخِلَافُ، وَتَعَيَّنَ مَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ، وَبِهَذَا يُجَابُ أَيْضًا عَمَّا قِيلَ إنَّ مُقْتَضَى أَنَّ أَرْضَ الْعَنْوَةِ لَا تُمْلَكُ أَنَّهُ يَحْرُمُ كِرَاءُ دُورِ مِصْرَ وَأَرَاضِيهَا فَإِنَّ مَالِكًا رحمه الله صَرَّحَ فِي الْكِتَابِ أَيْ فِي كِتَابِ الْمُدَوَّنَةِ، وَغَيْرِهِ بِأَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَيَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ تَخْطِئَةُ الْقُضَاةِ فِي إثْبَاتِ الْأَمْلَاكِ، وَعُقُودِ الْإِجَارَاتِ، وَالْأَخْذِ بِالشُّفَعَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فِيهَا، وَكَذَا فِي كُلِّ مَا قِيلَ إنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً كَمَكَّةَ زَادَ الْأَصْلُ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الدُّورَ وَقْفٌ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الدُّورَ الَّتِي صَادَفَهَا الْفَتْحُ
فِيهِ لِقِيَامِ التُّهْمَةِ، وَلَهُمْ الْكِرَاءُ كُلُّهُ لِأَنَّ شَأْنَ الطَّعَامِ امْتِدَادُ الْأَيْدِي إلَيْهِ لِأَنَّهُمْ اسْتَحَقُّوهُ بِالْعَقْدِ. (الْخَامِسُ) مَا هَلَكَ بِأَيْدِيهِمْ مِنْ الْعُرُوضِ يُصَدَّقُونَ فِيهِ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، وَلَهُمْ الْكِرَاءُ كُلُّهُ، وَعَلَيْهِمْ حَمْلُ مِثْلِهِ مِنْ مَوْضِعِ الْهَلَاكِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَصَدُوا أَشْبَهَ مَا هَلَكَ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ لَهُمْ مِنْ الْكِرَاءِ بِحَسَبِ مَا بَلَغُوا، وَيُفْسَخُ الْكِرَاءُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ قَوْلِهِمْ أَشْبَهَ مَا هَلَكَ بِعِثَارٍ
(الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُمْنَعُ فِيهِ الْجَهَالَةُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْجَهَالَةُ بِحَيْثُ لَوْ فُقِدَتْ فِيهِ الْجَهَالَةُ فَسَدَ)
أَمَّا مَا تُفْسِدُهُ الْجَهَالَةُ فَهُوَ الْبِيَاعَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْإِجَارَاتِ، وَمِنْ الْإِجَارَاتِ قِسْمٌ لَا يَجُوزُ تَعْيِينُ الزَّمَانِ فِيهِ بَلْ يُتْرَكُ مَجْهُولًا، وَهُوَ الْأَعْمَالُ فِي الْأَعْيَانِ كَخِيَاطَةِ الثِّيَابِ وَنَحْوِهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَيِّنَ زَمَانَ الْخِيَاطَةِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ الْيَوْمَ مَثَلًا فَتَفْسُدُ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْغَرَرَ بِتَوَقُّعِ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، بَلْ مَصْلَحَتُهُ، وَنَفْيُ الْغَرَرِ عَنْهُ أَنْ يَبْقَى مُطْلَقًا، وَكَذَلِكَ الْجَعَالَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ فِيهَا مُحَدَّدًا مَعْلُومًا لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْغَرَرَ فِي الْعَمَلِ بِأَنْ لَا يَجِدَ الْآبِقَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلَا بِذَلِكَ السَّفَرِ الْمَعْلُومِ بَلْ نَفْيُ الْغَرَرِ عَنْ الْجَعَالَةِ بِحُصُولِ الْجَهَالَةِ فِيهَا، وَالْجَهَالَةُ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ شَرْطٌ، وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِهِمَا مَانِعًا، وَهَا هُنَا قَاعِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ تُعْرَفُ بِجَمْعِ الْفَرْقِ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبُ يُنَاسِبُ الْإِثْبَاتَ وَالنَّفْيَ أَوْ يُنَاسِبُ الضِّدَّيْنِ، وَيَتَرَتَّبَانِ عَلَيْهِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ قَلِيلٌ فِي الْفِقْهِ فَإِنَّ الْوَصْفَ إذَا نَاسَبَ حُكْمًا نَافَى ضِدَّهُ أَمَّا اقْتِضَاؤُهُ لَهُمَا فَبَعِيدٌ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْجَعَالَاتِ وَالْإِجَارَاتِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الْحَجْرُ يَقْتَضِي رَدَّ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِطْلَاقُ التَّصَرُّفَاتِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ صَوْنًا لِمَالِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عَلَى مَصَالِحِهِ، وَتُنَفَّذُ وَصَايَاهُ صَوْنًا لِمَالِهِ عَلَى مَصَالِحِهِ لِأَنَّا لَوْ رَدَدْنَا الْوَصَايَا لَحَصَلَ الْمَالُ لِلْوَارِثِ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ فَصَارَ صَوْنُ الْمَالِ عَلَى الْمَصَالِحِ يَقْتَضِي تَنْفِيذَ التَّصَرُّفَاتِ، وَرَدَّ التَّصَرُّفَاتِ، وَكَذَلِكَ الْقَرَابَةُ تُوجِبُ الْبِرَّ بِدَفْعِ الْمَالِ، وَتُوجِبُ الْمَنْعَ مِنْ دَفْعِ الْمَالِ إذَا كَانَ زَكَاةً فَيُحْرَمُوا إيَّاهَا، وَتُعْطَى لِغَيْرِهِمْ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ، وَكَذَلِكَ أَقْرِبَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجِبُ بِرُّهُمْ بِسَدِّ خَلَّاتِهِمْ بِالْمَالِ، وَيَحْرُمُ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهِمْ إذَا كَانَ زَكَاةً فَصَارَ قُرْبُهُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُوجِبُ دَفْعَ الْمَالِ، وَمَنْعَ الْمَالِ بِاعْتِبَارِ مَالَيْنِ وَنِسْبَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَعْنًى يُوجِبُ مَصْلَحَةً أَوْ مَفْسَدَةً، وَيُوجِبُ نَقِيضَهَا فِي مَحَلٍّ آخَرَ، وَبِاعْتِبَارِ نِسْبَةٍ أُخْرَى
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
أَمَّا إذَا انْهَدَمَتْ تِلْكَ الْأَبْنِيَةُ، وَبَنَى أَهْلُ الْإِسْلَامِ دُورًا غَيْرَ دُورِ الْكُفَّارِ فَهَذِهِ الْأَبْنِيَةُ لَا تَكُونُ وَقْفًا إجْمَاعًا، وَحَيْثُ قَالَ مَالِكٌ لَا تُكْرَى دُورُ مَكَّةَ مَثَلًا يُرِيدُ مَا كَانَ فِي زَمَانِهِ بَاقِيًا مِنْ دُورِ الْكُفَّارِ الَّتِي صَادَفَهَا الْفَتْحُ، وَالْيَوْمُ قَدْ ذَهَبَتْ تِلْكَ الْأَبْنِيَةُ فَلَا يَكُونُ قَضَاءُ الْحَاكِمِ بِذَلِكَ خَطَأً نَعَمْ يَخْتَصُّ ذَلِكَ أَيْ تَخْطِئَةُ الْقَضَاءِ بِالْقَضَاءِ بِالْمِلْكِ وَالشُّفْعَةِ فِي الْأَرَضِينَ فَإِنَّهَا بَاقِيَةٌ ثَابِتَةٌ اهـ.
كَلَامُ الْأَصْلِ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ أَيْ هَذَا الْجَوَابُ صَحِيحٌ، وَأَمَّا جَوَابُهُ عَنْ الْإِيرَادِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً تَخْطِئَةُ الْقُضَاةِ فِيمَا ذُكِرَ إلَّا إذَا سَلَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ فُتْيَا يُقَلَّدُ فِيهَا، وَمَذْهَبٌ لَهُ يَجِبُ عَلَى مُقَلِّدِهِ اتِّبَاعُهُ فِيهِ، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ شَهَادَةٌ مِنْهُ رحمه الله بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فُلَانٌ أَخَذَ مَاله غَصْبًا، وَخَالَعَ امْرَأَتَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَذْهَبَ الَّذِي يُقَلَّدُ فِيهِ الْإِمَامُ مَشْرُوطٌ بِشَرْطَيْنِ
(الْأَوَّلُ) أَنْ يَكُونَ أَحَدَ خَمْسَةِ أُمُورٍ لَا سَادِسَ لَهَا (أَحَدُهَا) الْأَحْكَامُ كَوُجُوبِ الْوِتْرِ (وَثَانِيهَا) الْأَسْبَابُ كَالْمُعَاطَاةِ (وَثَالِثُهَا) الشُّرُوطُ كَالنِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ (وَرَابِعُهَا) الْمَوَانِعُ كَالدَّيْنِ فِي الزَّكَاةِ (وَخَامِسُهَا) الْحِجَاجُ كَشَهَادَةِ الصِّبْيَانِ (وَالثَّانِي) أَنْ يَخْتَصَّ بِالْقَوْلِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْخَمْسَةِ، وَيُخَالِفُهُ غَيْرُهُ فِيهِ إذْ لَا يُفْهَمُ مِنْ مَذْهَبِ الْإِنْسَانِ فِي الْعَادَةِ إلَّا مَا اخْتَصَّ بِهِ كَقَوْلِك هَذِهِ طَرِيقُ زَيْدٍ إذَا اخْتَصَّ بِهِ أَوْ هَذِهِ عَادَتُهُ إذَا اخْتَصَّتْ بِهِ أَمَّا إذَا انْتَفَى الِاخْتِصَاصُ بِأَنْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مَذْهَبًا لِأَحَدٍ فَلَا يُقَالُ إنَّ وُجُوبَ رَمَضَانَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَلَا غَيْرِهِ بَلْ ذَلِكَ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا مَا عَدَا هَذِهِ الْخَمْسَةِ فَلَا يُقَالُ إنَّهَا مَذْهَبٌ يُقَلَّدُ فِيهِ بَلْ هُوَ إمَّا رِوَايَةٌ أَوْ شَهَادَةٌ أَوْ غَيْرُهُمَا بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ إمَامٍ زَيْدٌ زَنَى فَكَمَا لَا نُوجِبُ الرَّجْمَ بِذَلِكَ بَلْ نَقُولُ هَذِهِ شَهَادَةٌ هُوَ فِيهَا أُسْوَةُ جَمِيعِ الْعُدُولِ إنْ كَمُلَ النِّصَابُ بِشُرُوطِهِ رَجَمْنَاهُ، وَإِلَّا فَلَا كَذَلِكَ قَوْلُ مَالِكٍ فُتِحَتْ مِصْرُ أَوْ مَكَّةُ عَنْوَةً شَهَادَةٌ، وَإِذَا كَانَتْ شَهَادَةً، وَهُوَ لَمْ يُبَاشِرْ الْفَتْحَ تَعَيَّنَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ
(الْأَوَّلُ) أَنْ يُقَالَ إنَّهُ نَقَلَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ عَنْ غَيْرِهِ، وَحِينَئِذٍ لَا يُدْرَى هَلْ أَذِنَ لَهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ فِي النَّقْلِ عَنْهُ أَمْ لَا، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فَقَدْ عَارَضَتْ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ وَالشَّافِعِيَّ وَغَيْرَهُمَا قَالُوا الْفَتْحُ وَقَعَ صُلْحًا فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ أَحَدَ الْبَيِّنَتَيْنِ أَعْدَلُ فَتُقَدَّمَ أَوْ يُقَالُ هَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ إذْ الْعُلَمَاءُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ نُفَاوِتَ نَحْنُ بَيْنَ عَدَالَتِهِمْ، وَلَوْ سَلَّمْنَا الْهُجُومَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُقْضَى بِأَعْدَلِ الْبَيِّنَتَيْنِ إلَّا فِي الْأَمْوَالِ، وَلَيْسَ الْعَنْوَةُ، وَالصُّلْحُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّهُ يُقْضَى فِيهِ بِأَعْدَلِ الْبَيِّنَتَيْنِ
