الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْمَالِكِيَّ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إذَا لَمْ يَتَدَلَّك فِي غُسْلِهِ أَوْ يَمْسَحْ جَمِيعَ رَأْسِهِ وَنَحْوَهُ، وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاةِ الْمَالِكِيِّ إذَا لَمْ يُبَسْمِلْ، وَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ وَالْوَرَعَ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ لِصَوْنِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا عَنْ الْبُطْلَانِ عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَالْوَرَعُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ لِتَحْصِيلِ صِحَّةِ الْعِبَادَةِ بَلْ عِبَادَةُ كُلِّ مُقَلِّدٍ لِإِمَامٍ مُعْتَبَرٍ صَحِيحَةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَأَجْمَعَ كُلُّ فَرِيقٍ مَعَ خَصْمِهِ عَلَى صِحَّةِ تَصَرُّفَاتِهِ وَعِبَادَاتِهِ عَلَى وَجْهِ التَّقْلِيدِ الْمُعْتَبَرِ فَإِنْ قُلْت: فَإِذَا كَانَتْ الْعِبَادَةُ الْوَاقِعَةُ صَحِيحَةً بِالْإِجْمَاعِ فَمَا فَائِدَةُ الْوَرَعِ وَكَيْفَ يُشْرَعُ الْوَرَعُ بَعْدَ ذَلِكَ قُلْت: فَائِدَةُ الْوَرَعِ وَسَبَبُ مَشْرُوعِيَّتِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ أَدِلَّةِ الْمُخْتَلِفِينَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ عِبَادَةُ كُلِّ مُقَلِّدٍ لِإِمَامٍ مُعْتَبَرٍ]
قَالَ (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَالِكِيَّ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إذَا لَمْ يَتَدَلَّك فِي غُسْلِهِ، أَوْ يَمْسَحْ جَمِيعَ رَأْسِهِ وَنَحْوُهُ وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاةِ الْمَالِكِيِّ إذَا لَمْ يُبَسْمِلْ وَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ وَالْوَرَعَ إنَّمَا هُوَ لِصَوْنِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا عَنْ الْبُطْلَانِ عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَالْوَرَعُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ لِتَحْصِيلِ صِحَّةِ الْعِبَادَةِ بَلْ عِبَادَةُ كُلِّ مُقَلِّدٍ لِإِمَامٍ مُعْتَبَرٍ صَحِيحَةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَأَجْمَعَ كُلُّ فَرِيقٍ مَعَ خَصْمِهِ عَلَى صِحَّةِ تَصَرُّفَاتِهِ وَعِبَادَتِهِ الْوَاقِعَةِ عَلَى وَجْهِ التَّقْلِيدِ الْمُعْتَبَرِ، فَإِنْ قُلْت: إذَا كَانَتْ الْعِبَادَةُ صَحِيحَةً بِالْإِجْمَاعِ، فَمَا فَائِدَةُ الْوَرَعِ، وَكَيْفَ يُشْرَعُ الْوَرَعُ بَعْدَ ذَلِكَ)
قُلْت: السُّؤَالُ وَارِدٌ قَالَ (قُلْت: فَائِدَةُ الْوَرَعِ وَسَبَبُ مَشْرُوعِيَّتِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ أَدِلَّةِ الْمُخْتَلِفِينَ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
قَارِئٍ وَاحِدٍ فِي رَمَضَانَ، وَقَالَ حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، وَهُمْ يُصَلُّونَ: نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هَذِهِ وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ، فَإِنَّهُ إنَّمَا سَمَّاهَا بِدْعَةً بِاعْتِبَارٍ مَا وَإِلَّا فَقِيَامُ الْإِمَامِ بِالنَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ فِي رَمَضَانَ سُنَّةٌ عَمِلَ بِهَا صَاحِبُ السُّنَّةِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا تَرَكَهَا خَوْفًا مِنْ الِافْتِرَاضِ فَلَمَّا انْقَضَى زَمَنُ الْوَحْيِ زَالَتْ الْعِلَّةُ فَعَادَ الْعَمَلُ بِهَا إلَى نِصَابِهِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَتَأَتَّ لِأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه زَمَانَ خِلَافَتِهِ لِمُعَارَضَةِ مَا هُوَ أَوْلَى بِالنَّظَرِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ صَدْرُ خِلَافَةِ عُمَرَ رضي الله عنه حَتَّى تَأَنَّى النَّظَرَ فَوَقَعَ مِنْهُ لَكِنَّهُ صَارَ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ كَأَنَّهُ أَمْرٌ لَمْ يَجْرِ بِهِ عَمَلُ مَنْ تَقَدَّمَهُ دَائِمًا فَسَمَّاهُ بِذَلِكَ الِاسْمِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ عَلَى خِلَافِ مَا ثَبَتَ مِنْ السُّنَّةِ كَمَا فِي الِاعْتِصَامِ لِأَبِي إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيِّ قُلْت: وَقَدْ جَرَى عَلَى مَا عَمِلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مِنْ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ بِإِمَامٍ وَاحِدٍ فِي الْمَسْجِدِ عَمَلُ الْأَعْصَارِ إلَى عَصْرِنَا فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ مَا عَدَا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ فَإِنَّهُمَا قَدْ اُبْتُدِعَ فِيهِمَا شَرَّفَهُمَا اللَّهُ - تَعَالَى - تَعَدُّدُ الْجَمَاعَاتِ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ أَسْأَلُ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ يُوَفِّقَ أَهْلَهَا لِلْعَمَلِ فِيهَا بِالسُّنَّةِ كَسَائِرِ الْأَمْصَارِ قَالَ الْأَصْلُ: وَكَإِقَامَةِ صُورِ الْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَمْرُ الصَّحَابَةِ بِسَبَبِ أَنَّ الْمَصَالِحَ وَالْمَقَاصِدَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِعَظَمَةِ الْوُلَاةِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ وَكَانَ النَّاسُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ مُعْظَمُ تَعْظِيمِهِمْ إنَّمَا هُوَ بِالدِّينِ وَسَابِقِ الْهِجْرَةِ ثُمَّ اخْتَلَّ النِّظَامُ وَذَهَبَ ذَلِكَ الْقَرْنُ وَحَدَثَ قَرْنٌ آخَرُ لَا يُعَظِّمُونَ إلَّا بِالصُّوَرِ فَتَعَيَّنَ تَفْخِيمُ الصُّوَرِ حَتَّى تَحْصُلَ الْمَصَالِحُ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يَأْكُلُ خُبْزَ الشَّعِيرِ وَالْمِلْحِ وَيَفْرِضُ لِعَامِلِهِ نِصْفَ شَاةٍ كُلَّ يَوْمٍ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْحَالَةَ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا لَوْ عَمِلَهَا غَيْرُهُ لَهَانَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، وَلَمْ يَحْتَرِمُوهُ وَتَجَاسَرُوا عَلَيْهِ بِالْمُخَالَفَةِ فَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يَضَعَ غَيْرَهُ فِي صُورَةٍ أُخْرَى لِحِفْظِ النِّظَامِ وَلِذَلِكَ لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ وَوَجَدَ مُعَاوِيَةُ قَدْ اتَّخَذَ الْحُجَّابَ وَأَرْخَى الْحِجَابَ وَاِتَّخَذَ الْمَرَاكِبَ النَّفِيسَةَ وَالثِّيَابَ الْهَائِلَةَ الْعَلِيَّةَ، وَسَلَكَ مَا يَسْلُكُهُ الْمُلُوكُ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إنَّا بِأَرْضٍ نَحْنُ فِيهَا مُحْتَاجُونَ لِهَذَا فَقَالَ لَهُ لَا آمُرُك، وَلَا أَنْهَاك وَمَعْنَاهُ أَنْتَ أَعْلَمُ بِحَالِك هَلْ أَنْتَ مُحْتَاجٌ إلَى هَذَا فَيَكُونُ حَسَنًا أَوْ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ أَحْوَالَ الْأَئِمَّةِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ وَالْقُرُونِ وَالْأَحْوَالِ؛ فَلِذَلِكَ يَحْتَاجُونَ إلَى تَجْدِيدِ زَخَارِفَ وَسِيَاسَاتٍ لَمْ تَكُنْ قَدِيمًا، وَرُبَّمَا وَجَبَتْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ
(الرَّابِعُ) مَكْرُوهٌ، وَهُوَ مَا تَنَاوَلَتْهُ قَوَاعِدُ الْكَرَاهَةِ، وَأَدِلَّتُهَا مِنْ الشَّرْعِ كَتَخْصِيصِ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ وَغَيْرِهَا بِنَوْعٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ «لِنَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ تَخْصِيصِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ أَوْ لَيْلَتِهِ بِقِيَامٍ» كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ وَكَالزِّيَادَةِ فِي الْمَنْدُوبَاتِ الْمَحْدُودَاتِ بِأَنْ يُجْعَلَ التَّسْبِيحُ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ مِائَةً، وَالْوَارِدُ فِيهِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَالصَّاعُ الْوَاحِدُ الْوَارِدُ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ عَشَرَةُ آصُعٍ بِسَبَبِ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا إظْهَارُ الِاسْتِظْهَارِ عَلَى الشَّارِعِ، وَهُوَ قِلَّةُ أَدَبٍ مَعَهُ؛ لِأَنَّ شَأْنَ الْعُظَمَاءِ إذَا حَدَّدُوا شَيْئًا وَقَفَ عِنْدَهُ، وَعُدَّ الْخُرُوجُ عَنْهُ قِلَّةَ أَدَبٍ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي الْوَاجِبِ أَوْ عَلَيْهِ فَهُوَ حَرَامٌ لَا مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْأَصْلُ وَالْمَزِيدُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِلشَّرَائِعِ، وَهُوَ حَرَامٌ إجْمَاعًا؛ وَلِذَلِكَ نَهَى مَالِكٌ عَنْ إيصَالِ سِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ لِئَلَّا يُعْتَقَدَ أَنَّهَا مِنْ رَمَضَانَ وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ «أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ إلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى الْفَرْضَ وَقَامَ لِيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ اجْلِسْ حَتَّى تَفْصِلَ بَيْنَ فَرْضِك
وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَى كُلِّ دَلِيلٍ فَلَا يَبْقَى فِي النُّفُوسِ تَوَهُّمٌ أَنَّهُ قَدْ أَهْمَلَ دَلِيلًا لَعَلَّ مُقْتَضَاهُ هُوَ الصَّحِيحُ فَبِالْجَمْعِ يَنْتَفِي ذَلِكَ، فَأَثَرُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ فِي جَمِيعِ مُقْتَضَيَاتِ الْأَدِلَّةِ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَةِ وَالتَّصَرُّفِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الْمَالِكِيُّ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاةِ الشَّافِعِيِّ وَبِالْعَكْسِ لَكَانَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ عِنْدَ الْأُخْرَى مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ فِسْقًا لِتَرْكِهَا الصَّلَاةَ طُولَ عُمْرِهَا، وَلَا تُقْبَلُ لَهَا شَهَادَةٌ، وَتَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْفُسَّاقِ أَبَدَ الدَّهْرِ، وَيَطَّرِدُ ذَلِكَ فِي الْفِرَقِ كُلِّهَا مِنْ جِهَةِ مُخَالِفِهَا، وَهَذَا فَسَادٌ عَظِيمٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ بَلْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَجَمِيعُ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَعْدَلِ النَّاسِ عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ، وَلَا يَقُولُ بِفِسْقِ أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَّا مُنَافِقٌ مَارِقٌ مِنْ الدِّينِ
(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَوَّلِ الْعَصْرِ الَّذِي
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَى كُلِّ دَلِيلٍ فَلَا يَبْقَى فِي النَّفْسِ تَوَهُّمٌ أَنَّهُ قَدْ أَهْمَلَ دَلِيلًا لَعَلَّ مُقْتَضَاهُ هُوَ الصَّحِيحُ فَبِالْجَمْعِ يَنْتَفِي ذَلِكَ فَأَثَرُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ فِي جَمِيعِ مُقْتَضَيَاتِ الْأَدِلَّةِ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَةِ وَالتَّصَرُّفِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ) قُلْت: قَدْ تَأَمَّلْت ذَلِكَ فَلَمْ أَجِدْهُ صَحِيحًا وَكَيْفَ يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَ مُقْتَضَى دَلِيلَيْنِ مُوجِبٍ وَمُحَرِّمٍ، وَأَحَدُهُمَا يَقْتَضِي لُزُومَ الْفِعْلِ، وَالثَّانِي يَقْتَضِيَ لُزُومَ التَّرْكِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَمْرِ الْوَاحِدِ مُحَالٌ، وَلَا يُغْنِي فِي ذَلِكَ اعْتِقَادُ اخْتِلَافِ الْإِضَافَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِمَامَيْنِ وَمَا قَالَهُ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ صَحِيحٌ.
