الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنْ الْمُوبِقَاتِ فَكَانَ يَكْفِيهِمْ قَلِيلُ التَّعْزِيرِ ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الْمَعَاصِي حَتَّى زَوَّرُوا خَاتَمَ عُمَرَ رضي الله عنه وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ عَلَى قَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْفُجُورِ، وَلَمْ يَرِدْ رضي الله عنه نَسْخَ حُكْمٍ بَلْ الْمُجْتَهِدُ فِيهِ يَنْتَقِلُ لَهُ الِاجْتِهَادُ لِاخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ.
(وَثَانِيهَا) مِنْ الْفُرُوقِ أَنَّ الْحُدُودَ وَاجِبَةُ النُّفُوذِ وَالْإِقَامَةِ عَلَى الْأَئِمَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّعْزِيرِ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ إنْ كَانَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ كَالْمَحْدُودِ إلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّ الْإِمَامِ أَنَّ غَيْرَ الضَّرْبِ مَصْلَحَةٌ مِنْ الْمَلَامَةِ وَالْكَلَامِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ هُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْإِمَامِ إنْ شَاءَ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه بِمَا فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُعَزِّرْ الْأَنْصَارِيَّ الَّذِي قَالَ لَهُ فِي حَقِّ الزُّبَيْرِ فِي أَمْرِ السَّقْيِ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِك» يَعْنِي فَسَامَحْتَهُ؛ وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فَلَا يَجِبُ كَضَرْبِ الْأَبِ وَالْمُعَلِّمِ وَالزَّوْجِ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ حَقٌّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَازَ لَهُ تَرْكُهُ بِخِلَافِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: 135] فَإِذَا قَسَطَ فَتَجِبُ إقَامَتُهُ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ غَيْرَ الْمُقَدَّرِ قَدْ يَجِبُ كَنَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ، وَنَصِيبُ الْإِنْسَانِ فِي بَيْتِ الْمَالِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَهُوَ وَاجِبٌ؛ وَلِأَنَّ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ كَانَتْ تَصْدُرُ لِجَفَاءِ الْأَعْرَابِ لَا لِقَصْدِ السَّبِّ.
(وَثَالِثِ الْفُرُوقِ) أَنَّ التَّعْزِيرَ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ مِنْ جِهَةِ اخْتِلَافِهِ بِاخْتِلَافِ الْجِنَايَاتِ وَهُوَ الْأَصْلُ بِدَلِيلِ الزِّنَا مِائَةٌ وَحَدُّ الْقَذْفِ ثَمَانُونَ وَالسَّرِقَةُ الْقَطْعُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَالِكًا لِثُلُثِهِمْ فَأَعْتَقَهُ لَمْ يَجْتَمِعْ ذَلِكَ فِي اثْنَيْنِ مِنْهُمْ، وَالْمَرِيضُ لَمْ يَمْلِكْ غَيْرَ الثُّلُثِ فَلَا يَجْمَعُ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَدَمِ الْمِلْكِ، وَالْمَنْعِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي نُفُوذِ الْعِتْقِ، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ إذَا مَلَكَ الثُّلُثَ فَقَطْ لَمْ يَحْصُلْ تَنَازُعٌ فِي الْعِتْقِ، وَلَا حِرْمَانٌ مِنْ تَنَاوُلِهِ لَفْظَ الْعِتْقِ
(وَالْوَجْهُ السَّادِسُ) أَنَّ الْقُرْعَةَ إنَّمَا تَدْخُلُ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ فِيمَا يَجُوزُ التَّرَاضِي عَلَيْهِ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ حَالَةَ الصِّحَّةِ لَمَّا لَمْ يَجُزْ التَّرَاضِي عَلَى انْتِقَاضِهَا لَمْ يَجُزْ الْقُرْعَةُ فِيهَا، وَالْأَمْوَالُ يَجُوزُ التَّرَاضِي فِيهَا قَدْ خَلَتْ الْقُرْعَةُ فِيهَا، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْوَارِثَ لَوْ رَضِيَ تَنْفِيذَ عِتْقِ الْجَمِيعِ لَصَحَّ فَهُوَ يَدْخُلُهُ الرِّضَا اهـ كَلَامُ الْأَصْلِ، وَسَلَّمَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ كُفْرٌ وَقَاعِدَةِ مَا لَيْسَ بِكُفْرٍ]
(الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ كُفْرٌ وَقَاعِدَةِ مَا لَيْسَ بِكُفْرٍ) :
الِاحْتِيَاجُ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا لِلْأَصْلِ مِنْ الْتِبَاسِ الْكُفْرِ بِالْكَبَائِرِ نَظَرًا لِمَا ادَّعَاهُ مِنْ أَنَّ الْكُفْرَ يُشَارِكُ مُطْلَقَ الْمَعْصِيَةِ كَبِيرَةً كَانَتْ أَوْ صَغِيرَةً فِي أَمْرَيْنِ.
(الْأَمْرِ الْأَوَّلِ) فِي مُطْلَقِ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ. (الْأَمْرِ الثَّانِي) فِي مُطْلَقِ الْمَفْسَدَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَالنَّوَاهِي تَعْتَمِدُ الْمَفَاسِدَ كَمَا أَنَّ الْأَوَامِرَ تَعْتَمِدُ الْمَصَالِحَ، وَلَكِنَّ أَعْلَى رُتَبِ الْمَفَاسِدِ الْكُفْرُ، وَأَدْنَاهَا الصَّغَائِرُ وَالْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الرُّتْبَتَيْنِ الْكَبَائِرُ فَأَعْلَى رُتَبِ الْكَبَائِرِ يَلِيهَا أَدْنَى رُتَبِ الْكُفْرِ، وَأَدْنَى رُتَبِ الْكَبَائِرِ يَلِيهَا أَعْلَى رُتَبِ الصَّغَائِرِ وَحِينَئِذٍ فَأَكْثَرُ الْتِبَاسِ الْكُفْرِ إنَّمَا هُوَ بِالْكَبَائِرِ.
قَالَ مَا تَهْذِيبُهُ: وَالْمَجَالُ فِي تَحْرِيرِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا صَعْبٌ بَلْ التَّعَرُّضُ إلَى الْحَدِّ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ أَعْلَى رُتَبِ الْكَبَائِرِ مِنْ أَدْنَى رُتَبِ الْكُفْرِ عَسِيرٌ جِدًّا وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ الْكُفْرِ إنَّمَا هُوَ انْتِهَاكٌ خَاصٌّ لِحُرْمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ إمَّا بِالْجَهْلِ بِوُجُودِ الصَّانِعِ أَوْ صِفَاتِهِ تَعَالَى، وَإِمَّا بِالْجُرْأَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِكَرَمْيِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ أَوْ السُّجُودِ لِلصَّنَمِ أَوْ التَّرَدُّدِ لِلْكَنَائِسِ فِي أَعْيَادِهِمْ بِزِيِّ النَّصَارَى، وَمُبَاشَرَةِ أَحْوَالِهِمْ أَوْ جَحْدِ مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ وَعُلِمَ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ، فَجَحْدُ إبَاحَةِ اللَّهِ التِّينَ وَالْعِنَبَ كُفْرٌ كَجَحْدِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَمَعْنَى عِلْمِهِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنْ يُشْتَهَرَ فِي الدِّينِ حَتَّى يَصِيرَ ضَرُورِيًّا فَجَحْدُ الْمَسَائِلِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا إجْمَاعًا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا خَوَاصُّ الْفُقَهَاءِ بِحَيْثُ يَخْفَى الْإِجْمَاعُ فِيهَا لَيْسَ كُفْرًا، قَالَ: بَلْ قَدْ جَحَدَ أَصْلَ الْإِجْمَاعِ جَمَاعَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ الرَّوَافِضِ وَالْخَوَارِجِ كَالنَّظَّامِ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا قَالَ بِكُفْرِهِمْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمْ جَحَدُوا أَصْلَ الْإِجْمَاعِ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ بَذَلُوا جُهْدَهُمْ فِي أَدِلَّتِهِ فَمَا ظَفِرُوا بِهَا كَمَا ظَفِرَ بِهَا الْجُمْهُورُ فَكَانَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي حَقِّهِمْ كَمَا أَنَّ مُتَجَدِّدَ الْإِسْلَامِ إذَا قَدِمَ مِنْ أَرْضِ الْكُفْرِ وَجَحَدَ فِي مَبَادِئِ أَمْرِهِ مَعْنَى شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الْمَعْلُومَةِ لَنَا مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ لَا نُكَفِّرُهُ لِعُذْرِهِ بِعَدَمِ الِاطِّلَاعِ، وَإِنْ كُنَّا نُكَفِّرُ بِذَلِكَ الْجَحْدِ غَيْرَهُ فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّا لَا نُكَفِّرُ بِالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ حَتَّى يُقَالَ كَيْفَ تُكَفِّرُونَ جَاحِدَ الْمَسَائِلِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، وَلَا تُكَفِّرُونَ جَاحِدَ أَصْلِ الْإِجْمَاعِ وَكَيْفَ يَكُونُ الْفَرْعُ أَقْوَى مِنْ الْأَصْلِ بَلْ نُكَفِّرُ بِهِ مِنْ حَيْثُ الشُّهْرَةُ الْمُحَصِّلَةُ لِلضَّرُورَةِ فَمَنْ جَحَدَ إبَاحَةَ الْقِرَاضِ لَا نُكَفِّرُهُ، وَإِنْ كَانَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ فِيهِ إنَّمَا يَعْلَمُهُ خَوَاصُّ الْفُقَهَاءِ أَوْ الْفُقَهَاءُ دُونَ غَيْرِهِمْ فَلَمْ يُجْعَلْ الْفَرْعُ أَقْوَى مِنْ الْأَصْلِ فَافْهَمْ، وَأَلْحَقَ الْأَشْعَرِيُّ بِالْكُفْرِ أَيَّ جُرْأَةٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إرَادَةَ الْكُفْرِ كَبِنَاءِ الْكَنَائِسِ لِيَكْفُرَ فِيهَا أَوْ قَتْلِ نَبِيٍّ مَعَ اعْتِقَادِهِ صِحَّةَ رِسَالَتِهِ لِيُمِيتَ شَرِيعَتَهُ، وَمِنْهُ تَأْخِيرُ إسْلَامِ مَنْ أَتَى لِيُسْلِمَ عَلَى يَدَيْكَ فَتُشِيرُ عَلَيْهِ بِتَأْخِيرِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ إرَادَةٌ لِبَقَاءِ الْكُفْرِ، وَلَا يَنْدَرِجُ فِي إرَادَةِ الْكُفْرِ الدُّعَاءُ بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ عَلَى مَنْ تُعَادِيهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إرَادَةُ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا فِيهِ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ اللَّهِ بَلْ
وَالْحِرَابَةُ الْقَتْلُ وَقَدْ خُولِفَتْ الْقَاعِدَةُ فِي الْحُدُودِ دُونَ التَّعَازِيرِ فَسَوَّى الشَّرْعُ بَيْنَ سَرِقَةِ دِينَارٍ وَسَرِقَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَشَارِبِ قَطْرَةٍ مِنْ الْخَمْرِ وَشَارِبِ جَرَّةٍ فِي الْحَدِّ مَعَ اخْتِلَافِ مَفَاسِدِهَا حَدًّا، وَعُقُوبَةُ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ سَوَاءٌ مَعَ أَنَّ حُرْمَةَ الْحُرِّ أَعْظَمُ لِجَلَالَةِ مِقْدَارِهِ بِدَلِيلِ رَجْمِ الْمُحْصَنِ دُونَ الْبِكْرِ لِعِظَمِ مِقْدَارِهِ مَعَ أَنَّ الْعَبِيدَ إنَّمَا سَاوَتْ الْأَحْرَارَ فِي السَّرِقَةِ وَالْحِرَابَةِ لِتَعَذُّرِ التَّجْزِئَةِ بِخِلَافِ الْجَلْدِ وَاسْتَوَى الْجُرْحُ اللَّطِيفُ السَّارِي لِلنَّفْسِ وَالْعَظِيمُ فِي الْقِصَاصِ مَعَ تَفَاوُتِهِمَا، وَقَتْلُ الرَّجُلِ الْعَالِمِ الصَّالِحِ التَّقِيِّ الشُّجَاعِ الْبَطَلِ مَعَ الْوَضِيعِ.
