الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَإِنْ أَرَادُوا الْخَاتِمَةَ فَمُشْكِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّا لَا نُكَفِّرُ فِي الْحَالِ بِكُفْرٍ وَاقِعٍ فِي الْمَآلِ كَمَا أَنَّا لَا نَجْعَلُهُ مُؤْمِنًا فِي الْحَالِ بِإِيمَانٍ وَاقِعٍ فِي الْمَآلِ وَهُوَ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ الْآنَ بَلْ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ تَتْبَعَ أَسْبَابَهَا وَتَحَقُّقَهَا لَا تَوَقُّعَهَا وَإِنْ قَطَعْنَا بِوُقُوعِهَا كَمَا أَنَّا نَقْطَعُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا نُرَتِّبُ مُسَبَّبَاتِهَا قَبْلَهَا، وَأَمَّا قَوْلُ أَصْحَابِنَا فِي التَّرَدُّدِ إلَى الْكَنَائِسِ، وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّمَا قَضَيْنَا بِكُفْرِهِ فِي الْقَضَاءِ دُونَ الْفُتْيَا وَقَدْ يَكُونُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى مُؤْمِنًا.
فَاَلَّذِي يَسْتَقِيمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا حَكَاهُ الطُّرْطُوشِيُّ عَنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِنَا أَنَّا لَا نُكَفِّرُهُ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ مِنْ السِّحْرِ الَّذِي كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ أَوْ يَكُونُ سِحْرًا مُشْتَمِلًا عَلَى كُفْرٍ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّ تَعَلُّمَهُ وَتَعْلِيمَهُ كُفْرٌ فَفِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ فَقَدْ قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ وَهُوَ مِنْ سَادَاتِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ إذَا وَقَفَ لِبُرْجِ الْأَسَدِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
بِنَفْسِهِ كُفْرًا، وَإِمَّا ظَاهِرًا، إنْ كَانَ عَلَامَةُ الْكُفْرِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ. قَالَ:(فَإِنْ أَرَادُوا الْخَاتِمَةَ فَمُشْكِلٌ أَيْضًا إلَى وَقَوْلِهِ، وَلَا نُرَتِّبُ مُسَبَّبَاتِهَا قَبْلَهَا) قُلْتُ إنْ أَرَادُوا ذَلِكَ فَمُشْكِلٌ كَمَا قَالَهُ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ.
قَالَ: (وَأَمَّا قَوْلُ أَصْحَابِنَا فِي التَّرَدُّدِ إلَى الْكَنَائِسِ) قُلْتُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ. قَالَ: (وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّ تَعَلُّمَهُ وَتَعْلِيمَهُ كُفْرٌ فَفِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ) قُلْتُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ فَإِنَّهُ قَوْلٌ مُسْتَنِدٌ إلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَمَا قَالَهُ عَنْ الطُّرْطُوشِيِّ وَقَالَ إنَّ ذَلِكَ هُوَ تَعَلُّمُهُ لَا يُرِيدُ أَنْ لَا تَعَلُّمَ لَهُ سِوَاهُ لَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ تَعَلُّمُهُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا لِيَعْرِفَ حَقِيقَتَهُ خَاصَّةً إمَّا لِتَجَنُّبٍ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ وَهَذَا لَيْسَ بِكُفْرٍ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وَأَمَّا الْوُجُوهُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا عَلَى الْمَنْعِ فَثَمَانِيَةٌ
(الْأَوَّلُ) قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وَهُوَ يَمْنَعُ شَهَادَةَ غَيْرِ الْبَالِغِ
(وَالثَّانِي) قَوْله تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَالصَّبِيُّ لَيْسَ بِعَدْلٍ