، وَكَذَلِكَ مَا قَالَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ وَجَمِيعُ مَا قَالَ فِي الْفُرُوقِ الْخَمْسَةِ بَعْدَ هَذَا الْفَرْقِ صَحِيحٌ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَنَفْلِك فَبِهَذَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَقَالَ لَهُ عليه السلام أَصَابَ اللَّهُ بِك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ» يُرِيدُ عُمَرُ أَنَّ مَنْ قَبْلَنَا وَصَلُوا النَّوَافِلَ بِالْفَرَائِضِ فَاعْتَقَدُوا الْجَمِيعَ وَاجِبًا فَهَلَكُوا بِتَغْيِيرِهِمْ لِلشَّرَائِعِ
(الْخَامِسُ) : مُبَاحٌ، وَهُوَ مَا تَنَاوَلَتْهُ قَوَاعِدُ الْمُبَاحِ وَأَدِلَّتُهُ مِنْ الشَّرْعِ كَاِتِّخَاذِ الْمَنَاخِلِ لِلدَّقِيقِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ شَيْءٍ أَحْدَثُهُ النَّاسُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي الْآثَارِ وَتَلْيِينُ الْعَيْشِ وَإِصْلَاحُهُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ فَوَسَائِلِهِ كَذَلِكَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْبِدْعَةُ إنَّمَا تَنْقَسِمُ لِهَذِهِ الْأَقْسَامِ إذَا نُظِرَ إلَيْهَا بِاعْتِبَارِ مَا يَتَقَاضَاهَا وَيَتَنَاوَلُهَا مِنْ الْقَوَاعِدِ وَالْأَدِلَّةِ فَأُلْحِقَتْ بِمَا تَنَاوَلَهَا مِنْ قَوَاعِدِ وَأَدِلَّةِ الْوُجُوبِ أَوْ التَّحْرِيمِ أَوْ النَّدْبِ أَوْ الْكَرَاهَةِ أَوْ الْإِبَاحَةِ، وَأَمَّا إنْ قُطِعَ النَّظَرُ عَنْ ذَلِكَ وَنُظِرَ إلَى كَوْنِهَا بِدْعَةً مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لَمْ تَكُنْ إلَّا مَكْرُوهَةً أَيْ إمَّا تَنْزِيهًا، وَإِمَّا تَحْرِيمًا فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي الِاتِّبَاعِ، وَالشَّرُّ كُلُّهُ فِي الِابْتِدَاعِ وَلِبَعْضِ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَيُسَمَّى أَبَا الْعَبَّاسِ الْأَبْيَانِيَّ مِنْ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ ثَلَاثٌ لَوْ كُتِبْنَ فِي ظُفْرٍ لَوَسِعَهُنَّ، وَفِيهِنَّ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اتَّبِعْ وَلَا تَبْتَدِعْ اتَّضِعْ وَلَا تَرْتَفِعْ مَنْ تَوَرَّعَ لَا يَتَّسِعُ. اهـ. كَلَامُ الْأَصْلِ بِتَهْذِيبٍ وَزِيَادَةٍ فَقَوْلُهُ: وَالْحَقُّ التَّفْصِيلُ إلَخْ هِيَ الطَّرِيقَةُ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ، وَإِلَيْهَا ذَهَبَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ غَيْرُ وَاحِدٍ كَالْإِمَامِ مُحَمَّدٍ الزَّرْقَانِيِّ فَقَالَ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْمُوَطَّإِ: وَتَنْقَسِمُ الْبِدْعَةُ إلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ وَحَدِيثُ كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ عَامٌّ مَخْصُوصٌ قَالَ: وَالْبِدْعَةُ لُغَةً مَا أُحْدِثَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ وَتُطْلَقُ شَرْعًا عَلَى مُقَابِلِ السُّنَّةِ، وَهِيَ مَا لَمْ تَكُنْ فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم اهـ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ مِنْهُمْ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ وَالْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ شَيْخُ الْأَصْلِ فَفِي الْعَزِيزِيِّ عَلَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ الْعَلْقَمِيِّ قَالَ النَّوَوِيُّ: الْبِدْعَةُ بِكَسْرِ الْبَاءِ فِي الشَّرْعِ هِيَ إحْدَاثُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ إلَى حَسَنَةٍ وَقَبِيحَةٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي آخِرِ الْقَوَاعِدِ الْبِدْعَةُ مُنْقَسِمَةٌ إلَى وَاجِبَةٍ وَمُحَرَّمَةٍ وَمَنْدُوبَةٍ وَمَكْرُوهَةٍ وَمُبَاحَةٍ قَالَ: وَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ أَنْ تُعْرَضَ الْبِدْعَةُ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنْ دَخَلَتْ فِي قَوَاعِدِ الْإِيجَابِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ، أَوْ فِي قَوَاعِدِ التَّحْرِيمِ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ، أَوْ النَّدْبِ فَمَنْدُوبَةٌ، أَوْ الْمَكْرُوهِ فَمَكْرُوهَةٌ، أَوْ الْمُبَاحِ فَمُبَاحَةٌ وَلِلْوَاجِبَةِ أَمْثِلَةٌ مِنْهَا الِاشْتِغَالُ بِعِلْمِ النَّحْوِ الَّذِي يُفْهِمُ كَلَامَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَكَلَامَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَمِنْهَا حِفْظُ غَرِيبِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ اللُّغَةِ، وَمِنْهَا تَدْرِيسُ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَمِنْهَا الْكَلَامُ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَتَمْيِيزِ الصَّحِيحِ مِنْ السَّقِيمِ، وَمِنْهَا الرَّدُّ عَلَى مَذَاهِبِ نَحْوِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْمُجَسِّمَةِ؛ إذْ لَا يَتَأَتَّى حِفْظُ الشَّرِيعَةِ إلَّا بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَدْ دَلَّتْ قَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَنَّ حِفْظَ الشَّرِيعَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمُتَعَيِّنِ، وَلِلْمُحَرَّمَةِ أَمْثِلَةٌ مِنْهَا مَذَاهِبُ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْمُجَسِّمَةِ، وَلِلْمَنْدُوبَةِ أَمْثِلَةٌ مِنْهَا التَّرَاوِيحُ، وَالْكَلَامُ فِي دَقَائِقِ التَّصَوُّفِ، وَفِي الْجَدَلِ.
وَمِنْهَا جَمْعُ الْمَحَافِلِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَسَائِلِ إنْ يُقْصَدْ بِذَلِكَ وَجْهُ اللَّهِ، وَالْمَكْرُوهَةُ أَمْثِلَةٌ مِنْهَا زَخْرَفَةُ الْمَسَاجِدِ وَتَزْوِيقُ الْمَصَاحِفِ، وَلِلْمُبَاحَةِ أَمْثِلَةٌ مِنْهَا الْمُصَافَحَةُ عَقِبَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ وَمِنْهَا التَّوَسُّعُ فِي اللَّذِيذِ مِنْ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَلُبْسِ الطَّيَالِسَةِ وَتَوْسِيعِ الْأَكْمَامِ، وَقَدْ نَخْتَلِفُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ فَيَجْعَلُهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ وَيَجْعَلُهُ آخَرُونَ مِنْ السُّنَنِ الْمَفْعُولَةِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا بَعْدَهُ وَذَلِكَ كَالِاسْتِعَاذَةِ وَالْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ. اهـ. بِتَصَرُّفٍ فَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ كَرَاهَتُهُمَا فِي الْفَرِيضَةِ دُونَ النَّافِلَةِ إذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الصَّلَاةَ
أَدْرَكْته هَلْ يَدْخُلُ الْوَرَعُ وَالزُّهْدُ فِي الْمُبَاحَاتِ أَمْ لَا فَادَّعَى ذَلِكَ بَعْضُهُمْ، وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ، وَضَيَّقَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَأَكْثَرُوا التَّشْنِيعَ فَقَالَ الْأَبْيَانِيُّ فِي مُصَنَّفِهِ: لَا يَدْخُلُ الْوَرَعُ فِيهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - سَوَّى بَيْنَ طَرَفَيْهَا، وَالْوَرَعُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَالنَّدْبُ مَعَ التَّسْوِيَةِ مُتَعَذِّرٌ، وَقَالَ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ الْحِمْيَرِيُّ: يَدْخُلُ الْوَرَعُ فِي الْمُبَاحَاتِ، وَمَا زَالَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَى الزُّهْدِ فِي الْمُبَاحَاتِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20] وَغَيْرُهُ مِنْ النُّصُوصِ، وَكُلٌّ مِنْ الشَّيْخَيْنِ عَلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ؛ إذْ لَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي الْكَلَامِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُبَاحَاتِ لَا زُهْدَ فِيهَا، وَلَا وَرَعَ فِيهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ مُبَاحَاتٌ، وَفِيهَا الزُّهْدُ وَالْوَرَعُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الِاسْتِكْثَارَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ يَحُوجُ إلَى كَثْرَةِ الِاكْتِسَابِ الْمُوقِعِ فِي الشُّبُهَاتِ، وَقَدْ يُوقِعُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ، وَكَثْرَةُ الْمُبَاحَاتِ أَيْضًا تُفْضِي إلَى بَطَرِ النُّفُوسِ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْعَبِيدِ وَالْخَيْلِ وَالْخَوَلِ وَالْمَسَاكِنِ الْعَلِيَّةِ وَالْمَآكِلِ الشَّهِيَّةِ وَالْمَلَابِسِ اللَّيِّنَةِ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ صَاحِبُهَا مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ مَوَاقِفِ الْعُبُودِيَّةِ وَالتَّضَرُّعِ لِعِزِّ الرُّبُوبِيَّةِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْفُقَرَاءُ أَهْلُ الْحَاجَاتِ وَالْفَاقَاتِ وَالضَّرُورَاتِ، وَمَا يَلْزَمُ قُلُوبَهُمْ مِنْ الْخُضُوعِ وَالذِّلَّةِ لِذِي الْجَلَالِ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ مِنْ نَوَالِهِ وَفَضْلِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ؛ لِأَنَّ أَنْوَاعَ الضَّرُورَاتِ تَبْعَثُ عَلَى ذَلِكَ قَهْرًا، وَالْأَغْنِيَاءُ بَعِيدُونَ عَنْ هَذِهِ الْخُطَّةِ فَكَانَ الزُّهْدُ وَالْوَرَعُ فِي الْمُبَاحَاتِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مُبَاحَاتٌ، وَيَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ مَا تَقَدَّمَ قَوْله تَعَالَى {كَلا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى} [العلق: 6] {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 7]
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
لَا تَصِحُّ بِتَرْكِهِمَا، وَلَمْ يَقْصِدْ الْخُرُوجَ مِنْ خِلَافِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ سُنِّيَّتُهُمَا فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقًا، وَمِثْلُهُمَا فِي كَوْنِهِ بِدْعَةً مَكْرُوهَةً، أَوْ سُنَّةً سُجُودُ الشُّكْرِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ مَفْعُولَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى كَرَاهَتِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الرَّجُلِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ يُحِبُّهُ فَيَسْجُدُ لِلَّهِ عز وجل شُكْرًا فَقَالَ: لَا يَفْعَلُ هَذَا مِمَّا مَضَى مِنْ أَمْرِ النَّاسِ، قِيلَ لَهُ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه فِيمَا يَذْكُرُونَ سَجَدَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شُكْرًا لِلَّهِ أَفَسَمِعْت ذَلِكَ قَالَ مَا سَمِعْت ذَلِكَ، وَأَنَا أَرَى أَنْ قَدْ كَذَبُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَهَذَا مِنْ الضَّلَالِ أَنْ يَسْمَعَ الْمَرْءُ الشَّيْءَ فَيَقُولَ: هَذَا لَمْ تَسْمَعْهُ مِنِّي قَدْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ أَفَسَمِعْت أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ فَعَلَ مِثْلَ هَذَا إذْ مَا قَدْ كَانَ فِي النَّاسِ وَجَرَى عَلَى أَيْدِيهِمْ سُمِعَ عَنْهُمْ فِيهِ شَيْءٌ فَعَلَيْك بِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ الَّذِي قَدْ كَانَ فِيهِمْ فَهَلْ سَمِعْت أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ سَجَدَ فَهَذَا إجْمَاعٌ.
وَإِذَا جَاءَك أَمْرٌ لَا تَعْرِفْهُ فَدَعْهُ. اهـ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: الْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مِمَّا شُرِعَ فِي الدِّينِ يَعْنِي سُجُودَ الشُّكْرِ فَرْضًا، وَلَا نَفْلًا إذْ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا فَعَلَهُ، وَلَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اخْتِيَارِ فِعْلِهِ، وَالشَّرَائِعُ لَا تَثْبُتُ إلَّا مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأُمُورِ قَالَ: وَاسْتِدْلَالُهُ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَلَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ بِأَنَّ فِي ذَلِكَ لَوْ كَانَ النَّقْلُ صَحِيحًا؛ إذْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَتَوَفَّرَ الدَّوَاعِي عَلَى تَرْكِ نَقْلِ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الدِّينِ، وَقَدْ أُمِرُوا بِالتَّبْلِيغِ قَالَ: وَهَذَا أَصْلٌ مِنْ الْأُصُولِ، وَعَلَيْهِ يَأْتِي إسْقَاطُ الزَّكَاةِ مِنْ الْخُضَرِ وَالْبُقُولِ مَعَ وُجُودِ الزَّكَاةِ فِيهَا لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ وَالْبَعْلُ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ» ؛ لِأَنَّا نَزَّلْنَا تَرْكَ نَقْلِ أَخْذِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ مِنْهَا كَالسُّنَّةِ الْقَائِمَةِ فِي أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهَا فَكَذَلِكَ نَزَلَ تَرْكُ نَقْلِ السُّجُودِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الشُّكْرِ كَالسُّنَّةِ الْقَائِمَةِ فِي أَنْ لَا سُجُودَ فِيهَا ثُمَّ حُكِيَ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ تَوْجِيهُ مَالِكٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا بِدْعَةٌ لَا تَوْجِيهُ أَنَّهَا بِدْعَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَفَادَهُ الشَّاطِبِيُّ فِي الِاعْتِصَامِ وَحَاصِلُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ هُوَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْعَلَّامَةُ الْحِفْنِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ أَنَّ الْبِدْعَةَ بِمَعْنَى مَا لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم نَوْعَانِ حَقِيقِيَّةٌ وَمُشْتَبِهَاتٌ فَالْحَقِيقِيَّةُ هِيَ الْمُقَابِلَةُ لِلسُّنَّةِ فَالسُّنَّةُ مَا فُعِلَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَشَهِدَ لَهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ، وَالْبِدْعَةُ الْحَقِيقِيَّةُ مَا أُحْدِثَ بَعْدَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ، قَالَ: زَادَ الشَّارِحُ فِي الْكَبِيرِ وَغَلَبَتْ عَلَى مَا خَالَفَ أُصُولَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْعَقَائِدِ.