(وَالْأَمْرُ الثَّانِي) أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ عَنْ أَحَدٍ بَلْ هِيَ اسْتِقْلَالٌ، وَحِينَئِذٍ لَا يَتَأَتَّى أَنْ يُقَالَ مُسْتَنَدُهَا
فَإِنَّهُ يُوجِبُ الضِّدَّيْنِ، وَهُوَ ضَابِطُ جَمْعِ الْفَرْقِ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ الْمُفَرَّقَاتِ، وَهِيَ الْأَضْدَادُ فَكَذَلِكَ الْجَهَالَةُ تُوجِبُ الْإِخْلَالَ بِمَصَالِح الْعُقُودِ فِي الْبِيَاعَاتِ، وَأَكْثَرِ أَنْوَاعِ الْإِجَارَاتِ فَكَانَتْ مَانِعَةً، وَوُجُودُهَا يُوجِبُ تَحْصِيلَ مَصْلَحَةِ عَقْدِ الْجَعَالَةِ حَتَّى يَبْقَى الْمَجْعُولُ لَهُ عَلَى طَلَبِهِ فَيَجِدُ الْآبِقَ فَلَا يَذْهَبُ عَمَلُهُ الْمُتَقَدِّمُ مَجَّانًا فَإِذَا قَيَّدْنَا عَلَيْهِ الْعَمَلَ، وَقَدَّرْنَاهُ مَعْلُومًا فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ الْعَمَلَ الْمَعْلُومَ، وَلَمْ يَجِدْ الْآبِقَ ذَهَبَ عَمَلُهُ مَجَّانًا فَضَاعَتْ مَصْلَحَةُ الْعَقْدِ
(الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا مَصْلَحَتُهُ مِنْ الْعُقُودِ فِي اللُّزُومِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا مَصْلَحَتُهُ عَدَمُ اللُّزُومِ)
اعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَقْدِ اللُّزُومُ لِأَنَّ الْعَقْدَ إنَّمَا شُرِعَ لِتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْمَعْقُودِ بِهِ أَوْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَدَفْعِ الْحَاجَاتِ فَيُنَاسِبُ ذَلِكَ اللُّزُومَ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ، وَتَحْصِيلًا لِلْمَقْصُودِ غَيْرَ أَنَّ مَعَ هَذَا الْأَصْلِ انْقَسَمَتْ الْعُقُودُ قِسْمَيْنِ
أَحَدُهُمَا كَذَلِكَ كَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالنِّكَاحِ، وَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَعُقُودِ الْوِلَايَاتِ فَإِنَّ التَّصَرُّفَ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ يَحْصُلُ عَقِيبَ الْعَقْدِ، وَالْقِسْمُ الْآخَرُ لَا يَسْتَلْزِمُ مَصْلَحَتَهُ مَعَ اللُّزُومِ بَلْ مَعَ الْجَوَازِ وَعَدَمِ اللُّزُومِ، وَهُوَ خَمْسَةٌ عُقُودُ الْجَعَالَةِ، وَالْقِرَاضِ، وَالْمُغَارَسَةِ، وَالْوَكَالَةِ، وَتَحْكِيمِ الْحَاكِمِ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي الْحُكُومَةِ، وَأَنَّ الْجَعَالَةَ لَوْ شُرِعَتْ لَازِمَةً مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَطَّلِعُ عَلَى فَرْطِ بُعْدِ مَكَانِ الْآبِقِ أَوْ عَدَمِهِ مَعَ دُخُولِهِ عَلَى الْجَهَالَةِ بِمَكَانِهِ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ لِضَرُورَةٍ فَجُعِلَتْ جَائِزَةً لِئَلَّا تَجْتَمِعَ الْجَهَالَةُ بِالْمَكَانِ وَاللُّزُومِ، وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ، وَكَذَلِكَ الْقِرَاضُ حُصُولٌ لِرِبْحٍ فِيهِ مَجْهُولٍ فَقَدْ يَتَّصِلُ بِهِ أَنَّ السِّلَعَ مُتَعَذِّرَةٌ أَوْ لَا يَحْصُلُ فِيهَا رِبْحٌ فَإِلْزَامُهُ بِالسَّفَرِ مَضَرَّةٌ بِغَيْرِ حِكْمَةٍ، وَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْعَقْدِ الَّذِي هُوَ الرِّبْحُ، وَكَذَلِكَ الْمُغَارَسَةُ مَجْهُولَةُ الْعَاقِبَةِ فِي نَبَاتِ الشَّجَرِ، وَجَوْدَةِ الْأَرْضِ، وَمَئُونَاتِ الْأَسْبَابِ عَلَى مُعَانَاةِ الشَّجَرِ مَعَ طُولِ الْأَيَّامِ فَقَدْ يَطَّلِعُ عَلَى تَعَذُّرِ ذَلِكَ أَوْ فَرْطِ بُعْدِهِ فَإِلْزَامُهُ بِالْعَمَلِ ضَرَرٌ مِنْ غَيْرِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَكَذَلِكَ الْوَكَالَةُ قَدْ يَطَّلِعُ فِيمَا وُكِّلَ عَلَيْهِ عَلَى تَعَذُّرٍ أَوْ ضَرَرٍ فَجُعِلَتْ عَلَى الْجَوَازِ، وَتَحْكِيمُ الْحَاكِمِ خَطَرٌ عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ اللُّزُومِ إذَا حَكَمَ فَقَدْ يَطَّلِعُ الْخَصْمَانِ عَلَى سُوءِ الْعَاقِبَةِ فِي ذَلِكَ فَلَا يُشْرَعُ اللُّزُومُ فِي حَقَّيْهِمَا نَفْيًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمَا، وَاشْتَرَكَ الْجَمِيعُ فِي عَدَمِ انْضِبَاطِ الْعَقْدِ بِحُصُولِ مَقْصُودِهِ فَكَانَ الْجَمِيعُ عَلَى الْجَوَازِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
السَّمَاعُ لِأَنَّ الْأَصْحَابَ عَدُّوا الْمَسَائِلَ الَّتِي تَجُوزُ فِيهَا الشَّهَادَةُ بِالسَّمَاعِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْسَتْ هَذِهِ مِنْهَا وَسَلَّمْنَا أَنَّهَا مِنْهَا لَكِنْ حَصَلَ الْمُعَارِضُ الْمَانِعُ مِنْ الْحُكْمِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ رحمه الله إنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً شَهَادَةٌ لَا مَذْهَبٌ لَهُ حَتَّى يُقَلَّدَ فِيهِ فَتَجْرِي مَجْرَى الشَّهَادَاتِ ظَهَرَ تَخْطِئَةُ مَنْ أَفْتَى بِتَحْرِيمِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالشُّفْعَةِ فِي هَذِهِ الْبِقَاعِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ فِيهَا ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ يَظْهَرُ تَخْطِئَةُ مَنْ يُفْتِي مِنْ الشَّافِعِيَّةِ بِإِبَاحَةِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالشُّفْعَةِ فِي هَذِهِ الْبِقَاعِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا، وَيَجْعَلُونَ هَذَا مِمَّا يُقَلَّدُ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَهَادَةٌ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ آخَرَ مَعَ الشَّافِعِيِّ يَشْهَدُ بِذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله لَوْ جَاءَ حَاكِمًا شَافِعِيًّا فَقَالَ لَهُ إنَّ فُلَانًا صَالَحَ امْرَأَتَهُ عَلَى أَلْفِ دِينَارٍ نَقْدًا، وَقَدْ صَارَتْ خُلْعًا مِنْهُ هَلْ يَقْضِي بِقَوْلِهِ وَحْدَهُ فَيَخْرِقُ الْإِجْمَاعَ أَوْ يَقُولُ هَذِهِ شَهَادَةٌ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ آخَرَ مَعَ الشَّافِعِيِّ يَشْهَدُ بِالْخُلْعِ فَكَمَا يَقُولُ فِي مِثْلِ هَذَا ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَهُ هُنَا كَذَلِكَ، وَقَدْ بَسَطْت هَذِهِ الْمَسَائِلَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ وَتَصَرُّفِ الْقَاضِي وَالْإِمَامِ، وَهُوَ كِتَابٌ نَفِيسٌ فِيهِ أَرْبَعُونَ مَسْأَلَةً مِنْ هَذَا النَّوْعِ اهـ.
بِتَصَرُّفٍ فَقَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ الشَّاطِّ بِمَا مُلَخَّصُهُ أَنَّ قَوْلَ مَالِكٍ إنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً لَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ شَهَادَةً إذْ مِنْ شَرْطِ الشَّهَادَةِ أَنْ تَكُونَ خَبَرًا يَقْصِدُ الْمُخْبِرُ بِهِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ فَصْلُ قَضَاءٍ، وَلَا إشْعَارَ فِي قَوْلِ مَالِكٍ الْمَذْكُورِ بِذَلِكَ الْقَصْدِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ نَوْعًا مِنْ الْخَبَرِ غَيْرِ الشَّهَادَةِ فَمَا بَسَطَهُ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ مِنْ الْمَسَائِلِ إنْ كَانَتْ مِنْ نَوْعِ مَا قَالَهُ هُنَا مِمَّا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ الْكِتَابُ بِنَفِيسٍ اهـ.
قُلْت وَفِي الْحَوَاشِي الشِّرْبِينِيُّ عَلَى مُحَلَّى جَمْعِ الْجَوَامِعِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَعَ الْقَرَائِنِ الْمُنْفَصِلَةِ يُفِيدُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ كَالْمُتَوَاتِرِ إلَّا أَنَّ حُصُولَهُ فِي الْمُتَوَاتِرِ بِوَاسِطَةِ مَا لَا يَنْفَكُّ التَّعْرِيفُ عَنْهُ عَادَةً مِنْ الْقَرَائِنِ الْمُتَّصِلَةِ فَكَأَنَّهُ مِنْ نَفْسِ الْخَبَرِ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ الْمَذْكُورِ فَحُصُولُهُ فِيهِ بِوَاسِطَةِ الْقَرَائِنِ الْمُنْفَصِلَةِ اهـ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَ مَالِكٍ أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً كَذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ وَغَيْرَهُمَا قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ مُجَاهِدًا بِالْأَسْلِحَةِ نَاشِرًا لِلْأَلْوِيَةِ بَاذِلًا لِلْأَمَانِ لِمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ» ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْعَنْوَةِ قَطْعًا عَلَى أَنَّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ بِدُونِ تِلْكَ الْقَرَائِنِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ إجْمَاعًا فِي سَائِرِ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ سَمْعًا اهـ.
قَالَ الْمَحَلِّيُّ أَيْ لَا عَقْلًا بِشَرْطِهِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبْعَثُ الْآحَادَ إلَى الْقَبَائِلِ وَالنَّوَاحِي لِتَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فَلَوْلَا أَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِخَبَرِهِمْ لَمْ يَكُنْ لِبَعْثِهِمْ فَائِدَةٌ اهـ.