(الثَّالِثُ) قَوْله تَعَالَى {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وَهُوَ نَهْيٌ، وَلَا يَتَنَاوَلُ النَّهْيُ الصَّبِيَّ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الشُّهَدَاءِ، وَالْجَوَابُ عَنْ الثَّلَاثَةِ أَنَّ هَذِهِ الظَّوَاهِرَ عَامَّةٌ، وَدَلِيلُنَا خَاصٌّ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهَا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاسْتِشْهَادِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، وَالثَّانِيَةِ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُمْكِنُ إنْشَاءُ الشَّهَادَةِ فِيهَا اخْتِيَارًا لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ النَّهْيِ الْإِمْكَانَ، وَهَذَا مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ تَقَعُ فِيهِ الشَّهَادَةُ بَغْتَةً فَلَا يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَ فَيَكُونُ مَسْكُوتًا عَنْهُ عَلَى أَنْ نَمْنَعَ عَدَمَ انْدِرَاجِ الصِّبْيَانِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى لِانْدِرَاجِهِمْ مَعَهُمْ فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176]
(وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ) أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ فَلَا تُعْتَبَرُ شَهَادَتُهُ
(وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ) أَنَّ الْإِقْرَارَ أَوْسَعُ مِنْ الشَّهَادَةِ لِقَبُولِهِ مِنْ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ فَإِذَا كَانَ لَا يُقْبَلُ فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ وَالْجَوَابُ عَنْهُمَا أَنَّ إقْرَارَ الصَّبِيِّ إنْ كَانَ فِي الْمَالِ فَنَحْنُ نُسَوِّيهِ بِالشَّهَادَةِ فَإِنَّهُمَا لَا يُقْبَلَانِ فِي الْمَالِ أَوْ فِي الدِّمَاءِ إنْ كَانَتْ عَمْدًا أَوْ عَمْدُ الصَّبِيِّ خَطَأً فَيَئُولُ إلَى الدِّيَةِ فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يُقْبَلُ كَالْبَالِغِ.
(وَالْوَجْهُ السَّادِسُ) الْقِيَاسُ عَلَى غَيْرِ الْجِرَاحِ، وَجَوَابُهُ الْفَرْقُ بِتَعْظِيمِ حُرْمَةِ الدِّمَاءِ بِدَلِيلِ قَبُولِ الْقَسَامَةِ، وَلَا يُقَسَّمُ عَلَى دِرْهَمٍ
(وَالْوَجْهُ السَّابِعُ) أَنَّهَا لَوْ قُبِلَتْ لَقُبِلَتْ إذَا افْتَرَقُوا كَالْكِبَارِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الِافْتِرَاقَ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيمَ وَالتَّغْيِيرَ، وَالصَّغِيرُ إذَا خُلِّيَ، وَسَجِيَّتَهُ لَا يَكَادُ يَكْذِبُ، وَالرِّجَالُ لَهُمْ وَازِعٌ شَرْعِيٌّ إذَا افْتَرَقُوا بِخِلَافِ الصِّبْيَانِ
(وَالْوَجْهُ الثَّامِنُ) أَنَّهَا لَوْ قُبِلَتْ لَقُبِلَتْ فِي تَخْرِيقِ ثِيَابِهِمْ فِي الْخَلَوَاتِ أَوْ لَجَازَتْ شَهَادَةُ النِّسَاءِ بَعْضُهُنَّ عَلَى بَعْضٍ فِي الْجِرَاحِ، وَجَوَابُهُ الْفَرْقُ بِتَعْظِيمِ حُرْمَةِ الدِّمَاءِ، وَبِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ لَيْسَ لِتَخْرِيقِ ثِيَابِهِمْ بِخِلَافِ الضَّرْبِ وَالْجِرَاحِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَلَا يَجْتَمِعْنَ لِلْقِتَالِ، وَلَا هُوَ مَطْلُوبٌ مِنْهُنَّ اهـ كَلَامُ ابْنِ فَرْحُونٍ، وَالْأَصْلُ الَّذِي سَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
[الْحُجَّةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ الْقَافَةُ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ بِثُبُوتِ الْأَنْسَابِ]
(الْبَابُ الرَّابِعَ عَشَرَ) فِي بَيَانِ مَا تَكُونُ فِيهِ حُجَّةُ الْقَافَةِ، وَالْخِلَافُ فِي قَبُولِهَا، وَدَلِيلُهُ، وَفِيهِ وَصْلَانِ
(الْوَصْلُ الْأَوَّلُ) فِي الْأَصْلِ الْقَافَةُ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ عِنْدَنَا فِي الْقَضَاءِ بِثُبُوتِ الْأَنْسَابِ، وَوَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ وَإِنَّمَا يُجِيزُهُ مَالِكٌ فِي وَلَدِ الْأَمَةِ يَطَؤُهَا رَجُلَانِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، وَتَأْتِي بِوَلَدٍ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا، وَالْمَشْهُورُ عَدَمُ قَبُولِهِ فِي وَلَدِ الزَّوْجَةِ، وَعَنْهُ قَبُولُهُ، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ فِيهِمَا اهـ.
وَفِي التَّبْصِرَةِ، وَلَا تَعْتَمِدُ الْقَافَةُ إلَّا عَلَى أَبٍ مَوْجُودٍ بِالْحَيَاةِ قَالَ بَعْضُهُمْ أَوْ مَاتَ، وَلَمْ يُدْفَنْ قِيلَ، وَتَعْتَمِدُ عَلَى الْعَصَبَةِ قَالَ وَلَا يُحْكَمُ بِقَوْلِ الْقَائِفِ إلَّا فِي أَوْلَادِ الْإِمَاءِ مِنْ وَطْءِ سَيِّدَيْنِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ دُونَ أَوْلَادِ الْحَرَائِرِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ يُقْبَلُ فِي أَوْلَادِ الْحَرَائِرِ قَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ، وَاخْتَارَهُ اللَّخْمِيُّ قَالَ ابْنُ يُونُسُ، وَهُوَ أَقْيَسُ، وَالْفَرْقُ عَلَى الْمَشْهُورِ بَيْنَ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو عِمْرَانَ قَالَ إنَّمَا خُصَّتْ الْقَافَةُ بِالْإِمَاءِ لِأَنَّ الْأَمَةَ قَدْ تَكُونُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ فَيَطَئُونَهَا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ فَقَالَ تَسَاوَوْا فِي الْمِلْكِ وَالْوَطْءِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَقْوَى مِنْ الْأُخْرَى فِرَاشًا فَالْفِرَاشَانِ مُسْتَوِيَانِ وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إذَا ابْتَاعَهَا رَجُلٌ، وَقَدْ وَطِئَهَا الْبَائِعُ وَوَطِئَهَا الْمُبْتَاعُ فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْمِلْكِ، وَأَمَّا الْحُرَّةُ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ زَوْجًا لِرَجُلَيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يَصِحُّ فِيهَا فِرَاشَانِ مُسْتَوِيَانِ، وَأَيْضًا فَوَلَدُ الْحُرَّةِ لَا يَنْتَفِي إلَّا بِاللِّعَانِ، وَوَلَدُ الْأَمَةِ يَنْتَفِي بِغَيْرِ اللِّعَانِ، وَالنَّفْيُ
وَحَكَى الْقَضِيَّةَ إلَى آخِرِهَا فَإِنَّ هَذَا سِحْرٌ فَقَدْ تَصَوَّرَهُ وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ سِحْرٌ فَهَذَا هُوَ تَعَلُّمُهُ فَكَيْفَ يَتَصَوَّرُ شَيْئًا لَمْ يَعْلَمْهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا يُتَصَوَّرُ التَّعَلُّمُ إلَّا بِالْمُبَاشَرَةِ كَضَرْبِ الْعُودِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ كُتُبُ السِّحْرِ مَمْلُوءَةٌ مِنْ تَعْلِيمِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ بَلْ هُوَ كَتَعَلُّمِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ الَّذِي لَا يَكْفُرُ بِهِ الْإِنْسَانُ كَمَا نَقُولُ إنَّ النَّصَارَى يَعْتَقِدُونَ فِي عِيسَى عليه السلام كَذَا وَالصَّابِئَةَ يَعْتَقِدُونَ فِي النُّجُومِ كَذَا وَنَتَعَلَّمُ مَذَاهِبَهُمْ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى نَرُدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَهُوَ قُرْبَةٌ لَا كُفْرٌ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنْ كَانَ تَعَلَّمَ السِّحْرَ لِيُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْجِزَاتِ كَانَ ذَلِكَ قُرْبَةً وَكَذَلِكَ نَقُولُ إنْ عَمِلَ السِّحْرَ بِأَمْرٍ مُبَاحٍ لِيُفَرِّقَ بِهِ بَيْنَ الْمُجْتَمِعِينَ عَلَى الزِّنَا أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ بِالْبَغْضَاءِ وَالشَّحْنَاءِ أَوْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِجَيْشِ الْكُفْرِ فَيَقْتُلُونَ بِهِ مَلِكَهُمْ هَذَا كُلُّهُ قُرْبَةٌ أَوْ يَصْنَعُهُ مَحَبَّةً بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَوْ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
وَالْوَجْهِ الثَّانِي أَنْ يَتَعَلَّمَهُ قَاصِدًا بِتَعَلُّمِهِ تَحْصِيلَ أَثَرِهِ مَتَى احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي اقْتَضَى ظَاهِرُ الْكِتَابِ أَنَّهُ كُفْرٌ.