وَهِيَ الْبِدْعَةُ الْمُحَرَّمَةُ سَوَاءٌ كَفَرَ بِهَا كَإِنْكَارِ عِلْمِهِ - تَعَالَى بِالْجُزْئِيَّاتِ أَوْ لَا كَالْمُجَسِّمَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ عَلَى الرَّاجِحِ إنْ لَمْ تَقُلْ الْأُولَى كَالْأَجْسَامِ، وَهِيَ الْمُرَادُ بِالْبِدْعَةِ مَتَى أُطْلِقَتْ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ تُطْلَقُ عَلَى الْمُحَرَّمَةِ وَغَيْرِهَا، فَهِيَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي السُّنَّةِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَبَى اللَّهُ أَنْ يَقْبَلَ عَمَلَ صَاحِبِ بِدْعَةٍ حَتَّى يَدَعَ بِدْعَتَهُ لِإِيرَادِهِ فِي حَيِّزِ التَّحْذِيرِ مِنْهَا وَالذَّمِّ لَهَا وَالتَّوْبِيخِ عَلَيْهَا، فَنَفْيُ قَبُولِ الْعَمَلِ بِمَعْنَى إبْطَالِهِ وَرَدِّهِ إنْ كَانَتْ الْبِدْعَةُ مُكَفِّرَةً لَهُ، وَبِمَعْنَى نَفْيِ الثَّوَابِ إنْ كَانَتْ لَا تُكَفِّرُهُ مِثْلَ مَا وَرَدَ أَنَّ الشَّخْصَ إذَا لَبِسَ ثَوْبًا بِدَرَاهِمَ مِنْهَا دِرْهَمٌ حَرَامٌ، وَصَلَّى فِيهِ لَمْ تُقْبَلْ صَلَاتُهُ أَيْ لَمْ يُثَبْ عَلَيْهَا، وَالْمُشْتَبِهَاتُ تُعْرَضُ عَلَى أُصُولِ الشَّرْعِ فَإِنْ وَافَقَتْ الْوَاجِبَ كَانَتْ
وقَوْله تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 258] أَيْ مِنْ أَجْلِ أَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ فَلَوْ كَانَ النُّمْرُودُ فَقِيرًا حَقِيرًا مُبْتَلًى بِالْحَاجَاتِ وَالضَّرُورَاتِ لَمْ تَحْتَدَّ نَفْسُهُ إلَى مُنَازَعَةِ إبْرَاهِيمَ وَدَعْوَاهُ الْإِحْيَاءَ أَوْ الْإِمَاتَةَ، وَتَعَرُّضِهِ لِإِحْرَاقِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام بِالنِّيرَانِ، وَإِنَّمَا وَصَلَ إلَى هَذِهِ الْمَعَاطِبِ وَالْمَهَالِكِ بِسَبَبِ أَنَّهُ مَلِكٌ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ الْكُفَّارِ {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111] وَفِي الْأَنْبِيَاءِ الْآيَةُ الْأُخْرَى {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27] فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اتِّبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْمُبَادِرِينَ إلَى تَصْدِيقِهِمْ إنَّمَا هُمْ الْفُقَرَاءُ وَالضُّعَفَاءُ، وَأَعْدَاءُ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمُعَانِدُوهُمْ هُمْ الْأَغْنِيَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب: 67] وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا} [سبأ: 34] وَلَمْ يَقُلْ إلَّا قَالَ فُقَرَاؤُهَا فَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي خَلْقِهِ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ فِي هَذِهِ الدَّارِ هُمْ الْأَقَلُّونَ فِي تِلْكَ الدَّارِ، وَالْأَقَلُّونَ فِي هَذِهِ الدَّارِ هُمْ الْأَكْثَرُونَ فِي تِلْكَ الدَّارِ فَهَذَا وَجْهُ مَا كَانَ السَّلَفُ يَعْتَمِدُونَهُ مِنْ الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ فِي الْمُبَاحَاتِ، وَهُوَ وَجْهُ لُزُومِ الذَّمِّ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20] فَهَذَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ
(الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ التَّوَكُّلِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَرْكِ الْأَسْبَابِ)
اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ الْتَبَسَ هَاتَانِ الْقَاعِدَتَانِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ فِي عِلْمِ الرَّقَائِقِ فَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَصِحُّ التَّوَكُّلُ إلَّا مَعَ تَرْكِ الْأَسْبَابِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي إحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ وَغَيْرِهِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَاجِبَةً أَوْ الْمَنْدُوبَ كَانَتْ مَنْدُوبَةً أَوْ الْمَكْرُوهَ كَانَتْ مَكْرُوهَةً أَوْ الْمُبَاحَ كَانَتْ مُبَاحَةً، وَبِالْجُمْلَةِ فَتَقْسِيمُ الْبِدْعَةِ مَعَ السُّنَّةِ عَلَى نَحْوِ تَقْسِيمِ النَّحْوِيِّينَ حَرْفَ الْجَرِّ الْأَصْلِيِّ مَعَ الزَّائِدِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَصْلِيٌّ، وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى خَاصٍّ وَاحْتَاجَ لِمُتَعَلَّقٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ وَزَائِدٌ، وَهُوَ مَا لَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى خَاصٍّ، وَلَا يَحْتَاجُ لِمُتَعَلَّقٍ وَشَبِيهٌ بِهِمَا، وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى خَاصٍّ، وَلَمْ يَحْتَجْ لِمُتَعَلَّقٍ فَكَمَا انْقَسَمَ حَرْفُ الْجَرِّ إلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ كَذَلِكَ الْبِدْعَةُ مَعَ السُّنَّةِ تَنْقَسِمُ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ إلَى ثَلَاثَةٍ: سُنَّةٌ، وَهِيَ مَا فُعِلَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَشَهِدَ لَهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ، وَبِدْعَةٌ، وَهُوَ مَا لَمْ يُفْعَلْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَشْهَدْ لَهُ الْأَصْلُ.
وَمُشْتَبِهَاتٌ، وَهُوَ مَا لَمْ يُفْعَلْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَشَهِدَ لَهُ الْأَصْلُ وَتَوْضِيحُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنَّ مَا يَحْرُمُ وَيُنْهَى عَنْهُ مِنْ الْبِدَعِ هُوَ الْمُرَادُ بِالْبِدْعَةِ الْقَبِيحَةِ فِي كَلَامِ النَّوَوِيِّ الصَّادِقَةِ عَلَى الْمُحَرَّمَةِ وَعَلَى الْمَكْرُوهَةِ وَأَنَّ مَا لَا يُنْهَى عَنْهُ مِنْهَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْبِدْعَةِ الْحَسَنَةِ الصَّادِقَةِ عَلَى الْوَاجِبَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ وَالْمُبَاحَةِ وَقَوْلُ الْأَصْلِ: وَالْأَصْحَابُ - فِيمَا رَأَيْت - مُتَّفِقُونَ عَلَى إنْكَارِ الْبِدَعِ إلَخْ هُوَ طَرِيقَةُ نَفْيِ التَّفْصِيلِ فِي الْبِدَعِ، وَأَنَّهَا لَا تَكُونُ وَاجِبَةً، وَلَا مَنْدُوبَةً، وَلَا مُبَاحَةً بَلْ إنَّمَا تَكُونُ قَبِيحَةً مَنْهِيًّا عَنْهَا فَالْكَلَامُ عَلَيْهَا مِنْ جِهَتَيْنِ
(الْجِهَةُ الْأُولَى) أَنَّ أَمْثِلَةَ الْبِدَعِ الْوَاجِبَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ وَالْمُبَاحَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْقَرَافِيُّ وَشَيْخُهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا مِمَّا لَهُ أَصْلٌ فِي الدِّينِ، وَمِنْ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَعَنْ كَوْنِهَا مِنْ الْعَادِيَّاتِ، وَمَا كَانَ مِمَّا لَهُ أَصْلٌ فِي الدِّينِ، وَمِنْ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ لَا يُعَدُّ مِنْ الْبِدَعِ؛ لِأَنَّ خَاصَّةَ الْبِدْعَةِ أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَمَّا رَسَمَهُ الشَّارِعُ؛ إذْ هِيَ طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ اُبْتُدِعَتْ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ تَقَدَّمَهَا تُضَاهِي الشَّرِيعَةَ يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ فَانْفَصَلَتْ بِهَذَا الْقَيْدِ عَنْ كُلِّ مَا ظَهَرَ لِبَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّهُ مُخْتَرِعٌ مِمَّا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالدِّينِ كَعِلْمِ النَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ وَمُفْرَدَاتِ اللُّغَةِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَسَائِرِ الْعُلُومِ الْخَادِمَةِ لِلشَّرِيعَةِ فَإِنَّهَا.
وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ فَأُصُولُهَا مَوْجُودَةٌ فِي الشَّرْعِ؛ إذْ الْأَمْرُ بِإِعْرَابِ الْقُرْآنِ مَنْقُولٌ، وَعُلُومُ اللِّسَانِ هَادِيَةٌ لِلصَّوَابِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَحَقِيقَتُهَا إذًا أَنَّهَا فِقْهُ التَّعَبُّدِ بِالْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعَانِيهَا كَيْفَ تُؤْخَذُ وَتُؤَدَّى، وَأُصُولُ الْفِقْهِ إنَّمَا مَعْنَاهَا اسْتِقْرَاءُ كُلِّيَّاتِ الْأَدِلَّةِ حَتَّى تَكُونَ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ نَصْبَ عَيْنٍ، وَعِنْدَ الطَّالِبِ سَهْلَةَ الْمُلْتَمَسِ، وَكَذَلِكَ أُصُولُ الدِّينِ، وَهُوَ عِلْمُ الْكَلَامِ إنَّمَا حَاصِلُهُ تَقْرِيرٌ لِأَدِلَّةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أَوْ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا فِي التَّوْحِيدِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَمَا كَانَ الْفِقْهُ تَقْرِيرَ الْأَدِلَّةِ فِي الْفُرُوعِ الْعَبَّادِيَّةِ، وَتَصْنِيفُهَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَرَعًا إلَّا أَنَّ لَهُ أَصْلًا فِي الشَّرْعِ فَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْخُصُوصِ فَالشَّرْعُ بِجُمْلَتِهِ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِهِ، وَهُوَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ قَاعِدَةِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُهَا فَعَلَى الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِهَا أَصْلًا شَرْعِيًّا لَا إشْكَالَ فِي أَنَّ كُلَّ عِلْمٍ خَادِمٌ لِلشَّرِيعَةِ دَاخِلٌ تَحْتَ أَدِلَّتِهَا الَّتِي لَيْسَتْ بِمَأْخُوذَةٍ مِنْ جُزْءٍ وَاحِدٍ فَلَيْسَتْ بِبِدْعَةٍ أَلْبَتَّةَ وَعَلَى الْقَوْلِ بِنَفْيِهَا لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْعُلُومُ مُبْتَدَعَاتٍ، وَإِذَا دَخَلَتْ فِي عِلْمِ الْبِدَعِ كَانَتْ قَبِيحَةً؛ لِأَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ مِنْ غَيْرِ إشْكَالٍ كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كَتْبُ الْمُصْحَفِ، وَجَمْعُ الْقُرْآنِ قَبِيحًا، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَيْسَ إذًا بِبِدْعَةٍ وَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ وَلَيْسَ إلَّا هَذَا النَّوْعُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ الْمَأْخُوذُ مِنْ جُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ جُزْءٌ فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ ثَبَتَ مُطْلَقُ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ فَعَلَى هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى عِلْمُ النَّحْوِ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ عُلُومِ اللِّسَانِ، أَوْ عِلْمُ الْأُصُولِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْعُلُومِ الْخَادِمَةِ لِلشَّرِيعَةِ بِدْعَةً أَصْلًا
وَقَالَ آخَرُونَ: لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ التَّوَكُّلِ وَتَرْكِ الْأَسْبَابِ، وَلَا هُوَ هُوَ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ التَّوَكُّلَ هُوَ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فِيمَا يَجْلِبُهُ مِنْ خَيْرٍ، أَوْ يَدْفَعُهُ مِنْ ضُرٍّ، قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: وَالْأَحْسَنُ مُلَابَسَةُ الْأَسْبَابِ مَعَ التَّوَكُّلِ لِلْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا الْمَنْقُولُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] فَأَمَرَ بِالِاسْتِعْدَادِ مَعَ الْأَمْرِ بِالتَّوَكُّلِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122] وقَوْله تَعَالَى {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6] أَيْ تَحَرَّزُوا مِنْهُ فَقَدْ أَمَرَ بِاكْتِسَابِ التَّحَرُّزِ مِنْ الشَّيْطَانِ كَمَا يُتَحَرَّزُ مِنْ الْكُفَّارِ، وَأَمَرَ - تَعَالَى - بِمُلَابَسَةِ أَسْبَابِ الِاحْتِيَاطِ وَالْحَذَرِ مِنْ الْكُفَّارِ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَيِّدُ الْمُتَوَكِّلِينَ وَكَانَ يَطُوفُ عَلَى الْقَبَائِلِ وَيَقُولُ مَنْ يَعْصِمُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي.
