الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَالْبِحَارِ فَلَمَّا انْتَفَتْ الشُّبْهَةُ الْمُوجِبَةُ لِلضَّلَالِ انْتَفَى الْعُذْرُ فَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى التَّكْفِيرِ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ، وَعَلَيْهِ تَدُورُ الْفَتَاوَى فَمَنْ جَوَّزَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا هُوَ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ يَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ.
(الْقِسْمُ السَّابِعُ) الْجَهْلُ بِقِدَمِ الصِّفَاتِ لَا بِوُجُودِهَا وَتَعَلُّقِهَا كَقَوْلِ الْكَرَّامِيَّةِ بِحُدُوثِ الْإِرَادَةِ وَنَحْوِهَا، وَفِي التَّكْفِيرِ بِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلَانِ الصَّحِيحُ عَدَمُ التَّكْفِيرِ.
(الْقِسْمُ الثَّامِنُ) الْجَهْلُ بِمَا وَقَعَ أَوْ يَقَعُ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ الصِّفَاتِ وَهُوَ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا كُفْرٌ إجْمَاعًا وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا كَالْجَهْلِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ بَعْثَةَ الرُّسُلِ، وَأَرْسَلَهُمْ لِخَلْقِهِ بِالرَّسَائِلِ الرَّبَّانِيَّةِ وَكَالْجَهْلِ بِبَعْثَةِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِحْيَائِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَجَزَائِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ عَلَى التَّفْصِيلِ الْوَارِدِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَالْجَهْلُ بِهَذَا كُفْرٌ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَالْبِحَارِ فَلَمَّا انْتَفَتْ الشُّبْهَةُ الْمُوجِبَةُ لِلضَّلَالِ انْتَفَى الْعُذْرُ فَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى التَّكْفِيرِ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ وَعَلَيْهِ تَدُورُ الْفَتَاوَى فَمَنْ جَوَّزَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا هُوَ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ يَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ) قُلْتُ: مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ نَقْلٌ وَتَوْجِيهٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
قَالَ: (شِهَابُ الدِّينِ الْقِسْمُ السَّابِعُ الْجَهْلُ بِقِدَمِ الصِّفَاتِ لَا بِوُجُودِهَا وَتَعَلُّقِهَا كَقَوْلِ الْكَرَّامِيَّةِ بِحُدُوثِ الْإِرَادَةِ وَنَحْوِهَا، وَفِي التَّكْفِيرِ بِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلَانِ الصَّحِيحُ عَدَمُ التَّكْفِيرِ) قُلْتُ: مَا قَالَهُ نَقْلٌ وَتَرْجِيحٌ لَا كَلَامَ فِيهِ، وَمَا قَالَهُ فِي الْقِسْمِ الثَّامِنِ صَحِيحٌ أَيْضًا لَكِنْ فِيهِ إطْلَاقُ لَفْظِ الْجَهْلِ عَلَى الْمَذْهَبِ الْبَاطِلِ فَإِنَّ الْفَلَاسِفَةَ مَذْهَبُهُمْ الْجَزْمُ بِأَنَّ لَا بَعْثَةَ لِلْأَجْسَامِ، وَمَا قَالَهُ فِي الْقِسْمِ التَّاسِعِ نَقْلٌ وَتَرْجِيحٌ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
قَضَاءٌ قَضَيْته ثُمَّ رَاجَعْت فِيهِ نَفْسَك وَهُدِيت فِيهِ لِرُشْدِك أَنْ تَرْجِعَ إلَى الْحَقِّ، وَمُرَاجَعَتُهُ خَيْرٌ مِنْ الْبَاطِلِ وَالتَّمَادِي فِيهِ. الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا تَلَجْلَجَ فِي صَدْرِك مِمَّا لَمْ يَبْلُغْك فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. اعْرِفْ الْأَمْثَالَ وَالْأَشْبَاهَ، وَقِسْ الْأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَاعْمِدْ إلَى أَقْرَبِهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ فِيمَا تَرَى، وَاجْعَلْ لِمَنْ ادَّعَى حَقًّا غَائِبًا أَوْ بَيِّنَةً أَمَدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً أُخِذَتْ لَهُ بِحَقِّهِ، وَإِلَّا أَوْجَبْت لَهُ الْقَضَاءَ فَإِنَّ ذَلِكَ أَنْفَى لِلشَّكِّ، وَأَبْلَغُ لِلْعُذْرِ. النَّاسُ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ أَوْ مَجْرِيًّا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ أَوْ ظَنِينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ نَسَبٍ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى مِنْكُمْ السَّرَائِرَ، وَدَرَأَ عَنْكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْأَيْمَانِ، وَإِيَّاكَ وَالْقَلَقَ وَالضَّجَرَ وَالتَّأَذِّي بِالنَّاسِ وَالتَّنْكِيرَ عِنْدَ الْخُصُومَاتِ فَإِنَّ الْحَقَّ فِي مَوَاطِنِ الْحَقِّ يَعْظُمُ بِهِ الْأَجْرُ، وَيَحْسُنُ عَلَيْهِ الذُّخْرُ فَإِنَّ مَنْ يُصْلِحْ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ عَلَى نَفْسِهِ يَكْفِهِ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ تَزَيَّنَ بِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْهُ غَيْرَهُ شَانَهُ اللَّهُ، فَمَا ظَنُّك بِثَوَابِ اللَّهِ فِي عَاجِلِ رِزْقِهِ وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ، وَالسَّلَامُ.
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ هَذِهِ الرِّسَالَةُ أَصْلٌ فِيهِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ فُصُولِ الْقَضَاءِ وَمَعَانِي الْأَحْكَامِ، قَالَ فِي التَّوْضِيحِ فَيَنْبَغِي حِفْظُهَا وَالِاعْتِنَاءُ بِهَا ابْنُ سَهْلٍ، وَقَوْلُهُ فِيهَا: الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَخْ رَجَعَ عَنْهُ بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ قَالَ رَبِيعَةُ «قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَقَالَ قَدْ جِئْتُك عَلَى أَمْرٍ لَا رَأْسَ لَهُ، وَلَا ذَنَبَ فَقَالَ عُمَرُ: مَا هُوَ؟ فَقَالَ شَهَادَةُ الزُّورِ ظَهَرَتْ بِأَرْضِنَا فَقَالَ عُمَرُ وَاَللَّهِ لَا يُؤْسَرُ رَجُلٌ فِي الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ عُدُولٍ» ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ عَمَّا فِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ، وَأَخَذَ الْحَسَنُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ التَّابِعِينَ بِمَا فِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ مِنْ أَمْرِ الشُّهُودِ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى خِلَافِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] اهـ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْيَدِ الْمُعْتَبَرَةِ الْمُرَجِّحَةِ لِقَوْلِ صَاحِبِهَا وَقَاعِدَةِ الْيَدِ الَّتِي لَا تُعْتَبَرُ]
(الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْيَدِ الْمُعْتَبَرَةِ الْمُرَجِّحَةِ لِقَوْلِ صَاحِبِهَا وَقَاعِدَةِ الْيَدِ الَّتِي لَا تُعْتَبَرُ)
وَهُوَ أَنَّ الْيَدَ الْمُرَجِّحَةَ عِبَارَةٌ عَنْ حِيَازَةٍ أَيْ قُرْبٌ وَاتِّصَالٌ إمَّا مَعَ جَهْلِ أَصْلِ الْمِلْكِ لِمَنْ هُوَ فَيَكْفِي فِيهَا عَشَرَةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ كَانَ الْمُحَوَّزُ عَقَارًا أَوْ غَيْرَهُ، وَأَمَّا مَعَ عِلْمِنَا نَحْنُ بِأَنْفُسِنَا أَوْ بِالْبَيِّنَةِ بِأَنَّ أَصْلَ مِلْكِهَا يَحِقُّ لِلْحَائِزِ فَيَكْفِي فِيهَا عَشْرَةُ سِنِينَ فَأَكْثَرُ فِي الْعَقَارِ، وَعَامَانِ فَأَكْثَرُ فِي الدَّوَابِّ وَالْعَبِيدِ وَالثِّيَابِ قُلْت لَكِنْ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْقَرِيبِ فَتَنَبَّهْ، وَلِلْيَدِ مَرَاتِبُ مُتَرَتِّبَةٌ فَأَعْظَمُهَا ثِيَابُ الْإِنْسَانِ الَّتِي عَلَيْهِ، وَمِنْطَقَتُهُ، وَيَلِيهِ الْبِسَاطُ الَّذِي هُوَ جَالِسٌ عَلَيْهِ، وَالدَّابَّةُ الَّتِي هُوَ رَاكِبُهَا، وَيَلِيهِ الدَّابَّةُ الَّتِي هُوَ سَائِقُهَا أَوْ قَائِدُهَا، وَيَلِيهِ الدَّارُ الَّتِي هُوَ سَاكِنُهَا فَهِيَ دُونَ الدَّابَّةِ لِعَدَمِ اسْتِيلَائِهِ عَلَى جَمِيعِهَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَتُقَدَّمُ أَقْوَى الْيَدَيْنِ عَلَى أَضْعَفِهِمَا فَرَاكِبُ الدَّابَّةِ يُقَدَّمُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى السَّائِقِ عِنْدَ تَنَازُعِهِمَا، وَإِذَا تَنَازَعَ السَّاكِنَانِ الدَّارَ سَوَّى بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَيْمَانِهِمَا، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
وَأَمَّا الْيَدُ الَّتِي لَا تُعْتَبَرُ فِي التَّرْجِيحِ أَلْبَتَّةَ فَعِبَارَةٌ عَنْ حِيَازَةٍ أَيْ قُرْبٍ وَاتِّصَالٍ عَلِمْنَا نَحْنُ بِأَنْفُسِنَا أَوْ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهَا بِطَرِيقٍ تَقْتَضِي عَدَمَ الْمِلْكِ بِحَقٍّ كَالْغَصْبِ، وَالْعَارِيَّةِ هَذَا تَهْذِيبُ مَا قَالَهُ الْأَصْلُ، وَصَحَّحَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ مَعَ زِيَادَةٍ مِنْ تُسُولِيِّ الْعَاصِمِيَّةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (وَصْلٌ) فِي أَرْبَعِ مَسَائِلَ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْفَرْقِ.
(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي النَّوَادِرِ إذَا ادَّعَيَاهَا فِي يَدِ ثَالِثٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا آجَرْتُهُ إيَّاهَا، وَقَالَ الْآخَرُ أَوْدَعْته إيَّاهَا صُدِّقَ مَنْ عُلِمَ سَبْقُ كِرَائِهِ
إجْمَاعًا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْفَلَاسِفَةِ، وَمَنْ تَابَعَهُمْ.
(الْقِسْمُ التَّاسِعُ) الْجَهْلُ بِمَا وَقَعَ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ الصِّفَاتِ وَهُوَ تَعَلُّقُهَا بِإِيجَادِ مَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ لِلْخَلْقِ هَلْ يَجُوزُ هَذَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا فَأَهْلُ الْحَقِّ يُجَوِّزُونَهُ، وَأَنْ يَفْعَلَ لِعِبَادِهِ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهُمْ، وَأَنْ لَا يَفْعَلَهُ كُلُّ ذَلِكَ لَهُ تَعَالَى فَكُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ وَالْخَلَائِقُ دَائِرُونَ بَيْنَ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، وَفِي تَكْفِيرِ الْمُعْتَزِلَةِ بِذَلِكَ قَوْلَانِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالصَّحِيحُ عَدَمُ تَكْفِيرِهِمْ.