(الرَّابِعِ) مِنْ الْفُرُوقِ أَنَّ التَّعْزِيرَ تَأْدِيبٌ يَتْبَعُ الْمَفَاسِدَ، وَقَدْ لَا يَصْحَبُهَا الْعِصْيَانُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوَرِ كَتَأْدِيبِ الصِّبْيَانِ وَالْبَهَائِمِ وَالْمَجَانِينِ اسْتِصْلَاحًا لَهُمْ مَعَ عَدَمِ الْمَعْصِيَةِ وَجَاءَ فِي هَذَا الْفَرْقِ فَرْعٌ وَهُوَ أَنَّ الْحَنَفِيَّ إذَا شَرِبَ النَّبِيذَ، وَلَمْ يَسْكَرْ قَالَ مَالِكٌ أَحُدُّهُ وَلَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُ؛ لِأَنَّ تَقْلِيدَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَبِي حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ لِمُنَافَاتِهَا لِلْقِيَاسِ الْجَلِيِّ عَلَى الْخَمْرِ وَمُخَالَفَةِ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه أَحُدُّهُ، وَأَقْبَلُ شَهَادَتَهُ أَمَّا حَدُّهُ فَلِلْمَفْسَدَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ التَّوَسُّلِ لِإِفْسَادِ الْعَقْلِ، وَأَمَّا قَبُولُ شَهَادَتِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْصِ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ التَّقْلِيدِ عِنْدَهُ، قَالَ: وَالْعُقُوبَاتُ تَتْبَعُ الْمَفَاسِدَ لَا الْمَعَاصِيَ فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ عُقُوبَتِهِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ وَيَبْطُلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ فِي التَّعَازِيرِ أَمَّا الْحُدُودُ الْمُقَدَّرَةُ فَلَمْ تُوجَدْ فِي الشَّرْعِ إلَّا فِي مَعْصِيَةٍ عَمَلًا بِالِاسْتِقْرَاءِ، فَالْحَقُّ مَعَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
إذَايَةُ الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ.
وَلَيْسَ مِنْهُ أَيْضًا اخْتِيَارُ الْإِمَامِ عَقْدَ الْجِزْيَةِ عَلَى الْأُسَارَى الْمُوجِبِ لِاسْتِمْرَارِ الْكُفْرِ فِي قُلُوبِهِمْ عَلَى قَتْلِهِمْ الْمُوجِبِ لِمَحْوِ الْكُفْرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ تَوَقُّعُ الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ إذَا بَقُوا أَحْيَاءً وَعَدَمُ سَدِّ بَابِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ بِقَتْلِهِمْ فَحُصُولُ الْكُفْرِ بِإِبْقَائِهِمْ أَحْيَاءَ وَقَعَ بِالْعَرَضِ فَهُوَ مَشْرُوعٌ مَأْمُورٌ بِهِ بَلْ وَاجِبٌ عِنْدَ تَعَيُّنِ مُقْتَضِيهِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الْفَاعِلُ بِخِلَافِ الدُّعَاءِ بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَيَأْثَمُ قَائِلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكْفُرْ بِذَلِكَ. قَالَ: وَالِانْتِهَاكُ الْخَاصُّ الْمُمَيِّزُ لِلْكُفْرِ عَنْ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ إنَّمَا يَتَبَيَّنُ خُصُوصُهُ بِبَيَانِ أَقْسَامِ الْجَهْلِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبَيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجُرْأَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا أَقْسَامُ الْجَهْلِ فَعَشَرَةٌ.