وَكَانَ لَهُ جَمَاعَةٌ يَحْرُسُونَهُ مِنْ الْعَدُوِّ حَتَّى نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] وَدَخَلَ مَكَّةَ مُظَاهِرًا بَيْنَ دِرْعَيْنِ فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ مِنْ الْحَدِيدِ، وَكَانَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ وَأَكْمَلِ أَحْوَالِهِ مَعَ رَبِّهِ - تَعَالَى - يَدَّخِرُ قُوتَ سَنَةٍ لِعِيَالِهِ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْمَلِكَ الْعَظِيمَ إذَا كَانَتْ لَهُ جَمَاعَةٌ، وَلَهُمْ عَوَائِدُ فِي أَيَّامٍ لَا يَحْسُنُ إلَّا فِيهَا أَوْ أَبْوَابٌ لَا تَخْرُجُ إلَّا مِنْهَا، أَوْ أَمْكِنَةٌ لَا يُدْفَعُ إلَّا فِيهَا فَالْأَدَبُ مَعَهُ أَنْ لَا يُطْلَبَ مِنْهُ فِعْلٌ إلَّا حَيْثُ عَوَّدَهُ، وَأَنْ لَا يُخَالِفَ عَوَائِدَهُ بَلْ يَجْرِي عَلَيْهَا، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - مَلِكُ الْمُلُوكِ وَأَعْظَمُ الْعُظَمَاءِ بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ رَتَّبَ مُلْكَهُ عَلَى عَوَائِدَ أَرَادَهَا، وَأَسْبَابٍ قَدَّرَهَا، وَرَبَطَ بِهَا آثَارَ قُدْرَتِهِ، وَلَوْ شَاءَ لَمْ يَرْبِطْهَا
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَمَنْ سَمَّاهُ بِدْعَةً فَإِمَّا عَلَى الْمَجَازِ كَمَا سَمَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قِيَامَ النَّاسِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ بِدْعَةً، وَإِمَّا جَهْلًا بِمَوَاقِعِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَلَا يَكُونُ قَوْلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُعْتَدًّا بِهِ، وَلَا مُعْتَمَدًا عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ الْعَادِيَّاتِ كَإِقَامَةِ صُوَرِ الْأَئِمَّةِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ وَالْقُضَاةِ وَاِتِّخَاذِ الْمَنَاخِلِ وَغَسْلِ الْيَدَيْنِ بِالْأُشْنَانِ وَلُبْسِ الطَّيَالِسِ وَتَوْسِيعِ الْأَكْمَامِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي الزَّمَنِ الْفَاضِلِ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ فَالتَّمْثِيلُ بِهَا لِمَنْدُوبَاتِ الْبِدَعِ وَمُبَاحَاتِهَا، وَكَذَا بِالْمُكُوسِ وَالْمُحْدَثَاتِ مِنْ الْمَظَالِمِ.
وَتَقْدِيمُ الْجُهَّالِ عَلَى الْعُلَمَاءِ فِي الْوِلَايَاتِ الْعِلْمِيَّةِ، وَتَوْلِيَةُ الْمَنَاصِبِ الشَّرِيفَةِ مَنْ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ بِطَرِيقِ الْوِرَاثَةِ لِمُحَرَّمَاتِ الْبِدَعِ مَبْنِيٌّ عَلَى إحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ فِي الْعَادِيَّاتِ، وَهِيَ الَّتِي مَال إلَيْهَا الْقَرَافِيُّ وَشَيْخُهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَذَهَبَ إلَيْهَا بَعْضُ السَّلَفِ كَمُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ مِنْ أَنَّ الْمُخْتَرَعَاتِ مِنْهَا تَلْحَقُ بِالْبِدَعِ، وَتَصِيرُ كَالْعِبَادَاتِ الْمُخْتَرَعَةِ الْجَارِيَةِ فِي الْأُمَّةِ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ
(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) : أَنَّهَا أُمُورٌ جَرَتْ فِي النَّاسِ وَكَثُرَ الْعَمَلُ بِهَا وَشَاعَتْ وَذَاعَتْ
(وَالْوَجْهُ الثَّانِي) : أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِبَادَاتِ؛ إذْ الْأُمُورُ الْمَشْرُوعَةُ تَارَةً تَكُونُ عِبَادِيَّةً، وَتَارَةً تَكُونُ عَادِيَّةً فَكِلَاهُمَا مَشْرُوعٌ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ فَكَمَا تَقَعُ الْمُخَالَفَةُ بِالِابْتِدَاعِ فِي أَحَدِهِمَا تَقَعُ فِي الْآخَرِ
(الْوَجْهُ الثَّالِثُ) : أَنَّ الشَّرْعَ جَاءَ بِالْوَعْدِ بِأَشْيَاءَ تَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ هِيَ خَارِجَةٌ عَنْ سُنَّتِهِ فَتَدْخُلُ فِيمَا تَقَدَّمَ تَمْثِيلُهُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا قَالَ فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَدُّوا إلَيْهِمْ حَقَّهُمْ وَسَلُوا حَقَّكُمْ» وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمْرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا «إذَا أُسْنِدَ الْأَمْرُ إلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرُوا السَّاعَةَ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ وَيُقْبَضُ الْعِلْمُ وَيُلْقَى وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّمَا هُوَ قَالَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ» وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «إنَّ بَيْنَ يَدَيَّ لَأَيَّامًا يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ وَيَرْتَفِعُ فِيهَا الْعِلْمُ وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ» وَالْهَرَجُ الْقَتْلُ وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: «حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْنِ رَأَيْت أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا ثُمَّ قَالَ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْوَكْتِ ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِك فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، وَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ. وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ» الْحَدِيثَ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ، وَحَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ كُلُّهُمْ زَعَمَ أَنَّهُ رَسُولٌ وَحَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ ثُمَّ قَالَ وَحَتَّى يَتَطَاوَلَ النَّاسُ فِي الْبُنْيَانِ» إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «تَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَقُولُونَ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ» ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه -
فَجَعَلَ الرَّيَّ بِالشُّرْبِ، وَالشِّبَعَ بِالْأَكْلِ، وَالِاحْتِرَاقَ بِالنَّارِ وَالْحَيَاةَ بِالتَّنَفُّسِ فِي الْهَوَاءِ فَمَنْ طَلَبَ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - حُصُولَ هَذِهِ الْآثَارِ بِدُونِ أَسْبَابِهَا فَقَدْ أَسَاءَ الْأَدَبَ مَعَ اللَّهِ سبحانه وتعالى بَلْ يَلْتَمِسُ فَضْلَهُ فِي عَوَائِدِهِ، وَقَدْ انْقَسَمَتْ الْخَلَائِقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ قِسْمٌ عَامَلُوا اللَّهَ - تَعَالَى - بِاعْتِمَادِ قُلُوبِهِمْ عَلَى قُدْرَتِهِ - تَعَالَى - مَعَ إهْمَالِ الْأَسْبَابِ وَالْعَوَائِدِ فَلَجَّجُوا فِي الْبِحَارِ فِي زَمَنِ الْهَوْلِ وَسَلَكُوا الْقِفَارَ الْعَظِيمَةَ الْمُهْلِكَةَ بِغَيْرِ زَادٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، فَهَؤُلَاءِ حَصَلَ لَهُمْ التَّوَكُّلُ وَفَاتَهُمْ الْأَدَبُ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعِبَادِ أَحْوَالُهُمْ مَسْطُورَةٌ فِي الْكُتُبِ فِي الرَّقَائِقِ، وَقِسْمٌ لَاحَظُوا الْأَسْبَابَ، وَأَعْرَضُوا عَنْ التَّوَكُّلِ، وَهُمْ عَامَّةُ الْخَلْقِ وَشَرُّ الْأَقْسَامِ، وَرُبَّمَا وَصَلُوا بِمُلَاحَظَةِ الْأَسْبَابِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْمُسَبِّبِ إلَى الْكُفْرِ، وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ اعْتَمَدَتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - طَلَبُوا فَضْلَهُ فِي عَوَائِدِهِ مُلَاحِظِينَ فِي تِلْكَ الْأَسْبَابِ مُسَبِّبَهَا وَمُيَسِّرَهَا فَجَمَعُوا بَيْنَ التَّوَكُّلِ وَالْأَدَبِ وَهَؤُلَاءِ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ، وَخَاصَّةُ عِبَادِ اللَّهِ - تَعَالَى.
وَالْعَارِفُونَ بِمُعَامَلَتِهِ جَعَلَنَا اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْهُمْ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ فَهَؤُلَاءِ هُمْ خَيْرُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يُهْمِلُ الْأَسْبَابَ وَيُفَرِّطُ فِي التَّوَكُّلِ بِحَيْثُ يَجْعَلُهُ عَدَمَ الْأَسْبَابِ أَوْ مِنْ شَرْطِهِ عَدَمُ الْأَسْبَابِ إذَا قِيلَ: الْإِيمَانُ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَالْكُفْرُ سَبَبٌ لِدُخُولِ النَّارِ بِالْجَعْلِ الشَّرْعِيِّ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ فَهَلْ هُوَ تَارِكٌ هَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ أَوْ مُعْتَبِرُهُمَا فَإِنْ تَرَكَ اعْتِبَارَهُمَا خَسِرَ الدُّنْيَا، وَإِنْ اعْتَبَرَهُمَا فَقَالَ: لَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ، وَتَرَكَ الْكُفْرَ فَيُقَالُ لَهُ: مَا بَالُ غَيْرِهِمَا
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
أَنَّهُ عليه السلام قَالَ «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا فَيَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضِ الدُّنْيَا» وَفَسَّرَ ذَلِكَ الْحَسَنُ قَالَ يُصْبِحُ مُحَرِّمًا لِدَمِ أَخِيهِ وَعِرْضِهِ وَمَالِهِ وَيُمْسِي مُسْتَحِلًّا لَهُ كَأَنَّهُ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْحَدِيثِ الْآخَرِ «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيَفْشُوَ الزِّنَا وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ وَيَقِلَّ الرِّجَالُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً قَيِّمٌ وَاحِدٌ» .
وَمِنْ غَرِيبِ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا فَعَلَتْ أُمَّتِي خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً حَلَّ بِهَا الْبَلَاءُ قِيلَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إذَا صَارَ الْمَغْنَمُ دُوَلًا، وَالْأَمَانَةُ مَغْنَمًا وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا، وَأَطَاعَ الرَّجُلُ زَوْجَهُ، وَعَقَّ أُمَّهُ، وَبَرَّ صَدِيقَهُ وَجَفَا أَبَاهُ وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ مَخَافَةَ شَرِّهِ، وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ وَلُبِسَ الْحَرِيرُ وَاُتُّخِذَتْ الْقِيَانُ وَالْمَعَازِفُ، وَلَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلَهَا فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حَمْرَاءَ وَزَلْزَلَةً وَخَسْفًا أَوْ مَسْخًا وَقَذْفًا» .
وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَرِيبُ هَذَا وَفِيهِ «سَادَ الْقَبِيلَةَ فَاسِقُهُمْ، وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ وَفِيهِ وَظَهَرَتْ الْقِيَانُ وَالْمَعَازِفُ، وَفِي آخِرِهِ فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حَمْرَاءَ وَزَلْزَلَةً وَخَسْفًا وَآيَاتٍ تَتَابَعُ كَنِظَامٍ بَالٍ قُطِعَ سِلْكُهُ فَتَتَابَعَ» .
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَهُ إنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَبْدِيلُ الْأَعْمَالِ الَّتِي كَانُوا أَحَقَّ بِالْعَمَلِ بِهَا فَلَمَّا عَوَّضُوا مِنْهَا غَيْرَهَا وَفَشَا فِيهَا كَأَنَّهُ مِنْ الْمَعْمُولِ بِهِ تَشْرِيعًا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْحَوَادِثِ الطَّارِئَةِ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَ فِي الْعِبَادَاتِ.
2 -
(وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ) وَعَلَيْهَا الْأَكْثَرُونَ أَنَّ الْعَادِيَّاتِ إنْ كَانَتْ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالشِّرَاءِ وَالطَّلَاقِ وَالْإِجَارَاتِ وَالْجِنَايَاتِ مِمَّا لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ التَّعَبُّدَاتِ لِكَوْنِهَا مُقَيَّدَةً بِأُمُورٍ شَرْعِيَّةٍ لَا خِيرَةَ لِلْمُكَلَّفِ فِيهَا كَانَتْ اقْتِضَاءً أَوْ تَخْيِيرًا فَإِنَّ التَّخْيِيرَ فِي التَّعَبُّدَاتِ إلْزَامٌ كَمَا أَنَّ الِاقْتِضَاءَ إلْزَامٌ حَسْبَمَا تُقِرُّ، وَبُرْهَانُهُ فِي كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ صَحَّ دُخُولُ الِابْتِدَاعِ فِيهَا كَالْعِبَادَاتِ.
