الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَحِينَئِذٍ نَقُولُ إنَّ مُدْرَكَ رَدِّ الشَّهَادَةِ إنَّمَا هُوَ الظُّهُورُ الْقَوِيُّ لِأَنَّهُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ الْعَدَالَةِ السَّابِقَةِ.
(الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) قَالَ الْبَاجِيَّ قَالَ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ وَالشَّافِعِيُّ لَا بُدَّ فِي تَوْبَةِ الْقَاذِفِ مِنْ تَكْذِيبِهِ لِنَفْسِهِ لِأَنَّا قَضَيْنَا بِكَذِبِهِ فِي الظَّاهِرِ لَمَّا فَسَّقْنَاهُ فَلَوْ لَمْ يُكَذِّبْ نَفْسَهُ لَكَانَ مُصِرًّا عَلَى الْكَذِبِ الَّذِي فَسَّقْنَاهُ لِأَجْلِهِ فِي الظَّاهِرِ، وَعَلَيْهِ إشْكَالَانِ:(أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ صَادِقًا فِي قَذْفِهِ فَتَكْذِيبُهُ لِنَفْسِهِ كَذِبٌ فَكَيْفَ تُشْتَرَطُ الْمَعْصِيَةُ فِي التَّوْبَةِ الَّتِي هِيَ ضِدُّهَا، وَنَجْعَلُ الْمَعَاصِيَ سَبَبَ صَلَاحِ الْعَبْدِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ وَرِفْعَتِهِ.
(ثَانِيهِمَا) أَنَّهُ إنْ كَانَ كَاذِبًا فِي قَذْفِهِ فَهُوَ فَاسِقٌ أَوْ صَادِقًا فَهُوَ عَاصٍ لِأَنَّ تَعْيِيرَ الزَّانِي بِزِنَاهُ مَعْصِيَةٌ فَكَيْفَ يَنْفَعُهُ تَكْذِيبُ نَفْسِهِ مَعَ كَوْنِهِ عَاصِيًا بِكُلِّ حَالٍ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْكَذِبَ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ جَائِزٌ كَالرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ، وَلِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَهَذَا التَّكْذِيبُ فِيهِ مَصْلَحَةُ السَّتْرِ عَلَى الْمَقْذُوفِ، وَتَقْلِيلُ الْأَذِيَّةِ وَالْفَضِيحَةِ عِنْدَ النَّاسِ، وَقَبُولُ شَهَادَتِهِ فِي نَفْسِهِ، وَعَوْدُهُ إلَى الْوِلَايَةِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعَدَالَةُ، وَتَصَرُّفُهُ فِي أَمْوَالِ أَوْلَادِهِ وَتَزْوِيجُهُ لِمَنْ يَلِي عَلَيْهِ، وَتَعَرُّضُهُ لِلْوِلَايَاتِ الشَّرْعِيَّةِ
(وَعَنْ الثَّانِي) أَنَّ تَعْيِيرَ الزَّانِي بِزِنَاهُ صَغِيرَةٌ لَا تَمْنَعُ الشَّهَادَةَ، وَقَالَ مَالِكٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ وَلَا قَبُولِ شَهَادَتِهِ تَكْذِيبُهُ لِنَفْسِهِ بَلْ صَلَاحُ حَالِهِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ كَسَائِرِ الذُّنُوبِ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ التُّهْمَةِ الَّتِي تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْعَدَالَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا تُرَدُّ بِهِ]
(الْفَرْقُ الثَّلَاثُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ التُّهْمَةِ الَّتِي تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْعَدَالَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا تُرَدُّ بِهِ)
اعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى رَدِّ الشَّهَادَةِ بِالتُّهْمَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لَكِنْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي بَعْضِ الرُّتَبِ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ أَنَّ التُّهْمَةَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ مُجْمَعٌ عَلَى اعْتِبَارِهَا لِقُوَّتِهَا، وَمُجْمَعٌ عَلَى إلْغَائِهَا لِخِفَّتِهَا، وَمُخْتَلَفٌ فِيهَا هَلْ تَلْحَقُ بِالرُّتْبَةِ الْعُلْيَا فَتَمْنَعُ أَوْ بِالرُّتْبَةِ الدُّنْيَا فَلَا تَمْنَعُ فَأَعْلَاهَا شَهَادَةُ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ مُجْمَعٌ عَلَى رَدِّهَا، وَأَدْنَاهَا شَهَادَةُ الْإِنْسَانِ لِرَجُلٍ مِنْ قَبِيلَتِهِ أُجْمِعَ عَلَى اعْتِبَارِهَا، وَبُطْلَانِ هَذِهِ التُّهْمَةِ، وَمِثَالُ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الرُّتْبَتَيْنِ شَهَادَتُهُ لِأَخِيهِ أَوْ لِصَدِيقِهِ الْمُلَاطِفِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَوَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي عَمُودَيْ النَّسَبِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ لَا يَشْهَدُ لَهُمْ، وَخَالَفُونَا فِي الْأَخِ وَالصَّدِيقِ الْمُلَاطِفِ، وَوَافَقَنَا ابْنُ حَنْبَلٍ فِي الزَّوْجَيْنِ فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ لَهُمَا، وَخَالَفَنَا الشَّافِعِيُّ فَقَبِلَ، وَوَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ فِي اعْتِبَارِ الْعَدَاوَةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ فِي الدِّينِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ أَوْ الْيَمِينَ مَعَ شَاهِدٍ أَوْ مَعَ نُكُولٍ عَلَى الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ الْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ مَعَ الْيَمِينِ أَوْ النُّكُولِ لِأَنَّهُمَا يُبْعِدَانِ التُّهْمَةَ عَنْ الدَّعْوَى، وَيُقِرُّ بِأَنَّهَا مِنْ الصِّحَّةِ قَائِمٌ مَقَامَ الْعَدَالَةِ لِرُجْحَانِ الصِّدْقِ عَلَى الْكَذِبِ حِينَئِذٍ كَمَا تُرَجَّحُ بِالْعَدَالَةِ، وَقِسْ عَلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا فَيَحْصُلُ لَك الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ إجْمَاعًا إذَا كَانَ مِنْ الضَّرُورَةِ أَوْ عَلَى الْخِلَافِ إذَا كَانَ مِنْ الْحَاجَةِ وَثَمَّ مُعَارِضٌ، وَإِلَّا فَلَا خِلَافَ أَوْ كَانَ مِنْ التَّتِمَّةِ لِتَعَارُضِ الشَّائِبَيْنِ فِيهِ وَبَيْنَ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ إذَا كَانَ مِمَّا خَرَجَ عَنْ الثَّلَاثَةِ كَمَا فِي الْأَصْلِ، وَسَلَّمَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنِ الشَّاطِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ) قَالَ الْعَلَّامَةُ الشِّرْبِينِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ، وَلَيْسَ مِنْهُ أَيْ مِنْ الْمُرْسَلِ أَيْ الْمُطْلَقِ عَنْ الِاعْتِبَارِ وَالْإِلْغَاءِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ مَصْلَحَةٌ ضَرُورِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ قَطْعِيَّةٌ لِأَنَّهَا مِمَّا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِهَا فَهِيَ حَقٌّ قَطْعًا، وَاشْتَرَطَهَا الْغَزَالِيُّ لِلْقَطْعِ بِالْقَوْلِ بِهِ لَا لِأَصْلِ الْقَوْلِ بِهِ قَالَ، وَالظَّنُّ الْقَرِيبُ مِنْ الْقَطْعِ كَالْقَطْعِ اهـ.