(الْقِسْمُ الْعَاشِرُ) مَا وَقَعَ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ الصِّفَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ أَوْ يَقَعُ مِمَّا لَمْ يُكَلَّفْ بِهِ كَخَلْقِ حَيَوَانٍ فِي الْعَالَمِ أَوْ إجْرَاءِ نَهْرٍ أَوْ إمَاتَةِ حَيَوَانٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا الْقِسْمُ لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ وَهُوَ جَهْلٌ بَلْ قَدْ يُكَلَّفُ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الشَّرَائِعِ لِأَمْرٍ يَخُصُّ تِلْكَ الصُّورَةَ لَا؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِهِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ: (الْقِسْمُ الْعَاشِرُ مَا وَقَعَ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ الصِّفَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ أَوْ يَقَعُ مَا لَمْ يُكَلَّفْ بِهِ كَخَلْقِ حَيَوَانٍ فِي الْعَالَمِ أَوْ إجْرَاءِ نَهْرٍ أَوْ إمَاتَةِ حَيَوَانٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا الْقِسْمُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ وَهُوَ جَهْلٌ) قُلْتُ: إنْ أَرَادَ الْجَهْلَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ شَيْئًا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الْمَوْجُودَاتِ الْمَعْلُومِ وُجُودُهَا فَذَلِكَ كُفْرٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَإِنْ أَرَادَ الْجَهْلَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ حَيَوَانًا لَا يَعْلَمُ وُجُودَهُ فَذَلِكَ لَيْسَ بِكُفْرٍ وَلَا مَعْصِيَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجَهْلَ لَيْسَ بِرَاجِعٍ إلَى الْجَهْلِ بِتَعَلُّقِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ بَلْ بِوُجُودِ هَذَا الْمُتَعَلِّقِ. قَالَ: (بَلْ قَدْ يُكَلَّفُ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الشَّرَائِعِ لِأَمْرٍ يَخُصُّ تِلْكَ الصُّورَةَ لَا لِأَنَّ الْجَهْلَ بِهِ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
أَوْ إيدَاعِهِ، وَيُسْتَصْحَبُ الْحَالُ لَهُ، وَالْمِلْكُ إلَّا أَنْ تَشْهَدَ بَيِّنَةٌ لِلْآخَرِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِحِيَازَةٍ عَنْ الْأَوَّلِ وَحُضُورِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ فَيَقْضِي لَهُ فَإِنْ جُهِلَ السَّبْقُ قُسِّمَتْ بَيْنَهُمَا قَالَ أَشْهَدْت فَلَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا بِغَصْبِ الثَّالِثِ مِنْهُ، وَبَيِّنَةُ الْآخَرِ أَنَّ الثَّالِثَ أَقَرَّ لَهُ بِالْإِيدَاعِ قُضِيَ لِصَاحِبِ الْغَصْبِ لِتَضْمِينِ بَيِّنَتِهِ الْيَدَ السَّابِقَةَ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) قَالَ فِي النَّوَادِرِ لَوْ كَانَتْ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ، وَفِي يَدِ عَبْدٍ لِأَحَدِهِمَا فَادَّعَاهَا الثَّلَاثَةُ قُسِّمَتْ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا إنْ كَانَ الْعَبْدُ تَاجِرًا، وَإِلَّا فَنِصْفَيْنِ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي يَدِ مَوْلَاهُ أَفَادَهُمَا الْأَصْلُ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) قَالَ تُسُولِيُّ الْعَاصِمِيَّةِ لَا بُدَّ فِي الشَّهَادَةِ بِكُلِّ قِسْمٍ مِنْ قِسْمَيْ الْحِيَازَةِ الْمُرَجِّحَةِ مِنْ ذِكْرِ الْيَدِ وَتَصَرُّفِ الْحَائِزِ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ وَالنِّسْبَةُ وَعَدَمِ الْمُنَازِعِ وَطُولِ عَشَرَةِ أَشْهُرٍ فِي الْأُولَى يَعْنِي الْحِيَازَةَ مَعَ جَهْلِ أَصْلِ الْمِلْكِ لِمَنْ هُوَ، وَعَشْرُ سِنِينَ فِي الثَّانِيَةِ يَعْنِي الْحِيَازَةَ مَعَ عِلْمِ أَصْلِ الْمِلْكِ لِمَنْ هُوَ، وَعَدَمُ التَّفْوِيتِ فِي عِلْمِهِمْ فَإِذَا فُقِدَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ أَوْ وَاحِدٌ مِنْهَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ عَلَى الْمَعْمُولِ بِهِ إلَّا إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي حَاشِيَةِ اللَّامِيَّةِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ زِيَادَةُ مَالٍ مِنْ أَمْوَالِهِ ابْنِ عَرَفَةَ، وَفِي لَغْوِ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ فِي دَارٍ بِأَنَّهَا مِلْكُ فُلَانٍ حَتَّى يَقُولَ، وَمَالٍ مِنْ أَمْوَالِهِ وَقَبُولِهَا مُطْلَقًا ثَالِثُهَا إنْ كَانَ الشُّهُودُ لَهُمْ نَبَاهَةٌ وَيَقَظَةٌ الْأَوَّلُ لِابْنِ سَهْل عَنْ مَالِكٍ قَائِلًا شَاهَدْت الْقَضَاءَ بِهِ. اهـ
(الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) قَالَ تُسُولِيُّ الْعَاصِمِيَّةِ كَيْفِيَّةُ وَثْقِيَّةِ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ يَشْهَدُ الْوَاضِعُ شَكَاهُ أَثَرُهُ بِمَعْرِفَتِهِ لِفُلَانٍ، وَمَعَهَا يَشْهَدُ بِأَنَّهُ كَانَ بِيَدِهِ، وَعَلَى مِلْكِهِ مَالًا مِنْ أَمْوَالِهِ، وَمِلْكًا خَالِصًا مِنْ جُمْلَةِ أَمْلَاكِهِ جَمِيعُ كَذَا الْمَحْدُودِ بِكَذَا يُعْرَفُ فِيهِ تَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ، وَيَنْسُبُهُ لِنَفْسِهِ، وَالنَّاسُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ مُنَازِعٍ، وَلَا مُعَارِضَ مُدَّةً مِنْ عَشَرَةِ أَشْهُرٍ أَوْ عَشْرِ سِنِينَ، وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا أُخْرِجَتْ عَنْ مِلْكِهِ إلَى الْآنَ أَوْ إلَى أَنْ تَعْتَدِيَ عَلَيْهَا فُلَانٌ أَوْ إلَى أَنْ غَابَ أَوْ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ، وَتَرَكَهَا لِمَنْ أَحَاطَ بِمِيرَاثِهِ إلَخْ فَإِذَا ثَبَتَ هَذِهِ الْوَثِيقَةُ هَكَذَا، وَأَعْذَرَ فِيهَا لِلْمُقَوَّمِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجِدْ مَطْعَنًا فَلَا إشْكَالَ أَنَّهَا تَدُلُّ دَلَالَةً ظَنِّيَّةً عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لِهَذَا الْقَائِمِ، وَلَا تُفِيدُ الْقَطْعَ لِأَنَّ الشَّهَادَاتِ مِنْ حَيْثُ هِيَ إنَّمَا تُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ فَقَطْ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ إنَّمَا تُقْبَلُ فِيمَا جُهِلَ أَصْلُ مِلْكِهِ لِأَنَّ أَصْلَ الْمِلْكِ لِمَنْ هُوَ مَجْهُولٌ عِنْدَنَا حَتَّى شَهِدَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ لِهَذَا الْقَائِمِ.
وَحِينَئِذٍ فَيَقْضِي لَهُ بِهِ حَيْثُ لَا مَطْعَنَ بَعْدَ أَنْ يَسْأَلَ الْحَائِزَ أَوْ لَا هَلْ لَك حُجَّةٌ، وَلَعَلَّهُ يُقِرُّ أَنَّ الْمِلْكَ لِلْقَائِمِ، وَأَنَّهُ دَخَلَ بِكِرَاءٍ أَوْ عَارِيَّةٍ فَإِنْ قَالَ حَوْزِي وَمِلْكِي، وَبِيَدِي وَأَثْبَتَ حِيَازَةَ ذَلِكَ عَنْهُ عَشْرَ سِنِينَ فِي الْأُصُولِ أَوْ عَامَيْنِ فِي غَيْرِهَا بِالْقُيُودِ الْمَذْكُورَةِ أَيْضًا مِنْ الْيَدِ وَالنِّسْبَةِ، وَدَعْوَى الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ، وَعَدَمِ الْمُنَازِعِ إلَخْ، وَالْحَالُ أَنَّ الْقَائِمَ حَاضِرٌ سَاكِتٌ بِلَا مَانِعٍ إلَخْ فَقَدْ سَقَطَ حَقُّ الْقَائِمِ، وَتَبْقَى الْأَمْلَاكُ بِيَدِ حَائِزِهَا، وَلَا يُكَلَّفُ بَيَانُ وَجْهِ تَمَلُّكِهِ، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَمَهْمَا ثَبَتَتْ الْحِيَازَةُ عَشَرَةَ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ بِالْقُيُودِ أَوَّلًا لَا تَقْطَعُهَا الْحِيَازَةُ الْوَاقِعَةُ بَعْدَهَا إلَّا أَنْ تَكُونَ عَشْرَ سِنِينَ فَأَكْثَرَ بِالْقُيُودِ الْمَذْكُورَةِ أَيْضًا، وَمَهْمَا ثَبَتَتْ الْحِيَازَةُ عَشَرَةَ أَعْوَامٍ مَعَ عِلْمِ أَصْلِ الْمِلْكِ لِمَنْ هُوَ قُطِعَتْ حُجَّةُ الْقَائِمِ مَعَ عِلْمِ أَصْلِ مِلْكِهِ حَيْثُ لَمْ يُعْلَمْ أَصْلُ مَدْخَلِهِ أَمَّا إذَا عُلِمَ كَكَوْنِهِ دَخَلَ بِكِرَاءٍ مِنْ الْقَائِمِ أَوْ إسْكَانٍ أَوْ مُسَاقَاتٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهَا لَا تَقْطَعُهَا، وَلَوْ طَالَتْ فَأَصْلُ الْمِلْكِ، وَأَصْلُ الْمَدْخَلِ شَيْئَانِ مُتَغَايِرَانِ، وَهُمَا وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَشْتَرِطُ جَهْلَهُ لَكِنَّ الْأَوَّلَ شَرْطٌ فِي قَبُولِ بَيِّنَةِ الْقَائِمِ إذْ هِيَ لَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، وَالثَّانِي شَرْطٌ فِي أَعْمَالِ حِيَازَةِ الْمُقَوِّمِ عَلَيْهِ إذْ لَا يَعْلَمُ بِحِيَازَتِهِ إلَّا إذَا جَهِلَ مَدْخَلَهُ.
أَمَّا إذَا عَلِمَ
فِي حَقِّ اللَّهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي الْقِسْمِ الثَّامِنِ فَهَذِهِ عَشَرَةُ أَقْسَامٍ فِي الْجَهْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ الْعُلَى، وَمُتَعَلَّقَاتِ الصِّفَاتِ وَبَيَانِ الْكُفْرِ فِيهَا مِنْ غَيْرِهِ وَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مِنْهَا مِنْ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ مُفَصَّلًا، وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ مَا هُوَ كُفْرٌ مِنْهَا مِمَّا لَيْسَ بِكُفْرٍ، هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَهْلِ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَرَاءَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ الْمَجَالُ الصَّعْبُ فِي التَّحْرِيرِ وَذَلِكَ أَنَّ الصَّغَائِرَ وَالْكَبَائِرَ وَجَمِيعَ الْمَعَاصِي كُلَّهَا جُرْأَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ مُخَالَفَةَ أَمْرِ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ جَرَاءَةٌ عَلَيْهِ كَيْفَ كَانَ فَتَمْيِيزُ مَا هُوَ كُفْرٌ مِنْهَا مُبِيحٌ لِلدَّمِ مُوجِبٌ لِلْخُلُودِ هَذَا هُوَ الْمَكَانُ الْحَرِجُ فِي التَّحْرِيرِ وَالْفَتْوَى، وَالتَّعَرُّضُ إلَى الْحَدِّ الَّذِي
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَنْهِيٌّ عَنْهُ) قُلْتُ: إنْ أَرَادَ مِثْلَ السِّحْرِ الَّذِي يَكْفُرُ بِهِ فَذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا أَدْرِي مَا أَرَادَ. قَالَ:(وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي هُوَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي الْقِسْمِ الثَّامِنِ فَهَذِهِ عَشَرَةُ أَقْسَامٍ مِنْ الْجَهْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى وَمُتَعَلَّقَاتِ الصِّفَاتِ وَبَيَانِ الْكُفْرِ فِيهَا مِنْ غَيْرِهِ وَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مِنْهَا مِنْ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ مُفَصَّلًا وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ مَا هُوَ كُفْرٌ مِنْهَا مِمَّا لَيْسَ بِكُفْرٍ) قُلْتُ: فِيمَا قَالَهُ إنْ أَرَادَ حَصْرَ الْكُفْرِ فِي ذَلِكَ نَظَرٌ.