وَإِلَّا فَلَا وَهَذِهِ هِيَ النُّكْتَةُ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا حُكْمُ الْبَابِ وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِالْأَمْثِلَةِ فَمَا أَتَى بِهِ الْقَرَافِيُّ مِثَالًا لِلْبِدْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْ وَضْعِ الْمُكُوسِ فِي مُعَامَلَاتِ النَّاسِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى قَصْدِ حَجْرِ التَّصَرُّفَاتِ وَقْتًا مَا أَوْ فِي حَالَةٍ مَا لِنَيْلِ حُطَامِ الدُّنْيَا عَلَى هَيْئَةِ غَصْبِ الْغَاصِبِ وَسَرِقَةِ السَّارِقِ وَقَطْعِ الْقَاطِعِ لِلطَّرِيقِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ أَوْ يَكُونُ عَلَى قَصْدِ وَضْعِهِ عَلَى النَّاسِ كَالدَّيْنِ الْمَوْضُوعِ وَالْأَمْرِ الْمَحْتُومِ عَلَيْهِمْ دَائِمًا أَوْ فِي أَوْقَاتٍ مَحْدُودَةٍ عَلَى كَيْفِيَّاتٍ مَضْرُوبَةٍ بِحَيْثُ تُضَاهِي الْمَشْرُوعَ الدَّائِمَ الَّذِي يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْعَامَّةُ وَيُؤْخَذُونَ بِهِ وَتُوَجَّهُ عَلَى الْمُمْتَنِعِ مِنْهُ الْعُقُوبَةُ كَمَا فِي أَخْذِ زَكَاةِ الْمَوَاشِي وَالْحَرْثِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَمِنْ الْفَرْضِ الثَّانِي يَصِيرُ تَشْرِيعًا زَائِدًا وَبِدْعَةً بِلَا شَكٍّ، وَيَصِيرُ لِلْمُكُوسِ عَلَى هَذَا الْفَرْضِ نَظَرَانِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مُحَرَّمَةً عَلَى الْفَاعِلِ أَنْ يَفْعَلَهَا كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ، وَنَظَرٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا اخْتِرَاعًا لِتَشْرِيعٍ يُؤْخَذُ بِهِ النَّاسُ إلَى الْمَوْتِ كَمَا يُؤْخَذُونَ بِسَائِرِ التَّكَالِيفِ فَاجْتَمَعَ فِيهَا نَهْيَانِ نَهْيٌ عَنْ الْمَعْصِيَةِ، وَنَهْيٌ عَنْ الْبِدْعَةِ، وَمِنْ الْفَرْضِ الْأَوَّلِ إنَّمَا يُوجَدُ بِهَا النَّهْيُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا تَشْرِيعًا مَوْضُوعًا عَلَى النَّاسِ أَمْرَ وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ؛ إذْ لَيْسَ فِيهَا جِهَةٌ أُخْرَى يَكُونُ بِهَا مَعْصِيَةٌ بَلْ نَفْسُ التَّشْرِيعِ هُوَ نَفْسُ الْمَمْنُوعِ، وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُ الْجُهَّالِ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَتَوْلِيَةُ الْمَنَاصِبِ الشَّرِيفَةِ مَنْ لَا يُصْلَحُ لَهَا بِطَرِيقِ التَّوْرِيثِ فَإِنْ جُعِلَ الْجَاهِلُ فِي مَوْضِعِ الْعَالِمِ حَتَّى يَصِيرَ مُفْتِيًا فِي الدِّينِ وَمَعْمُولًا بِقَوْلِهِ فِي الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَبْضَاعِ وَغَيْرِهَا
مِنْ الْأَسْبَابِ إنْ كَانَ هَذَانِ لَا يُنَافِيَانِ التَّوَكُّلَ فَغَيْرُهُمَا كَذَلِكَ نَعَمْ مِنْ الْأَسْبَابِ مَا هُوَ مُطَّرِدٌ فِي مَجْرَى عَوَائِدِ اللَّهِ - تَعَالَى - كَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْغِذَاءِ وَالتَّنَفُّسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَكْثَرِيٌّ غَيْرُ مُطَّرِدٍ لَكِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَجْرَى فِيهِ عَادَةً مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ كَالْأَدْوِيَةِ وَأَنْوَاعِ الْأَسْفَارِ لِلْأَرْبَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْأَدَبُ فِي الْجَمِيعِ الْتِمَاسُ فَضْلِ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي عَوَائِدِهِ وَلِذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِالدَّوَاءِ وَالْحِمْيَةِ وَاسْتِعْمَالِ الْأَدْوِيَةِ حَتَّى الْكَيِّ بِالنَّارِ «فَأَمَرَ بِكَيِّ سَعْدٍ» ، وَقَالَ عليه السلام «الْمَعِدَةُ بَيْتُ الدَّاءِ، وَالْحِمْيَةُ رَأْسُ الدَّوَاءِ، وَصَلَاحُ كُلِّ جِسْمٍ مَا اعْتَادَ» وَإِذَا كَانَ حَالُهُ فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي لَيْسَتْ مُطَّرِدَةً مِنْ الْحِمْيَةِ وَإِصْلَاحِ الْبَدَنِ بِمُوَاظَبَةِ عَادَتِهِ فَمَا ظَنُّك بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعَوَائِدِ، فَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْأَبْلَجُ، وَالطَّرِيقُ الْأَنْهَجُ
(الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْحَسَدِ وَقَاعِدِ الْغِبْطَةِ) اشْتَرَكَتْ الْقَاعِدَتَانِ فِي أَنَّهُمَا طَلَبٌ مِنْ الْقَلْبِ غَيْرَ أَنَّ الْحَسَدَ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْ الْغَيْرِ، وَالْغِبْطَةُ تَمَنِّي حُصُولِ مِثْلِهَا مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِطَلَبِ زَوَالِهَا عَنْ صَاحِبِهَا ثُمَّ الْحَسَدُ حَسَدَانِ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ وَحُصُولِهَا لِلْحَاسِدِ وَتَمَنِّي زَوَالِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْلُبَ حُصُولَهَا لِلْحَاسِدِ، وَهُوَ شَرُّ الْحَاسِدِينَ؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ الْمَفْسَدَةَ الصِّرْفَةَ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ عَادِيٍّ أَوْ طَبِيعِيٍّ ثُمَّ حُكْمُ الْحَسَدِ فِي الشَّرِيعَةِ التَّحْرِيمُ، وَحُكْمُ الْغِبْطَةِ الْإِبَاحَةُ لِعَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِمَفْسَدَةٍ أَلْبَتَّةَ، وَدَلِيلُ تَحْرِيمِ الْحَسَدِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
مُحَرَّمٌ فِي الدِّينِ فَقَطْ.
وَأَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ يُتَّخَذُ دَيْدَنًا حَتَّى يَصِيرَ الِابْنُ مُسْتَحِقًّا لِرُتْبَةِ الْأَبِ.
وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الْأَبِ فِي ذَلِكَ الْمَنْصِبِ بِطَرِيقِ الْوِرَاثَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ بِحَيْثُ يَشِيعُ هَذَا الْعَمَلُ وَيَطَّرِدُ وَيَرِدُهُ النَّاسُ كَالشَّرْعِ الَّذِي لَا يُخَالَفُ بِأَنْ يُعَبِّرُوا عَنْهُ كَمَا يُعَبَّرُ عَنْ الْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ مَنْ مَاتَ عَنْ شَيْءٍ فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ فَفِيهِ جِهَتَانِ جِهَةُ كَوْنِهِ بِدْعَةً بِلَا إشْكَالٍ، وَجِهَةُ كَوْنِهِ قَوْلًا بِالرَّأْيِ غَيْرِ الْجَارِي عَلَى الْعِلْمِ هُوَ الَّذِي بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ «حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» وَإِنَّمَا ضَلُّوا وَأَضَلُّوا؛ لِأَنَّهُمْ أَفْتَوْا بِالرَّأْيِ؛ إذْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ، وَهُوَ بِدْعَةٌ أَوْ سَبَبُ الْبِدْعَةِ، وَمَا أَتَى بِهِ الْقَرَافِيُّ مَثَلًا لِلْبِدْعَةِ الْمَنْدُوبَةِ مِنْ إقَامَةِ صُوَرِ الْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ وَوُلَاةِ الْأَمْرِ عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ فَإِنَّ الْبِدْعَةَ لَا تُتَصَوَّرُ فِيهِ إلَّا بِمَا فِيهِ بُعْدٌ جِدًّا مِنْ تَكَلُّفِ فَرْضِ أَنْ يُعْتَقَدَ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ أَنَّهُ مِمَّا يُطْلَبُ بِهِ الْأَئِمَّةُ عَلَى الْخُصُوصِ تَشْرِيعًا خَارِجًا عَنْ قَبِيلِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ بِحَيْثُ يُعَدُّ مِنْ الدِّينِ الَّذِي يَدِينُ بِهِ هَؤُلَاءِ الْمَطْلُوبُونَ بِهِ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ خَاصًّا بِالْأَئِمَّةِ دُونَ غَيْرِهِمْ كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُهُمْ أَنَّ خَاتَمَ الذَّهَبِ جَائِزٌ لِذَوِي السُّلْطَانِ، أَوْ يَقُولُ: إنَّ الْحَرِيرَ جَائِزٌ لَهُمْ لُبْسُهُ دُونَ غَيْرِهِمْ.
وَهَذَا أَقْرَبُ مِنْ الْأَوَّلِ فِي تَصَوُّرِ الْبِدْعَةِ فِي حَقِّ هَذَا الْقِسْمِ وَيُشْبِهُهُ عَلَى قُرْبٍ زَخْرَفَةُ الْمَسَاجِدِ؛ إذْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ تَرْفِيعِ بُيُوتِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ تَعْلِيقُ الثُّرَيَّاتِ الْخَطِيرَةِ الْأَثْمَانِ حَتَّى يَعُدَّ الْإِنْفَاقَ فِي ذَلِكَ إنْفَاقًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ إذَا اعْتَقَدَ فِي زَخَارِفِ الْمُلُوكِ.
وَإِقَامَةِ صُوَرِهِمْ أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ تَرْفِيعِ الْإِسْلَامِ وَإِظْهَارِ مَعَالِمِهِ وَشَعَائِرِهِ أَوْ قَصَدَ ذَلِكَ فِي فِعْلِهِ أَوْ لَا أَنَّهُ تَرْفِيعٌ لِلْإِسْلَامِ لِمَا لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ بِهِ.
وَمَا حَكَاهُ الْقَرَافِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ هَذِهِ الزَّخَارِفِ بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْمُعْتَادِ فِي اللِّبَاسِ وَالِاحْتِيَاطِ فِي الْحِجَابِ مَخَافَةً مِنْ انْخِرَاقِ خَرْقٍ يَتَّسِعُ فَلَا يُرَقَّعُ هَذَا إنْ صَحَّ مَا قَالَ، وَإِلَّا فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى نَقْلِ الْمُؤَرِّخِينَ وَمَنْ لَا يُعْتَبَرُ مِنْ الْمُؤَلَّفِينَ وَأَحْرَى فِي أَنْ يَنْبَنِيَ عَلَيْهِ حُكْمٌ، وَمَا أَتَى بِهِ الْقَرَافِيُّ مِثَالًا لِلْبِدْعَةِ الْمُبَاحَةِ مِنْ اتِّخَاذِ الْمَنَاخِلِ لِلدَّقِيقِ فَالْمُعْتَادُ فِيهِ أَنْ لَا يُلْحِقَهُ أَحَدٌ بِالدِّينِ، وَلَا بِتَدْبِيرِ الدُّنْيَا بِحَيْثُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ كَالتَّشْرِيعِ فَلَا نُطَوِّلُ بِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ يُنْظَرُ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ فَتَبَيَّنَ مَجَالُ الْبِدْعَةِ فِي الْعَادِيَّاتِ مِنْ مَجَالِ غَيْرِهَا وَقَدْ يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ - تَعَالَى - فِي تَعْرِيفِ الْبِدْعَةِ الْمُتَقَدِّمِ ظَاهِرُ الْمَعْنَى عَلَى طَرِيقَةِ الْأَكْثَرِينَ فِي الْعَادِيَّاتِ وَأَمَّا عَلَى طَرِيقَةِ الْقَرَافِيِّ وَشَيْخِهِ وَبَعْضِ السَّلَفِ فِيهَا فَمَعْنَاهُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ إنَّمَا جَاءَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي عَاجِلَتِهِمْ وَآجِلَتِهِمْ لِتَأْتِيَهُمْ فِي الدَّارَيْنِ عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهَا فَهُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ الْمُبْتَدِعُ بِبِدْعَتِهِ؛ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ إمَّا أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالْعَادَاتِ أَوْ الْعِبَادَاتِ فَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْعِبَادَاتِ فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَا أَنْ يَأْتِيَ تَعَبُّدُهُ عَلَى أَبْلَغِ مَا يَكُونُ فِي زَعْمِهِ لِيَفُوزَ بِأَتَمِّ الْمَرَاتِبِ فِي الْآخِرَةِ فِي ظَنِّهِ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْعَادَاتِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَضَعَهَا لِتَأْتِيَ أُمُورُ دُنْيَاهُ عَلَى تَمَامِ الْمَصْلَحَةِ فِيهَا فَمَنْ يَجْعَلْ الْمَنَاخِلَ فِي قِسْمِ الْبِدَعِ فَظَاهِرٌ أَنَّ التَّمَتُّعَ عِنْدَهُ بِلَذَّةِ الدَّقِيقِ الْمَنْخُولِ أَتَمُّ مِنْهُ بِغَيْرِ الْمَنْخُولِ.