قَالَ الْعَطَّارُ عَنْ زَكَرِيَّا، وَشُرُوطُهُ عَدَالَةٌ وَسَمْعٌ
(الْفَرْقُ الْعَاشِرُ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُرَدُّ مِنْ الْقِرَاضِ الْفَاسِدِ إلَى قِرَاضِ الْمِثْلِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُرَدُّ مِنْهُ إلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ)
اعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ الرَّدُّ إلَى قِرَاضِ الْمِثْلِ كَسَائِرِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَلِأَنَّهُ الْعَمَلُ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي التَّنْبِيهَاتِ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ الْفَاسِدَ مِنْ الْقِرَاضِ يُرَدُّ إلَى أُجْرَةِ مِثْلِهِ إلَّا فِي تِسْعِ مَسَائِلَ الْقِرَاضُ بِالْعُرُوضِ، وَإِلَى أَجَلٍ، وَعَلَى الضَّمَانِ، وَالْمُبْهَمُ، وَبِدِينٍ يَقْتَضِيهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ، وَعَلَى شِرْكٍ فِي الْمَالِ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَشْتَرِي إلَّا بِالدَّيْنِ فَاشْتَرَى بِالنَّقْدِ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَشْتَرِي إلَّا سِلْعَةً مُعَيَّنَةً لِمَا لَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ فَاشْتَرَى غَيْرَهَا، وَعَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدَ فُلَانٍ بِمَالِ الْقِرَاضِ ثُمَّ يَبِيعُهُ، وَيَتَّجِرُ بِثَمَنِهِ، وَأُلْحِقَ بِالتِّسْعَةِ عَاشِرَةٌ مِنْ غَيْرِ الْفَاسِدِ فَفِي الْكِتَابِ إذَا اخْتَلَفَا وَأَتَيَا بِمَا لَا يُشْبِهُ لَهُ قِرَاضُ الْمِثْلِ، وَالضَّابِطُ كُلُّ مَنْفَعَةٍ اشْتَرَطَهَا أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ لَيْسَتْ خَارِجَةً عَنْ الْمَالِ، وَلَا خَالِصَةً لِمُشْتَرِطِهَا، وَمَتَى كَانَتْ خَارِجَةً عَنْ الْمَالِ أَوْ كَانَتْ غَرَرًا حَرَامًا فَأُجْرَةُ الْمِثْلِ فَعَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ تَدُورُ الْمَسَائِلُ، وَعَنْ مَالِكٍ قِرَاضُ الْمِثْلِ مُطْلَقًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بِالْأُجْرَةِ مُطْلَقًا نَظَرًا لِاسْتِيفَاءِ الْعَمَلِ بِغَيْرِ عَقْدٍ صَحِيحٍ وَإِلْغَاءِ الْفَاسِدِ بِالْكُلِّيَّةِ قَالَ صَاحِبُ الْقَبَسِ فِيهَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ ثَالِثُهَا لِابْنِ الْقَاسِمِ إنْ كَانَ الْفَسَادُ فِي الْعَقْدِ فَقِرَاضُ الْمِثْلِ أَوْ لِزِيَادَةٍ فَأُجْرَةُ الْمِثْلِ وَرَابِعُهَا لِمُحَمَّدٍ الْأَقَلُّ مِنْ قِرَاضِ الْمِثْلِ الْمُسَمَّى وَخَامِسُهَا تَفْصِيلُ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَقَدْ نَظَمَ بَعْضُهُمْ مَسَائِلَ ابْنِ الْقَاسِمِ فَقَالَ:
وَأُجْرَةُ مِثْلٍ فِي الْقِرَاضِ تَعَيَّنَتْ
…
سِوَى تِسْعَةٍ قَدْ خَالَفَ الشَّرْعَ حُكْمُهُ
قِرَاضُ عُرُوضٍ وَاشْتِرَاطُ ضَمَانِهِ
…
وَتَحْدِيدُ وَقْتٍ وَالْتِبَاسٌ يَعُمُّهُ
وَإِنْ شَرَطَا فِي الْمَالِ شِرْكًا لِعَامِلٍ
…
وَأَنْ يُشْتَرَى بِالدَّيْنِ فَاخْتَلَّ رَسْمُهُ
وَأَنْ يُشْتَرَى غَيْرُ الْمُعَيَّنِ لِلشِّرَا
…
وَأَعْطِ قِرَاضَ الْمِثْلِ مِنْ حَالِ غُرْمِهِ
وَأَنْ يَقْتَضِي الدَّيْنَ الَّذِي عِنْدَ غَيْرِهِ
…
وَيَتَّجِرَ فِيهِ عَامِلًا لَا يَذُمُّهُ
وَأَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدًا لِزَيْدٍ يَبِيعُهُ
…
وَيَتَّجِرَ فِيمَا ابْتَاعَهُ وَيَلُمُّهُ
قَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: وَضَابِطُهَا كُلُّ مَا يَشْتَرِطُ فِيهِ رَبُّ الْمَالِ عَلَى الْعَامِلِ أَمْرًا قَصَرَهُ بِهِ عَلَى نَظَرِهِ أَوْ يَشْتَرِطُ زِيَادَةً لِنَفْسِهِ أَوْ شَرَطَهَا الْعَامِلُ لِنَفْسِهِ فَأُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَإِلَّا فَقِرَاضُ الْمِثْلِ، وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ أَمْرَانِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَبَصَرٌ وَغَيْرُهُ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَلِّهِ اهـ.
فَتَعَيَّنَ الْجَوَابُ الْأَوَّلُ عَنْ الْإِيرَادِ الْمَذْكُورِ فَتَأَمَّلْ بِدِقَّةٍ وَسَبَبُ الْخِلَافَ فِي كِرَاءِ دُورِ مَكَّةَ أَمْرَانِ (الْأَوَّلُ) مَا مَرَّ مِنْ الْخِلَافِ فِي أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَهَلْ يُنْظَرُ إلَى أَنَّهُ قَدْ مَنَّ عَلَى أَهْلِهَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ مُطْلَقًا أَمْ لَا مُطْلَقًا أَمْ يُنْظَرُ إلَيْهِ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْمَوْسِمِ. (وَالْأَمْرُ الثَّانِي) تَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ
قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الْبُنَانِيُّ الْمَكِّيُّ فِي رِسَالَتِهِ تُحْفَةِ الْمُرِيدِ السَّالِكِ فَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُ بِالْمَنْعِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] قَالُوا الْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَكَّةَ لِمَا رَوَى ابْنُ حَاتِمٍ، وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْحَرَمُ كُلُّهُ، وَقَدْ وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً} [الحج: 25] أَيْ الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا ثُمَّ قَالَ {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] أَيْ سَوَاءً الْمُقِيمُ فِي الْحَرَمِ، وَمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا أَوْ الْمُقِيمُ فِيهِ، وَالْغَرِيبُ سَوَاءٌ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى مَنْعِ بَيْعِ دُورِ مَكَّةَ وَإِجَارَتِهَا لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل جَعَلَهَا لِلنَّاسِ سَوَاءً فَلَا يَخْتَصُّ أَحَدٌ بِمِلْكٍ فِيهَا دُونَ أَحَدٍ قَالَ الْقَسْطَلَّانِيُّ عَلَى الْبُخَارِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الحج: 25] مَا نَصُّهُ وَأَوَّلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِمَكَّةَ، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً} [الحج: 25] عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ دُورِهَا وَإِجَارَتِهَا ثُمَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ إلَى أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْبَادِي وَالْعَاكِفِ فِي مَنَازِلِ مَكَّةَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فَلَيْسَ الْمُقِيمُ بِهَا أَحَقَّ بِالْمَنْزِلِ مِنْ الْقَادِمِ عَلَيْهَا انْتَهَى، وَقَالَ الْعَيْنِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْبُخَارِيِّ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ دُورِ مَكَّةَ وَإِجَارَتِهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالثَّوْرِيُّ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَمُجَاهِدٍ وَمَالِكٍ وَإِسْحَاقَ انْتَهَى (وَأَمَّا السُّنَّةُ) فَأَحَادِيثُ مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ فَضْلَةَ الْكِنَانِيِّ قَالَ كَانَتْ الدُّورُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم مَا تُبَاعُ وَلَا تُكْرَى، وَلَا تُدْعَى إلَّا السَّوَادَ لَمْ تُبَعْ رِبَاعُهَا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا أَبِي بَكْرٍ، وَلَا عُمَرَ فَمَنْ احْتَاجَ سَكَنَ، وَمَنْ اسْتَغْنَى أَسْكَنَ (وَمِنْهَا) مَا أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا يَحِلُّ بَيْعُ بُيُوتِ مَكَّةَ، وَلَا إجَارَتُهَا» (وَمِنْهَا) مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَتَّخِذُوا لِدُورِكُمْ أَبْوَابًا لِيَنْزِلْ الْبَادِي حَيْثُ شَاءَ (وَمِنْهَا) مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ
(أَحَدُهُمَا) الْمُسْتَثْنَيَاتُ مِنْ الْعُقُودِ إذَا فَسَدَتْ هَلْ تُرَدُّ إلَى صَحِيحِ أَنْفُسِهَا، وَهُوَ الْأَصْلُ كَفَاسِدِ الْبَيْعِ أَوْ إلَى صَحِيحِ أَصْلِهَا لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى إنَّمَا اُسْتُثْنِيَ لِأَجْلِ مَصْلَحَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْأَصْلُ فَيُرَدُّ إلَيْهِ، وَالشَّرْعُ لَمْ يَسْتَثْنِ الْفَاسِدَ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعَدَمِ، وَلَهُ أَصْلٌ يَرْجِعُ إلَيْهِ، وَسِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْعِ أَنَّ الْبَيْعَ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ آخَرُ يَرْجِعُ إلَيْهِ (الْأَمْرُ الثَّانِي) أَنَّ أَسْبَابَ الْفَسَادِ إذَا تَأَكَّدَتْ فِي الْقِرَاضِ أَوْ غَيْرِهِ بَطَلَتْ حَقِيقَةُ الْمُسْتَثْنَى بِالْكُلِّيَّةِ فَتَتَعَيَّنُ الْإِجَارَةُ، وَإِذَا لَمْ تَتَأَكَّدْ اعْتَبَرْنَا الْقِرَاضَ ثُمَّ يَبْقَى النَّظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمُفْسِدِ هَلْ هُوَ مُتَأَكِّدٌ أَمْ لَا نَظَرًا فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ.
(الْفَرْقُ الْحَادِي عَشَرَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُرَدُّ إلَى مُسَاقَاتِ الْمِثْلِ فِي الْمَسَاقَاتِ وَبَيْنَ مَا يُرَدُّ إلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ)
قَالَ أَبُو الطَّاهِرِ فِي كِتَابِ النَّظَائِرِ يُرَدُّ الْعَامِلُ إلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ إلَّا فِي خَمْسِ مَسَائِلَ فَلَهُ مُسَاقَاتُ الْمِثْلِ إذَا سَاقَاهُ عَلَى حَائِطٍ فِيهِ تَمْرٍ قَدْ أَطْعَمَ، وَإِذَا شَرَطَ الْعَمَلَ مَعَهُ، وَاجْتِمَاعَهَا مَعَ الْبَيْعِ، وَمُسَاقَاةِ سَنَتَيْنِ عَلَى جُزْأَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَإِذَا اخْتَلَفَا، وَأَتَيَا بِمَا لَا يُشْبِهُ فَحَلَفَا عَلَى دَعْوَاهُمَا أَوْ نَكَلَا، وَقَدْ نَظَمَهَا بَعْضُهُمْ فَقَالَ:
وَأُجْرَةُ مِثْلٍ فِي الْمُسَاقَاةِ عُيِّنَتْ
…
سِوَى خَمْسَةٍ قَدْ خَالَفَ الشَّرْعَ حُكْمُهَا
مُسَاقَاةٌ إبَّانَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا
…
وَجُزْءَانِ فِي عَامَيْنِ شَرْطٌ يَعُمُّهَا
وَإِنْ شَرَطَ السَّاقِي عَلَى مَالِكٍ لَهُ
…
مُسَاعَدَةً وَالْبَيْعُ مَعَهَا يَضُمُّهَا
وَإِنْ حَلَفَا فِي الْخُلْفِ مِنْ غَيْرِ شُبْهَةٍ
…
أَوْ اجْتَنَبَا الْأَيْمَانَ وَالْحَزْمَ ذَمُّهَا
، وَسِرُّ الْفَرْقِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْقِرَاضِ بِعَيْنِهِ، وَالْقَوَاعِدُ وَاحِدَةٌ فِيهِمَا.
(الْفَرْقُ الثَّانِي عَشَرَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ الْأَهْوِيَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تَحْتَ الْأَبْنِيَةِ)
اعْلَمْ أَنَّ حُكْمَ الْأَهْوِيَةِ تَابِعٌ لِحُكْمِ الْأَبْنِيَةِ فَهَوَاءُ الْوَقْفِ وَقْفٌ، وَهَوَاءُ الطَّلْقِ طَلْقٌ، وَهَوَاءُ الْمَوَاتِ مَوَاتٌ، وَهَوَاءُ الْمَمْلُوكِ مَمْلُوكٌ، وَهَوَاءُ الْمَسْجِدِ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ فَلَا يَقْرَبُهُ الْجُنُبُ، وَمُقْتَضَى هَذِهِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (الْفَرْقُ الثَّانِي عَشَرَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَهْوِيَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تَحْتَ الْأَبْنِيَةِ إلَى قَوْلِهِ سَقْفٌ عَلَيْهِ بُنْيَانٌ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ حِكَايَةٌ لِلْمَذْهَبِ فَلَا كَلَامَ مَعَهُ فِيهِ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ نَهَى أَهْلَ مَكَّةَ أَنْ يُغْلِقُوا أَبْوَابَ دُورِهِمْ دُونَ الْحُجَّاجِ (وَمِنْهَا) مَا أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ مَنْ أَكَلَ كِرَاءَ بُيُوتِ أَهْلِ مَكَّةَ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ نَارًا فِي بَطْنِهِ، وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُ بِالْجَوَازِ بِمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ «عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا فِي دَارِك بِمَكَّةَ فَقَالَ هَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ» ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ هُوَ وَطَالِبٌ لَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ، وَلَا عَلِيٌّ شَيْئًا، وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لَا يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ قَالَ الْفَاكِهِيُّ هَذِهِ الدَّارُ كَانَتْ لِهَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ثُمَّ صَارَتْ لِابْنِهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَسَمَهَا بَيْنَ وَلَدِهِ فَمِنْ ثَمَّ صَارَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَقُّ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَفِيهَا وُلِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اهـ.