قَالَ: (هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَهْلِ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَرَاءَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ الْمَجَالُ الصَّعْبُ فِي التَّحْرِيرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّغَائِرَ وَالْكَبَائِرَ وَجَمِيعَ الْمَعَاصِي كُلَّهَا جَرَاءَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ مُخَالَفَةَ أَمْرِ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ جَرَاءَةٌ عَلَيْهِ كَيْفَ كَانَ فَتَمْيِيزُ مَا هُوَ كُفْرٌ مِنْهَا مُبِيحٌ لِلدَّمِ مُوجِبٌ لِلْخُلُودِ هَذَا هُوَ الْمَكَانُ الْحَرِجُ فِي التَّحْرِيرِ وَالْفَتْوَى، وَالتَّعَرُّضُ إلَى الْحُدُودِ الَّذِي
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
بِإِسْكَانٍ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهَا لَا تَنْقَطِعُ حُجَّةُ الْأَوَّلِ بَلْ هِيَ حِينَئِذٍ كَالْعَدَمِ، وَانْظُرْ الْكَلَامَ عَلَى الْقُيُودِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ الْيَدِ وَالنِّسْبَةِ وَغَيْرِهِمَا فِي حَاشِيَتِنَا عَلَى اللَّامِيَّةِ اهـ كَلَامُ التَّسَوُّلِيِّ بِتَصَرُّفٍ، وَسَتَأْتِي مَسَائِلُ أُخَرُ فِي الْحِيَازَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْفَرْقِ بَيْنَ مَا هُوَ حُجَّةٌ، وَمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ الْحُكَّامِ فَتَرَقَّبْ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
(الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تَجِبُ إجَابَةُ الْحَاكِمِ فِيهِ إذَا دَعَاهُ إلَيْهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا تَجِبُ إجَابَتُهُ فِيهِ)
اعْلَمْ أَنَّ دَعْوَى الْمُدَّعِي الَّتِي يَذْكُرُهَا لِلْحَاكِمِ وَيُوَجِّهُهَا عَلَى الْمَطْلُوبِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
(الْقِسْمُ الْأَوَّلُ) أَنْ تَكُونَ مُجَرَّدَةً عَمَّا يَظْهَرُ بِهِ صِحَّتُهَا مِمَّا مَرَّ، وَعَنْ دَلِيلٍ وَشُبْهَةٍ، وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الْقِسْمِ هَلْ يَجِبُ بِهِ الْإِجَابَةُ عَلَى مَنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ الْعَدْوَى فَمَا دُونَهَا لِأَعْلَى مِنْ فَوْقِهَا، وَهُوَ مَا نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَعَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، وَلَا تَجِبُ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَفِي الْحَطَّابِ عَلَى الْمُخْتَصَرِ نَقْلًا عَنْ الْمَسَائِلِ الْمَلْقُوطَةِ، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الدَّعْوَى قَدْ لَا تَتَوَجَّهُ فَيَبْعَثُ إلَيْهِ مِنْ مَسَافَةِ الْعَدْوَى، وَيُحْضِرُهُ لِمَا لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ، وَيَفُوتُ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ مَصَالِحِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ حُضُورُ بَعْضِ النَّاسِ، وَالدَّعْوَى عَلَيْهِ بِمَجْلِسِ الْحُكَّامِ مُزْرِيَةً فَيَقْصِدُ مَنْ لَهُ غَرَضٌ فَاسِدٌ أَذَى مَنْ يُرِيدُ بِذَلِكَ مِنْ التَّبْصِرَةِ اهـ.
(الْقِسْمُ الثَّانِي) أَنْ تَكُونَ مَعَ مَا تَظْهَرُ بِهِ صِحَّتُهَا مِمَّا مَرَّ دُونَ أَنْ يَأْتِيَ بِدَلِيلٍ وَشُبْهَةٍ، وَفِي هَذَا الْقِسْمِ قَالَ الْأَصْلُ إنْ دَعَا مِنْ مَسَافَةِ الْعَدْوَى فَمَا دُونَ وَجَبَتْ الْإِجَابَةُ لِأَنَّهُ لَا تَتِمُّ مَصَالِحُ الْأَحْكَامِ وَإِنْصَافِ الْمَظْلُومِينَ مِنْ الظَّالِمِينَ إلَّا بِذَلِكَ، وَمِنْ أَبْعَدِ مِنْ الْمَسَافَةِ لَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ اهـ.
وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَيُجْلَبُ الْخَصْمُ مَعَ مُدَّعِيهِ بِخَاتَمٍ أَوْ رَسُولٍ إذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى مَسَافَةِ الْعَدْوَى فَإِنْ زَادَ لَمْ يَجْلِبْهُ اهـ وَقَالَ خَلِيلٌ وَجَلْبُ الْخَصْمِ بِخَاتَمٍ أَوْ رَسُولٍ إنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ الْعَدْوَى لَا بِأَكْثَرَ كَسِتِّينَ مِيلًا اهـ يَعْنِي أَنَّ الْخَصْمَ إذَا كَانَ حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ يُرْفَعُ بِالْإِرْسَالِ إلَيْهِ لَا بِالْخَاتَمِ عَلَى مَا بِهِ الْعَمَلُ كَمَا فِي الْيَزْنَاسِيِّ، وَظَاهِرُهُ وَظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ أَبِي زَمَنِينَ أَنَّهُ يُرْفَعُ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِشُبْهَةٍ ابْنُ عَرَفَةَ، وَبِهِ الْعَمَلُ، وَإِذَا كَانَ عَلَى مَسَافَةِ الْعَدْوَى يُرْفَعُ بِكِتَابَةِ كِتَابٍ إلَيْهِ أَنْ اُحْضُرْ مَجْلِسَ الْحُكْمِ وَيُطِيعُ وَيُدْفَعُ لِلطَّالِبِ الْآتِي بِالدَّعْوَى الْمَذْكُورَةِ كَمَا فِي تُسُولِيِّ الْعَاصِمِيَّةِ قَالَ وَمَسَافَةُ الْعَدْوَى ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا فَهِيَ مَسَافَةُ الْقَصْرِ كَمَا فِي التَّبْصِرَةِ الْجَوْهَرِيُّ الْعَدْوَى طَلَبُك إلَى وَالٍ لِيُعْدِيَك عَلَى مَنْ ظَلَمَك أَيْ يَنْتَقِمُ مِنْهُ يُقَال اسْتَعْدَيْت عَلَى فُلَانٍ الْأَمِيرَ فَأَعْدَانِي أَيْ اسْتَعَنْت بِهِ فَأَعَانَنِي عَلَيْهِ اهـ.
(الْقِسْمُ الثَّالِثُ) أَنْ تَكُونَ مَعَ مَا تَظْهَرُ بِهِ صِحَّتُهَا مِمَّا مَرَّ، وَمَعَ الْإِتْيَانِ بِدَلِيلٍ وَشُبْهَةٍ أَيْ لَطْخٍ كَجَرْحٍ أَوْ شَاهِدٍ أَوْ أَثَرِ ضَرْبٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا الْقِسْمِ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فَإِنْ زَادَ أَيْ عَلَى مَسَافَةِ الْعَدْوَى لَمْ يَجْلِبْهُ مَا لَمْ يَشْهَدْ شَاهِدٌ فَيَكْتُبُ إلَيْهِ إمَّا أَنْ يَحْضُرَ أَوْ يَرْضَى أَيْ خَصْمُهُ اهـ يَعْنِي أَنَّهُ تَجِبُ فِيهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا يَزِيدُ عَلَى مَسَافَةِ الْعَدْوَى إمَّا الْإِجَابَةُ أَوْ إرْضَاءُ خَصْمِهِ لَكِنْ مَحَلُّ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ الَّذِي عَلَى مَا يَزِيدُ عَلَى مَسَافَةِ الْعَدْوَى مِنْ مَحَلِّ وِلَايَةِ الْحَاكِمِ أَمَّا إنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ عَاصِمٍ:
، وَالْحُكْمُ فِي الْمَشْهُورِ حَيْثُ الْمُدَّعَى
…
عَلَيْهِ فِي الْأُصُولِ وَالْمَالِ مَعَا
وَحَيْثُ يُلْفِيهِ بِمَا فِي الذِّمَّهْ
…
يَطْلُبُهُ وَحَيْثُ أَصْلٌ ثَمَّهْ
يَمْتَازُ بِهِ أَعْلَى رُتَبِ الْكَبَائِرِ مِنْ أَدْنَى رُتَبِ الْكُفْرِ عَسِيرٌ جِدًّا بَلْ الطَّرِيقُ الْمُحَصِّلُ لِذَلِكَ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ حِفْظِ فَتَاوَى الْمُتَقَدِّمِينَ الْمُقْتَدَى بِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ وَيَنْظُرَ مَا وَقَعَ لَهُ هَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا أَفْتَوْا فِيهِ بِالْكُفْرِ أَوْ مِنْ جِنْسِ مَا أَفْتَوْا فِيهِ بِعَدَمِ الْكُفْرِ فَيُلْحِقَهُ بَعْدَ إمْعَانِ النَّظَرِ وَجَوْدَةِ الْفِكْرِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ أَوْ وَقَعَتْ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ لِقُصُورِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّوْفِيقُ، وَلَا يُفْتِي بِشَيْءٍ فَهَذَا هُوَ الضَّابِطُ لِهَذَا الْبَابِ. أَمَّا عِبَارَةٌ مَانِعَةٌ جَامِعَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى فَهِيَ مِنْ الْمُتَعَذِّرَاتِ عِنْدَ مَنْ عَرَفَ غَوْرَ هَذَا الْمَوْضِعِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
يَمْتَازُ بِهِ أَعْلَى رُتَبِ الْكَبَائِرِ مِنْ أَدْنَى رُتَبِ الْكُفْرِ عَسِيرٌ جِدًّا بَلْ الطَّرِيقُ الْمُحَصِّلُ لِذَلِكَ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ حِفْظِ فَتَاوَى الْمُقْتَدَى بِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ وَيَنْظُرَ مَا وَقَعَ لَهُ هَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا أَفْتَوْا فِيهِ بِالْكُفْرِ أَوْ مِنْ جِنْسِ مَا أَفْتَوْا فِيهِ بِعَدَمِ الْكُفْرِ فَيُلْحِقَهُ بَعْدَ إمْعَانِ النَّظَرِ وَجَوْدَةِ الْفِكْرِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ أَوْ وَقَعَتْ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ لِقُصُورِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّوَقُّفُ، وَلَا يُفْتِي بِشَيْءٍ فَهَذَا هُوَ الضَّابِطُ لِهَذَا الْبَابِ. أَمَّا عِبَارَةٌ جَامِعَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى فَهِيَ مِنْ الْمُتَعَذِّرَاتِ عِنْدَ مَنْ عَرَفَ غَوْرَ هَذَا الْمَوْضِعِ)
قُلْتُ: لَيْسَ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ التَّكْفِيرَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِقَاطِعٍ سَمْعِيٍّ وَمَا ذَكَرَهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا مُعَوَّلَ عَلَيْهِ، وَلَا مُسْتَنَدَ فِيهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بَلَدِهِ فَلَيْسَتْ الدَّعْوَى إلَّا هُنَالِكَ كَانَ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ هُنَاكَ أَمْ لَا، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ فَإِمَّا أَنْ يَلْقَاهُ فِي مَحَلِّ الْأَصْلِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ أَوْ يَكُونُ الْمَالُ الْمُعَيَّنُ مَعَهُ أَوْ لَا فَيُجِيبُهُ لِمُخَاصَمَتِهِ هُنَاكَ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَأَمَّا مَا فِي الذِّمَّةِ فَيُخَاصِمُهُ حَيْثُ مَا لَقِيَهُ كَمَا فِي شَرْحِ التَّسَوُّلِيِّ.