قَالَ: (وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا يُتَصَوَّرُ التَّعَلُّمُ إلَّا بِالْمُبَاشَرَةِ كَضَرْبِ الْعُودِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ إلَى قَوْلِهِ فَهُوَ قُرْبَةٌ لَا كُفْرٌ) قُلْتُ مُرَادُ الطُّرْطُوشِيِّ تَعَلَّمُهُ لِتَجْرِبَةِ حُصُولِ أَثَرِهِ لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ قَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ تَعَلُّمَهُ لِيُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْجِزَةِ صَحِيحٌ وَقَوْلُهُ فَنَقُولُ إذَا عَمِلَ السِّحْرَ بِأَمْرٍ مُبَاحٍ فِيهِ نَظَرٌ إذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ عَمَلَ السِّحْرِ الْمَقْصُودِ بِهِ تَحْصِيلُ أَثَرِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ كُفْرًا أَوْ دَلِيلُ الْكُفْرِ بِوَضْعِ الشَّارِعِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ كَمَا سَبَقَ وَتَوَهَّمَ كَوْنَهُ إذَا كَانَ أَثَرُهُ أَمْرًا مُبَاحًا الْتِبَاسُهُ فِي الشَّرْعِ كَانَ عِلْمُهُ مُبَاحًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
بِالْقَافَةِ إنَّمَا هُوَ ضَرْبٌ مِنْ اجْتِهَادٍ فَلَا يُنْقَلُ وَلَدُ الْحُرَّةِ مِنْ يَقِينٍ إلَى الِاجْتِهَادِ، وَلَمَّا جَازَ نَفْيُ وَلَدِ الْأَمَةِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى جَازَ نَفْيُهُ بِالْقَافَةِ اهـ بِلَفْظِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
(الْوَصْلُ الثَّانِي) خَالَفَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي قَبُولِ الْقَافَةِ فِي الْقَضَاءِ بِثُبُوتِ الْأَنْسَابِ فَقَالَ الْحُكْمُ بِالْقَافَةِ بَاطِلٌ قَالَ الْأَصْلُ لَنَا خَمْسَةُ وُجُوهٍ
(الْأَوَّلُ) مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ فَقَالَ أَلَمْ تَرَيْ إلَى مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ نَظَرَ إلَى أُسَامَةَ وَزَيْدٍ عَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا، وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا فَقَالَ إنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ تَبَنَّى زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَكَانَ أَبْيَضَ، وَابْنُهُ أُسَامَةُ أَسْوَدَ فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَطْعَنُونَ فِي نَسَبِهِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَكَانَتِهِ مِنْهُ فَلَمَّا قَالَ مُجَزِّزٌ ذَلِكَ سُرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَدُلُّ مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَدْسُ بَاطِلًا شَرْعًا لَمَا سُرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ عليه السلام لَا يُسَرُّ بِالْبَاطِلِ (وَثَانِيهِمَا) أَنَّ إقْرَارَهُ عليه السلام عَلَى الشَّيْءِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَقَدْ أَقَرَّ مُجَزِّزًا عَلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ حَقًّا مَشْرُوعًا لَا يُقَالُ النِّزَاعُ إنَّمَا هُوَ إلْحَاقُ الْوَلَدِ، وَهَذَا كَانَ مُلْحَقًا بِأَبِيهِ فِي الْفِرَاشِ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَحَلُّ النِّزَاعِ لِأَنَّا نَقُولُ مُرَادُنَا هَاهُنَا أَنَّ الشَّبَهَ الْخَاصَّ مُعْتَبَرٌ، وَلَيْسَ مُرَادُنَا أَنَّ النَّسَبَ ثَبَتَ بِمُجَزِّزٍ، وَلَا يُقَالُ أَيْضًا أَنَّ سُرُورَهُ عليه السلام لِتَكْذِيبِ الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ صِحَّةَ الْقِيَافَةِ، وَتَكْذِيبُ الْمُنَافِقِينَ حَاصِلٌ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ بِقَوْلِهِ عليه السلام «إنَّ اللَّهَ لِيُؤَيِّدَ هَذَا الدَّيْنَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» فَقَدْ يُفْضِي الْبَاطِلُ لِلْخَيْرِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَعَدَمُ إنْكَارِهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْبَاطِلَ، وَهُوَ لَا يُقِرُّهُ لِأَنَّ مُجَزِّزًا لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ لِأَجْلِ الْقِيَافَةِ فَلَعَلَّهُ أَخْبَرَ بِهِ بِنَاءً عَلَى الْقَرَائِنِ إذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَآهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ (لِأَنَّا نَقُولُ) كَيْفَ يَسْتَقِيمُ السُّرُورُ مَعَ بُطْلَانِ مُسْتَنَدِ التَّكْذِيبِ كَمَا لَوْ أَخْبَرَ عَنْ كَذِبِهِمْ رَجُلٌ كَاذِبٌ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ كَذِبُهُمْ إذَا كَانَ الْمُسْتَنَدُ حَقًّا فَيَكُونُ الشَّبَهُ حَقًّا، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ فَانْدَفَعَ بِهَذَا قَوْلُكُمْ أَنَّ الْبَاطِلَ قَدْ يَأْتِي بِالْخَيْرِ، وَالْمَصْلَحَةُ فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ مَا أَتَى بِشَيْءٍ، وَقَوْلُكُمْ أَخْبَرَ بِهِ لِرُؤْيَةٍ سَابِقَةٍ لِأَجْلِ الْقَرَائِنِ يَقْتَضِي أَمْرَيْنِ:(الْأَوَّلَ) نَفْيُ فَائِدَةِ اخْتِصَاصِ السُّرُورِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يُشْرِكُونَهُ فِي ذَلِكَ حِينَئِذٍ (الثَّانِيَ) نَفْيُ فَائِدَةِ ذِكْرِ الْأَقْدَامِ إذْ أَنَّهُ حَكَمَ بِشَيْءٍ غَيْرِ الَّذِي كَانَ طَعْنُ الْمُشْرِكِينَ ثَابِتًا مَعَهُ لَمَّا كَانَ لِكُلٍّ مِنْ اخْتِصَاصِ السُّرُورِ، وَبِقَوْلِهِ، وَذِكْرُ الْأَقْدَامِ فَائِدَةٌ.