قَالَ الْقَسْطَلَّانِيُّ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكُهُ فَأَضَافَهَا إلَى نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ وَكَانَ قَدْ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا طَالِبٌ وَعَقِيلٌ عَلَى الدَّارِ كُلِّهَا بِاعْتِبَارِ مَا وَرِثَاهُ مِنْ أَبِيهِمَا لِكَوْنِهِمَا كَانَا لَمْ يُسْلِمَا، وَبِاعْتِبَارِ تَرْكِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِحَقِّهِ مِنْهَا بِالْهِجْرَةِ، وَفَقْدِ طَالِبٍ بِبَدْرٍ فَبَاعَ عَقِيلٌ الدَّارَ كُلَّهَا.
وَقَالَ الْعَيْنِيُّ كَانَ أَبُو طَالِبٍ أَكْبَرَ وَلَدِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ احْتَوَى عَلَى أَمْلَاكِهِ وَحْدَهُ عَلَى عَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَقْدِيمِ الْأَسَنِّ فَتَسَلَّطَ عَلَيْهَا عَقِيلٌ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَبَاعَهَا، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ بَاعَ عَقِيلٌ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلِمَنْ هَاجَرَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بِدُورِ مَنْ هَاجَرَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا أَمْضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَصَرُّفَاتِ عَقِيلٍ إمَّا كَرَمًا وُجُودًا، وَإِمَّا اسْتِمَالَةً لِعَقِيلٍ، وَإِمَّا تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْكِحَةُ الْكُفَّارِ اهـ.
حَكَى الْفَاكِهِيُّ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ لَمْ تَزَلْ بِيَدِ أَوْلَادِ عَقِيلٍ إلَى أَنْ بَاعُوهَا لِمُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ أَخِي الْحَجَّاجِ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ اهـ.
كَمَا فِي الْعَيْنِيِّ وَالْقَسْطَلَّانِيِّ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَجَازَ بَيْعَ عَقِيلٍ الدُّورَ الَّتِي وَرِثَهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ احْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ دُورِ مَكَّةَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَجَازَ بَيْعَ عَقِيلٍ الدُّورَ الَّتِي وَرِثَهَا، وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ وَرِثَا أَبَاهُمَا لِأَنَّهُمَا إذْ ذَاكَ كَانَا كَافِرَيْنِ فَوَرِثَاهَا ثُمَّ أَسْلَمَ عَقِيلٌ فَبَاعَهَا اهـ.
وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الْمَنْعِ فَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ فَأَمَّا عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْمَارِّ فَهُوَ لِأَنَّهُ يُقَاوِمُ حَدِيثَ أُسَامَةَ هَذَا فِي صِحَّتِهِ لِأَنَّ فِي سَنَدِهِ إسْمَاعِيلَ بْنَ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، وَضَعَّفَهُ يَحْيَى، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْأَصْلُ فِي بَابِ الْمُعَارَضَةِ التَّسَاوِي، وَلَئِنْ
الْقَاعِدَةِ أَنْ يُمْنَعَ بَيْعُ هَوَاءِ الْمَسْجِدِ وَالْأَوْقَافِ إلَى عَنَانِ السَّمَاءِ لِمَنْ أَرَادَ غَرْزَ خَشَبٍ حَوْلَهَا، وَيَبْنِيَ عَلَى رُءُوسِ الْخَشَبِ سَقْفٌ عَلَيْهِ بُنْيَانٌ، وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ إلَّا فَرْعٌ قَالَ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ يَجُوزُ إخْرَاجُ الرَّوَاشِنِ وَالْأَجْنِحَةِ عَلَى الْحِيطَانِ إلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ تَكُنْ مُسْتَدَّةً فَإِذَا كَانَتْ مُسْتَدَّةً امْتَنَعَ إلَّا أَنْ يَرْضَى أَهْلُهَا كُلُّهُمْ، وَسَبَبُ خُرُوجِ الرَّوَاشِنِ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّ الْأَفْنِيَةَ هِيَ بَقِيَّةُ الْمَوَاتِ الَّذِي كَانَ قَابِلًا لِلْإِحْيَاءِ فَمَنْعُ الْإِحْيَاءِ فِيهِ لِضَرُورَةِ السُّلُوكِ وَرَبْطِ الدَّوَابِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْهَوَاءِ فَيَبْقَى عَلَى حَالِهِ مُبَاحًا فِي السِّكَّةِ النَّافِذَةِ.
وَأَمَّا الْمُسْتَدَّةُ فَلَا لِحُصُولِ الِاخْتِصَاصِ وَتَعَيُّنِ الضَّرَرِ عَلَيْهِمْ. هَذَا تَفْصِيلُ أَحْوَالِ الْأَهْوِيَةِ، وَأَمَّا مَا تَحْتَ الْأَبْنِيَةِ الَّذِي هُوَ عَكْسُ الْأَهْوِيَةِ إلَى جِهَةِ السُّفْلِ فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْأَبْنِيَةِ فَقَدْ نَصَّ صَاحِبُ الطِّرَازِ عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ إذَا حُفِرَ تَحْتَهُ مَطْمُورَةٌ يَجُوزُ أَنْ يَعْبُرَهَا الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ.
وَقَالَ لَوْ أَجَزْنَا الصَّلَاةَ فِي الْكَعْبَةِ، وَعَلَى ظَهْرِهَا لَمْ نُجِزْهَا فِي مَطْمُورَةٍ تَحْتَهَا فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِمُخَالَفَةِ الْأَهْوِيَةِ لِمَا تَحْتَ الْأَبْنِيَةِ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ مَلَكَ أَرْضًا هَلْ يَمْلِكُ مَا فِيهَا، وَمَا تَحْتَهَا أَمْ لَا، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي مِلْكِ مَا فَوْقَ الْبِنَاءِ مِنْ الْهَوَاءِ عَلَى مَا عَلِمْت، وَقَدْ نَصَّ أَصْحَابُنَا عَلَى بَيْعِ الْهَوَاءِ لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ، وَسِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ أَنَّ النَّاسَ شَأْنُهُمْ تَوَفُّرُ دَوَاعِيهِمْ عَلَى الْعُلُوِّ فِي الْأَبْنِيَةِ لِلِاسْتِشْرَافِ وَالنَّظَرِ إلَى الْمَوَاضِعِ الْبَعِيدَةِ مِنْ الْأَنْهَارِ وَمَوَاضِعِ الْفَرَحِ وَالتَّنَزُّهِ وَالِاحْتِجَابِ عَنْ غَيْرِهِمْ بِعُلُوِّ بِنَائِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِدِ، وَلَا تَتَوَفَّرُ دَوَاعِيهِمْ فِي بَطْنِ الْأَرْضِ عَلَى أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَمْسِكُ بِهِ الْبِنَاءُ مِنْ الْأَسَاسَاتِ خَاصَّةً، وَلَوْ كَانَ الْبِنَاءُ عَلَى جَبَلٍ أَوْ أَرْضٍ صُلْبَةٍ اسْتَغْنَوْا عَنْهُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ إلَّا فَرْعٌ قَالَ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ، وَيَجُوزُ إخْرَاجُ الرَّوْشَنِ إلَى قَوْلِهِ هَذَا تَفْصِيلُ أَحْوَالِ الْأَهْوِيَةِ) قُلْت تَعْلِيلُهُ بَقَاءُ أَهْوِيَةِ الطُّرُقِ غَيْرِ الْمُسْتَدَّةِ عَلَى حَالِهَا مِنْ قَبُولِهَا لِلْإِحْيَاءِ بِعَدَمِ الضَّرُورَةِ الْمُلْجِئَةِ إلَيْهَا مُشْعِرٌ بِنَقِيضِ مَا حَكَاهُ عَنْ الْمَذْهَبِ مِنْ أَنَّ حُكْمَ الْهَوَاءِ إلَى عَنَانِ السَّمَاءِ حُكْمُ الْبِنَاءِ فَإِنَّهُ لَا ضَرُورَةَ تُلْجِئُ إلَى ذَلِكَ فَمُقْتَضَى ذَلِكَ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَا تُلْجِئُ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ، وَالْمُحَكَّمُ فِي ذَلِكَ الْعَادَةُ فَهَذَا مَوْضِعُ نَظَرٍ.
قَالَ (وَأَمَّا مَا تَحْتَ الْأَبْنِيَةِ إلَى قَوْلِهِ، وَقَدْ نَصَّ أَصْحَابُنَا عَلَى بَيْعِ هَوَاءٍ لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ) قُلْت مَا قَالَهُ حِكَايَةُ أَقْوَالٍ لَا كَلَامَ فِيهِ قَالَ (وَسِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ أَنَّ النَّاسَ شَأْنُهُمْ تَوَفُّرُ دَوَاعِيهِمْ عَلَى الْعُلُوِّ فِي الْأَبْنِيَةِ إلَى قَوْلِهِ. وَلَوْ كَانَ الْبِنَاءُ عَلَى جَبَلٍ أَوْ أَرْضٍ صُلْبَةٍ اسْتَغْنَوْا عَنْهُ)
قُلْت مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ لَا تَتَوَفَّرُ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
سَلَّمْنَا الْمُسَاوَاةَ عَلَى تَقْدِيرِ فَرْضِ صِحَّةِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَلَا يُكْتَفَى بِهَا بَلْ يُكْشَفُ عَنْ وَجْهِ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ فَوَجَدْنَا أَنَّ مَا يَقْضِي بِهِ حَدِيثُ أُسَامَةَ أَوْلَى وَأَصْوَبُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَذَاكَ أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ وَجَمِيعِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا تَدْخُلُ فِي مِلْكِ أَحَدٍ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْنِيَ فِيهَا بِنَاءً، وَلَا يَحْجُرَ مَوْضِعًا مِنْهَا أَلَا تَرَى أَنَّ مَوْضِعَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْبَنِيَ فِيهِ بِنَاءٌ، وَكَذَلِكَ مِنًى لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْنِيَ فِيهَا دَارًا لِحَدِيثِ «عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَتَّخِذُ لَك بِمِنًى بَيْتًا أَوْ بِنَاءً يُظِلُّكَ، قَالَ: لَا يَا عَائِشَةُ إنَّهَا مُنَاخٌ لِمَنْ سَبَقَ» فَقَالَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالطَّحَاوِيُّ، وَوَجَدْنَا مَكَّةَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ أُجِيزَ فِيهَا الْبِنَاءُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ دَخَلَ مَكَّةَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارِهِ فَهُوَ آمِنٌ» فَأَثْبَتَ لِأَبِي سُفْيَانَ مِلْكَ دَارِهِ.
وَأَثْبَتَ لَهُمْ أَمْلَاكَهُمْ عَلَى دُورِهِمْ حَيْثُ أَضَافَا إلَيْهِمْ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ مِمَّا يُبْنَى فِيهَا الدُّورُ، وَمِمَّا يُغْلَقُ عَلَيْهَا الْأَبْوَابُ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَكُونُ صِفَتُهَا صِفَةَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهَا الْأَمْلَاكُ، وَتَقَعُ فِيهَا الْمَوَارِيثُ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ بَيْعُ الدُّورِ الَّتِي فِيهَا، وَتَجُوزُ إجَارَتُهَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ أَضَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الدَّارَ لِأَبِي سُفْيَانَ إضَافَةَ مِلْكٍ بِقَوْلِهِ مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَلِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ لَهُمْ دُورٌ بِمَكَّةَ دَارٌ لِأَبِي بَكْرٍ، وَلِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّا يَكْثُرُ تَعْدَادُهُمْ فَبَعْضٌ بِيعَ، وَبَعْضٌ فِي يَدِ أَعْقَابِهِمْ إلَى الْيَوْمِ، وَإِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه اشْتَرَى مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ دَارًا بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَاشْتَرَى مُعَاوِيَةُ مِنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ دَارَيْنِ بِمَكَّةَ إحْدَاهُمَا بِسِتِّينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَالْأُخْرَى بِأَرْبَعِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَهَذِهِ قِصَصٌ اشْتَهَرَتْ فَلَمْ تُنْكَرْ فَصَارَتْ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّهَا أَرْضٌ حَيَّةٌ لَمْ تَرِدْ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ مُحَرَّمَةٌ فَجَازَ بَيْعُهَا كَسَائِرِ الْأَرَاضِي اهـ.