(أَحَدُهَا) مَا لَمْ نُؤْمَرْ بِإِزَالَتِهِ أَصْلًا، وَلَمْ نُؤَاخَذْ بِبَقَائِهِ؛ لِأَنَّهُ لَازِمٌ لَنَا لَا يُمْكِنُ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ وَهُوَ جَلَالُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ الَّتِي لَمْ تَدُلَّ عَلَيْهَا الصَّنْعَةُ، وَلَمْ يَقْدِرْ الْعَبْدُ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِالنَّظَرِ فَعَفَا عَنْهُ لِعَجْزِنَا عَنْهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك» وَقَوْلِ الصِّدِّيقِ الْعَجْزُ عَنْ دَرْكِ الْإِدْرَاكِ إدْرَاكٌ.
(وَثَانِيهَا) مَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ كُفْرٌ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِ الشِّفَاءِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ جَحَدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ أَوْ مُتَكَلِّمٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ فَإِنْ جَهِلَ الصِّفَةَ وَلَمْ يَنْفِهَا كَفَّرَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ وَقِيلَ لَا يَكْفُرُ، وَإِلَيْهِ رَجَعَ الْأَشْعَرِيُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَمِّمْ عَلَى اعْتِقَادِ ذَلِكَ، وَيَعْضُدُهُ حَدِيثُ الْقَائِلِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لِيُعَذِّبَنِّي الْحَدِيثَ وَحَدِيثُ «السَّوْدَاءِ لَمَّا قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْنَ اللَّهُ قَالَتْ فِي السَّمَاءِ» قَالَ، وَلَوْ كُوشِفَ أَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى الصِّفَاتِ لَمْ يَعْلَمْهَا.
قَالَ الْأَصْلُ: فَنَفْيُ الصِّفَاتِ وَالْجَزْمُ بِنَفْيِهَا هُوَ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ نَفْيَ الْعِلْمِ أَوْ الْكَلَامِ أَوْ الْإِرَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بَلْ الْعَالِمُ وَالْمُتَكَلِّمُ وَالْمُرِيدُ فَالْمُجْمَعُ عَلَى كُفْرِهِ هُوَ مَنْ نَفَى أَصْلَ الْمَعْنَى وَحُكْمَهُ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالدَّهْرِيَّةِ دُونَ أَرْبَابِ الشَّرَائِعِ.
(وَالثَّالِثُ) مَا اُخْتُلِفَ فِي التَّكْفِيرِ بِهِ وَهُوَ مَنْ أَثْبَتَ الْأَحْكَامَ دُونَ الصِّفَاتِ فَقَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَمُتَكَلِّمٌ بِغَيْرِ كَلَامٍ، وَمُرِيدٌ بِغَيْرِ إرَادَةٍ وَحَيٌّ بِغَيْرِ حَيَاةٍ وَهَكَذَا بَقِيَّةُ الصِّفَاتِ وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَلِلْأَشْعَرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالْبَاقِلَّانِيّ فِي تَكْفِيرِهِمْ قَوْلَانِ.
(وَالرَّابِعُ) مَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْحَقِّ فِيهِ هَلْ هُوَ جَهْلٌ تَجِبُ إزَالَتُهُ أَمْ هُوَ حَقٌّ لَا تَجِبُ إزَالَتُهُ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ هُوَ مَعْصِيَةٌ، وَمَا رَأَيْتُ مَنْ يُكَفِّرُ بِهِ وَذَلِكَ كَالْقِدَمِ وَالْبَقَاء فَهَلْ يَجِبُ أَنْ يَنْعَقِدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَاقٍ بِبَقَاءٍ قَدِيمٍ وَيَعْصِي مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ أَوْ يَجِبُ أَنْ لَا يَعْتَقِدَ ذَلِكَ بَلْ اللَّهُ تَعَالَى بَاقٍ بِغَيْرِ بَقَاءٍ وَقَدِيمٌ بِغَيْرِ قِدَمٍ، وَاعْتِقَادُ خِلَافِ ذَلِكَ جَهْلٌ حَرَامٌ عَكْسُ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَقَاءِ وَالْقِدَمِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصِّفَاتِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ أُصُول الدِّينِ. وَالصَّحِيحُ هُنَالِكَ أَنَّ الْبَقَاءَ وَالْقِدَمَ لَا وُجُودَ لَهُمَا فِي الْخَارِجِ بِخِلَافِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي السَّبْعَةِ.