مَا خُلَاصَتُهُ نَقْلًا عَنْ السَّعْدِ فِي التَّلْوِيحِ أَنَّ الْإِمَامَ الْغَزَالِيَّ قَسَمَ الْمَصَالِحَ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: (الْقِسْمُ الْأَوَّلُ) مَا شَهِدَ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِهِ، وَهِيَ أَصْلٌ فِي الْقِيَاسِ وَحُجَّةٌ، وَهِيَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ مِنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْخَمْسَةِ الضَّرُورِيَّةِ أَيْ الَّتِي هِيَ حِفْظُ الدِّينِ وَالنَّفْسِ وَالْعَقْلِ وَالنَّسَبِ وَالْمَالِ فَكُلُّ مَا يَتَضَمَّنُ حِفْظَ هَذِهِ الْخَمْسَةِ الضَّرُورِيَّةِ، وَكُلُّ مَا يُقَوِّيهَا فَهِيَ مَصْلَحَةٌ، وَدَفْعُهَا مَفْسَدَةٌ، وَإِذَا أَطْلَقْنَا الْمُعَيَّنَ الْمُخَيَّلَ، وَالْمُنَاسِبَ فِي بَابِ الْقِيَاسِ أَرَدْنَا بِهِ هَذَا الْجِنْسَ.
(الْقِسْمُ الثَّانِي) مَا شَهِدَ الشَّرْعُ بِبُطْلَانِهِ كَنَفْيِ الصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الْمَلِكِ أَيْ السُّلْطَانِ. (الْقِسْمُ الثَّالِثُ) مَا لَمْ يَشْهَدْ لَهُ الشَّرْعُ بِالِاعْتِبَارِ وَلَا بِالْبُطْلَانِ، وَهَذَا فِي مَحَلِّ النَّظَرِ، وَهِيَ الْمَصَالِحُ الْحَاجِيَّةُ وَالتَّحْسِينِيَّة فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِمُجَرَّدِهَا مَا لَمْ تُعَضَّدْ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى وَضْعِ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ، وَإِذَا اعْتَضَدَ بِأَصْلٍ فَهُوَ قِيَاسٌ اهـ.
وَمَا مَشْي عَلَيْهِ فِي هَذَا الْقِسْمِ الْمُسَمَّى بِالْمُرْسَلِ، وَبِالْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ هُوَ أَحَدُ أَقْوَالٍ ذَكَرَهَا الْإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ فِي كِتَابِهِ الِاعْتِصَامِ، وَعَزَى هَذَا الْقَوْلَ إلَى الْقَاضِي وَطَائِفَةٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ. (وَالثَّانِي) وَهُوَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ وَبِنَاءُ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِمَالِكٍ (وَالثَّالِثُ) وَهُوَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ بِشَرْطِ قُرْبِهِ مِنْ مَعَانِي الْأُصُولِ لِلشَّافِعِيِّ، وَمُعْظَمِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ هَذَا مَا حَكَى الْإِمَامُ الْجُوَيْنِيُّ اهـ.
وَمِنْ نَظَائِرِ هَذَا الْقِسْمِ رَمْيُ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ السَّفِينَةِ فِي الْبَحْرِ لِنَجَاةِ الْبَاقِينَ فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ مِنْ
الْعَدَاوَةُ مُطْلَقًا، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُتَوَسِّطَاتِ لَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ» احْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وَبِقَوْلِهِ {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الظَّوَاهِرِ وَالْفِقْهِ مَعَ مَنْ كَانَتْ الْقَوَاعِدُ وَالنُّصُوصُ مَعَهُ أَظْهَرُ، وَمِنْ ذَلِكَ مَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِفِسْقِهِ أَوْ كُفْرِهِ أَوْ صِغَرِهِ أَوْ رَقِّهِ ثُمَّ أَدَّاهَا بَعْدَ زَوَالِ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَإِنَّهُ يُتَّهَمُ فِي تَنْفِيذِ مَا رُدَّ فِيهِ مَنَعْنَاهَا نَحْنُ وَابْنُ حَنْبَلٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنهما يُقْبَلُ الْكُلَّ إلَّا الْفَاسِقَ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْفَاسِقَ تُسْمَعُ شَهَادَتُهُ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي عَدَالَتِهِ فَيَتَحَقَّقُ الرَّدُّ بِالظُّهُورِ عَلَى الْفِسْقِ، وَأُولَئِكَ لَمْ تُسْمَعْ شَهَادَتُهُمْ لِمَا عُلِمَ مِنْ صِفَاتِهِمْ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرَّدُّ الْبَاعِثُ عَلَى التُّهْمَةِ، وَلَنَا شَهَادَةُ الْعَوَائِدِ، وَلِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه، وَلِأَنَّ الْعِلْمَ بِصِفَاتِهِمْ لَوْ وَقَعَ قَبْلَ الْأَدَاءِ لَمَا وَقَعَ الْأَدَاءُ، وَإِنَّمَا مَنَعْنَا حَيْثُ وَقَعَ الْأَدَاءُ فَصِفَاتُهُمْ حِينَئِذٍ تَكُونُ مَجْهُولَةً فَسَقَطَ الْفَرْقُ، وَعَكْسُهُ لَوْ حَصَلَ الْبَحْثُ عَنْ الْفِسْقِ قَبْلَ الْأَدَاءِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ إذَا لَمْ تُرَدَّ، وَصَلَحَتْ حَالُهُ، وَمَنَعْنَا شَهَادَةَ أَهْلِ الْبَادِيَةِ إذَا قُصِدُوا فِي التَّحَمُّلِ دُونَ أَهْلِ الْحَاضِرَةِ فِي الْبِيَاعَاتِ وَالنِّكَاحِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّ الْعُدُولَ إلَيْهِمْ مَعَ إمْكَانِ غَيْرِهِمْ تُهْمَةٌ فِي إبْطَالِ مَا شَهِدُوا بِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ لَا يُقْبَلُ بَدْوِيٌّ مُطْلَقًا عَلَى قَرَوِيٍّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ تُقْبَلُ مُطْلَقًا، لَنَا الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ، وَفِي أَبِي دَاوُد «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَدْوِيٍّ عَلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ» ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى مَوْضِعِ التُّهْمَةِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُمُومَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى قَبُولِ الشَّهَادَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَحَمَّلُوهُمْ الْحَدِيثَ عَلَى مَنْ لَمْ تُعْلَمْ عَدَالَتُهُ مِنْ الْأَعْرَابِ قَالُوا وَهُوَ أَوْلَى لِقِلَّةِ التَّخْصِيصِ حِينَئِذٍ فِي تِلْكَ الْعُمُومَاتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ أَعْرَابِيًّا شَهِدَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَقَبِلَ شَهَادَتَهُ عَلَى النَّاسِ» ، وَلِأَنَّ مَنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِي الْجِرَاحِ قُبِلَتْ فِي غَيْرِهَا كَالْحَضَرِيِّ، وَلِأَنَّ الْجِرَاحَ آكَدُ مِنْ الْمَالِ فَفِي الْمَالِ أَوْلَى.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ جَمْعَنَا أَوْلَى لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِأَجْلِ عَدَمِ الْعَدَالَةِ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِهِ بِصَاحِبِ الْقَرْيَةِ فَائِدَةٌ بَلْ لِلتُّهْمَةِ، وَعَنْ الثَّانِي نَحْنُ نَقْبَلُهُ فِي الْهِلَالِ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّ الْجِرَاحَ يُقْصَدُ الْخِلْوَاتِ دُونَ الْمُعَامَلَاتِ فَكَانَتْ التُّهْمَةُ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَوْجُودَةً دُونَ الْجِرَاحِ.
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ الْحُرِّ وَالرَّقِيقِ لِأَجْلِ نَجَاةِ الْبَاقِينَ لَكِنْ بَعْدَ رَمْيِ الْأَمْوَالِ غَيْرِ الرَّقِيقِ، وَقَالَ الْمَحَلِّيُّ لَا يَجُوزُ رَمْيُ الْبَعْضِ بِالْقُرْعَةِ لِأَنَّ الْقُرْعَةَ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ نَجَاةَ الْبَاقِينَ لَيْسَ كُلِّيًّا أَيْ مُتَعَلِّقًا بِكُلِّ الْأُمَّةِ اهـ.