كَمَا فِي الْعَيْنِيِّ قَالَ الْحَطَّابُ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى مَنْسَكِ خَلِيلٍ قَالَ الْقَاضِي تَقِيُّ الدِّينِ الْفَاسِيُّ، وَالْقَوْلُ بِمَنْعِ ذَلِكَ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَخُلَفَائِهِمْ عَمِلُوا بِخِلَافِهِ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ ثُمَّ ذَكَرَ وَقَائِعَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُعَاوِيَةَ رضي الله عنهم قَالَ الْحَطَّابُ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ الْبَيْعِ وَالْكِرَاءِ اقْتَصَرَ ابْنُ الْحَاجِّ فَإِنَّهُ قَالَ فِي مَنَاسِكِهِ: وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي كِرَاءِ بُيُوتِ مَكَّةَ وَبَيْعِهَا فَذَكَرَ الْخِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ثُمَّ قَالَ، وَأَبَاحَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بَيْعَ رِبَاعِ
وَالشَّرْعُ لَهُ قَاعِدَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا يُمْلَكُ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، وَمَا لَا حَاجَةَ فِيهِ لَا يُشْرَعُ فِيهِ الْمِلْكُ فَلِذَلِكَ لَمْ يُمْلَكْ مَا تَحْتَ الْأَبْنِيَةِ مِنْ تُخُومِ الْأَرْضِ بِخِلَافِ الْهَوَاءِ إلَى عَنَانِ السَّمَاءِ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ، وَالْمَسَاجِدُ وَالْكَعْبَةُ لَمَّا كَانَتْ بُيُوتًا كَانَتْ الْمَقَاصِدُ فِيهَا لِمَنْ يَدْخُلُهَا مُتَعَلِّقَةً بِهَوَائِهَا دُونَ مَا تَحْتَ بِنَائِهَا كَالْمَمْلُوكَاتِ فَإِنْ قُلْت وَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مِلْكِ مَا تَحْتَ ذَلِكَ الشِّبْرِ إلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ قُلْت تَطْوِيقَةُ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ عُقُوبَةً لَا لِأَجْلِ مِلْكِ صَاحِبِ الشِّبْرِ إلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْعُقُوبَةِ بِالشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِغَيْرِ اللَّهِ عز وجل
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
الدَّوَاعِي فِي بَطْنِ الْأَرْضِ عَلَى أَكْثَرَ مِمَّا يَتَمَسَّكُ بِهِ الْبِنَاءُ مِنْ الْأَسَاسَاتِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ كَيْفَ وَقَدْ تَوَفَّرَتْ عَلَيْهِ دَوَاعِي كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ كَحَفْرِ الْأَرْضِ لِلْجُبُوبِ وَالْمَصَانِعِ وَالْآبَارِ الْعَمِيقَةِ هَذِهِ غَفْلَةٌ مِنْهُ شَدِيدَةٌ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ الصَّحِيحُ أَنَّ حُكْمَ مَا تَحْتَ الْأَبْنِيَةِ كَحُكْمِ الْأَهْوِيَةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْفِرَ مَطْمُورَةً تَحْتَ مِلْكِ غَيْرِهِ يَتَوَصَّلُ إلَيْهَا مِنْ مِلْكِ نَفْسِهِ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ بِلَا رَيْبٍ وَلَا خِلَافَ فَلَوْ كَانَ مَا تَحْتَ الْأَبْنِيَةِ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْأَبْنِيَةِ بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى حُكْمِ قَبُولِهِ لِلْإِحْيَاءِ لَمَا مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ (وَالشَّرْعُ لَهُ قَاعِدَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا يُمْلَكُ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، وَمَا لَا حَاجَةَ فِيهِ لَا يُشْرَعُ فِيهِ الْمِلْكُ فَلِذَلِكَ لَمْ يُمْلَكْ مَا تَحْتَ الْأَبْنِيَةِ مِنْ تُخُومِ الْأَرْضِ بِخِلَافِ الْهَوَاءِ إلَى عَنَانِ السَّمَاءِ) قُلْت إذَا كَانَتْ الْقَاعِدَةُ الشَّرْعِيَّةُ أَنْ لَا يُمْلَكَ إلَّا مَا فِيهِ الْحَاجَةُ، وَأَيُّ حَاجَةٍ فِي الْبُلُوغِ إلَى عَنَانِ السَّمَاءِ، وَإِذَا كَانَتْ الْقَاعِدَةُ أَنَّهُ يُمْلَكُ مِمَّا فِيهِ الْحَاجَةُ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ مِلْكِ مَا تَحْتَ الْبِنَاءِ لِحَفْرِ بِئْرٍ يُعَمِّقُهَا حَافِرُهَا مَا شَاءَ فَمَا ذُكِرَ مِنْ سِرِّ الْفَرْقِ لَمْ يَظْهَرْ، وَبَقِيَ سِرًّا كَمَا كَانَ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ لَا شَكَّ فِيهِ مِنْ أَنَّ مَنْ مَلَكَ مَوْضِعًا لَهُ أَنْ يَبْنِيَ فِيهِ، وَيَرْفَعَ فِيهِ الْبِنَاءَ مَا شَاءَ مَا لَمْ يَضُرَّ بِغَيْرِهِ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَحْفِرَ فِيهِ مَا شَاءَ، وَيُعَمِّقَ مَا شَاءَ مَا لَمْ يَضُرَّ بِغَيْرِهِ قَالَ (فَإِنْ قُلْت وَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» إلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فِي الْجَوَابِ) قُلْت لَا شَكَّ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ إشْعَارًا بِمِلْكِ مَا تَحْتَ الشِّبْرِ مِنْ الْأَرَضِينَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ تَكُونُ بِقَدْرِ الْجِنَايَةِ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ الْعُقُوبَةِ بِأَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَدْفَعُ ذَلِكَ الْإِشْعَارَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
مَكَّةَ، وَكِرَاءَ مَنَازِلِهَا مِنْهُمْ طَاوُسٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ثُمَّ ذَكَرَ حُجَجَ كُلِّ قَوْلٍ، وَقَالَ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ مَالِكٍ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ قَوْلُ اللَّهِ عز وجل {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارِهِ فَهُوَ آمِنٌ» فَأَثْبَتَ لِأَبِي سُفْيَانَ مِلْكَ دَارِهِ، وَأَثْبَتَ لَهُمْ أَمْلَاكَهُمْ عَلَى دُورِهِمْ.
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ «هَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلًا» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِلْكٌ لِأَرْبَابِهَا، وَأَنَّ عُمَرَ ابْتَاعَ دَارًا بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَأَنَّ دُورَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَيْدِي أَعْقَابِهِمْ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَغَيْرُهُمْ، وَقَدْ بِيعَ بَعْضُهَا، وَتُصُدِّقَ بِبَعْضِهَا، وَلَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إلَّا فِي أَمْلَاكِهِمْ، وَهُمْ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ اهـ.
(وَأَمَّا) عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ} [الحج: 25] الْآيَةَ فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْجِدِ الْمَسْجِدُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ النُّسُكُ وَالصَّلَاةُ لَا سَائِرُ دُورِ مَكَّةَ قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ إذْ لَوْ كَانَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَاقِعًا عَلَى جَمِيعِ الْحَرَمِ لَمَا جَازَ حَفْرُ بِئْرٍ وَلَا قَبْرٍ، وَلَا التَّغَوُّطُ، وَلَا الْبَوْلُ، وَلَا إلْقَاءُ الْجِيَفِ وَالنَّتْنِ، وَلَا دُخُولُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ الْحَرَمَ، وَالْجِمَاعُ فِيهِ، وَلَا نَعْلَمُ عَالِمًا مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا كَرِهَ لِجُنُبٍ وَحَائِضٍ دُخُولَ الْحَرَمِ وَلَا الْجِمَاعَ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَازَ الِاعْتِكَافُ فِي دُورِ مَكَّةَ، وَحَوَانِيتِهَا، وَلَا يَقُولُ بِذَلِكَ أَحَدٌ كَمَا فِي الْقَسْطَلَّانِيِّ
(وَأَمَّا) عَنْ حَدِيثِ عَلْقَمَةَ بْنِ فَضْلَةَ الْكِنَانِيِّ الَّذِي أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ عَلْقَمَةَ لَيْسَ بِصَحَابِيٍّ، وَالْمُنْقَطِعُ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ كَمَا قَامَتْ بِحَدِيثِ أُسَامَةَ الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ
(وَأَمَّا) عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَهُوَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ، وَالْمَوْقُوفُ لَا يُقَاوِمُ حَدِيثَ أُسَامَةَ الْمَرْفُوعَ
(وَأَمَّا) عَمَّا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالطَّحَاوِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمَا كَرَاهَةُ الْكِرَاءِ رِفْقًا بِالْوُفُودِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ مَنْعُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ فِيهَا أَلَا تَرَى أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه اشْتَرَى مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ دَارِهِ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَوْ كَانَ بَيْعُ دُورِ مَكَّةَ حَرَامًا لَمَا اشْتَرَاهَا مِنْهُ فَدَلَّ شِرَاؤُهُ رضي الله عنه عَلَى الْجَوَازِ اهـ.