(تَنْبِيهٌ) قَالَ الْأَصْلُ، وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ وَالْحَطَّابُ مَتَى طُولِبَ الشَّخْصُ بِحَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ عَلَى الْفَوْرِ كَرَدِّ الْمَغْصُوبِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقُولَ لَا يَدْفَعُهُ إلَّا بِالْحَاكِمِ لِأَنَّ الْمَطْلَ ظُلْمٌ، وَوُقُوفُ النَّاسِ عِنْدَ الْحَاكِمِ صَعْبٌ، نَعَمْ إذَا كَانَ الْحَقُّ نَفَقَةً لِلْأَقَارِبِ، وَجَبَ الْحُضُورُ فِيهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ لِتَقْدِيرِهَا فَإِنْ كَانَتْ النَّفَقَةُ لِلزَّوْجَةِ أَوْ لِلرَّقِيقِ خُيِّرَ بَيْنَ إبَانَةِ الزَّوْجَةِ وَعِتْقِ الرَّقِيقِ وَبَيْنَ الْإِجَابَةِ كَمَا يُخْبَرُ فِي كُلِّ حَقٍّ مَوْقُوفٍ عَلَى الْحَاكِمِ أَيْ أَوْ يُمْكِنُ فِيهِ التَّخْيِيرُ كَأَجَلِ الْعِنِّينِ يُخَيِّرُ الزَّوْجَ بَيْنَ الطَّلَاقِ فَلَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ وَبَيْنَ الْإِجَابَةِ فَلَيْسَ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْهَا، وَكَالْقِسْمَةِ الْمُتَوَقِّفَةِ عَلَى الْحَاكِمِ يُخْبَرُ بَيْنَ تَمْلِيكِ حِصَّتِهِ لِغَرِيمِهِ وَبَيْنَ الْإِجَابَةِ فَلَيْسَ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْهَا وَكَالْفُسُوخِ الْمُتَوَقِّفَةِ عَلَى الْحَاكِمِ أَمَّا إنْ كَانَ الْحَقُّ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْحَاكِمِ فَلَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ بَلْ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَائِهِ لَزِمَهُ أَدَاءٌ، وَلَا يَذْهَبُ إلَيْهِ، وَمَتَى عَلِمَ خَصْمُهُ إعْسَارَهُ حَرُمَ عَلَيْهِ طَلَبُهُ، وَدَعْوَاهُ إلَى الْحَاكِمِ فَإِنْ دَعَاهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِحَوْزٍ لَمْ تَجِبْ الْإِجَابَةُ، وَتَحْرُمُ فِي الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ وَالْحُدُودِ وَسَائِرِ الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ. هَذَا إذَا كَانَ الْحَقُّ مُتَّفِقًا عَلَى ثُبُوتِهِ أَمَّا إنْ دَعَاهُ إلَى حَقٍّ مُخْتَلَفٍ فِي ثُبُوتِهِ فَإِنْ كَانَ خَصْمُهُ يَعْتَقِدُ ثُبُوتَهُ وَجَبَتْ الْإِجَابَةُ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا دَعْوَى حَقٍّ، وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ عَدَمَ ثُبُوتِهِ لَمْ تَجِبْ لِأَنَّهُ مُبْطِلٌ نَعَمْ إنْ دَعَاهُ الْحَاكِمُ وَجَبَ لِأَنَّ الْمَحَلَّ قَابِلٌ لِلْحُكْمِ وَالتَّصَرُّفِ وَالِاجْتِهَادِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ لَمْ تَجِبْ الْإِجَابَةُ اهـ بِتَصَرُّفٍ قَالَ التَّسَوُّلِيُّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ وَمَحَلُّ هَذَا التَّفْصِيلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يُعِينُهُ عَلَى الْحَقِّ، وَيَتَثَبَّتُ فِي أَمْرِهِ، وَأَمَّا إذَا فُقِدَ ذَلِكَ كَمَا فِي زَمَانِنَا الْيَوْمَ فَتَجِبُ الْإِجَابَةُ فِي الْجَمِيعِ لِئَلَّا يَقَعَ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ اهـ. وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُشْرَعُ مِنْ الْحَبْسِ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُشْرَعُ مِنْهُ)
الْحَبْسُ عَشَرَةُ أَقْسَامٍ بِمَا زَادَهُ ابْنُ فَرْحُونٍ عَلَى مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْأَصْلُ:
(الْأَوَّلُ) حَبْسُ الْجَانِي لِغَيْبَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ حِفْظًا لِمَحَلِّ الْقِصَاصِ
(الثَّانِي) حَبْسُ الْآبِقِ سَنَةً حِفْظًا لِلْمَالِيَّةِ رَجَاءَ أَنْ يَعْرِفَ رَبَّهُ
(الثَّالِثُ) حَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ دَفْعِ الْحَقِّ، وَلَوْ دِرْهَمًا، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ دَفْعُهُ وَعَجَزْنَا عَنْ أَخْذِهِ مِنْهُ إلَّا بِهِ لَجَاءَ إلَيْهِ فَلَا يُطْلَقُ حَتَّى يَدْفَعَهُ، وَلَا يُقَالُ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ تَقْتَضِي تَقْدِيرَ الْعُقُوبَاتِ بِقَدْرِ الْجِنَايَاتِ، وَتَخْلِيدُهُ فِي الْحَبْسِ عُقُوبَةٌ عَظِيمَةٌ كَيْفَ تَكُونُ فِي جِنَايَةٍ حَقِيرَةٍ، وَهِيَ الِامْتِنَاعُ مِنْ دَفْعِ دِرْهَمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ لِأَنَّا نَقُولُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّخْلِيدَ عُقُوبَةٌ وَاحِدَةٌ عَظِيمَةٌ حَتَّى يَرُدَّ مُخَالَفَةَ الْقَوَاعِدِ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُقَابِلَ كُلُّ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْحَبْسِ كُلَّ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الِامْتِنَاعِ فَهِيَ جِنَايَاتٌ وَعُقُوبَاتٌ مُتَكَرِّرَةٌ مُتَقَابِلَةٌ فَلَمْ تُخَالِفْ الْقَوَاعِدَ كَمَا لِلْأَصْلِ سَلَّمْنَا أَنَّهُ عُقُوبَةٌ وَاحِدَةٌ عَظِيمَةٌ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ دَفْعِ دِرْهَمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ جِنَايَةٌ حَقِيرَةٌ بَلْ هُوَ جِنَايَةٌ عَظِيمَةٌ فَإِنَّ مَطْلَ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَالْإِصْرَارَ عَلَى الظُّلْمِ وَالتَّمَادِي عَلَيْهِ جِنَايَةٌ عَظِيمَةٌ فَاسْتَحَقَّ ذَلِكَ التَّخْلِيدَ، وَالظَّالِمُ أَحَقُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ كَمَا لِابْنِ فَرْحُونٍ فِي تَبْصِرَتِهِ
مَسْأَلَةٌ) . اتَّفَقَ النَّاسُ فِيمَا عَلِمْتُ عَلَى تَكْفِيرِ إبْلِيسَ بِقَضِيَّتِهِ مَعَ آدَمَ عليه السلام، وَلَيْسَ مُدْرَكُ الْكُفْرِ فِيهَا الِامْتِنَاعَ مِنْ السُّجُودِ، وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ مَنْ أُمِرَ بِالسُّجُودِ فَامْتَنَعَ مِنْهُ كَافِرًا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَلَا كَانَ كُفْرُهُ لِكَوْنِهِ حَسَدَ آدَمَ عَلَى مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ حَاسِدٍ كَافِرًا، وَلَا كَانَ كُفْرُهُ لِعِصْيَانِهِ وَفُسُوقِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عِصْيَانٌ وَفُسُوقٌ، وَإِلَّا كَانَ كُلُّ عَاصٍ وَفَاسِقٍ كَافِرًا وَقَدْ أَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَيَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ إبْلِيسَ إنَّمَا كَفَرَ بِنِسْبَةِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (مَسْأَلَةٌ اتَّفَقَ النَّاسُ فِيمَا عَلِمْتُ عَلَى تَكْفِيرِ إبْلِيسَ بِقَضِيَّتِهِ مَعَ آدَمَ عليه السلام، وَلَيْسَ مُدْرَكُ الْكُفْرِ فِيهَا الِامْتِنَاعَ مِنْ السُّجُودِ، وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ مَنْ أُمِرَ بِالسُّجُودِ فَامْتَنَعَ مِنْهُ كَافِرًا، وَلَا بِحَسَدِهِ لِآدَمَ لِمَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ حَاسِدٍ كَافِرًا، وَلَا كَانَ كُفْرُهُ لِعِصْيَانِهِ وَفُسُوقِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عِصْيَانٌ وَفُسُوقٌ، وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ عَاصٍ وَفَاسِقٍ كَافِرًا) . قُلْتُ: مَا قَالَهُ مِنْ لُزُومِ الْكُفْرِ لِكُلِّ مُمْتَنِعٍ مِنْ السُّجُودِ وَلِكُلِّ حَاسِدٍ وَلِكُلِّ عَاصٍ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ تَعَالَى حَسَدًا مَا وَامْتِنَاعًا مَا وَعِصْيَانًا مَا دُونَ سَائِرِ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ كُفْرًا إذْ كَوْنُ أَمْرٍ مَا كُفْرًا أَوْ غَيْرَ كُفْرٍ أَمْرٌ وَضْعِيٌّ وَضَعَهُ الشَّارِعُ لِذَلِكَ فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ كُفْرُهُ لِامْتِنَاعِهِ أَوْ لِحَسَدِهِ. قَالَ: (وَقَدْ أَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ إبْلِيسَ إنَّمَا كَفَرَ بِنِسْبَةِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
(الرَّابِعُ) حَبْسُ مَنْ أَشْكَلَ أَمْرُهُ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ اخْتِبَارٌ لِحَالِهِ فَإِذَا ظَهَرَ حَالُهُ حُكِمَ بِمُوجِبِهِ عُسْرًا أَوْ يُسْرًا.
(الْخَامِسُ) حَبْسُ الْجَانِي تَعْزِيرًا أَوْ رَدْعًا عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى.
(السَّادِسُ) حَبْسُ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ التَّصَرُّفِ الْوَاجِبِ الَّذِي لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ كَحَبْسِ مَنْ أَسْلَمَ عَنْ أُخْتَيْنِ أَوْ عَشْرَةِ نِسْوَةٍ أَوْ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا، وَامْتَنَعَ مِنْ التَّعْيِينِ.
(السَّابِعُ) حَبْسُ مَنْ أَقَرَّ بِمَجْهُولِ عَيْنٍ أَوْ فِي الذِّمَّةِ، وَامْتَنَعَ مِنْ تَعْيِينِهِ فَيُحْبَسُ حَتَّى يُعَيِّنَهُ فَيَقُولُ الْمُقِرُّ بِهِ هُوَ هَذَا الثَّوَابُ أَوْ هَذِهِ الدَّابَّةُ أَوْ الشَّيْءُ الَّذِي أَقْرَرْت بِهِ فِي ذِمَّتِي هُوَ دِينَارٌ.