(وَالْوَجْهُ الثَّانِي) قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ الْعَجْلَانِيُّ «إنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى نَعْتِ كَذَا وَكَذَا فَأَرَاهُ قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا، وَإِنْ أَتَتْ بِهِ عَلَى نَعْتِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِشَرِيكٍ فَلَمَّا أَتَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ قَالَ عليه السلام لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» فَصَرَّحَ عليه السلام بِأَنَّ وُجُودَ صِفَاتِ أَحَدِهِمَا أَيْ الْوَالِدِ فِي الْآخَرِ أَيْ الْوَلَدِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا مِنْ نَسَبٍ وَاحِدٍ، وَمَجِيءُ الْوَحْيِ بِأَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ يُشْبِهُهُ مُؤَسِّسٌ لِمَا يَقُولُهُ، وَالْحُكْمُ بِالشَّبَهِ أَوْلَى مِنْ الْحُكْمِ بِكَوْنِهِ فِي الْفِرَاشِ لِأَنَّ الْفِرَاشَ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ ظَاهِرِ الْحَالِ، وَالشَّبَهُ يَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَكَوْنُهُ عليه السلام لَمْ يُعْطَ عِلْمَ الْقِيَافَةِ مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ عليه السلام أُعْطِيَ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ سَلَّمْنَا لَكِنْ عَنْ ضَابِطِ الْقَائِفِينَ أَنَّ الشَّبَهَ مَتَى كَانَ كَذَا فَهُمْ يَحْكُمُونَ بِكَذَا لَا أَنَّهُ ادَّعَى عِلْمَ الْقِيَافَةِ بَلْ كَمَا يَقُولُ يَقُولُ الْإِنْسَانُ: الْأَطِبَّاءُ يُدَاوُونَ الْمَحْمُومَ بِكَذَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَبِيبًا، وَإِنَّمَا لَمْ يَحْكُمْ بِالْوَلَدِ لِشَرِيكٍ لِأَنَّهُ زَانٍ، وَالْوَلَدُ إنَّمَا يُحْكَمُ بِهِ فِي وَطْءِ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي الْأَمَةَ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ كُلًّا وَطْءُ شُبْهَةٍ، وَأَمَّا عَدَمُ الْحَدِّ فَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ
مَعَ جَيْشِ الْإِسْلَامِ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْمَبَاحِثَ كُلَّهَا فَالْمَوْضِعُ مُشْكِلٌ جِدًّا.
وَقَوْلُ الطُّرْطُوشِيِّ إذَا قَالَ صَاحِبُ الشَّرْعِ مَنْ دَخَلَ الدَّارَ فَهُوَ كَافِرٌ قَضَيْنَا بِكُفْرِهِ عِنْدَ دُخُولِ الدَّارِ فَهُوَ فَرْضٌ مُحَالٌ، وَلَا يُخْبِرُ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَنْ إنْسَانٍ بِالْكُفْرِ إلَّا إذَا كَفَرَ وَقَوْلُهُمْ هُوَ دَلِيلُ الْكُفْرِ مَمْنُوعٌ وَقَوْلُهُمْ لِأَنَّ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ: (فَالْمَوْضِعُ مُشْكِلٌ جِدًّا) قُلْتُ إذَا صَحَّ أَنَّ كَوْنَ أَمْرٍ مَا كُفْرًا أَمْرٌ وَضْعِيٌّ شَرْعِيٌّ وَثَبَتَ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَلَا إشْكَالَ. قَالَ: (وَقَوْلُ الطُّرْطُوشِيِّ إذَا قَالَ صَاحِبُ الشَّرْع مَنْ دَخَلَ الدَّارَ إلَخْ) قُلْتُ: مَا قَالَهُ الطُّرْطُوشِيُّ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ فَرْضُ مُحَالٍ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ الْقَوْلُ إنْشَاءَ شَرْعٍ لَا إخْبَارًا عَنْ كُفْرِ مَنْ لَمْ يَكْفُرْ فَذَلِكَ هُوَ الْمُحَالُ. قَالَ:(وَقَوْلُهُمْ هُوَ دَلِيلُ الْكُفْرِ مَمْنُوعٌ) قُلْتُ: مَنْعُهُ مَمْنُوعٌ، وَمَا قَالَهُ مِنْ شُبْهَةِ التَّخْصِيصِ هُوَ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ، وَمَا قَالَهُ مِنْ التَّكْفِيرِ بِغَيْرِ سَبَبِ الْكُفْرِ فَهُوَ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ قَوْله تَعَالَى يُعَلِّمُونَ النَّاسَ لَيْسَ بِتَفْسِيرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى كَفَرُوا مَمْنُوعٌ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ حَالِهِمْ بَعْدَ تَقَرُّرِ كُفْرِهِمْ بِغَيْرِ السِّحْرِ غَيْرُ لَائِقٍ بِفَصَاحَةِ الشَّارِعِ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ السِّحْرُ مُشْتَمِلًا عَلَى الْكُفْرِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيمُهُ وَتَعَلُّمُهُ كُفْرًا وَهُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي لَا مَعْدِلَ عَنْهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ مِنْ أَنَّ مُعَلِّمَ الْكُفْرِ وَمُتَعَلِّمَهُ لِيَرُدَّ عَلَيْهِ لَيْسَ بِكَافِرٍ صَحِيحٌ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّ التَّعْلِيمَ وَالتَّعَلُّمَ مُطْلَقًا كُفْرٌ فَهُوَ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ، صَحِيحٌ أَيْضًا..