كَلَامُ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْبُنَانِيِّ الْمَكِّيِّ فِي تُحْفَةِ الْمُرِيدِ بِتَصَرُّفٍ وَزِيَادَةٍ مَا
(تَنْبِيهٌ) فِي الْمُدَوَّنَةِ قَالَ مَالِكٌ أَكْرَهُ الْبُنْيَانَ الَّذِي أَحْدَثَهُ النَّاسُ بِمِنًى قَالَ سَنَدٌ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مِنًى لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْجُرَ فِيهَا مَوْضِعًا يَحُوزُهُ لَهُ إلَّا أَنْ يُنَزِّلَ مِنْهَا مَنْزِلًا فَيَخْتَصَّ بِهِ
(الْفَرْقُ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَمْلَاكِ النَّاشِئَةِ عَنْ الْإِحْيَاءِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَمْلَاكِ النَّاشِئَةِ عَنْ غَيْرِ الْإِحْيَاءِ)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ مُشْكِلٌ عَلَى مَذْهَبِنَا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ فَإِنَّ الْإِحْيَاءَ عِنْدَنَا إذَا ذَهَبَ ذَهَبَ الْمِلْكُ، وَكَانَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُحْيِيَهُ، وَيَصِيرَ مَوَاتًا كَمَا كَانَ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ وَالشَّافِعِيُّ رضي الله عنهما لَا يَزُولُ الْمِلْكِ بِزَوَالِ الْإِحْيَاءِ لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ» فَجَعَلَ صلى الله عليه وسلم لَهُ الْمِلْكَ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ إبْطَالِهِ، وَاسْتِصْحَابُهُ الثَّانِي قِيَاسُ الْإِحْيَاءِ عَلَى الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَسَائِرِ أَسْبَابِ التَّمْلِيكِ. الثَّالِثُ الْقِيَاسُ عَلَى مَنْ تَمَلَّكَ لُقَطَةً ثُمَّ ضَاعَتْ مِنْهُ فَإِنَّ عَوْدَهَا إلَى حَالِ الِالْتِقَاطِ لَا يُسْقِطُ مِلْكَ مُتَمَلِّكِهَا، وَهَذَا مُسَاوٍ لِلْمَسْأَلَةِ فِي الْعَوْدِ لِلْحَالَةِ السَّابِقَةِ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ لَنَا بِسَبَبِ أَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى عِلِّيَّةِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَقَدْ رُتِّبَ الْمِلْكُ عَلَى وَصْفِ الْإِحْيَاءِ فَيَكُونُ الْإِحْيَاءُ سَبَبَهُ، وَعِلَّتَهُ، وَالْحُكْمُ يَنْتَفِي لِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ وَسَبَبِهِ فَيَبْطُلُ الْمِلْكُ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِهَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَدُلُّ لَنَا غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ عليه السلام فَهِيَ لَهُ لَفْظٌ يَقْتَضِي
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (الْفَرْقُ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَمْلَاكِ النَّاشِئَةِ عَنْ الْإِحْيَاءِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَمْلَاكِ النَّاشِئَةِ عَنْ غَيْرِ الْإِحْيَاءِ إلَى مُنْتَهَى قَوْلِهِ، وَهَذَا مُسَاوٍ لِلْمَسْأَلَةِ فِي الْعَوْدِ لِلْحَالَةِ السَّابِقَةِ)
قُلْت مَا قَالَهُ حِكَايَةُ أَقْوَالٍ وَاحْتِجَاجٌ وَلَا كَلَامَ فِي ذَلِكَ قَالَ
(وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ لَنَا بِسَبَبِ أَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى عِلِّيَّةِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَقَدْ رُتِّبَ الْمِلْكُ عَلَى وَصْفِ الْإِحْيَاءِ فَيَكُونُ الْإِحْيَاءُ سَبَبَهُ، وَعِلَّتَهُ، وَالْحُكْمُ يَنْتَفِي لِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ وَسَبَبِهِ فَيَبْطُلُ الْمِلْكُ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِهَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ)
قُلْت أَمَّا الْقَاعِدَتَانِ فَمُسَلَّمَتَانِ صَحِيحَتَانِ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مَا قَالَهُ مِنْ بُطْلَانِ هَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ قَدْ ثَبَتَ فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مُسَبِّبُهُ، وَلَمْ يَرْتَفِعْ الْإِحْيَاءُ، وَلَا يَصِحُّ ارْتِفَاعُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ ارْتِفَاعِ الْوَاقِعِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنَّمَا مَغْزَاهُ أَنَّ الْإِحْيَاءَ لَمْ يَسْتَمِرَّ، وَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ فِي الْأَسْبَابِ كُلِّهَا فَإِنَّ الْمِلْكَ الْمُرَتَّبَ عَلَى الشِّرَاءِ أَوْ عَلَى الْإِرْثِ أَوْ عَلَى الْهِبَةِ لَمْ تَسْتَمِرَّ أَسْبَابُهُ فَكَانَ يَلْزَمُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ مَتَى غَفَلَ الْإِنْسَانُ عَنْ تَجْدِيدِ شِرَاءِ مُشْتَرَاهُ أَنْ يَبْطُلَ مِلْكُهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ قَطْعًا فَجَوَابُهُ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ قَالَ (سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَدُلُّ لَنَا غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام فَهِيَ لَهُ لَفْظٌ يَقْتَضِي
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ مَنْسَكِهِ وَيَخْرُجَ مِنْهَا، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَتْهُ «عَائِشَةُ رضي الله عنها قَالَتْ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَبْنِي لَك مَوْضِعًا يُظِلُّك بِمِنًى قَالَ لَا مِنًى مُنَاخٌ لِمَنْ سَبَقَ» خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَهَذَا يَمْنَعُ أَنْ يَحْجُرَ أَحَدٌ فِيهَا بُنْيَانًا إلَّا أَنْ يَكُونَ نَازِلًا بِالْبُنْيَانِ الَّذِي بِهَا ثُمَّ وَإِنْ كَانَ بِهَا كُرِهَ لَهُ أَيْضًا قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَوَّازِيَّةِ لِأَنَّهُ تَضْيِيقٌ عَلَى النَّاسِ، وَكَرِهَ إجَارَةَ الْبُنْيَانِ الَّذِي بِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَفَادَهُ الْبُنَانِيُّ الْمَكِّيُّ فِي تُحْفَةِ الْمُرِيدِ.
2 -
(الشَّرْطُ الْخَامِسُ) أَنْ لَا يَتَضَمَّنَ اسْتِيفَاءَ عَيْنٍ احْتِرَازًا عَنْ إجَارَةِ الْأَشْجَارِ لِثِمَارِهَا وَالْغَنَمِ لِنِتَاجِهَا قَالَهُ الْأَصْلُ، وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ، وَمِثْلُهُ فِي مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ إلَّا أَنَّهُ زَادَ قَيْدَ قَصْدٍ حَيْثُ قَالَ بِلَا اسْتِيفَاءِ عَيْنِ قَصْدٍ فَقَالَ بَهْرَامُ اُحْتُرِزَ بِهِ مِنْ إجَارَةِ الثِّيَابِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّ بَعْضَهَا، وَإِنْ ذَهَبَ بِالِاسْتِعْمَالِ لَكِنْ بِحُكْمِ التَّبَعِ، وَلَمْ يُقْصَدْ بِخِلَافِ الثَّمَرَةِ وَالشَّاةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَحَطَّ الْفَائِدَةِ قَوْلُهُ قَصْدٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي الْإِجَارَةِ اسْتِيفَاءُ عَيْنٍ لَكِنْ لَا قَصْدًا أَفَادَهُ الْعَدَوِيُّ عَلَى الْخَرَشِيِّ.
وَقَالَ تَبَعًا لعبق لَا يَخْفَى أَنَّ إطْلَاقَ الْإِجَارَةِ عَلَيْهِمَا أَيْ عَلَى الْأَشْجَارِ وَالْغَنَمِ لِمَا ذُكِرَ مَجَازٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا بَيْعُ مَنْفَعَةٍ، وَإِنَّمَا فِيهِمَا بَيْعُ ذَاتٍ كَمَا عُلِمَ مِنْ كَلَامِهِ فَلَا يَحْتَاجُ لِذِكْرِهِمَا فِي مُحْتَرِزِ هَذَا الشَّرْطِ نَعَمْ يَصِحُّ جَعْلُهُمَا مُحْتَرَزَهُ إنْ اسْتَأْجَرَ الشَّجَرَ لِأَمْرَيْنِ التَّجْفِيفِ عَلَيْهَا، وَأَخْذُ ثَمَرَتِهَا وَالشَّاةَ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا فِي شَيْءٍ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِيهِ، وَلِأَخْذِ لَبَنِهَا اهـ.
وَسَلَّمَهُ مَحْشُوًّا عبق قَالَ الْأَصْلُ، وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ أَيْ مِنْ مَنْعِ مَا يَتَضَمَّنُ اسْتِيفَاءَ عَيْنِ إجَارَةُ الْمُرْضِعِ لِلَبَنِهَا لِلضَّرُورَةِ فِي الْحَضَانَةِ اهـ.
قَالَ الْخَرَشِيُّ وَلِنَصِّ الْقُرْآنِ سَوَاءٌ كَانَتْ أُجْرَةُ الظِّئْرِ نَقْدًا أَوْ طَعَامًا، وَلَا يَكُونُ مِنْ بَابِ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إلَى أَجَلٍ لِلْعِلَّةِ السَّابِقَةِ، وَلَوْ كَانَ الرَّضِيعُ مُحَرَّمَ الْأَكْلِ أَيْ كَجَحْشٍ صَغِيرٍ أَوْ مُهْرٍ صَغِيرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فَيَجُوزُ أَنْ تُكْرَى لَهُ حِمَارَةٌ تُرْضِعُهُ لِلضَّرُورَةِ اهـ.
قَالَ الْعَدَوِيُّ عَلَيْهِ فَالْوَلَدُ الصَّغِيرُ إذَا لَمْ يَجِدْ امْرَأَةً تُرْضِعُهُ يَرْضَعُ عَلَى الْحِمَارِ قَالَهُ شَيْخُنَا عَبْدُ اللَّهِ اهـ.
(الشَّرْطُ السَّادِسُ) أَنْ يَقْدِرَ عَلَى تَسْلِيمِهَا احْتِرَازًا مِنْ اسْتِئْجَارِ الْأَخْرَسِ لِلْكَلَامِ، وَالْأَعْمَى لِلْخَطِّ قَالَ الْخَرَشِيُّ مِنْ شُرُوطِ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي تَحْصُلُ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهَا لِلْمُسْتَأْجِرِ حِسًّا فَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْأَعْمَى لِلْخَطِّ، وَالْأَخْرَسِ لِلْكَلَامِ، وَشَرْعًا فَلَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَى إخْرَاجِ الْجَانِّ وَالدُّعَاءِ وَحَلِّ الْمَرْبُوطِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْمَنْفَعَةِ، وَلَا عَلَى تَعْلِيمِ الْغِنَاءِ وَدُخُولِ الْحَائِضِ الْمَسْجِدِ اهـ. وَكَتَبَ الْعَدَوِيُّ عَلَى قَوْلِهِ وَشَرْعًا مَا نَصُّهُ قَدْ يُقَالُ يُسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ، وَلَا حَظْرَ كَمَا فِي عبق اهـ.
(الشَّرْطُ
مُطْلَقَ الْمِلْكِ فَإِنَّ لَفْظَ لَهُ لَيْسَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ بَلْ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ، وَنَحْنُ حِينَئِذٍ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ فَإِنَّا نُثْبِتُ مُطْلَقَ الْمِلْكِ مِنْ الْإِحْيَاءِ.
وَإِنَّمَا يَحْصُلُ مَقْصُودًا أَنْ لَوْ اقْتَضَى الْحَدِيثُ الْمِلْكَ بِوَصْفِ الْعُمُومِ عَلَى وَجْهِ الدَّوَامِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَعَنْ الثَّانِي الْفَرْقُ بِأَنَّ الْإِحْيَاءَ سَبَبٌ فِعْلِيٌّ تُمْلَكُ بِهِ الْمُبَاحَاتُ مِنْ الْأَرْضِ، وَأَسْبَابُ تِلْكَ الْمُبَاحَاتِ الْفِعْلِيَّةِ ضَعِيفَةٌ لِوُرُودِهَا عَلَى غَيْرِ مِلْكٍ سَابِقٍ بِخِلَافِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ الْقَوْلِيَّةِ لَا يَبْطُلُ الْمِلْكُ بِبُطْلَانِ أَصْوَاتِهَا وَانْقِطَاعِهَا لِأَنَّهَا تَرِدُ عَلَى مَمْلُوكٍ غَالِبًا فَلِتَأَصُّلِ الْمِلْكِ قَبْلَهَا قَوِيَتْ إفَادَتُهَا لِلْمِلْكِ لِاجْتِمَاعِ إفَادَتِهَا مَعَ إفَادَةِ مَا قَبْلَهَا، وَكَذَلِكَ إذَا وَرَدَ الْبَيْعُ عَلَى الْإِحْيَاءِ لَمْ يُنْتَقَضْ الْمِلْكُ بَعْدَ ذَلِكَ لِتَظَاهُرِ الْأَسْبَابِ فَلِهَذَا الْمَعْنَى قُلْنَا إذَا تَمَلَّكَ الصَّيْدَ بِالِاصْطِيَادِ ثُمَّ تَوَحَّشَ بَطَلَ الْمِلْكُ فِيهِ، وَالسَّمَكُ إذَا انْفَلَتَ فِي النَّهْرِ يَبْطُلُ مِلْكُهُ، وَالْمَاءُ إذَا حِيرَ ثُمَّ اخْتَلَطَ بِالنَّهْرِ أَوْ الطَّيْرُ أَوْ النَّحْلُ أَبْيَنُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إذَا انْفَلَتَ وَتَوَحَّشَ بَطَلَ الْمِلْكُ فِيهِ نَظَرًا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ فَإِنْ قُلْت الْإِقْطَاعُ سَبَبٌ قَوْلِيٌّ وَارِدٌ عَلَى مَمْلُوكٍ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُمْلَكُ بَيْعُهُ قُلْت هَذَا سُؤَالُ عَكْسٍ لِأَنَّا ادَّعَيْنَا قُصُورَ الْإِحْيَاءِ، وَأَنْتُمْ أَبْدَيْتُمْ حُكْمَ الْقُصُورِ بِدُونِ الْإِحْيَاءِ، وَإِبْدَاءُ الْحُكْمِ بِدُونِ سَبَبٍ أَوْ عِلَّةٍ عَكْسٌ، وَهُوَ عَكْسُ النَّقِيضِ، وَهُوَ إبْدَاءُ الْعِلَّةِ بِدُونِ حُكْمِهَا
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
مُطْلَقَ الْمِلْكِ إلَى آخِرِ قَوْلِهِ بِوَصْفِ الْعُمُومِ عَلَى وَجْهِ الدَّوَامِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ)
قُلْت مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَقْتَضِي الْمِلْكَ بِوَصْفِ الدَّوَامِ صَحِيحٌ، وَلَكِنْ هُنَا قَاعِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْمِلْكَ يَدُومُ بَعْدَ ثُبُوتِ سَبَبِهِ إلَّا أَنْ يَلْزَمَهُ مَا يُنَاقِضُهُ قَالَ (وَعَنْ الثَّانِي الْفَرْقُ بِأَنَّ الْإِحْيَاءَ سَبَبٌ فِعْلِيٌّ تُمْلَكُ بِهِ الْمُبَاحَاتُ مِنْ الْأَرْضِ، وَأَسْبَابُ تَمَلُّكِ الْمُبَاحَاتِ الْفِعْلِيَّةِ ضَعِيفَةٌ لِوُرُودِهَا عَلَى غَيْرِ مِلْكٍ سَابِقٍ)
قُلْت مَا قَالَهُ دَعْوَى يُقَابَلُ بِمِثْلِهَا بِأَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الْأَسْبَابَ الْقَوْلِيَّةَ هِيَ الضَّعِيفَةُ لِوُرُودِهَا عَلَى مِلْكٍ سَابِقٍ فَيُعَارَضُ الْمِلْكَانِ السَّابِقُ وَاللَّاحِقُ وَأَمَّا الْمَمْلُوكُ بِالْإِحْيَاءِ فَلَمْ يَسْبِقْهُ مَا يُعَارِضُهُ فَهُوَ أَقْوَى قَالَ (بِخِلَافِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ الْقَوْلِيَّةِ لَا يَبْطُلُ الْمِلْكُ بِبُطْلَانِ أَصْوَاتِهَا وَانْقِطَاعِهَا لِأَنَّهَا تَرِدُ عَلَى مَمْلُوكٍ غَالِبًا إلَى مُنْتَهَى قَوْلِهِ نَظَرًا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ) قُلْت كُلُّ ذَلِكَ دَعْوَى، وَهُوَ عَيْنُ الْمَذْهَبِ أَوْ مُرَتَّبَةً عَلَيْهِ، وَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهُ.