(الثَّامِنُ) حَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ فَيُقْتَلُ فِيهِ قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا مَنْ امْتَنَعَ مِنْ فِعْلِ الْحَجِّ، وَإِنْ قُلْنَا أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ مُرَاعَاةً لِلْقَوْلِ بِأَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي، وَأَمَّا تَرْكُ السُّنَنِ فَمِثَالُهُ تَرْكُ الْوِتْرِ قَالَ أَصْبَغُ بِتَأْدِيبِ تَارِكِ الْوِتْرِ اهـ هَذَا مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْأَصْلُ.
(التَّاسِعُ) مَنْ يُحْبَسُ اخْتِبَارٌ لِمَا يُنْسَبُ إلَيْهِ مِنْ السَّرِقَةِ وَالْفَسَادِ.
(الْعَاشِرُ) حَبْسُ الْمُتَدَاعِي فِيهِ قَالَ تُسُولِيُّ الْعَاصِمِيَّةِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الطَّالِبَ إمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِعَدْلَيْنِ أَوْ بِعَدْلٍ أَوْ بِمَجْهُولٍ مَرْجُوٍّ تَزْكِيَتُهُ أَوْ بِمَجْهُولَيْنِ كَذَلِكَ أَوْ بِلَطْخٍ أَوْ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى فَالتَّوْقِيفُ فِي الْأَوَّلِ لَيْسَ إلَّا لِلْإِعْذَارِ مَا لَا خَرَاجَ لَهُ مِنْ الْعَقَارِ بِالْغَلْقِ، وَمَا لَهُ خَرَاجٌ يُوقَفُ خَرَاجُهُ، وَغَيْرُ الْعَقَارِ مِنْ الْعُرُوضِ وَالثِّمَارِ وَالْحُبُوبِ بِالْوَضْعِ تَحْتَ يَدِ أَمِينٍ، وَبِيعَ وَوُضِعَ ثَمَنُهُ عِنْدَهُ فِي الثِّمَارِ إنْ كَانَ مِمَّا يَفْسُدُ، وَفِي الثَّانِي لِلْإِعْذَارِ فِيهِ أَوْ لِإِقَامَةِ ثَانٍ إنْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُ لِرَجَاءِ شَاهِدٍ آخَرَ فَالْمَنْعُ مِنْ التَّفْوِيتِ فَقَطْ فِي الْعَقَارِ، وَلَا يَنْزِعُ مِنْ يَدِهِ لَكِنْ يُوقِفُ مَالَهُ خَرَاجٌ مِنْهُ، وَفِي غَيْرِ الْعَقَارِ بِالْوَضْعِ تَحْتَ يَدِ أَمِينٍ، وَبَيْعِ مَا يَفْسُدُ أَيْضًا إلَّا أَنْ يَقُولَ إنْ لَمْ أَجِدْ ثَانِيًا فَلَا أَحْلِفُ مَعَ هَذَا أَلْبَتَّةَ فَلَا يُبَاعُ حِينَئِذٍ بَلْ يُتْرَكُ لِلْمَطْلُوبِ، وَفِي الثَّالِثِ التَّزْكِيَةُ وَالْإِعْذَارُ بَعْدَهَا، وَحُكْمُهُ عَلَى مَا لِابْنِ رُشْدٍ وَأَبِي الْحَسَنِ وَابْنِ الْحَاجِبِ حُكْمُ الَّذِي قَبْلَهُ فِي سَائِرِ الْوُجُوهِ قَالَ ابْنُ رَحَّالٍ فِي شَرْحِهِ هُوَ كَالْعَدْلِ الْمَقْبُولِ فِي وُجُوبِ الْإِيقَافِ بِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ مَعَهُ، وَفِي الرَّابِعِ التَّزْكِيَةُ وَالْإِعْذَارُ أَيْضًا، وَحُكْمُهُ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ إلَّا فِي بَيْعِ مَا يَفْسُدُ فَيُبَاعُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَفِي الْخَامِسِ، وَلَا يَتَأَتَّى إلَّا فِي غَيْرِ الْعَقَارِ بِالْوَضْعِ عِنْدَ أَمِينٍ مَا لَمْ يَكُنْ مِمَّا يَفْسُدُ فَيُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَائِزِهِ فِيمَا يَظْهَرُ لِأَنَّهُ كَالْعَدْلِ الَّذِي لَا يُرِيدُ صَاحِبُهُ الْحَلِفَ مَعَهُ، وَفِي السَّادِسِ لَا عَقْلَ أَيْ لَا حَبْسَ أَصْلًا إذْ لَا يُعْقَلُ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْغَيْرِ فِيهِ عَلَى الْمَنْصُوصِ، وَجَرَى الْعَمَلُ بِالْإِيقَافِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى فِي غَيْرِ الْعَقَارِ قَالَ نَاظِمُهُ:
وَكُلُّ مُدَّعٍ لِلِاسْتِحْقَاقِ
…
مُكِّنَ مِنْ الْإِثْبَاتِ بِالْإِطْلَاقِ
لَكِنْ حَكَى ابْنُ نَاجِي الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ هَذَا إنْ صَحَّ مُسْتَنَدُهُ فَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى مِنْ الْإِخْلَالِ بِحَقٍّ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى حَقِّ الطَّالِبِ فَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَضَعَ قِيمَةَ كِرَائِهَا فِي أَيَّامِ الذَّهَابِ وَالْإِيقَافِ زِيَادَةً عَلَى قِيمَتِهَا فَإِنْ لَمْ يُثْبِتْ شَيْئًا أَخَذَهُ الْمَطْلُوبُ لِأَنَّ هَذَا قَدْ اعْتَرَضَ مَالَ غَيْرِهِ، وَعَطَّلَهُ عَنْ مَنَافِعِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَنِدَ إلَى لَطْخٍ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَنَدَ لَهُ فَلَا يَضْمَنُ الْكِرَاءَ الشُّبْهَةِ، وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ مَنْصُوصًا لِأَحَدٍ مِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْعَمَلِ، وَقَدْ حَكَى كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ الْمَعَاشُ يَذْهَبُونَ لِلْفَنَادِقِ فَيَعْتَرِضُونَ دَوَابَّ الْوَارِدِينَ حَتَّى يُصَالِحُوهُمْ بِقَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ رَبُّ الدَّابَّةِ مَزْعُوجًا يُرِيدُ الْخُرُوجَ فِي الْحِينِ، وَقَدْ شَاهَدْنَا مِنْ ذَلِكَ
الْجَوْرِ وَالتَّصَرُّفِ الَّذِي لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْ فَحْوَى قَوْلِهِ {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] وَمُرَادٌ أَنَّ إلْزَامَ الْعَظِيمِ الْجَلِيلِ بِالسُّجُودِ لِلْحَقِيرِ مِنْ التَّصَرُّفِ الرَّدِيءِ وَالْجَوْرِ وَالظُّلْمِ فَهَذَا وَجْهُ كُفْرِهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ نَسَبَ اللَّهَ تَعَالَى لِذَلِكَ فَقَدْ كَفَرَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْجُرْأَةِ الْعَظِيمَةِ.
(مَسْأَلَةٌ) . أَطْلَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُمْ الْكُفْرَ عَلَى السَّاحِرِ، وَأَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا قَرِيبٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ غَيْرَ أَنَّهُ عِنْدَ الْفُتْيَا فِي جُزْئِيَّاتِ الْوَقَائِعِ يَقَعُ فِيهِ الْغَلَطُ الْعَظِيمُ الْمُؤَدِّي إلَى هَلَاكِ الْمُفْتِي وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قِيلَ لِلْفَقِيهِ مَا هُوَ السِّحْرُ، وَمَا حَقِيقَتُهُ؟ حَتَّى يُقْضَى
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
الْجَوْرِ وَالتَّصَرُّفِ الَّذِي لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ، ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْ فَحْوَى قَوْلِهِ {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] وَمُرَادُهُ أَنَّ إلْزَامَ الْعَظِيمِ الْجَلِيلِ بِالسُّجُودِ لِلْحَقِيرِ مِنْ التَّصَرُّفِ الرَّدِيءِ وَالْجَوْرِ وَالظُّلْمِ) قُلْتُ: مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ كُفْرُهُ لِامْتِنَاعِهِ أَوْ لِحَسَدِهِ أَوْ لَهُمَا مَعَ ذِكْرِهِ مِنْ التَّجْوِيرِ أَوْ التَّجْوِيرِ خَاصَّةً فَلَا مَانِعَ مِنْ عَقْلٍ وَلَا نَقْلٍ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ: (فَهَذَا وَجْهُ كُفْرِهِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ نَسَبَ اللَّهَ تَعَالَى لِذَلِكَ فَقَدْ كَفَرَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْجُرْأَةِ الْعَظِيمَةِ) قُلْتُ: مَا قَالَهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ صَحِيحٌ، وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْجُرْأَةِ الْعَظِيمَةِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ الْجَهْلِ الْعَظِيمِ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ مِنْ التَّصَرُّفِ الرَّدِيءِ وَالْجَوْرِ وَالظُّلْمِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّهِ عَقْلًا وَسَمْعًا، وَمَا قَالَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ صَحِيحٌ إنْ كَانَ مَا بَنَى عَلَيْهِ كَلَامًا صَحِيحًا
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْعَجَبَ الْعُجَابَ، وَقَدْ قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ إذَا الْتَزَمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إحْضَارَ الْمُدَّعِي فِيهِ لِتَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ عَلَى عَيْنِهِ فَإِنْ ثَبَتَ الْحَقُّ فَالْمُؤْنَةُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُبْطِلٌ، وَإِلَّا فَعَلَى الْمُدَّعِي لِأَنَّهُ مُبْطِلٌ فِي ظَاهِرِ الشَّرْعِ.
وَلَا تَجِبُ أُجْرَةُ تَعْطِيلِ الْمُدَّعَى بِهِ فِي مُدَّةِ الْإِحْضَارِ انْتَهَى فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ مُبْطِلٌ فِي ظَاهِرِ الشَّرْعِ إلَخْ مَعَ أَنَّ مَا قَالَهُ مِنْ وُجُوبِ الْإِحْضَارِ إنَّمَا هُوَ مَعَ قِيَامِ اللَّطْخِ انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْ كَلَامِ التَّسَوُّلِيِّ هَذَا مَا زَادَهُ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي تَبْصِرَتِهِ عَلَى مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْأَصْلُ مِنْ حَصْرِ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَبْسِ فِي الْأَقْسَامِ الثَّمَانِيَةِ الْأَوَّلُ فَلِذَا قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ لَيْسَ كَمَا قَالَهُ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ أَهُوَ مَا عَدَا هَذِهِ الْأَقْسَامَ الْعَشَرَةَ لَا يَجُوزُ الْحَبْسُ فِيهِ. قَالَ الْأَصْلُ: وَلَا يَجُوزُ الْحَبْسُ فِي الْحَقِّ إذَا تَمَكَّنَ الْحَاكِمُ مِنْ اسْتِيفَائِهِ مِثْلُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ دَفْعِ الدَّيْنِ، وَنَحْنُ نَعْرِفُ مَالَهُ فَإِنَّا نَأْخُذُ مِنْهُ مِقْدَارَ الدَّيْنِ، وَلَا يَجُوزُ لَنَا حَبْسُهُ، وَكَذَلِكَ إذْ ظَفِرْنَا بِدَارِهِ أَوْ بِشَيْءٍ يُبَاعُ لَهُ فِي الدَّيْنِ كَانَ هُنَا أَمْ لَا فَإِنَّا نَفْعَلُ ذَلِكَ، وَلَا نَحْبِسُهُ فَإِنَّ فِي حَبْسِهِ اسْتِمْرَارَ ظُلْمِهِ، وَدَوَامَ الْمُنْكَرِ مِنْ الْمَطْلِ، وَضَرَرُهُ هُوَ مَعَ إمْكَانِ أَنْ يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ قَالَ، وَكَذَلِكَ إذَا رَأَى الْحَاكِمُ عَلَى الْخَصْمِ فِي الْحَبْسِ مِنْ الثِّيَابِ وَالْقُمَاشِ مَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ عَنْهُ أَخَذَهُ مَنْ عَلَيْهِ قَهْرًا، وَبَاعَهُ فِيمَا عَلَيْهِ، وَلَا يَحْبِسُهُ تَعْجِيلًا ابْنُ الْمُنَاصِفِ فِي تَنْبِيهِ الْحُكَّامِ عَلَى مَأْخَذِ الْأَحْكَامِ، وَإِذَا ضَرَبَ الْأَجَلَ لِلطَّالِبِ فِي إثْبَاتِ مَا ادَّعَاهُ قَبْلَ الْمَطْلُوبِ فَسَأَلَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمَطْلُوبِ كَفِيلًا بِوَجْهِهِ لِأَجْلِ الْخُصُومَةِ فَعَلَيْهِ ذَلِكَ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْكَفِيلِ لَمْ يُحْبَسْ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَقِيلَ لِلطَّالِبِ لَازِمْهُ إنْ شِئْت، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ فِيمَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ دَيْنًا أَوْ شَيْئًا مُسْتَهْلَكًا، وَسَأَلَ الْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ لَهُ مِنْهُ كَفِيلًا بِذَلِكَ الْحَقِّ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ عَلَى الْمُخَالَطَةِ وَالْمُعَامَلَةِ.