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
قَدْ تَكُونُ مِنْ جِهَتِهَا شُبْهَةً أَوْ تَكُونُ مُكْرَهَةً أَوْ لِأَنَّ اللِّعَانَ يُسْقِطُ الْحَدَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 8] الْآيَةَ أَوْ لِأَنَّهُ عليه السلام لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فَانْدَفَعَ مَا أَوْرَدُوهُ مِنْ أَنَّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الشُّبْهَةِ فِي حَدِيثِ الْمُدْلِجِيِّ أَوْ لِأَنَّ أَخْبَارَهُ عَلَيْهِ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ لَا مِنْ جِهَةِ الْقِيَافَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي بَنِي هَاشِمٍ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي بَنِي مُدْلِجٍ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ قَائِلَهَا، وَثَانِيًا أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَحْكُمْ بِهِ لِشَرِيكٍ، وَأَنْتُمْ تُوجِبُونَ الْحُكْمَ بِمَا أَشْبَهَ، وَثَالِثًا أَنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ تُحَدَّ، وَبِالْجُمْلَةِ فَحَدِيثُ الْمُدْلِجِيِّ يَدُلُّ دَلَالَةً قَوِيَّةً عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَدَلَّ بِالشَّبَهِ عَلَى النَّسَبِ، وَلَوْ كَانَ بِالْوَحْيِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ تَرْدِيدٌ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ بَلْ كَانَ يَقُولُ هِيَ تَأْتِي بِهِ عَلَى نَعْتِ كَذَا، وَهُوَ لِفُلَانٍ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّرْدِيدِ الَّذِي لَا يَحْسُنُ إلَّا فِي مَوَاطِنِ الشَّكِّ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ هَذَا بِالْوَحْيِ إذَا كَانَ لِتَأْسِيسِ قَاعِدَةِ الْقِيَافَةِ، وَبَسْطِ صُوَرِهَا بِالْأَشْبَاهِ، وَذَلِكَ مَطْلُوبُنَا فَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا سُرَّ إلَّا بِسَبَبٍ حَقٍّ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام لِعَائِشَةَ فِي الْحَدِيثِ تَرِبَتْ يَدَاك، وَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَنِيَّ يُوجِبُ الشَّبَهَ فَيَكُونُ دَلِيلَ النَّسَبِ (وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ) أَنَّ رَجُلَيْنِ تَدَاعَيَا وَلَدًا فَاخْتَصَمَا لِعُمَرَ فَاسْتَدْعَى لَهُ الْقَافَةَ فَأَلْحَقُوهُ بِهِمَا فَعَلَاهُمَا بِالدِّرَّةِ، وَاسْتَدْعَى حَرَائِرَ مِنْ قُرَيْشٍ فَقُلْنَ خُلِقَ مِنْ مَاءِ الْأَوَّلِ، وَحَاضَتْ عَلَى الْحَمْلِ فَاسْتُحْشِفَ الْحَمْلُ فَلَمَّا وَطِئَهَا الثَّانِي انْتَعَشَ بِمَائِهِ فَأَخَذَ شَبَهًا مِنْهُمَا فَقَالَ عُمَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْأَوَّلِ (وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ) أَنَّ الشَّبَهَ عِلْمٌ عِنْدَ الْقَافَةِ مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ فَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ كَالتَّقْوِيمِ فِي الْمُتْلِفَاتِ، وَنَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ، وَخَرْصِ الثِّمَارِ فِي الزَّكَوَاتِ، وَتَحْرِيرِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ فِي الصَّلَوَاتِ، وَالْمِثْلِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ مِنْ النِّعَمِ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَخْمِينٌ وَتَقْرِيبٌ (وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ) أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْتَبَرْ الشَّبَهُ لَمْ يَكُنْ إلَّا إلْحَاقِ الْوَلَدِ بِجَمِيعِ الْمُتَنَازِعِينَ كَمَا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لِلْوَلَدِ آبَاءً بَلْ أَبًا وَاحِدًا فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] وقَوْله تَعَالَى {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} [النساء: 11] .