وَفِي الْعَطَّارِ عَلَيْهِ ذَكَرَ الصَّلَاحُ الصَّفَدِيُّ أَنَّ مَرْكَبًا كَانَ فِي الْبَحْرِ وَفِيهِ مُسْلِمُونَ وَكُفَّارٌ فَأَشْرَفُوا عَلَى الْغَرَقِ، وَأَرَادُوا لِيَرْمُوا بَعْضَهُمْ إلَى الْبَحْرِ لِتَخِفَّ الْمَرْكَبُ، وَيَنْجُوَ الْبَاقِي فَقَالُوا نَقْتَرِعُ، وَمَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ أَلْقَيْنَاهُ فَقَالَ الرَّيِّسُ نَعُدُّ الْجَمَاعَةَ فَكُلُّ مَنْ كَانَ تَاسِعًا فِي الْعَدَدِ أَلْقَيْنَاهُ فَارْتَضَوْا بِذَلِكَ فَلَمْ يَزَلْ يَعُدُّهُمْ، وَيُلْقِي التَّاسِعَ فَالتَّاسِعَ إلَى أَنْ أَلْقَى الْكُفَّارَ أَجْمَعِينَ، وَسَلِمَ الْمُسْلِمُونَ، وَكَانَ وَضَعَهُمْ عَلَى هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ بِأَنْ وَضَعَ أَرْبَعَةً مُسْلِمِينَ، وَخَمْسَةً كُفَّارًا ثُمَّ مُسْلِمَيْنِ ثُمَّ كَافِرًا إلَى آخِرِ ذَلِكَ، وَوَضَعَ لَهُمْ ضَابِطًا، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ:
اللَّهُ يَقْضِي بِكُلِّ يُسْرٍ
…
وَيَرْزُقُ الضَّعِيفَ حَيْثُ كَانَا
فَمُهْمَلُ الْحُرُوفِ لِلْمُسْلِمِينَ وَمُعْجَمُهَا لِلْكُفَّارِ، وَالِابْتِدَاءُ بِالْمُسْلِمِينَ، وَالسَّيْرُ إلَى جِهَةِ الشِّمَالِ بِالْعَدَدِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ، وَفِيهِ أَيْضًا قَبْلَ ذَلِكَ عَنْ اللُّغْزِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْمُرْسَلِ فِي الشَّرْعِ لَا يُتَصَوَّرُ حَتَّى يُتَكَلَّمَ فِيهِ بِنَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ إذْ الْوَقَائِعُ لَا حَصْرَ لَهَا، وَكَذَا الْمَصَالِحُ، وَمَا مِنْ مَسْأَلَةٍ تَعْرِضُ إلَّا وَفِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ عَلَيْهَا إمَّا بِالْقَبُولِ أَوْ بِالرَّدِّ فَإِنَّا نَعْتَقِدُ اسْتِحَالَةَ خُلُوِّ وَاقِعَةٍ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الدِّينَ قَدْ كَمُلَ.
وَقَدْ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِرَسُولِهِ، وَانْقَطَعَ الْوَحْيُ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ كَمَالِ الدِّينِ قَالَ تَعَالَى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَصَوُّرِهِ أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ تَنْقَسِمُ إلَى مَوَاقِعِ التَّعَبُّدَاتِ، وَالْمُتَّبَعُ فِيهَا النُّصُوصُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَمَا لَمْ تُرْشِدْ النُّصُوصُ إلَيْهِ فَلَا تَعَبُّدَ بِهِ.