وَمَا يُوجِبُ اللَّطْخَ، وَهُمْ حُضُورٌ فَإِنَّهُ يُوَكَّلُ بِالْمَطْلُوبِ حَتَّى يَأْتِيَ بِذَلِكَ اللَّطْخِ فِيمَا قَرُبَ مِنْ يَوْمِهِ، وَشَبَهُهُ اُنْظُرْ تَمَامُهَا فِي التَّهْذِيبِ أَفَادَهُ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي التَّبْصِرَةِ، وَقَدْ عَقَدَ فَصْلًا لِأَمْثِلَةِ الْأَقْسَامِ الْعَشَرَةِ مَعَ تَقْسِيمِهِ الْقِسْمَ الثَّالِثَ، وَهُوَ حَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ دَفْعِ الْحَقِّ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ حَبْسُ تَضْيِيقٍ وَتَنْكِيلٍ، وَحَبْسُ تَعْزِيرٍ وَتَنْكِيلٍ، وَحَبْسُ تَعْزِيرٍ وَتَأْدِيبٍ، وَحَبْسُ مَلُومٍ وَاخْتِيَارٍ، وَبَيَانُ مَنْ لِكُلِّ قِسْمٍ، وَأَمْثِلَتُهُ، وَفَصْلًا لِبَيَانِ أَنَّ قَدْرَ مُدَّةِ الْحَبْسِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهِ وَمُوجِبَاتِهِ فَانْظُرْ.
(فَائِدَةٌ) قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي التَّبْصِرَةِ فِي وَثَائِقِ ابْنِ الْهِنْدِيِّ أَنَّ السِّجْنَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْحَصْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 8] أَيْ سِجْنًا وَحَبْسًا قَالَ أَوْ السِّجْنُ، وَإِنْ كَانَ أَسْلَمَ الْعُقُوبَاتِ فَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ قَوْله تَعَالَى {إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25] أَنَّ السِّجْنَ مِنْ الْعُقُوبَاتِ الْبَلِيغَةِ لِأَنَّهُ سبحانه وتعالى قَرَنَهُ مَعَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَقَدْ عَدَّ يُوسُفُ عليه الصلاة والسلام الِانْطِلَاقَ مِنْ السِّجْنِ إحْسَانًا إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف: 100] وَلَا شَكَّ أَنَّ السِّجْنَ الطَّوِيلَ عَذَابٌ، وَقَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ إذْ أَوْعَدَ مُوسَى {لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29] وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ، وَلَمَّا اسْتَخْلَفَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ ابْنَهُ عَلَى بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَوْصَاهُ أَنْ لَا يُعَاقِبَ فِي حِينِ الْغَضَبِ، وَحَضَّهُ عَلَى أَنْ لَا يَسْجُنَ حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُهُ ثُمَّ يَرَى رَأْيَهُ، وَكَانَ يَقُولُ إنَّ أَوَّلَ مَنْ اتَّخَذَ السِّجْنَ كَانَ حَلِيمًا، وَلَمْ يُرِدْ مَرْوَانُ طُولَ السِّجْنِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ السِّجْنَ الْخَفِيفَ حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُهُ، وَقَالَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ الْحَنْبَلِيُّ اعْلَمْ أَنَّ الْحَبْسَ الشَّرْعِيَّ لَيْسَ هُوَ السِّجْنُ فِي مَكَان ضَيِّقٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْوِيقُ الشَّخْصِ وَمَنْعُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ حَيْثُ شَاءَ سَوَاءٌ كَانَ فِي بَيْتٍ أَوْ فِي مَسْجِدٍ أَوْ كَانَ يَتَوَكَّلُ نَفْسَ الْغَرِيمِ أَوْ وَكِيلَهُ عَلَيْهِ، وَمُلَازَمَتُهُ لَهُ.
وَلِهَذَا أَسْمَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم -
بِوُجُودِهِ عَلَى كُفْرِ فَاعِلِيهِ يَعْسُرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ جِدًّا فَإِنَّك إذَا قُلْتُ لَهُ: السِّحْرُ وَالرُّقَى وَالْخَوَاصُّ وَالسِّيمْيَا وَالْهِيمْيَا وَقُوَى النُّفُوسِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَكُلُّهَا سِحْرٌ أَوْ بَعْضُ هَذِهِ الْأُمُورِ سِحْرٌ وَبَعْضُهَا لَيْسَ بِسِحْرٍ فَإِنْ قَالَ الْكُلُّ سِحْرٌ يَلْزَمُهُ أَنَّ سُورَةَ الْفَاتِحَةِ سِحْرٌ؛ لِأَنَّهَا رُقْيَةٌ إجْمَاعًا، وَإِنْ قَالَ بَلْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ خَاصِّيَّةٌ يَخْتَصُّ بِهَا فَيُقَالُ بَيِّنْ لَنَا خُصُوصَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَمَا بِهِ تَمْتَازُ وَهَذَا لَا يَكَادُ يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُتَعَرِّضِينَ لِلْفُتْيَا، وَأَنَا طُولَ عُمُرِي مَا رَأَيْتُ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ فَكَيْفَ يُفْتِي أَحَدٌ بَعْدَ هَذَا بِكُفْرِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ أَوْ بِمُبَاشَرَةِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ سِحْرٌ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ السِّحْرَ مَا هُوَ؟ ، وَلَقَدْ وُجِدَ فِي بَعْضِ الْمَدَارِسِ بَعْضُ الطَّلَبَةِ عِنْدَهُ كُرَّاسَةٌ فِيهَا آيَاتٌ لِلْمَحَبَّةِ وَالْبِغْضَةِ وَالتَّهْيِيجِ وَالنَّزِيفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تُسَمِّيهَا الْمَغَارِبَةُ عِلْمَ الْمِخْلَاةِ فَأَفْتَوْا بِكُفْرِهِ، وَإِخْرَاجِهِ مِنْ الْمَدْرَسَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأُمُورَ سِحْرٌ، وَأَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ وَهَذَا جَهْلٌ عَظِيمٌ وَإِقْدَامٌ عَلَى شَرِيعَةِ اللَّهِ بِجَهْلٍ وَعَلَى عِبَادِهِ بِالْفَسَادِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ فَاحْذَرْ هَذِهِ الْخُطَّةَ الرَّدِيَّةَ الْمُهْلِكَةَ عِنْدَ اللَّهِ وَسَتَقِفُ فِي الْفَرْقِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا عَلَى الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا هُوَ سِحْرٌ يَكْفُرُ بِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ) :
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا هُوَ سِحْرٌ يَكْفُرُ بِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ إلَى مُنْتَهَى قَوْلِهِ فَهَذِهِ أَنْوَاعُ السَّحَرِ الثَّلَاثَةِ) :
قُلْتُ ذَلِكَ نَقْلٌ لَا كَلَامَ فِيهِ إلَّا أَنَّ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
أَسِيرًا فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ «عَنْ الْهِرْمَاسِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ أَتَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِغَرِيمٍ لِي فَقَالَ الْزَمْهُ ثُمَّ قَالَ لِي يَا أَخَا بَنِي تَمِيمٍ مَا تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ بِأَسِيرِك» ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ مَرَّ بِي آخَرَ النَّهَارِ فَقَالَ مَا فَعَلَ أَسِيرُك يَا أَخَا بَنِي تَمِيمٍ، وَهَذَا كَانَ هُوَ الْحَبْسُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسٌ مُعَدٌّ لِحَبْسِ الْخُصُومِ فَلَمَّا انْتَشَرَتْ الرَّعِيَّةُ فِي زَمَنِ عُمَرَ رضي الله عنه ابْتَاعَ بِمَكَّةَ دَارًا، وَجَعَلَهَا سِجْنًا يَحْبِسُ فِيهَا، وَجَاءَ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ دَارًا بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَجَعَلَهَا حَبْسًا، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ الْحَبْسِ اهـ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَرَجِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الطَّلَّاعِ الْأَنْدَلُسِيِّ الْمَالِكِيِّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِأَحْكَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اخْتَلَفَتْ الْآثَارُ هَلْ سَجَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَحَدًا أَمْ لَا فَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا سِجْنٌ، وَلَا سَجَنَا أَحَدًا، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَجَنَ فِي الْمَدِينَةِ فِي تُهْمَةِ دَمٍ» رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالنَّسَائِيُّ فِي مُصَنَّفَيْهِمَا، وَفِي غَيْرِ الْمُصَنَّفِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ خَلَّى عَنْهُ» .
وَوَقَعَ فِي أَحْكَامِ ابْنِ زِيَادٍ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ سُلَيْمَانَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَجَنَ رَجُلًا أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ» فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ اسْتِتْمَامَ عِتْقِهِ قَالَ فِي الْحَدِيثِ حَتَّى بَاعَ غَنِيمَةً لَهُ.