وَأَمَّا الْوُجُوهُ الثَّمَانِيَةُ الَّتِي عَارَضَ بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ حَدِيثَ الْعَجْلَانِيُّ: (فَالْأَوَّلُ) مَا فِي الصِّحَاحِ «أَنَّ رَجُلًا حَضَرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَادَّعَى أَنَّ امْرَأَتَهُ وَلَدَتْ وَلَدًا أَسْوَدَ فَقَالَ لَهُ عليه السلام فِي إبِلِك مِنْ أَوْرَقَ؟ فَقَالَ لَهُ نَعَمْ قَالَ لَهُ مَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ سُودٌ فَقَالَ مَا السَّبَبُ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَ» فَلَمْ يَعْتَبِرْ الشَّبَهَ، وَجَوَابُهُ أَنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ لَيْسَتْ صُورَةَ النِّزَاعِ لِأَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ، وَإِنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ اخْتِلَافِ اللَّوْنِ فَعَرَّفَهُ عليه السلام السَّبَبُ، وَنَحْوَ لَا نَقُولُ الْقِيَافَةُ هِيَ اعْتِبَارُ الشَّبَهِ كَيْفَ كَانَ، وَالْمُنَاسَبَةُ كَيْفَ كَانَتْ بَلْ نَقُولُ هِيَ شَبَهٌ خَاصٌّ، وَلِذَلِكَ أَلْحَقَ مُجَزِّزٌ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ مَعَ سَوَادِهِ بِأَبِيهِ الشَّدِيدِ الْبَيَاضِ، وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ إذْ لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا، وَهَذَا الرَّجُلُ لَمْ يَذْكُرْ مُجَرَّدَ اللَّوْنِ فَلَيْسَ فِيهِ شَرْطُ الْقِيَافَةِ حَتَّى يَدُلَّ إلْغَاؤُهُ عَلَى إلْغَاءِ الْقَافَةِ
(وَالْوَجْهُ الثَّانِي) قَوْلُهُ عليه السلام «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» ، وَلَمْ يُفَرِّقْ، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ وَالْعَادَةِ
(وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ) إنَّ خَلْقَ الْوَلَدِ مُغَيَّبٌ عَنَّا فَجَازَ أَنْ يُخْلَقَ مِنْ رَجُلَيْنِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ بُقْرَاطُ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ الْحَمْلُ عَلَى الْحَمْلِ، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ خِلَافُ الْعَوَائِدِ، وَظَوَاهِرُ النُّصُوصِ الْمُتَقَدِّمَةِ تَأْبَاهُ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا يَعْنِي أَحْكَامَهُ عَلَى الْغَالِبِ، وَبُقْرَاطُ تَكَلَّمَ عَلَى النَّادِرِ فَلَا تَعَارُضَ
(وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ) أَنَّ الشَّبَهَ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ مِنْ الْوَلَدِ، وَجَمَاعَةٍ لَوَجَبَ إلْحَاقُهُ بِهِمْ بِسَبَبِ الشَّبَهِ، وَلَمْ يَقُولُوا بِهِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مُضَافًا لِمَا يُشَاهَدُ