وَكَذَلِكَ الْبِنَاءَاتُ الْمُشَيَّدَةُ التَّمَتُّعُ بِهَا أَبْلَغُ مِنْهُ بِالْحُشُوشِ وَالْخِرَبِ وَمِثْلُهُ الْمُصَادَرَاتُ فِي الْأَمْوَالِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أُولِي الْأَمْرِ.
وَقَدْ أَبَاحَتْ الشَّرِيعَةُ التَّوَسُّعَ فِي التَّصَرُّفَاتِ فَيُعَدُّ الْمُبْتَدِعُ هَذَا مِنْ ذَلِكَ (الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ) : أَنَّ الْبِدَعَ عَلَى أَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ قَبِيحَةً مَنْهِيًّا عَنْهَا هَلْ لَهَا حُكْمٌ وَاحِدٌ أَمْ مُتَعَدِّدٌ طَرِيقَتَانِ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى الْأُولَى، وَأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا كَبَائِرَ وَأَيَّدَهَا بِأَنَّ الصَّغِيرَةَ فَضْلًا عَنْ الْكَرَاهَةِ وَإِنْ ظَهَرَتْ فِي الْمَعَاصِي
فَالْكِتَابُ قَوْله تَعَالَى {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 5] أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وقَوْله تَعَالَى {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32] أَيْ لَا تَتَمَنَّوْا زَوَالَهُ؛ لِأَنَّ قَرِينَةَ النَّهْيِ دَالَّةٌ عَلَى هَذَا الْحَذْفِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم «وَلَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ - تَعَالَى - مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ» أَيْ لَا غِبْطَةَ إلَّا فِي هَاتَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ، وَقَالَ عليه السلام «لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا» وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْ الْغِبْطَةِ بِلَفْظِ الْحَسَدِ كَالْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَيُقَالُ: إنَّ الْحَسَدَ أَوَّلُ مَعْصِيَةٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهَا فِي الْأَرْضِ حَسَدَ إبْلِيسُ آدَمَ فَلَمْ يَسْجُدْ لَهُ
(الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْكِبْرِ وَقَاعِدَةِ التَّجَمُّلِ بِالْمَلَابِسِ وَالْمَرَاكِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ)
اعْلَمْ أَنَّ الْكِبْرَ لِلَّهِ - تَعَالَى - عَلَى أَعْدَائِهِ حَسَنٌ، وَعَلَى عِبَادِهِ وَشَرَائِعِهِ حَرَامٌ وَكَبِيرَةٌ، قَالَ عليه السلام «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ الْكِبْرِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَحَدَنَا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً فَقَالَ إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ وَلَكِنَّ الْكِبْرَ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْصُ النَّاسِ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ قَالَ الْعُلَمَاءُ رضي الله عنهم: بَطَرُ الْحَقِّ رَدُّهُ عَلَى قَائِلِهِ وَغَمْصُ النَّاسِ احْتِقَارُهُمْ، وَقَوْلُهُ: عليه السلام لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَعِيدٌ عَظِيمٌ يَقْتَضِي أَنَّ الْكِبْرَ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَعَدَمَ دُخُولِهِ الْجَنَّةَ مُطْلَقًا
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
غَيْرِ الْبِدَعِ لَا تَظْهَرُ فِي الْبِدَعِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبِدَعَ ثَبَتَ لَهَا أَمْرَانِ
(أَحَدُهُمَا) أَنَّهَا مُضَادَّةٌ لِلشَّارِعِ وَمُرَاغَمَةٌ لَهُ حَيْثُ نَصَّبَ الْمُبْتَدِعُ نَفْسَهُ نَصْبَ الْمُسْتَدْرِكِ عَلَى الشَّرِيعَةِ لَا نَصْبَ الْمُكْتَفِي بِمَا حُدَّ لَهُ
(وَالثَّانِي) : أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ - وَإِنْ قَلَّتْ - تَشْرِيعٌ زَائِدٌ أَوْ نَاقِصٌ أَوْ تَغْيِيرٌ لِلْأَصْلِ الصَّحِيحِ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ عَلَى الِانْفِرَادُ، وَقَدْ يَكُونُ مُلْحَقًا بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ فَيَكُونُ قَادِحًا فِي الْمَشْرُوعِ، وَلَوْ فَعَلَ أَحَدٌ مِثْلَ هَذَا فِي نَفْسِ الشَّرِيعَةِ عَدَا الْكُفْرَ؛ إذْ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فِيهَا أَوْ التَّغْيِيرُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ كُفْرٌ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا قَلَّ مِنْهُ، وَمَا كَثُرَ فَمَنْ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِتَأْوِيلٍ فَاسِدٍ أَوْ بِرَأْيٍ غَالِطٍ رَآهُ وَأَلْحَقَهُ بِالْمَشْرُوعِ، فَإِذَا لَمْ نُكَفِّرْهُ لَمْ يَكُنْ فِي حُكْمِهِ فَرْقٌ بَيْنَ مَا قَلَّ مِنْهُ وَمَا كَثُرَ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ لَا تَحْمِلُهَا الشَّرِيعَةُ لَا بِقَلِيلٍ، وَلَا بِكَثِيرٍ لَا سِيَّمَا.
وَعُمُومُ الْأَدِلَّةِ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ، وَكَلَامُ السَّلَفِ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ الذَّمِّ فِيهَا فَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ بِدْعَةٍ كَبِيرَةٌ عَظِيمَةٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى مُجَاوَزَةِ حُدُودِ اللَّهِ بِالتَّشْرِيعِ إلَّا أَنَّهَا.
وَإِنْ عَظُمَتْ لِمَا ذَكَرْنَاهُ تَتَفَاوَتُ رُتَبُهَا إذَا نُسِبَ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ فَيَكُونُ مِنْهَا صِغَارٌ وَكِبَارٌ أَمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ بَعْضَهَا أَشَدُّ عِقَابًا مِنْ بَعْضٍ فَالْأَشَدُّ عِقَابًا أَكْبَرُ مِمَّا دُونَهُ.
وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ فَوْتِ الْمَطْلُوبِ فِي الْمَفْسَدَةِ فَكَمَا انْقَسَمَتْ الطَّاعَةُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ إلَى الْفَاضِلِ وَالْأَفْضَلِ لِانْقِسَامِ مَصَالِحِهَا إلَى الْكَامِلِ وَالْأَكْمَلِ انْقَسَمَتْ الْبِدَعُ لِانْقِسَامِ مَفَاسِدِهَا إلَى الرَّذْلِ وَالْأَرْذَلِ إلَى الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ مِنْ بَابِ النَّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ كَبِيرًا فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ صَغِيرٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ فَلَا يُنْظَرُ إلَى خِفَّةِ الْأَمْرِ فِي الْبِدْعَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى صُورَتِهَا، وَإِنْ دَقَّتْ بَلْ يُنْظَرُ إلَى مُصَادَمَتِهَا لِلشَّرِيعَةِ وَرَمْيِهَا لَهَا بِالنَّقْصِ وَالِاسْتِدْرَاكِ وَأَنَّهَا لَمْ تَكْمُلْ بَعْدُ حَتَّى يُوضَعَ فِيهَا بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَعَاصِي فَإِنَّهَا لَا تَعُودُ عَلَى الشَّرِيعَةِ بِتَنْقِيصٍ، وَلَا غَضٍّ مِنْ جَانِبِهَا بَلْ صَاحِبُ الْمَعْصِيَةِ يَتَنَصَّلُ مِنْهَا مُقِرًّا لِلَّهِ بِمُخَالَفَتِهِ لِحُكْمِهَا فَحَاصِلُ الْمَعْصِيَةِ أَنَّهَا مُخَالَفَةٌ فِي فِعْلِ الْمُكَلَّفِ لِمَا يُعْتَقَدُ صِحَّتُهُ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَحَاصِلُ الْبِدْعَةِ مُخَالَفَةٌ فِي اعْتِقَادِ كَمَالِ الشَّرِيعَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مَنْ أَحْدَثَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُهَا فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ خَانَ الرِّسَالَةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] إلَى آخِرِ الْحِكَايَةِ وَمِثْلُهَا جَوَابُهُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْمَدِينَةِ.
وَقَالَ: أَيُّ فِتْنَةٍ فِيهَا إنَّمَا هِيَ أَمْيَالٌ أَزِيدُهَا، فَقَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَظُنَّ أَنَّك فَعَلْت فِعْلًا قَصَرَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى آخِرِ الْحِكَايَةِ فَإِذًا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي الْبِدَعِ مَا هُوَ صَغِيرَةٌ بَلْ صَارَ اعْتِقَادُ الصَّغَائِرِ فِيهَا يَكَادُ يَكُونُ مِنْ الْمُتَشَابِهَاتِ كَمَا صَارَ اعْتِقَادُ نَفْيِ الْكَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهَ عَنْهَا مِنْ الْوَاضِحَاتِ، وَإِلَى الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ أَعْنِي تَعَدُّدَ حُكْمِ الْبِدَعِ مَالَ الْإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ الِاعْتِصَامِ: إنَّ الْبِدَعَ.
وَإِنْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهَا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَنِسْبَتُهُ إلَى الضَّلَالَةِ وَاحِدَةٌ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ» ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ بِدْعَةٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ هُوَ التَّحْرِيمُ فَقَطْ، أَوْ الْكَرَاهَةُ فَقَطْ لِوُجُوهٍ
(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) : أَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ جِنْسِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَهِيَ لَا تُعَدُّ وَالْكَرَاهَةُ وَالتَّحْرِيمُ فَالْبِدَعُ كَذَلِكَ
(وَالْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّ الْبِدَعَ إذَا تُؤُمِّلَ مَعْقُولُهَا وُجِدَتْ مُتَفَاوِتَةً فَمِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ صُرَاحٌ كَبِدْعَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ بِنَحْوِ قَوْله تَعَالَى {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام: 136] الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} [الأنعام: 139]
عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ عِنْدَهُمْ يُخَلَّدُ فِي النَّارِ كَالْكَافِرِ، وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ مَعْنَاهُ لَا يَدْخُلُ فِي وَقْتٍ يَدْخُلُهَا غَيْرُ الْمُتَكَبِّرِينَ أَيْ فِي الْمَبْدَأِ، وَالنَّفْيُ الْعَامُّ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ إذَا اقْتَضَتْهُ النُّصُوصُ أَوْ الْقَوَاعِدُ وَالْكِبْرُ مِنْ أَعْظَمِ ذُنُوبِ الْقَلْبِ نَسْأَلُ اللَّهَ - تَعَالَى - الْعَافِيَةَ حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كُلُّ ذُنُوبِ الْقَلْبِ يَكُونُ مَعَهُ الْفَتْحُ إلَّا الْكِبْرَ، وَأَمَّا التَّجَمُّلُ فَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا فِي وُلَاةِ الْأُمُورِ وَغَيْرِهِمْ إذَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ تَنْفِيذُ الْوَاجِبِ فَإِنَّ الْهَيْئَاتِ الرَّثَّةَ لَا تَحْصُلُ مَعَهَا مَصَالِحُ الْعَامَّةِ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا إلَيْهَا فِي الصَّلَوَاتِ وَالْجَمَاعَاتِ وَفِي الْحُرُوبِ لِرَهْبَةِ الْعَدُوِّ وَالْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا، وَفِي الْعُلَمَاءِ لِتَعْظِيمِ الْعِلْمِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ أُحِبُّ أَنْ أَنْظُرَ إلَى قَارِئِ الْقُرْآنِ أَبْيَضَ الثِّيَابِ وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا إذَا كَانَ وَسِيلَةً لِمُحَرَّمٍ كَمَنْ يَتَزَيَّنُ لِلنِّسَاءِ الْأَجْنَبِيَّاتِ لِيَزْنِيَ بِهِنَّ، وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا إذَا عَرِيَ عَنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ وَانْقَسَمَ التَّجَمُّلُ إلَى هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ، وَكَذَلِكَ الْكِبْرُ أَيْضًا قَدْ يَجِبُ عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْحُرُوبِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ يُنْدَبُ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ تَقْلِيلًا لِلْبِدْعَةِ، وَقَدْ يَحْرُمُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، وَالْإِبَاحَةُ فِيهِ بَعِيدَةٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّجَمُّلِ فِي تَصَوُّرِ الْإِبَاحَةِ فِيهِ أَنَّ أَصْلَ التَّجَمُّلِ الْإِبَاحَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] فَإِذَا عُدِمَ الْمُعَارِضُ النَّاقِلُ عَنْ الْإِبَاحَةِ بَقِيَتْ الْإِبَاحَةُ، وَأَصْلُ الْكِبْرِ التَّحْرِيمُ، فَإِذَا عُدِمَ الْمُعَارِضُ النَّاقِلُ عَنْ التَّحْرِيمِ اُسْتُصْحِبَ فِيهِ التَّحْرِيمُ فَهَذَا فَرْقٌ، وَفَرْقٌ آخَرَ أَنَّ الْكِبْرَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَالتَّجَمُّلُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وقَوْله تَعَالَى {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} [المائدة: 103] وَكَذَلِكَ بِدْعَةُ الْمُنَافِقِينَ حَيْثُ اتَّخَذُوا الدِّينَ ذَرِيعَةً لِحِفْظِ النَّفْسِ وَالْمَالِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُشَكُّ أَنَّهُ كُفْرٌ صُرَاحٌ.