قَالَ (فَإِنْ قُلْتَ الْإِقْطَاعُ سَبَبٌ قَوْلِيٌّ وَارِدٌ عَلَى مَمْلُوكٍ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُمْلَكُ بَيْعُهُ) قَالَ (قُلْت هَذَا سُؤَالُ عَكْسٍ إلَى قَوْلِهِ وَهُوَ إبْدَاءُ الْعِلَّةِ بِدُونِ حُكْمِهَا) قُلْت إذَا كَانَ سُؤَالَ عَكْسٍ فَلِمَ لَا يَكُونُ وَارِدًا وَقَادِحًا
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
السَّابِعُ) أَنْ تَحْصُلَ لِلْمُسْتَأْجِرِ احْتِرَازًا مِنْ الْعِبَادَاتِ كَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِ أَيْ مِمَّا لَا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا عَيْنًا كَصَلَاةِ الْفَرْضِ أَوْ كِفَائِيًّا كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ أَوْ كَانَ سُنَّةً كَصَلَاةِ الْوِتْرِ أَوْ رَغِيبَةً كَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أَوْ نَفْلًا كَأَرْبَعٍ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَبَعْدَهُ.
وَقَبْلَ الْعَصْرِ قَالَ الْبُنَانِيُّ وَأَمَّا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ مِنْ سَائِرِ الْمَنْدُوبَاتِ كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ فَتَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَيْهَا قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي شَرْحِ ابْنِ الْحَاجِبِ بَعْدَ ذِكْرِ قَوْلِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَيُّنِ الْعِبَادَةِ وُجُوبُهَا لِأَنَّ أَكْثَرَ مَنْدُوبَاتِ الصَّلَاةِ أَيْ وَالصَّوْمِ مُتَعَيِّنَةٌ كَصَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْوِتْرِ وَصِيَامِ عَاشُورَاءَ وَعَرَفَةَ فَهَذِهِ يُمْنَعُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَمَعْنَى تَعَيُّنِهَا عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وُقُوعُهَا مِنْ غَيْرِ مَنْ خُوطِبَ بِهَا فَلَوْ أُجِيزَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهَا لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ اهـ.
قَالُوا هَذَا حُكْمُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ الْوَاجِبِ مِنْ ذَلِكَ وَالْمَنْدُوبِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فَالْإِجَارَةُ عَلَيْهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى وُصُولِ ثَوَابِ الْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرَّاجِحَ وُصُولُ ذَلِكَ لَهُ بِكَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ، وَغَيْرِهِ اُنْظُرْ مُصْطَفَى الرَّمَاصِيَّ اهـ.
كَلَامُ الْبُنَانِيِّ قَالَ وَقَدْ نَصَّ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَغَيْرُهُ عَلَى مَنْعِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى صَلَاةِ الْجِنَازَةِ قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فَإِنْ قُلْت صَلَاةُ الْجِنَازَةِ عِبَادَةٌ لَا يَتَعَيَّنُ فِعْلُهَا عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهَا قُلْت لَمَّا كَانَتْ عِبَادَةً مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ الْمُتَمَيِّزَةِ بِصُورَتِهَا لِلْعِبَادَةِ وَالصَّلَاةِ لَا تُفْعَلُ لِغَيْرِ الْعِبَادَةِ مُنِعَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا الْغُسْلُ فَيَكُونُ لِلْعِبَادَةِ وَالنَّظَافَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَذَا الْحَمْلُ لِلْمَيِّتِ شَارَكَهُ فِي الصُّورَةِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ فَلَمْ يَتَمَحَّضْ بِصُورَتِهِ لِلْعِبَادَةِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِهِ بِخِلَافِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَأُلْحِقَتْ بِمَا أَشْبَهَتْهُ اهـ.
اُنْظُرْ مُصْطَفَى الرَّمَاصِيَّ. اهـ.
قَالَ الْعَدَوِيُّ عَلَى الْخَرَشِيِّ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِئْجَارُ فِيهِ كَمَا أَفَادَهُ فِي حَاشِيَةِ اللَّقَانِيِّ اهـ.
أَيْ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَمَّا لَمْ يُفْعَلْ لِغَيْرِ الْعِبَادَةِ مُنِعَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ، وَفِي بِدَايَةِ الْحَفِيدِ وَاتَّفَقُوا عَلَى إبْطَالِ كُلِّ مَنْفَعَةٍ كَانَتْ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْإِنْسَانِ بِالشَّرْعِ مِثْلُ الصَّلَاةِ، وَغَيْرِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي إجَارَةِ الْمُؤَذِّنِ عَلَى الْأَذَانِ فَقَوْمٌ لَمْ يَرَوْا فِيهِ بَأْسًا، وَقَوْمٌ كَرِهُوا ذَلِكَ مُحْتَجِّينَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «اتَّخِذُوا مُؤَذِّنًا لَا يَتَّخِذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا» وَالْمُبِيحُونَ قَاسُوهُ عَلَى الْأَفْعَالِ غَيْرِ الْوَاجِبَةِ، وَهَذَا هُوَ سَبَبُ الِاخْتِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ فَأَجَازَهُ قَوْمٌ مُحْتَجِّينَ بِمَا رُوِيَ عَنْ «خَارِجَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ عَمِّهِ قَالَ أَقْبَلْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ
فَإِنْ قُلْت فَإِذَا أَحْيَا فِي الْإِقْطَاعِ لِمَ لَا يَبْطُلُ مِلْكُهُ بِبُطْلَانِ إحْيَائِهِ قُلْت ذَلِكَ لِسَبَبٍ غَيْرِ الْإِحْيَاءِ، وَهُوَ أَنَّ الْإِقْطَاعَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْأَئِمَّةِ لَا يُنْقَضُ، وَتُصَانُ أَحْكَامُ الْأَئِمَّةِ عَنْ النَّقْضِ، وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّ تَمَلُّكَ الْمُلْتَقَطِ وَرَدَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِيهِ الْمِلْكُ، وَتَقَرَّرَ فَكَانَ تَأْثِيرُ السَّبَبِ فِيهِ أَقْوَى لِمَا تَقَدَّمَ، وَيُؤَكِّدُهُ أَنَّ الْأَسْبَابَ الْقَوْلِيَّةَ وَنَحْوَهَا تَرْفَعُ مِلْكَ الْغَيْرِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ فَهِيَ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ، وَأَمَّا الْفِعْلُ بِمُجَرَّدِهِ فَلَيْسَ لَهُ قُوَّةُ رَفْعِ مِلْكِ الْغَيْرِ بَلْ يَبْطُلُ ذَلِكَ الْفِعْلُ كَمَنْ بَنَى فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَلِذَلِكَ ذَهَبَ أَثَرُهُ بِذَهَابِهِ.
وَهَذَا فِقْهٌ حَسَنٌ عَلَى الْقَوَاعِدِ فَلْيُتَأَمَّلْ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه فِي بَادِئِ الرَّأْيِ أَقْوَى وَأَظْهَرُ، وَبِهَذِهِ الْمَبَاحِثِ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ مِنْ جِهَةِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُهُ وَتَقْرِيرُهُ.
(الْفَرْقُ الرَّابِعَ عَشَرَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْكَذِبِ وَقَاعِدَةِ الْوَعْدِ وَمَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ مِنْهُ وَمَا لَا يَجِبُ)
قَالَ اللَّهُ عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2]{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] وَالْوَعْدُ إذَا أُخْلِفَ قَوْلٌ لَمْ يُفْعَلْ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا مُحَرَّمًا، وَأَنْ يَحْرُمَ إخْلَافُ الْوَعْدِ مُطْلَقًا.
وَقَالَ عليه السلام مِنْ «عَلَامَةِ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ» فَذِكْرُهُ فِي سِيَاقِ الذَّمِّ دَلِيلٌ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَيُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ، وَعْدُ الْمُؤْمِنِ وَاجِبٌ أَيْ وَعْدُهُ وَاجِبُ الْوَفَاءِ بِهِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (فَإِنْ قُلْت فَإِذَا أَحْيَا فِي الْإِقْطَاعِ لِمَ لَا يَبْطُلُ مِلْكُهُ بِبُطْلَانِ إحْيَائِهِ قُلْت ذَلِكَ لِسَبَبٍ غَيْرِ الْإِحْيَاءِ إلَى آخِرِ جَوَابِهِ) قُلْت جَوَابُهُ هُنَا صَحِيحٌ قَالَ (وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّ تَمَلُّكَ الْمُلْتَقِطِ وَرَدَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِيهِ الْمِلْكُ) إلَى آخِرِ قَوْلِهِ، وَهَذَا فِقْهٌ حَسَنٌ عَلَى الْقَوَاعِدِ فَلْيُتَأَمَّلْ قُلْت جَوَابُهُ هُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى دَعْوَاهُ قُوَّةَ الْأَسْبَابِ الْقَوْلِيَّةِ فَجَوَابُهُ مَا سَبَقَ قَالَ (وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه فِي بَادِئِ الرَّأْيِ أَقْوَى وَأَظْهَرُ إلَى آخِرِ قَوْلِهِ فِي هَذَا الْفَرْقِ) قُلْت قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ أَقْوَى عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ قَالَ.
(الْفَرْقُ الرَّابِعَ عَشَرَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْكَذِبِ وَقَاعِدَةِ الْوَعْدِ، وَمَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ مِنْهُ، وَمَا لَا يَجِبُ إلَى آخِرِ قَوْلِهِ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «وَأْيُ الْمُؤْمِنِ وَاجِبٌ أَيْ وَعْدُهُ» وَاجِبُ الْوَفَاءِ بِهِ) قُلْت مَا قَالَهُ صَحِيحٌ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْنَا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَقَالُوا إنَّكُمْ جِئْتُمْ مِنْ عِنْدِ هَذَا الْحَبْرِ فَهَلْ عِنْدَكُمْ دَوَاءٌ أَوْ رُقْيَةٌ فَإِنَّ عِنْدَنَا مَعْتُوهًا فِي الْقُيُودِ فَقُلْنَا لَهُمْ نَعَمْ فَجَاءُوا بِهِ فَجَعَلْت أَقْرَأُ عَلَيْهِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً أَجْمَعُ بُزَاقِي ثُمَّ أَتْفُلُ عَلَيْهِ فَكَأَنَّمَا نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ فَأَعْطَوْنِي جُعَلًا فَقُلْت: لَا حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْته فَقَالَ كُلْ لَعَمْرِي مَنْ أَكَلَ بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ فَلَقَدْ أَكَلْت بِرُقْيَةِ حَقٍّ» ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا فِي غَزَاةٍ فَمَرُّوا بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَقَالُوا هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ رَاقٍ فَإِنَّ سَيِّدَ الْحَيِّ قَدْ لُدِغَ أَوْ قَدْ عَرَضَ لَهُ قَالَ فَرَقَى رَجُلٌ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَبَرِئَ فَأُعْطِيَ قَطِيعًا مِنْ الْغَنَمِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ بِمَ رَقَيْته قَالَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ قَالَ وَمَا يُدْرِيك أَنَّهَا رُقْيَةٌ قَالَ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُذُوهَا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ فِيهَا بِسَهْمٍ» . وَكَرِهُوهُ أَيْ حَرَّمَهُ قَوْمٌ آخَرُونَ قَائِلِينَ هُوَ مِنْ بَابِ الْجُعْلِ عَلَى تَعْلِيمِ الصَّلَاةِ قَالُوا وَلَمْ يَكُنْ الْجُعْلُ الْمَذْكُورُ فِي الْإِجَارَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى الرَّقْيِ وَالِاسْتِئْجَارِ، وَالرَّقْيُ عِنْدَنَا جَائِزٌ سَوَاءٌ كَانَ بِالْقُرْآنِ أَوْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ كَالْعِلَاجَاتِ، وَلَيْسَ وَاجِبًا عَلَى النَّاسِ، وَأَمَّا تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى النَّاسِ اهـ بِتَصَرُّفٍ فَافْهَمْ.