وَقَالَ ابْنُ شَعْبَانَ فِي كِتَابِهِ وَقَدْ رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ حَكَمَ بِالضَّرْبِ وَالسِّجْنِ» فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَنَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي سِجْنٍ مُتَّخَذٍ لِذَلِكَ، وَثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ لَهُ سِجْنٌ، وَأَنَّهُ سَجَنَ الْحُطَيْئَةَ عَلَى الْهَجْوِ، وَسَجَنَ ضَبُعًا عَلَى سُؤَالِهِ عَنْ الذَّارِيَاتِ وَالْمُرْسَلَاتِ وَالنَّازِعَاتِ، وَشَبَهِهِنَّ وَأَمْرِهِ النَّاسَ بِالتَّفَقُّهِ فِي ذَلِكَ، وَضَرَبَهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَنَفَاهُ إلَى الْعِرَاقِ، وَقِيلَ إلَى الْبَصْرَةِ، وَكَتَبَ أَنْ لَا يُجَالِسَهُ أَحَدٌ قَالَ الْمُحَدِّثُ فَلَوْ جَاءَنَا، وَنَحْنُ مِائَةٌ لَتَفَرَّقْنَا عَنْهُ ثُمَّ كَتَبَ أَبُو مُوسَى إلَى عُمَرَ أَنَّهُ قَدْ حَسُنَتْ تَوْبَتُهُ فَأَمَرَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَسَجَنَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - صَابِئَ بْنَ حَارِثٍ، وَكَانَ مِنْ لُصُوصِ بَنِي تَمِيمٍ وَفُتَّاكِهِمْ حَتَّى مَاتَ فِي الْحَبْسِ، وَسَجَنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي الْكُوفَةِ، وَسَجَنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي مَكَّةَ، وَسَجَنَ أَيْضًا فِي سِجْنِ عَارِمَ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَنَفِيَّةِ إذْ امْتَنَعَ مِنْ بَيْعَتِهِ اهـ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ يُشْرَعُ إلْزَامُهُ بِالْحَلِفِ وَقَاعِدَةِ مَنْ لَا يَلْزَمُهُ الْحَلِفُ)
وَهُوَ أَنَّ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةَ الْمُسْتَكْمِلَةَ لِشُرُوطِهَا الْمُتَقَدِّمَةِ إمَّا أَنْ تَثْبُتَ بِدُونِ الشَّاهِدَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ لَا تَثْبُتَ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ فَهِيَ قِسْمَانِ، وَفِي الْقِسْمِ الثَّانِي قَالَ أَبُو عَمْرُو بْنُ الْحَاجِبِ كُلُّ دَعْوَى لَا تَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ فَلَا يَمِينَ بِمُجَرَّدِهَا، وَلَا تُرَدُّ كَالْقَتْلِ الْعَمْدِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ وَالرَّجْعَةِ، وَأَلْحَقَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي تَبْصِرَتِهِ بِهَذِهِ أَمْثِلَةً كَثِيرَةً، وَقَالَ، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ، وَسَيَأْتِي كَثِيرٌ مِنْهُ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِقَوْلِ الْمُدَّعِي، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ اهـ فَانْظُرْهُ.
وَفِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ قَالَ الْأَصْلُ وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ كُلُّ مَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ دَعْوَى صَحِيحَةٌ أَيْ مُسْتَكْمِلَةٌ لِشُرُوطِهَا الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي مِنْهَا أَنْ لَا يُكَذِّبَهَا الْعُرْفُ، وَكَانَتْ مِمَّا تَثْبُتُ بِدُونِ الشَّاهِدَيْنِ
وَاعْلَمْ أَنَّ السِّحْرَ يَلْتَبِسُ بِالْهِيمْيَاءِ وَالسِّيمْيَاءِ وَالطَّلْسَمَاتِ وَالْأَوْفَاقِ وَالْخَوَاصِّ الْمَنْسُوبَةِ لِلْحَقَائِقِ وَالْخَوَاصِّ الْمَنْسُوبَةِ لِلنُّفُوسِ وَالرُّقَى وَالْعَزَائِمِ وَالِاسْتِخْدَامَات فَهَذِهِ عَشْرُ حَقَائِقَ.
(الْحَقِيقَةُ الْأُولَى) السِّحْرُ وَقَدْ وَرَدَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ بِذَمِّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69] وَفِي السُّنَّةِ أَيْضًا لَمَّا عَدَّ عليه السلام الْكَبَائِرَ قَالَ وَالسِّحْرُ غَيْرَ أَنَّ الْكُتُبَ الْمَوْضُوعَةَ فِي السِّحْرِ وُضِعَ فِيهَا هَذَا الِاسْمُ عَلَى مَا هُوَ كَذَلِكَ كُفْرٌ وَمُحَرَّمٌ وَعَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ السَّحَرَةُ يُطْلِقُونَ لَفْظَ السِّحْرِ عَلَى الْقِسْمَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعَرُّضِ لِبَيَانِ ذَلِكَ فَنَقُولُ السِّحْرُ اسْمُ جِنْسٍ لِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ.
(النَّوْعُ الْأَوَّلُ) السِّيمِيَاءُ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا يُرَكَّبُ مِنْ خَوَاصَّ أَرْضِيَّةٍ كَدُهْنٍ خَاصٍّ أَوْ مَائِعَاتٍ خَاصَّةٍ أَوْ كَلِمَاتٍ خَاصَّةٍ تُوجِبُ تَخَيُّلَاتٍ خَاصَّةً وَإِدْرَاكَ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ أَوْ بَعْضًا لِحَقَائِقَ مِنْ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْمُومَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ وَالْمَلْمُوسَاتِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
السِّحْرَ عَلَى الْجُمْلَةِ مِنْهُ مَا هُوَ خَارِقٌ لِلْعَوَائِدِ، وَمِنْهُ غَيْرُ ذَلِكَ وَجَمِيعُهُ مِنْ جُمْلَةِ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى الْجَائِزَةِ عَقْلًا فَلَا غَرْوَ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَالِكَ مَانِعٌ سَمْعِيٌّ مِنْ وُقُوعِ بَعْضِ تِلْكَ الْجَائِزَاتِ وَقَدْ سَبَقَتْ لَهُ حِكَايَةُ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى إحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَفَلْقِ الْبَحْرِ، وَإِنْطَاقِ الْبَهَائِمِ وَهَذَا الْإِجْمَاعُ الَّذِي حَكَاهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهُ إلَّا التَّوْقِيفَ، وَلَا أَعْرِفُ الْآنَ صِحَّةَ ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ، وَلَا التَّوْقِيفَ الَّذِي اسْتَنَدَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
نَوْعَانِ: الْأَوَّلُ مَا يَشْهَدُ بِهَا الْعُرْفُ فَيُشْرَعُ التَّحْلِيفُ بِمُجَرَّدِهَا بِلَا شَرْطِ خُلْطَةٍ وَنَحْوِهَا، وَتَتَّفِقُ الْأَئِمَّةُ فِيهَا، وَحَصَرَ أَبُو عُمَرَ هَذَا النَّوْعَ فِي خَمْسِ مَوَاطِنَ:
(الْمَوْطِنُ الْأَوَّلُ) أَهْلُ التُّهَمِ وَالْعَدَاءِ وَالظُّلْمِ لِكُلِّ مَنْ كَانَ مُتَّهَمًا بِمَا ادَّعَى عَلَيْهِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ.
(الْمَوْطِنُ الثَّانِي) الصُّنَّاعُ فِيمَا ادَّعَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ أَنَّهُمْ اسْتَصْنَعُوهُمْ، وَالتُّجَّارُ لِمَنْ تَاجَرَهُمْ، وَأَهْلُ الْأَسْوَاقِ، وَأَهْلُ الْحَوَانِيتِ فِيمَا ادَّعَى عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ بَاعُوهُ مِمَّا يُرِيدُونَهُ، وَيَتَّجِرُونَ فِيهِ بِخِلَافِ غَيْرِ مَا يُرِيدُونَهُ وَيَتَّجِرُونَ فِيهِ فَلَا يَمِينَ فِيهِ إلَّا بِشُبْهَةٍ.
(الْمَوْطِنُ الثَّالِثُ) الْقَائِلُ عِنْدَ مَوْتِهِ لِي عِنْدَ فُلَانٍ دَيْنٌ أَوْ تَدَّعِي وَرَثَةُ الْمُتَوَفَّى عَلَى رَجُلٍ بِأَنَّ لِمُوَرِّثِهِمْ مَالًا عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ نَصُّوهُ لِأَنَّ مَنْ ادَّعَى بِسَبَبٍ مُتَوَفًّى فَهُوَ بِخِلَافِ الْحَيِّ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ.
(الْمَوْطِنُ الرَّابِعُ) الْمُتَضَيِّفُ عِنْدَ الرَّجُلِ فَيَدَّعِي عَلَيْهِ.
(الْمَوْطِنُ الْخَامِسُ) الْعَارِيَّةُ الْوَدِيعَةُ كَأَنْ يَنْزِلَ الْغَرِيبُ الْمَدِينَةَ فَيَدَّعِي أَنَّهُ اسْتَوْدَعَ رَجُلًا مَالًا، وَزَادَ فِي التَّبْصِرَةِ مَوْطِنًا سَادِسًا، وَهُوَ الْقَاتِلُ يَدَّعِي أَنَّ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ عَفَا عَنْهُ فَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ عَنْ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ يَحْلِفُ، وَأَنْكَرَهُ أَشْهَبُ وَمَوْطِنًا سَابِعًا، وَهُوَ مَنْ بَاعَ سِلْعَةَ رَجُلٍ، وَادَّعَى أَنَّهُ أَمَرَهُ بِبَيْعِهَا، وَأَنْكَرَهُ صَاحِبُهَا، وَهِيَ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا فَإِنَّهُ يَحْلِفُ، وَيَأْخُذُهَا، وَمَوْضِعًا ثَامِنًا، وَهُوَ مَنْ ادَّعَى عَلَى مَنْ لَقِيَهُ بَقِيَّةَ كِرَاءٍ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ مَا اكْتَرَى مِنْهُ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ صَاحِبُ الدَّابَّةِ حَلَفَ إنْ كَانَ مُنْكِرًا.
(النَّوْعُ الثَّانِي) مَا لَمْ يَتَعَرَّضْ الْعُرْفُ لِتَكْذِيبِهَا، وَلَا تَصْدِيقِهَا فَلَا يُشْرَعُ فِيهَا التَّحْلِيفُ إلَّا بِإِثْبَاتِ خُلْطَةِ مَشْهُورِ الدَّعْوَى دَيْنٌ عَلَى غَيْرِ مَنْ تَقَدَّمَ فِي الْمَوَاطِنِ الْمَذْكُورَةِ، وَكَمَا إذَا ادَّعَى عَلَى الرَّجُلِ الْمُبَرَّزِ مَنْ لَيْسَ مِنْ شَكْلِهِ وَلَا نَمَطِهِ لَمْ تَجِبْ لَهُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ إلَّا بِثُبُوتِ الْخُلْطَةِ كَمَا فِي التَّبْصِرَةِ عَنْ وَثَائِقِ ابْنِ الْهِنْدِيِّ، وَلِأَصْحَابِنَا فِي الْخُلْطَةِ الَّتِي اُشْتُرِطَتْ فِي هَذَا النَّوْعِ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:(الْأَوَّلُ) لِابْنِ الْقَاسِمِ هِيَ أَنْ يُسَالِفَهُ أَوْ يُبَايِعَهُ مِرَارًا، وَإِنْ تَقَابَضَا فِي ذَلِكَ الثَّمَنِ أَوْ السِّلْعَةِ، وَتَفَاصَلَا قَبْلَ التَّفْرِقَةِ. (وَالثَّانِي) لِسَحْنُونٍ لَا بُدَّ مِنْ الْبَيْعِ بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ. (وَالثَّالِثُ) لِلْأَبْهَرِيِّ هِيَ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى تَشْبِيهٌ أَنْ يَدَّعِيَ مِثْلَهَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا يَحْلِفُ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ الْمُدَّعِي بِلَطْخٍ.
(وَالرَّابِعُ) لِلْقَاضِي أَبِي حَسَنِ بْنِ الْقَصَّارِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُشْبِهُ أَنْ يُعَامَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا فِي الْأَصْلِ قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي التَّبْصِرَةِ وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ، وَفَسَّرَ أَصْبَغُ الْخُلْطَةَ فَلَمْ يَرَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، وَلَا الْجُلَسَاءُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا الْجِيرَانُ خُلْطَةً، وَلَمْ يَرَهَا إلَّا بِتَكَرُّرِ الْمُبَايَعَةِ، وَأَنْ يَبِيعَ مِنْهُ بِالنَّسِيئَةِ اهـ.