وَمِنْهَا مَا هُوَ مِنْ الْمَعَاصِي الَّتِي لَيْسَتْ بِكُفْرٍ أَوْ يُخْتَلَفُ هَلْ هِيَ كُفْرٌ أَمْ لَا كَبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنْ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَعْصِيَةٌ وَيُتَّفَقُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِكُفْرٍ كَبِدْعَةِ التَّبَتُّلِ وَالصِّيَامِ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ وَالْخِصَاءِ بِقَصْدِ قَطْعِ شَهْوَةِ النِّكَاحِ وَالْجِمَاعِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَكْرُوهٌ كَمَا يَقُولُ مَالِكٌ فِي إتْبَاعِ رَمَضَانَ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالَ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْإِدَارَةِ وَالِاجْتِمَاعِ لِلدُّعَاءِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَذِكْرِ السَّلَاطِينِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَالشَّافِعِيُّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ
(وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ) : أَنَّ الْمَعَاصِيَ مِنْهَا صَغَائِرُ، وَمِنْهَا كَبَائِرُ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِكَوْنِهَا وَاقِعَةً فِي الضَّرُورِيَّاتِ أَوْ الْحَاجِيَّاتِ أَوْ التَّكْمِيلِيَّاتِ فَإِنَّ مَا كَانَتْ فِي الضَّرُورِيَّاتِ أَعْظَمُ الْكَبَائِرِ، وَمَا كَانَتْ فِي التَّحْسِينَاتِ فَأَدْنَى رُتْبَةً بِلَا إشْكَالٍ، وَمَا وَقَعَتْ فِي الْحَاجِيَّاتِ فَمُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الرُّتْبَتَيْنِ ثُمَّ إنَّ كُلَّ رُتْبَةٍ مِنْ هَذِهِ الرُّتَبِ لَهَا مُكَمِّلٌ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي رُتْبَةِ الْمُكَمِّلِ فَإِنَّ الْمُكَمَّلَ مَعَ الْمُكَمِّلِ فِي نِسْبَةِ الْوَسِيلَةِ مَعَ الْمَقْصِدِ، وَلَا تَبْلُغُ الْوَسِيلَةُ رُتْبَةَ الْمَقْصِدِ، وَأَيْضًا الضَّرُورِيَّاتُ إذَا تُؤُمِّلَتْ وُجِدَتْ عَلَى مَرَاتِبَ فِي التَّأْكِيدِ وَعَدَمِهِ فَإِنَّ مَرْتَبَةَ النَّفْسِ لَيْسَتْ كَمَرْتَبَةِ الدِّينِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكُفْرَ مُبِيحٌ لِلدَّمِ وَأَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الدِّينِ تُبِيحُ تَعْرِيضَ النَّفْسِ لِلْقَتْلِ وَالْإِتْلَافِ فِي الْأَمْرِ بِمُجَاهَدَةِ الْكُفَّارِ وَالْمَارِقِينَ عَنْ الدِّينِ، وَمَرْتَبَةُ الْعَقْلِ وَالْمَالِ لَيْسَتْ كَمَرْتَبَةِ النَّفْسِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ مُبِيحٌ لِلْقِصَاصِ، فَالْقَتْلُ بِخِلَافِ الْعَقْلِ وَالْمَالِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا بَقِيَ، وَإِذَا نَظَرْت فِي مَرْتَبَةِ النَّفْسِ وَجَدْتهَا مُتَبَايِنَةَ الْمَرَاتِبِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَطْعَ الْعُضْوِ لَيْسَ كَالذَّبْحِ، وَأَنَّ الْخَدْشَ لَيْسَ كَقَطْعِ الْعُضْوِ.
وَهَذَا كُلُّهُ مَحَلُّ بَيَانِهِ الْأُصُولُ فَقَدْ ظَهَرَ تَفَاوُتُ رُتَبِ الْمَعَاصِي وَالْبِدَعِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعَاصِي فَيُتَصَوَّرُ فِيهَا التَّفَاوُتُ أَيْضًا فَمِنْهَا مَا يَقَعُ فِي الضَّرُورِيَّاتِ إخْلَالًا بِهَا وَمِنْهَا مَا يَقَعُ فِي الْحَاجِيَاتِ إخْلَالًا بِهَا وَمِنْهَا مَا يَقَعُ فِي التَّحْسِينَاتِ إخْلَالًا بِهَا وَمَا يَقَعُ فِي رُتْبَةِ الضَّرُورِيَّاتِ، وَمِنْهُ مَا يَقَعُ فِي الدِّينِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي اخْتِرَاعِ الْكُفَّارِ وَتَغْيِيرِهِمْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ عليه السلام وَمِنْهُ مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ كَنِحَلِ الْهِنْدِ فِي تَعْذِيبِهَا أَنْفُسَهَا بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ الشَّنِيعِ وَالتَّمْثِيلِ الْفَظِيعِ وَالْقَتْلِ بِالْأَصْنَافِ الَّتِي تَفْزَعُ مِنْهَا الْقُلُوبُ وَتَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ اسْتِعْجَالِ الْمَوْتِ لِنَيْلِ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى فِي زَعْمِهِمْ وَالْفَوْزِ بِالنَّعِيمِ الْأَكْمَلِ بَعْدَ الْخُرُوجِ عَنْ هَذِهِ الدَّارِ الْعَاجِلَةِ، وَمَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولٍ لَهُمْ فَاسِدَةٍ اعْتَقَدُوهَا وَبَنَوْا عَلَيْهَا أَعْمَالَهُمْ، وَمِنْهُ مَا يَقَعُ فِي النَّسْلِ كَمَا فِي أَنْكِحَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي لَا عَهْدَ بِهَا فِي شَرِيعَةِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَلَا غَيْرِهِ بَلْ كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ مَا اخْتَرَعُوا وَابْتَدَعُوا وَهِيَ أَنْوَاعٌ مِنْهَا نِكَاحُ الِاسْتِبْضَاعِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: إذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا أَرْسِلِي إلَى فُلَانٍ فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ، وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا، وَلَا يَمَسُّهَا أَبَدًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي يُسْتَبْضَعُ مِنْهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلَهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا إذَا أَحَبَّ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابَةِ الْوَلَدِ، وَمِنْهُ مَا يَقَعُ فِي الْعَقْلِ كَزَعْمِ بَعْضِ الْفِرَقِ أَنَّ الْعَقْلَ لَهُ مَجَالٌ فِي التَّشْرِيعِ، وَأَنَّهُ مُحَسَّنٌ وَمُقَبَّحٌ فَابْتَدَعُوا فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَيْسَ فِيهِ، وَمِنْهُ مَا يَقَعُ فِي الْمَالِ كَاحْتِجَاجِ الْكُفَّارِ عَلَى اسْتِحْلَالِ الْعَمَلِ بِالرِّبَا بِقِيَاسٍ فَاسِدٍ كَذَّبَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ وَرَدَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]
مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَسَنُ دُونَ الْكِبْرِ
(الْفَرْقُ السِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْكِبْرِ وَقَاعِدَةِ الْعُجْبِ) قَدْ تَقَدَّمَتْ حَقِيقَةُ الْكِبْرِ، وَأَنَّهُ فِي الْقَلْبِ وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56] فَجَعَلَ مَحَلَّهُ الْقَلْبَ وَالصُّدُورَ وَأَمَّا الْعُجْبُ فَهُوَ رُؤْيَةُ الْعِبَادَةِ، وَاسْتِعْظَامُهَا مِنْ الْعَبْدِ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ تَكُونُ بَعْدَ الْعِبَادَةِ وَمُتَعَلِّقَةً بِهَا هَذَا التَّعَلُّقَ الْخَاصَّ كَمَا يَتَعَجَّبُ الْعَابِدُ بِعِبَادَتِهِ، وَالْعَالِمُ بِعِلْمِهِ، وَكُلُّ مُطِيعٍ بِطَاعَتِهِ هَذَا حَرَامٌ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلطَّاعَةِ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ بَعْدَهَا بِخِلَافِ الرِّيَاءِ فَإِنَّهُ يَقَعُ مَعَهَا فَيُفْسِدَهَا، وَسِرُّ تَحْرِيمِ الْعُجْبِ أَنَّهُ سُوءُ أَدَبٍ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَعْظِمَ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى سَيِّدِهِ بَلْ يَسْتَصْغِرُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى عَظَمَةِ سَيِّدِهِ لَا سِيَّمَا عَظَمَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] أَيْ مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ فَمَنْ أُعْجِبَ بِنَفْسِهِ وَعِبَادَتِهِ فَقَدْ هَلَكَ مَعَ رَبِّهِ، وَهُوَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ وَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِمَقْتِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَخَطِهِ وَنَبَّهَ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] مَعْنَاهُ يَفْعَلُونَ مِنْ الطَّاعَاتِ مَا يَفْعَلُونَ وَهُمْ خَائِفُونَ مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِتِلْكَ الطَّاعَةِ احْتِقَارًا لَهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ هَذِهِ الصِّفَةِ وَالنَّهْيِ عَنْ ضِدِّهَا فَالْكِبْرُ رَاجِعٌ لِلْخَلْقِ وَالْعِبَادِ، وَالْعَجَبُ رَاجِعٌ لِلْعِبَادَةِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
قَالَ: وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ فِي تَوْجِيهِ طَرِيقَةِ اتِّحَادِ حُكْمِ الْبِدَعِ فَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ إلَّا فِي حَقِّ مَنْ يَكُونُ عَالِمًا بِكَوْنِهَا بِدْعَةً وَيُقِرُّ بِالْخِلَافِ لِلسُّنَّةِ بَحْتًا أَمَّا فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا، وَشَأْنُ كُلِّ مَنْ حَكَمْنَا لَهُ بِحُكْمِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنْ لَا يُقِرَّ بِالْخِلَافِ لِلسُّنَّةِ بَحْتًا بَلْ يَكُونُ غَيْرَ عَالِمٍ بِأَنَّ مَا عَمِلَهُ بِدْعَةٌ؛ إذْ لَا يَرْضَى مُنْتَمٍ إلَى الْإِسْلَامِ بِإِبْدَاءِ صَفْحَةِ الْخِلَافِ لِلسُّنَّةِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ مُصَادِمٌ لِلشَّارِعِ مُرَاغِمٌ لِلشَّرْعِ بِالزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنُّقْصَانِ مِنْهُ وَالتَّحْرِيفِ لَهُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَأْوِيلٍ فَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا فَفِي اسْتِنْبَاطِهَا وَتَشْرِيعِهَا كَقَوْلِهِ: هِيَ بِدْعَةٌ، وَلَكِنَّهَا مُسْتَحْسَنَةٌ وَكَفِعْلِهِ لَهَا مُقِرًّا بِكَوْنِهَا بِدْعَةً لِأَجْلِ حَظٍّ عَاجِلٍ كَفَاعِلِ الذَّنْبِ لِقَضَاءِ حَظِّهِ الْعَاجِلِ خَوْفًا عَلَى حَظِّهِ أَوْ فِرَارًا مِنْ خَوْفٍ عَلَى حَظِّهِ أَوْ فِرَارًا مِنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ الْيَوْمَ فِي كَثِيرٍ مِمَّنْ يُشَارُ إلَيْهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا فَفِي تَقْلِيدِهِ كَقَوْلِهِ: إنَّهَا بِدْعَةٌ، وَلَكِنَّنِي رَأَيْت فُلَانًا الْفَاضِلَ يَعْمَلُ بِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُ مَالِكٍ: مَنْ أَحْدَثَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُهَا فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَانَ الرِّسَالَةَ وَقَوْلُهُ: لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْمَدِينَةِ أَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَظُنَّ أَنَّك سَبَقْت إلَى فَضِيلَةٍ قَصَرَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى آخِرِ الْحِكَايَةِ أَنَّهَا إلْزَامٌ لِلْخَصْمِ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ النَّظَرِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَلْزَمُك فِي هَذَا الْقَوْلِ كَذَا لَا أَنَّهُ يَقُولُ: قَصَدْت إلَيْهِ قَصْدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ إلَى ذَلِكَ مُسْلِمٌ وَلَازِمُ الْمَذْهَبِ وَإِنْ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِيهِ هَلْ هُوَ مَذْهَبٌ أَمْ لَا إلَّا أَنَّ شُيُوخَنَا الْبَجَائِيِّينَ وَالْمَغْرِبِيِّينَ كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ، وَيُرْوَى أَنَّهُ رَأْيُ الْمُحَقِّقِينَ أَيْضًا؛ فَلِذَلِكَ إذَا قُرِّرَ عَلَى الْخَصْمِ أَنْكَرَهُ غَايَةَ الْإِنْكَارِ فَاعْتِبَارُ ذَلِكَ الْمَعْنَى عَلَى التَّحْقِيقِ لَا يَنْهَضُ إذًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَسْتَوِي الْبِدْعَةُ مَعَ الْمَعْصِيَةِ.