(الشَّرْط الثَّامِنُ) كَوْنُهَا مَعْلُومَةَ احْتِرَازًا مِنْ الْمَجْهُولَاتِ مِنْ الْمَنَافِعِ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ آلَةً لَا يَدْرِي مَا يَعْمَلُ بِهَا أَوْ دَارًا لِمُدَّةٍ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ شَرْطَ الْإِجَارَةِ الَّتِي هِيَ عَقْدٌ مِنْ الْعُقُودِ أَنْ تَكُونَ صَادِرَةً مِنْ عَاقِدٍ كَالْعَاقِدِ الصَّادِرِ مِنْهُ الْبَيْعُ، وَأَنْ تَكُونَ بِأَجْرٍ كَالْأَجْرِ الَّذِي مُرَادٌ بِهِ الْعِوَضُ الَّذِي هُوَ الثَّمَنُ، وَأَمَّا الْمُثَمَّنُ، وَهُوَ الْمَنَافِعُ فَلَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَكُونَ وَقْتَ الْعَقْدِ مَعْدُومَةً كَانَ فِي الْعَقْدِ عَلَيْهَا غَرَرٌ وَبَيْعٌ لِمَا لَمْ يُخْلَقْ حَتَّى حُكِيَ عَنْ الْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ مَنْعُ الْإِجَارَةِ لِذَلِكَ إلَّا أَنَّ جَمِيعَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَالصَّدْرِ الْأَوَّلِ قَالُوا بِجَوَازِهَا نَظَرًا إلَى أَنَّهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً لَكِنَّهَا مُسْتَوْفَاةٌ فِي الْغَالِبِ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا لَحَظَ مِنْ هَذِهِ الْمَنَافِعِ مَا يُسْتَوْفَى فِي الْغَالِبِ أَوْ يَكُونُ اسْتِيفَاؤُهُ، وَعَدَمُ اسْتِيفَائِهِ عَلَى السَّوَاءِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِتَعَيُّنِهِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِهَا مِنْ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وقَوْله تَعَالَى {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ} [القصص: 27] الْآيَةَ، وَمِنْ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ مَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ «اسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ هَادِيًا خِرِّيتًا، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَدَفَعَا إلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا» ، وَحَدِيثُ «جَابِرٍ أَنَّهُ بَاعَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعِيرًا، وَشَرَطَ ظَهْرَهُ إلَى الْمَدِينَةِ» ، وَمَا جَازَ اسْتِيفَاؤُهُ
وَفِي الْمُوَطَّإِ «قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكْذِبُ لِامْرَأَتِي فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَأَعِدُهَا، وَأَقُولُ لَهَا فَقَالَ عليه السلام لَا جُنَاحَ عَلَيْك» فَمَنَعَهُ مِنْ الْكَذِبِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّ رِضَى النِّسَاءِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِهِ، وَنَفَى الْجُنَاحَ عَلَى الْوَعْدِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ:(أَحَدُهُمَا) أَنَّ إخْلَافَ الْوَعْدِ لَا يُسَمَّى كَذِبًا لِجَعْلِهِ قَسِيمَ الْكَذِبِ
(وَثَانِيهَا) أَنَّ إخْلَافَ الْوَعْدِ لَا حَرَجَ فِيهِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (وَفِي الْمُوَطَّإِ «قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكْذِبُ لِامْرَأَتِي فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعِدُهَا وَأَقُولُ لَهَا فَقَالَ عليه الصلاة والسلام لَا جُنَاحَ عَلَيْك» فَمَنَعَهُ مِنْ الْكَذِبِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّ رِضَى النِّسَاءِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِهِ) قُلْت مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ مَنَعَهُ مِنْ الْكَذِبِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُسْتَقْبَلِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَهِيَ دَعْوَى لَمْ يَأْتِ عَلَيْهَا بِحُجَّةٍ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالْكَذِبِ لَهَا أَنْ يُخْبِرَهَا عَنْ فِعْلِهِ مَعَ غَيْرِهَا مِنْ النِّسَاءِ بِمَا لَمْ يَفْعَلْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ تَغْيِيظُهَا بِزَوْجَتِهِ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرَهُ كَيْفَ وَأَنَّ مَا ذَكَرَهُ هُوَ عَيْنُ الْوَعْدِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَا يُخْبِرُهَا عَنْ وُقُوعِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُتَعَلِّقًا بِهَا، وَإِلَّا فَلَا حَاجَةَ لَهَا هِيَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهَا.
وَمَا مَعْنَى الْحَدِيثِ عِنْدِي إلَّا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَنَعَهُ مِنْ أَنْ يُخْبِرَهَا بِخَبَرٍ كَذِبٍ يَقْتَضِي تَغْيِيظَهَا بِهِ، وَسَوَّغَ لَهُ الْوَعْدَ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْإِخْلَافُ لِاحْتِمَالِ الْوَفَاءِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ عَازِمًا عِنْدَ الْوَعْدِ عَلَى الْوَفَاءِ أَوْ عَلَى الْإِخْلَافِ أَوْ مُضْرِبًا عَنْهُمَا، وَيَتَخَرَّجُ ذَلِكَ فِي قِسْمِ الْعَزْمِ عَلَى الْإِخْلَافِ عَلَى الرَّأْيِ الصَّحِيحِ الْمَنْصُورِ عِنْدِي مِنْ أَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَا مُؤَاخَذَةَ بِهِ إذْ مُعْظَمُ دَلَائِلِ الشَّرِيعَةِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ الْإِخْلَافِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ (وَنَفْيُ الْجُنَاحِ عَنْ الْوَعْدِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ إخْلَافَ الْوَعْدِ لَا يُسَمَّى كَذِبًا لِجَعْلِهِ قَسِيمَ الْكَذِبِ) قُلْت قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ قَسِيمَ الْكَذِبِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذِبٌ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ قَسِيمَ الْخَبَرِ عَنْ غَيْرِ الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي هُوَ كَذِبٌ فَكَانَ قَسِيمُهُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُسْتَقْبَلًا، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَقْبَلٍ أَوْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ قَدْ تَعَيَّنَ أَنَّهُ كَذِبٌ، وَالْوَعْدُ لَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ كَذِبًا.
قَالَ (وَثَانِيهِمَا أَنَّ إخْلَافَ الْوَعْدِ لَا حَرَجَ فِيهِ) قُلْت بَلْ فِيهِ الْحَرَجُ بِمُقْتَضَى ظَوَاهِرِ الشَّرْعِ إلَّا حَيْثُ يَتَعَذَّرُ الْوَفَاءُ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
بِالشَّرْطِ جَازَ اسْتِيفَاؤُهُ بِالْأَجْرِ كَمَا فِي بِدَايَةِ الْحَفِيدِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ) مَا تَقَدَّمَ عَنْ الْأَصْلِ مِنْ أَنَّ الْأَصْحَابَ عَدُّوا الْمَسَائِلَ الَّتِي تَجُوزُ فِيهَا الشَّهَادَةُ بِالسَّمَاعِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ هُوَ بِحَسَبِ مَا عِنْدَهُ وَحَضَرَهُ، وَإِلَّا فَهِيَ تَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ وَفِي حَاشِيَةِ الصَّاوِيِّ عَلَى شَرْحِ أَقْرَبِ الْمَسَالِكِ أَنْهَى بَعْضُهُمْ مَسَائِلَ مَا تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَةُ السَّمَاعِ لِاثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ مَسْأَلَةً، وَقَدْ جُمِعَتْ فِي أَبْيَاتٍ، وَنَصُّهَا:
أَيَا سَائِلِي عَمَّا يَنْفُذُ حُكْمُهُ
…
وَيَثْبُتُ سَمْعًا دُونَ عِلْمٍ بِأَصْلِهِ
فَفِي الْعَزْلِ وَالتَّجْرِيحِ وَالْكُفْرِ بَعْدَهُ
…
وَفِي سَفَهٍ أَوْ ضِدِّ ذَلِكَ كُلِّهِ
وَفِي الْبَيْعِ وَالْأَحْبَاسِ وَالصَّدَقَاتِ
…
وَالرَّضَاعِ وَخُلْعِ النِّكَاحِ وَحَلِّهِ
وَفِي قِسْمَةٍ أَوْ نِسْبَةٍ وَوِلَايَةٍ
…
وَمَوْتٍ وَحَمْلٍ وَالْمُضِرِّ بِأَهْلِهِ
وَمِنْهَا الْهِبَاتُ وَالْوَصِيَّةُ فَاعْلَمَنْ
…
وَمِلْكٌ قَدِيمٌ قَدْ يُضَنُّ بِمِثْلِهِ
وَمِنْهَا وِلَادَاتٌ وَمِنْهَا حِرَابَةٌ
…
وَمِنْهَا الْإِبَاقُ فَلْيُضَمَّ لِشَكْلِهِ
وَقَدْ زِيدَ فِيهَا الْأَسْرُ وَالْفَقْدُ وَالْمَلَا
…
وَلَوْثٌ وَعِتْقٌ فَاظْفَرْنَ بِنَقْلِهِ
فَصَارَتْ لَدَيَّ عَدُّ ثَلَاثِينَ اُتُّبِعَتْ
…
بِسَنَتَيْنِ فَاطْلُبْ نَصَّهَا فِي مَحَلِّهِ
اهـ.
وَفِي شَرْحِ التَّاوَدِيِّ عَلَى نَظْمِ ابْنِ عَاصِمٍ جُمْلَةُ مَا ذَكَرَهُ النَّاظِمُ مِنْ مَسَائِلِ مَا تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَةُ السَّمَاعِ تِسْعَةَ عَشَرَ، وَعَدَّهَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ إحْدَى وَعِشْرِينَ فَقَالَ أَيَا سَائِلِي إلَى آخِرِ الْبَيْتِ الرَّابِعِ، وَزَادَ وَلَدُهُ سِتَّةً فَقَالَ مِنْهَا الْهِبَاتُ إلَى قَوْلِهِ فَلْيُضَمَّ لِشَكْلِهِ:
فَدُونَكَهَا عِشْرِينَ مِنْ بَعْدِ سَبْعَةٍ
…
تَدُلُّ عَلَى حِفْظِ الْفَقِيهِ وَنُبْلِهِ
أَبِي نَظَمَ الْعِشْرِينَ مِنْ بَعْدِ وَاحِدٍ
…
فَأَتْبَعْتهَا سِتًّا تَمَامًا لِفِعْلِهِ
، وَزَادَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ خَمْسَةً، وَنَظَمَهَا بَعْضُهُمْ فَقَالَ وَقَدْ زِيدَ فِيهَا إلَى قَوْلِهِ فَاطْلُبْ نَصَّهَا فِي مَحَلِّهِ، وَنَظَمَهَا أَيْضًا الْعَبْدُوسِيُّ، وَذَيَّلَهُ ابْنُ غَازِيٍّ بِمَا زَادَهُ عَلَيْهِ إلَى أَنْ قَالَ فِي آخِرِهِ:
لَوْلَا التَّدَاخُلُ بَعْدَ ذِي فِي الزَّائِدِ
…
لَبَلَغَتْ عِشْرِينَ دُونَ وَاحِدٍ
اهـ
بِإِصْلَاحِ الْبَيْتِ الْأَخِيرِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.