وَإِلَى مَا لَيْسَ مِنْ التَّعَبُّدَاتِ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ إلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَلْفَاظِ كَالْأَيْمَانِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالطَّلَاقِ؛ وَقَدْ أَحَالَهَا الشَّرْعُ فِي مُوجِبَاتِهَا إلَى قَضَايَا الْعُرْفِ فِيهَا بِنَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّارِعُ عليه الصلاة والسلام كَالِاكْتِفَاءِ بِالْعِثْكَالِ الَّذِي عَلَيْهِ مِائَةُ شُمْرُوخٍ إذَا حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ مِائَةً لِمَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ أَيُّوبَ عليه السلام وَلَمْ يُنْسَخْ فِي شَرْعِنَا، وَإِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ الْأَلْفَاظِ، وَهُوَ مُنْقَسِمٌ إلَى مَا يَنْضَبِطُ فِي نَفْسِهِ كَالنَّجَاسَاتِ وَالْمَحْظُورَاتِ وَطُرُقِ تَلَقِّي الْمِلْكِ فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ مُنْضَبِطَةٌ، وَمُسْتَنَدَاتُهَا مَعْلُومَةٌ، وَإِلَى مَا لَا يَنْضَبِطُ إلَّا بِالضَّبْطِ فِي مُقَابِلِهِ كَالْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ، وَالْأَفْعَالُ الْمُبَاحَةُ تَنْضَبِطُ بِضَبْطِ النَّجَاسَةِ وَالْحَظْرِ، وَكَذَلِكَ الْأَمْلَاكُ مُنْتَشِرَةٌ تَنْضَبِطُ بِضَبْطِ طُرُقِ النَّقْلِ، وَالْإِيذَاءُ مُحَرَّمٌ عَلَى الِاسْتِرْسَالِ مِنْ غَيْرِ ضَبْطٍ، وَيَنْضَبِطُ بِضَبْطِ مَا اسْتَثْنَى الشَّرْعُ فِي مُقَابَلَتِهِ فَالْوَقَائِعُ إنْ وَقَعَتْ فِي جَانِبِ الضَّبْطِ أُلْحِقَتْ بِهِ
(الْفَرْقُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ وَقَاعِدَةِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ)
فَضَابِطُ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ أَنَّهَا طَلَبٌ مُعَيَّنٌ أَوْ مَا فِي ذِمَّةِ مُعَيَّنٍ أَوْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا لَا تُكَذِّبُهَا الْعَادَةُ فَالْأَوَّلُ كَدَعْوَى أَنَّ السِّلْعَةَ الْمُعَيَّنَةَ اشْتَرَاهَا مِنْهُ أَوْ غُصِبَتْ مِنْهُ، وَالثَّانِي كَالدُّيُونِ وَالسَّلَمِ ثُمَّ الْمُعَيَّنُ الَّذِي يَدَّعِي فِي ذِمَّتِهِ قَدْ يَكُونُ مُعَيَّنًا بِالشَّخْصِ كَزَيْدٍ أَوْ بِالصِّفَةِ كَدَعْوَى الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَالْقَتْلِ عَلَى جَمَاعَةٍ أَوْ أَنَّهُمْ أَتْلَفُوا مُتَمَوِّلًا، وَالثَّالِثُ كَدَعْوَى الْمَرْأَةِ الطَّلَاقَ أَوْ الرِّدَّةَ عَلَى زَوْجِهَا فَيَتَرَتَّبُ لَهَا حَوْزُ نَفْسِهَا، وَهِيَ مُعَيَّنَةٌ أَوْ الْوَارِثُ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا فَيَتَرَتَّبُ لَهُ الْمِيرَاثُ الْمُعَيَّنُ فَهِيَ مَقَاصِدُ صَحِيحَةٌ، وَقَوْلُنَا مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا احْتِرَازٌ مِنْ دَعْوَى عُشْرِ سِمْسِمَةٍ فَإِنَّ الْحَاكِمَ لَا يَسْمَعُ مِثْلَ هَذِهِ الدَّعْوَى لِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ نَفْعٌ شَرْعِيٌّ، وَلِهَذِهِ الدَّعْوَى أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً مُحَقَّقَةً لَا تُكَذِّبُهَا الْعَادَةُ يَتَعَلَّقُ بِهَا غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَفِي الْجَوَاهِرِ لَوْ قَالَ: لِي عَلَيْهِ شَيْءٌ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ لِأَنَّهَا مَجْهُولَةٌ، وَكَذَلِكَ: أَظُنُّ أَنَّ لِي عَلَيْك أَلْفًا أَوْ: لَك عَلَيَّ أَلْفٌ، وَأَظُنُّ أَنِّي قَضَيْتهَا لَمْ تُسْمَعْ لِتَعَذُّرِ الْحُكْمِ بِالْمَجْهُولِ إذْ لَيْسَ بَعْضُ الْمَرَاتِبِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْخَطَرِ بِمُجَرَّدِ الْوَهْمِ مِنْ الْمُدَّعِي، وَقَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ لَا يَصِحُّ دَعْوَى الْمَجْهُولِ إلَّا فِي الْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ لِصِحَّةِ الْقَضَاءِ بِالْوَصِيَّةِ الْمَجْهُولَةِ كَثُلُثِ الْمَالِ، وَالْمَالُ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَصِحَّةُ الْمِلْكِ فِي الْإِقْرَارِ بِالْمَجْهُولِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ، وَيَلْزَمُهُ الْحَاكِمُ بِالتَّعْيِينِ، وَقَالَهُ أَصْحَابُنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ إنْ ادَّعَى بِدَيْنٍ مِنْ الْأَثْمَانِ ذَكَرَ الْجِنْسَ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ، وَالنَّوْعَ مِصْرِيَّةً أَوْ مَغْرِبِيَّةً، وَالصِّفَةَ صِحَاحًا أَوْ مُكَسَّرَةً وَالْمِقْدَارَ وَالسِّكَّةَ، وَيَذْكُرُ فِي غَيْرِ الْأَثْمَانِ الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةَ فِي السَّلَمِ، وَذِكْرُ الْقِيمَةِ مَعَ الصِّفَاتِ أَحْوَطُ، وَمَا لَا تَضْبِطُهُ الصِّفَةُ كَالْجَوَاهِرِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْقِيمَةِ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ، وَيَذْكُرُ فِي الْأَرْضِ وَالدَّارِ اسْمَ الصُّقْعِ وَالْبَلَدِ، وَفِي السَّيْفِ الْمُحَلَّى بِالذَّهَبِ قِيمَتَهُ فِضَّةً، وَبِالْفِضَّةِ قِيمَتَهُ ذَهَبًا أَوْ بِهِمَا قَوَّمَهُ بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ، وَلَا يَلْزَمُ ذِكْرُ سَبَبِ مِلْكِ الْمَالِ بِخِلَافِ سَبَبِ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ لِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ هَاهُنَا دُونَ الْمَالِ بِالْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَهَلْ قَتَلَهُ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ إتْلَافَهُ لَا يُسْتَدْرَكُ بِخِلَافِ الْمَالِ، وَهَذَا كُلُّهُ لَا يُخَالِفُهُ أَصْحَابُنَا، وَقَوَاعِدُنَا تَقْتَضِيهِ غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُمْ وَقَوْلَ أَصْحَابِنَا إنَّ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَإِنْ وَقَعَتْ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ أُلْحِقَتْ بِهِ، وَإِنْ تَرَدَّدَتْ بَيْنَهُمَا، وَتَجَاذَبَهَا الطَّرَفَانِ أُلْحِقَتْ بِأَقْرَبِهِمَا، وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَلُوحَ التَّرْجِيحُ لَا مَحَالَةَ فَخَرَجَ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ مَصْلَحَةٍ تُتَخَيَّلُ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ مَحْبُوسَةٍ بِالْأُصُولِ الْمُتَعَارِضَةِ لَا بُدَّ أَنْ تَشْهَدَ الْأُصُولُ بِرَدِّهَا أَوْ قَبُولِهَا اهـ.