2 -
فَكَمَا تَنْقَسِمُ الْمَعْصِيَةُ إلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ كَذَلِكَ تَنْقَسِمُ الْبِدَعُ إلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ نَعَمْ لَا تَكُونُ الْبِدْعَةُ صَغِيرَةً إلَّا بِشُرُوطٍ
(أَحَدُهَا) : أَنْ لَا يُدَاوِمَ عَلَيْهَا كَمَا أَنَّ الصَّغِيرَةَ مِنْ الْمَعَاصِي كَذَلِكَ؛ فَلِذَلِكَ قَالُوا: لَا صَغِيرَةَ مَعَ إصْرَارٍ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ إلَّا أَنَّ الْمَعَاصِيَ مِنْ شَأْنِهَا فِي الْوَاقِعِ أَنَّهَا قَدْ يُصَرُّ عَلَيْهَا، وَقَدْ لَا يُصَرُّ عَلَيْهَا وَعَلَى ذَلِكَ يَنْبَنِي طَرْحُ الشَّهَادَةِ، وَسَخْطَةُ الشَّاهِدِ بِهَا، وَعَدَمُهُ بِخِلَافِ الْبِدْعَةِ فَإِنَّ شَأْنَهَا فِي الْوَاقِعِ الْمُدَاوَمَةُ وَالْحِرْصُ عَلَى أَنْ لَا تَزُولَ مِنْ مَوْضِعِهَا، وَأَنْ تَقُومَ عَلَى تَارِكِهَا الْقِيَامَةُ وَتَنْطَلِقَ عَلَيْهِ أَلْسِنَةُ الْمَلَامَةِ وَيُرْمَى بِالتَّسْفِيهِ وَالتَّجْهِيلِ وَيُنْبَزَ بِالتَّبْدِيعِ وَالتَّضْلِيلِ ضِدُّ مَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالْمُقْتَدَى بِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَوَّلًا الِاعْتِبَارُ، فَإِنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ كَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ الْقِيَامُ بِالنَّكِيرِ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ إنْ كَانَ لَهُمْ عُصْبَةٌ أَوْ لَصِقُوا بِسُلْطَانٍ تَجْرِي أَحْكَامُهُ فِي النَّاسِ، وَتَنْفُذُ أَوَامِرُهُ فِي الْأَقْطَارِ، وَمَنْ طَالَعَ سِيَرَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَخْفَى
وَثَانِيًا: النَّقْلُ فَقَدْ ذَكَرَ السَّلَفُ أَنَّ الْبِدْعَةَ إذَا أُحْدِثَتْ لَا تَزِيدُ إلَّا مُضِيًّا، وَالْمَعَاصِي لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَقَدْ يَتُوبُ صَاحِبُهَا وَيُنِيبُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - بَلْ قَدْ جَاءَ مَا يَشُدُّ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْفِرَقِ فَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ تَتَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ لِصَاحِبِهِ، وَمِنْ هُنَا جَزَمَ السَّلَفُ بِأَنَّ الْمُبْتَدِعَ لَا تَوْبَةَ لَهُ مِنْهَا
(وَالشَّرْطُ الثَّانِي) : أَنْ لَا يَدْعُوَ إلَيْهَا فَإِنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ تَكُونُ صَغِيرَةً بِالْإِضَافَةِ ثُمَّ يَدْعُو مُبْتَدِعُهَا إلَى الْقَوْلِ بِهَا وَالْعَمَلِ عَلَى مُقْتَضَاهَا فَيَكُونُ إثْمُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ الَّذِي أَثَارَهَا، وَسَبَبُ كَثْرَةِ وُقُوعِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا فَقَدْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّ كُلَّ «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا» لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا، وَالصَّغِيرَةُ إنَّمَا تُفَاوِتُ الْكَبِيرَةَ بِحَسَبِ كَثْرَةِ الْإِثْمِ وَقِلَّتِهِ فَرُبَّمَا تُسَاوِي الصَّغِيرَةُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْكَبِيرَةَ أَوْ تُرْبَى عَنْهَا
(وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ) أَنْ لَا تُفْعَلَ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي هِيَ مُجْتَمَعَاتُ النَّاسِ، أَوْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا السُّنَنُ، وَتَظْهَرُ فِيهَا أَعْلَامُ الشَّرِيعَةِ فَأَمَّا إظْهَارُهَا فِي الْمُجْتَمَعَاتِ مِمَّنْ يُقْتَدَى
(الْفَرْقُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْعَجَبِ وَقَاعِدَةِ التَّسْمِيعِ) كِلَاهُمَا مَعْصِيَةٌ وَيُعَكِّرُ عَلَى الْعِبَادَةِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُوَازَنَةِ لَا مِنْ جِهَةِ الْإِحْبَاطِ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أَيْ يُنَادِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَذَا فُلَانٌ عَمِلَ عَمَلًا لِي ثُمَّ أَرَادَ بِهِ غَيْرِي، وَهُوَ غَيْرُ الرِّيَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ يَقَعُ قَبْلَهُ خَالِصًا، وَالرِّيَاءُ مُقَارِنٌ مُفْسِدٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُجْبِ أَنَّهُ يَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَالْعُجْبُ بِالْقَلْبِ كِلَاهُمَا بَعْدِ الْعِبَادَةِ
(الْفَرْقُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَبَيْنَ قَاعِدَةِ عَدَمِ الرِّضَا بِالْمَقْضِيِّ) اعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَلْتَبِسَانِ عَلَيْهِ فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ السَّخَطِ بِالْقَضَاءِ وَعَدَمِ الرِّضَا بِهِ، وَالسَّخَطِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (الْفَرْقُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَعَدَمِ الرِّضَا بِالْمُقَضَّى) قُلْت: مَا قَالَهُ فِيهِ صَحِيحٌ مَا عَدَا قَوْلَهُ: وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ مَعَ عِلْمِهِ بِكُفْرِهِ فَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إلَّا مِنْ الْكَافِرِ عِنَادًا عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ ذَلِكَ عَادَةً، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِامْتِنَاعِ ذَلِكَ عَادَةً فَلَا، وَمَا عَدَا قَوْلَهُ فَمَنْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْمَعْصِيَةِ أَوْ الْكُفْرِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُلَاحِظَ جِهَةَ الْمَعْصِيَةِ وَالْكُفْرِ فَيَكْرَهُهُمَا، وَأَمَّا قَدَرُ اللَّهِ - تَعَالَى - فِيهِمَا فَالرِّضَا بِهِ لَيْسَ إلَّا وَمَتَى سَخِطَهُ وَسَفَّهَ الرُّبُوبِيَّةَ فِي ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ مَعْصِيَةً أَوْ كُفْرًا مُنْضَمًّا إلَى مَعْصِيَتِهِ وَكُفْرِهِ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ كَرَاهَةَ الْكُفْرِ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
بِهِ أَوْ مِمَّنْ يُحْسَنُ الظَّنُّ بِهِ فَذَلِكَ مِنْ أَضَرِّ الْأَشْيَاءِ عَلَى سُنَّةِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهَا لَا تَعْدُو أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يُقْتَدَى بِصَاحِبِهَا فِيهَا فَإِنَّ الْعَوَامَّ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ لَا سِيَّمَا الْبِدَعُ الَّتِي وُكِّلَ الشَّيْطَانُ بِتَحْسِينِهَا لِلنَّاسِ، وَاَلَّتِي لِلنُّفُوسِ فِي تَحْسِينِهَا هَوًى، وَعَلَى حَسَبِ كَثْرَةِ الْإِتْبَاعِ يَعْظُمُ عَلَيْهِ الْوِزْرُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا اتِّخَاذُهَا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا السُّنَنُ فَهُوَ كَالدُّعَاءِ إلَيْهَا بِالتَّصْرِيحِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ إظْهَارِ الشَّرَائِعِ الْإِسْلَامِيَّةِ تَوَهُّمُ أَنَّ كُلَّ مَا ظَهَرَ فِيهَا فَهُوَ مِنْ الشَّعَائِرِ فَكَانَ الْمُظْهِرُ لَهَا يَقُولُ: هَذِهِ سُنَّةٌ فَاتَّبِعُوهَا
(وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ) أَنْ لَا يَسْتَصْغِرَهَا، وَلَا يَسْتَحْقِرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ، وَإِنْ فَرَضْنَاهَا صَغِيرَةً اسْتِهَانَةٌ بِهَا، وَالِاسْتِهَانَةُ بِالذَّنْبِ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِعِظَمِ مَا هُوَ صَغِيرٌ، وَكَذَلِكَ مَعْنَى الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ أَنَّهَا أَدْنَى رُتْبَةً فِي الذَّمِّ مِنْ رُتْبَةِ الصَّغِيرَةِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهَا التَّنْزِيهَ الَّذِي هُوَ نَفْيُ إثْمِ فَاعِلِهَا، وَرَفْعُ الْحَرَجِ عَنْهُ أَلْبَتَّةَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَكَادُ يُوجَدُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنْ الشَّرْعِ، وَلَا مِنْ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ عَلَى الْخُصُوصِ أَمَّا الشَّرْعُ فَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَالَ مَنْ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ اللَّيْلَ، وَلَا أَنَامُ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَنْكِحُ النِّسَاءَ إلَى آخِرِ مَا قَالُوا رَدَّ عَلَيْهِمْ عليه السلام ذَلِكَ، وَقَالَ «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» وَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ أَشَدُّ شَيْءٍ فِي الْإِنْكَارِ مَعَ أَنَّ مَا الْتَزَمُوا لَمْ يَكُنْ إلَّا فِعْلَ مَنْدُوبٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ مَا فِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُ عليه السلام رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ: مَا بَالُ هَذَا؟ قَالُوا: نَذَرَ أَنْ لَا يَسْتَظِلَّ، وَلَا يَتَكَلَّمَ، وَلَا يَجْلِسَ، وَيَصُومَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُرْهُ فَلْيَجْلِسْ وَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» قَالَ مَالِكٌ: أَمَرَهُ أَنْ يُتِمَّ مَا كَانَ لِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ طَاعَةٌ، وَيَتْرُكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِيهِ مَعْصِيَةٌ فَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ مَالِكٌ الْقِيَامَ لِلشَّمْسِ وَتَرْكَ الْكَلَامِ وَالْجُلُوسِ مَعَاصِيَ حَتَّى فَسَّرَ بِهَا الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ مَعَ أَنَّهَا فِي أَنْفُسِهَا أَشْيَاءُ مُبَاحَاتٌ لَكِنَّهُ لَمَّا أَجْرَاهَا مَجْرَى مَا يُتَشَرَّعُ بِهِ، وَيُدَانُ لِلَّهِ بِهِ صَارَتْ عِنْدَ مَالِكٍ مَعَاصِيَ لِلَّهِ وَكُلِّيَّةً قَوْلُهُ:«كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» شَاهِدَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى وَالْجَمِيعُ يَقْتَضِي التَّأْثِيمَ وَالتَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ.
وَهِيَ خَاصِّيَّةُ الْمُحَرَّمِ، قَالَ: وَأَمَّا كَلَامُ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ، وَإِنْ أَطْلَقُوا الْكَرَاهِيَةَ فِي الْأُمُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا لَا يَعْنُونَ بِهَا كَرَاهِيَةَ التَّنْزِيهِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا هُوَ اصْطِلَاحٌ لِلْمُتَأَخِّرِينَ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْقَبِيلَيْنِ فَيُطْلِقُونَ لَفْظَ الْكَرَاهِيَةِ عَلَى كَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهِ فَقَطْ وَيَخُصُّونَ كَرَاهِيَةَ التَّحْرِيمِ بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ وَالْمَنْعِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ السَّلَفِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِمْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ صَرِيحًا أَنْ يَقُولُوا: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَيَتَحَامَوْنَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ خَوْفًا مِمَّا فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116] وَحَكَى مَالِكٌ عَمَّنْ تَقَدَّمَهُ هَذَا الْمَعْنَى، فَإِذَا وَجَدْت فِي كَلَامِهِمْ فِي الْبِدْعَةِ أَوْ غَيْرِهَا أَكْرَهُ هَذَا، وَلَا أُحِبُّ هَذَا وَهَذَا مَكْرُوهٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا تَقْطَعَنَّ عَلَى أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ التَّنْزِيهَ فَقَطْ فَإِنَّهُ إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ فِي جَمِيعِ الْبِدَعِ عَلَى أَنَّهَا ضَلَالَةٌ فَمَنْ يَعُدُّ فِيهَا مَا هُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهِيَةَ التَّنْزِيهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُطْلِقُوا لَفْظَ الْكَرَاهِيَةِ عَلَى مَا يَكُونُ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، وَلَكِنْ يُعَارِضُهُ أَمْرٌ آخَرُ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ فَيُكْرَهُ لِأَجْلِهِ لَا؛ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ. اهـ. مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْ كَلَامِ الشَّاطِبِيِّ فِي الِاعْتِصَامِ قُلْت: وَحَاصِلُ طَرِيقَتَيْ عَدَمِ التَّفْصِيلِ فِي الْبِدَعِ أَنَّهَا عَلَى الْأُولَى لَا تَكُونُ إلَّا كَبَائِرَ.
وَإِنْ تَفَاوَتَتْ أَفْرَادُهَا بِكَثْرَةِ الْعِقَابِ وَعَدَمِ كَثْرَتِهِ وَأَنَّهَا عَلَى الثَّانِيَةِ تَكُونُ كَبَائِرَ أَوْ صَغَائِرَ أَوْ مَكْرُوهَةً إلَّا أَنَّ صَغَائِرَهَا وَإِنْ كَانَتْ كَصَغَائِرِ غَيْرِهَا مِنْ الْمَعَاصِي