قُلْت وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا هُوَ مُرَادُ سَحْنُونٍ فَافْهَمْ قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ، وَفَائِدَةُ اشْتِرَاطِ كُلٍّ مِنْ تَكْرَارِ الْمُبَايَعَةِ وَالنَّسِيئَةِ أَنَّهُ لَوْ بَايَعَهُ مَرَّةً بِالنَّقْدِ، وَقَبَضَ الثَّمَنَ وَتَفَاصَلَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ خُلْطَةً لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمَا بَقِيَّةٌ تُوجِبُ الْيَمِينَ قَالَ وَوَقَعَ فِي كَلَامِ ابْنِ رَاشِدٍ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ خُلْطَةِ الْمُبَايَعَةِ وَبَيْنَ خُلْطَةِ الْمُصَاحَبَةِ وَالْمُؤَاخَاةِ فَإِنَّهُ بَعْدَ قَوْلِهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ كَفَالَةً فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا بُدَّ مِنْ الْخُلْطَةِ قَالَ يُرِيدُ خُلْطَةَ صُحْبَةٍ وَمُؤَاخَاةٍ لَا خُلْطَةَ مُبَايَعَةٍ قَالَ ابْنُ مُحْرِزٍ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ الْخُلْطَةَ تُعْتَبَرُ بِصُحْبَةِ مُدَّعِي الدَّيْنِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْحَمَالَةِ، وَالصَّوَابُ عِنْدِي أَنَّهُ يُرَاعِي ذَلِكَ مِنْ الْغَرِيمِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْحَمَالَةُ.
وَوَجْهُ ابْنِ يُونُسَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ بِأَنَّ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ يَقُولُ إنَّمَا وَثِقْت بِمُبَايَعَةِ مَنْ لَا أَعْرِفُ لِكَفَالَتِك إيَّاهُ فَلِذَلِكَ تَوَجَّهَتْ لَهُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ اهـ.
قُلْت، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ خَامِسٌ فِي الْخُلْطَةِ
وَالْمَسْمُوعَاتِ وَقَدْ يَكُونُ لِذَلِكَ وُجُودٌ حَقِيقِيٌّ يَخْلُقُ اللَّهُ تِلْكَ الْأَعْيَانَ عِنْدَ تِلْكَ الْمُحَاوَلَاتِ وَقَدْ لَا تَكُونُ لَهُ حَقِيقَةٌ بَلْ تَخَيُّلُ صَرْفٍ وَقَدْ يَسْتَوْلِي ذَلِكَ عَلَى الْأَوْهَامِ حَتَّى يَتَخَيَّلَ الْوَهْمُ مُضِيَّ السِّنِينَ الْمُتَطَاوِلَةِ فِي الزَّمَنِ الْيَسِيرِ وَتَكَرُّرَ الْفُصُولِ وَتَخَيَّلَ السِّنَّ وَحُدُوثَ الْأَوْلَادِ وَانْقِضَاءَ الْأَعْمَارِ فِي الْوَقْتِ الْمُتَقَارِبِ مِنْ السَّاعَةِ وَنَحْوِهَا وَيَسْلُبُ الْفِكْرَ الصَّحِيحَ بِالْكُلِّيَّةِ وَيَصِيرُ أَحْوَالُ الْإِنْسَانِ مَعَ تِلْكَ الْمُحَاوَلَاتِ كَحَالَاتِ النَّائِمِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ وَيَخْتَصُّ ذَلِكَ كُلُّهُ بِمَنْ عُمِلَ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يُعْمَلْ لَهُ لَا يَجِدُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
(النَّوْعِ الثَّانِي) الْهِيمْيَاءِ وَامْتِيَازُهَا عَنْ السِّيمِيَاءِ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ يُضَافُ لِلْآثَارِ السَّمَاوِيَّةِ مِنْ الِاتِّصَالَاتِ الْفَلَكِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَحْوَالِ الْأَفْلَاكِ فَيَحْدُثُ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَخَصَّصُوا هَذَا النَّوْعَ لِهَذَا الِاسْمِ تَمْيِيزًا بَيْنَ الْحَقَائِقِ.
(النَّوْعُ الثَّالِثُ) بَعْضُ خَوَاصِّ الْحَقَائِقِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَغَيْرِهَا كَمَا تُؤْخَذُ سَبْعٌ مِنْ الْحِجَارَةِ فَيُرْجَمُ بِهَا نَوْعٌ مِنْ الْكِلَابِ شَأْنُهُ إذَا رَمَى بِحَجَرٍ عَضَّهُ وَبَعْضُ الْكِلَابِ لَا يَعَضُّهُ فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ إذَا رُمِيَ بِهَذِهِ السَّبْعَةِ الْأَحْجَارِ فَيَعَضُّهَا كُلَّهَا لُقِطَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَطُرِحَتْ فِي مَاءٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ ظَهَرَتْ فِيهِ آثَارٌ عَجِيبَةٌ خَاصَّةٌ نَصَّ عَلَيْهَا السَّحَرَةُ وَنَحْوُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْخَوَاصِّ الْمُغَيِّرَةِ لِأَحْوَالِ النُّفُوسِ، وَأَمَّا خَوَاصُّ الْحَقَائِقِ الْمُخْتَصَّةِ بِانْفِعَالَاتِ الْأَمْزِجَةِ صِحَّةً أَوْ سَقَمًا نَحْوَ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ مِنْ الْجَمَادِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ الْمَسْطُورَةِ فِي كُتُبِ الْأَطِبَّاءِ وَالْعَشَّابِينَ والطبائعيين فَلَيْسَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ بَلْ هَذَا مِنْ عِلْمِ الطِّبِّ لَا مِنْ عِلْمِ السِّحْرِ وَيَخْتَصُّ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ قَوْلُ ابْنِ نَافِعٍ أَنَّ الْخُلْطَةَ لَا تُشْتَرَطُ فِي هَذَا النَّوْعِ كَمَا فِي تَبْصِرَةِ ابْنِ فَرْحُونٍ قَالَ وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ مِثْلُهُ، وَأَنَّ الْيَمِينَ تَجِبُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ خُلْطَةٍ، وَبِهِ أَخَذَ ابْنُ لُبَابَةَ، وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» اهـ.
وَفِي الْأَصْلِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَنَا مَا رَوَاهُ سَحْنُونٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إذَا كَانَتْ بَيْنَهُمَا خُلْطَةٌ» ، وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه لَا يَدَّعِي الْحَاكِمُ عَلَى الْخَصْمِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ بَيْنَهُمَا مُعَامَلَةً، وَلَمْ يُرْوَ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ عَمَلَ الْمَدِينَةِ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَتَجَرَّأَ السُّفَهَاءُ عَلَى ذَوِي الْأَقْدَارِ بِتَبْذِيلِهِمْ عِنْدَ الْأَحْكَامِ بِالتَّحْلِيفِ، وَذَلِكَ شَاقٌّ عَلَى ذَوِي الْهَيْئَاتِ، وَرُبَّمَا الْتَزَمُوا مَا لَا يَلْزَمْهُمْ مِنْ الْجُمَلِ الْعَظِيمَةُ مِنْ الْمَالِ فِرَارًا مِنْ الْحَلِفِ كَمَا فَعَلَهُ عُثْمَانُ رضي الله عنه، وَقَدْ يُصَادِفُهُ عَقِبَ الْحَلِفِ مُصِيبَةٌ فَيُقَالُ هِيَ بِسَبَبِ الْحَلِفِ فَيَتَعَيَّنُ حَسْمُ الْبَابِ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ مُرَجِّحٍ لِأَنَّ صِيَانَةَ الْأَعْرَاضِ وَاجِبَةٌ، وَالْقَوَاعِدُ تَقْتَضِي دَرْءَ مِثْلِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ، وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ بِدُونِ زِيَادَةٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ مُدَّعًى عَلَيْهِ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ مَا ذَكَرَ مِنْ الشَّرْطِ فَجَوَابُهُ مِنْ جِهَتَيْنِ:
(الْأُولَى) أَنَّ مَقْصُودَ الْحَدِيثِ بَيَانُ مَنْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَمَنْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ لَا بَيَانُ حَالِ مَنْ تَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ اللَّفْظَ إذَا وَرَدَ لِمَعْنًى لَا يَحْتَجُّ بِهِ فِي غَيْرِهِ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مُعْرِضٌ عَنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ، وَلِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَقَعَ الرَّدُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي اسْتِدْلَالِهِ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْخَضْرَاوَاتِ بِقَوْلِهِ عليه السلام «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» بِأَنَّ مَقْصُودَ الْحَدِيثِ بَيَانُ الْجُزْءِ الْوَاجِبِ فِي الزَّكَاةِ لَا بَيَانُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ.
(الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ) أَنَّ الْعَامَّ فِي الْأَشْخَاصِ غَيْرُ عَامٍّ فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْبِقَاعِ وَالْمُتَعَلِّقَاتِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مُطْلَقًا فِي أَحْوَالِ الْحَالِفِينَ الْمُحْتَمِلَةِ عَلَى الْحَالَةِ الْمُحْتَمِلَةِ، وَهِيَ الْمُتَقَدِّمَةُ الَّتِي فِيهَا الْخُلْطَةُ لِأَنَّهَا الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا فَلَا يَحْتَجَّ بِهِ فِي غَيْرِهَا، وَإِلَّا لَكَانَ عَامًّا فِي الْأَحْوَالِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ عليه السلام «شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ» ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُخَالَطَةً فَجَوَابُهُ مِنْ جِهَتَيْنِ أَيْضًا:
(الْأُولَى) أَنَّ مَقْصُودَهُ بَيَانُ الْحَصْرِ، وَبَيَانُ مَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْهُمَا لَا بَيَانُ شَرْطِ ذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْ شَرْطِ الْبَيِّنَةِ مِنْ الْعَدَالَةِ وَغَيْرِهَا
(الْجِهَةُ الثَّالِثَةُ) أَنَّهُ لَيْسَ عَامًّا فِي الْأَشْخَاصِ لِأَنَّ الْمُخَالَطَةَ لِلشَّخْصِ الْوَاحِدِ لَا تَعُمُّ فَيُحْمَلُ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ، وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِأَنَّ الْحُقُوقَ قَدْ تَثْبُتُ بِدُونِ الْخُلْطَةِ فَاشْتِرَاطُهَا يُؤَدِّي إلَى ضَيَاعِ الْحُقُوقِ، وَتَخْتَلُّ حِكْمَةُ الْحُكَّامِ فَجَوَابُهُ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَسَلُّطِ الْفَسَقَةِ السَّفَلَةِ عَلَى الْأَتْقِيَاءِ الْأَخْيَارِ عِنْدَ الْقُضَاةِ، وَأَنَّهُ يَفْتَحُ بَابَ دَعْوَى أَحَدِ الْعَامَّةِ عَلَى الْخَلِيفَةِ أَوْ الْقَاضِي أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ أَوْ عَلَى أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ قَاوَلَهُ، وَعَاقَدَهُ عَلَى كَنْسِ مِرْحَاضِهِ أَوْ خِيَاطَةِ قَلَنْسُوَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْطَعُ بِكَذِبِهِ فِيهِ فَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ اشْتِرَاطِ الْخُلْطَةِ هُوَ الْمَنْهَجُ الْقَوِيمُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ النُّصُوصِ وَالْقَوَاعِدِ، وَسَلَّمَهُ ابْنُ الشَّاطِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَصْلٌ) فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْفَرْقِ
(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) قَالَ فِي الْجَوَاهِرِ تَثْبُتُ الْخُلْطَةُ حَيْثُ اشْتَرَطَتْ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ وَالشَّاهِدَيْنِ وَالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لِأَنَّهَا أَسْبَابُ الْأَمْوَالِ فَتَلْحَقُ بِهَا فِي الْحِجَاجِ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ مَنْ أَقَامَ بِالْخُلْطَةِ شَاهِدًا وَاحِدًا حَلَفَ مَعَهُ، وَتَثْبُتُ الْخُلْطَةُ ثُمَّ يَحْلِفُ الْمَطْلُوبُ حِينَئِذٍ، وَقَالَهُ ابْنُ نَافِعٍ وَابْنُ كِنَانَةَ، وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ بَطَّالٍ أَنَّ