وَفِي التَّلْوِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ وَأَمَّا الْمَصْلَحَةُ الضَّرُورِيَّةُ فَلَا بُعْدَ فِي أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهَا رَأْيُ مُجْتَهِدٍ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ، وَلَهَا نَظَائِرُ مِنْهَا رَمْيُ الْكُفَّارِ الْمُتَتَرِّسِينَ بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرْبِ الْمُؤَدِّي إلَى قَتْلِ التُّرْسِ مَعَهُمْ إذَا قُطِعَ أَوْ ظَنَّ ظَنًّا قَرِيبًا مِنْ الْقَطْعِ بِأَنَّهُمْ إنْ لَمْ يَرْمُوا اسْتَأْصَلُوا الْمُسْلِمِينَ بِالْقَتْلِ التُّرْسَ، وَغَيْرَهُ، وَإِنْ رَمَوْا سَلِمَ غَيْرُ التُّرْسِ فَيَجُوزُ رَمْيُهُمْ لِحِفْظِ بَاقِي الْأُمَّةِ فَإِنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا بِأَدِلَّةٍ خَارِجَةٍ عَنْ الْحَصْرِ أَنَّ تَعْلِيلَ الْقَتْلِ مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ كَمَنْعِهِ بِالْكُلِّيَّةِ لَكِنْ قَتْلُ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ غَرِيبٌ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ مَعَنَا، وَنَحْنُ إنَّمَا نُجَوِّزُ عِنْدَ الْقَطْعِ أَوْ ظَنٍّ قَرِيبٍ مِنْ الْقَطْعِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ تَخَصَّصَ الْحُكْمُ مِنْ الْعُمَومَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْمَنْعِ عَنْ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ لِمَا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الشَّرْعَ يُؤْثِرُ الْحُكْمَ الْكُلِّيَّ عَلَى الْجُزْئِيِّ، وَأَنَّ حِفْظَ أَصْلِ الْإِسْلَامِ أَهَمُّ مِنْ حِفْظِ دَمِ مُسْلِمٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا، وَإِنْ سَمَّيْنَاهُ مَصْلَحَةً مُرْسَلَةً لَكِنَّهَا رَاجِعَةٌ إلَى الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّ مُرَجِّحَ الْمَصْلَحَةِ إلَى حِفْظِ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ الْمَعْلُومَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّ كَوْنَ هَذِهِ الْمَعَانِي عُرِفَتْ لَا بِدَلِيلٍ وَاحِدٍ بَلْ بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ لَا حَصْرَ لَهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ وَتَفَارِيقِ الْأَمَارَاتِ سَمَّيْنَاهَا مَصْلَحَةً مُرْسَلَةً لَا قِيَاسًا إذْ الْقِيَاسُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ. اهـ
بِتَوْضِيحٍ مِنْ الْمَحَلِّيّ قَالَ الشِّرْبِينِيُّ فَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَنَحْنُ إنَّمَا نُجَوِّزُهُ إلَخْ أَنَّهُ هُوَ لَا يَقُولُ بِهِ أَيْ الْمُرْسَلِ عِنْدَ فَقْدِ الشُّرُوطِ أَمَّا غَيْرُهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ بِهِ عِنْدَ الْفَقْدِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا بُعْدَ فِي أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهَا رَأْيُ مُجْتَهِدٍ، وَمِنْ قَوْلِهِ، وَلِأَنَّ كَوْنَ هَذِهِ الْمَعَانِي إلَخْ أَنَّهُ إنَّمَا جَعَلَ هَذِهِ مِنْ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ الدَّلِيلِ، وَإِنْ رَجَعَتْ إلَى الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ لَا لِعَدَمِ الدَّلِيلِ كَمَا فِي غَيْرِهِمَا مِنْ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ فَإِطْلَاقُ الْمُرْسَلِ عَلَيْهَا بِطَرِيقِ الْمُشَابَهَةِ فِي عَدَمِ تَعَيُّنِ الدَّلِيلِ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا لَا لِعَدَمِهِ فَلْيُتَأَمَّلْ اهـ.
وَفِي حَاشِيَةِ الْعَطَّارِ عَنْهُ فِي الْمَنْخُولِ أَنَّهُ ذَكَرَ مِنْ نَظَائِرِهَا أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا انْقِلَابَ أَمْوَالِ الْعَالَمِ بِجُمْلَتِهَا مُحَرَّمَةً لِكَثْرَةِ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ وَاشْتِبَاهِ الْغُصُوبِ بِغَيْرِهَا عَسِرَ الْوُصُولُ إلَى الْحَلَالِ الْمَحْضِ.
وَقَدْ وَقَعَ فَنُبِيحُ لِكُلِّ مُحْتَاجٍ أَنْ يَأْخُذَ مِقْدَارَ كِفَايَتِهِ مِنْ كُلِّ مَالٍ لِأَنَّ تَحْرِيمَ التَّنَاوُلِ يُفْضِي إلَى الْهَلَاكِ، وَتَخْصِيصُهُ بِمِقْدَارِ سَدِّ الرَّمَقِ يُكَفُّ النَّاسَ عَنْ مُعَامَلَاتِهِمْ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَيَتَدَاعَى ذَلِكَ إلَى فَسَادِ الدُّنْيَا وَخَرَابِ