(وَالْخَامِسُ) جَهْلٌ يَتَعَلَّقُ بِالصِّفَاتِ لَا بِالذَّاتِ نَحْوَ تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ أَوْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِأَفْعَالِ الْحَيَوَانَاتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَتَعَلُّقِ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَخْصِيصِ جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ أَوْ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِأَفْعَالِ الْحَيَوَانَاتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَلِلْعُلَمَاءِ فِي تَكْفِيرِهِمْ بِذَلِكَ قَوْلَانِ، وَالصَّحِيحُ عَدَمُ تَكْفِيرِهِمْ.
(وَالسَّادِسُ) جَهْلٌ يَتَعَلَّقُ بِالذَّاتِ لَا بِصِفَةٍ مِنْ الصِّفَاتِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِوُجُودِهَا كَالْجَهْلِ بِسَلْبِ الْجِسْمِيَّةِ
(الْخَامِسِ) مِنْ الْفُرُوقِ أَنَّ التَّعْزِيرَ قَدْ يَسْقُطُ، وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِهِ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إذَا كَانَ الْجَانِي مِنْ الصِّبْيَانِ أَوْ الْمُكَلَّفِينَ قَدْ جَنَى جِنَايَةً حَقِيرَةً وَالْعُقُوبَةُ الصَّالِحَةُ لَهَا لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ رَدْعًا، وَالْعَظِيمَةُ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِيهِ لَا تَصْلُحُ لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ سَقَطَ تَأْدِيبُهُ مُطْلَقًا أَمَّا الْعَظِيمَةُ فَلِعَدَمِ مُوجِبِهَا، وَأَمَّا الْحَقِيرَةُ فَلِعَدَمِ تَأْثِيرِهَا، وَهُوَ بَحْثٌ حَسَنٌ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَالَفَ فِيهِ.
(السَّادِسِ) مِنْ الْفُرُوقِ أَنَّ التَّعْزِيرَ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ مَا عَلِمْت فِي ذَلِكَ خِلَافًا، وَالْحُدُودَ لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ عَلَى الصَّحِيحِ إلَّا الْحِرَابَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] . (سُؤَالٌ) مَفْسَدَةُ الْكُفْرِ أَعْظَمُ الْمَفَاسِدِ وَالْحِرَابَةُ أَعْظَمُ مَفْسَدَةً مِنْ الزِّنَا وَهَاتَانِ الْمَفْسَدَتَانِ الْعَظِيمَتَانِ تَسْقُطَانِ بِالتَّوْبَةِ وَالْمُؤَثِّرُ فِي سُقُوطِ الْأَعْلَى أَوْلَى أَنْ يُؤَثِّرَ فِي سُقُوطِ الْأَدْنَى، وَهُوَ سُؤَالٌ قَوِيٌّ يُقَوِّي قَوْلَ مَنْ يَقُولُ بِسُقُوطِ الْحُدُودِ بِالتَّوْبَةِ قِيَاسًا عَلَى هَذَا الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدِهَا) أَنَّ سُقُوطَ الْقَتْلِ فِي الْكُفْرِ يُرَغِّبُ فِي الْإِسْلَامِ فَإِنْ قُلْتُ: إنَّهُ يَبْعَثُ عَلَى الرِّدَّةِ قُلْتُ الرِّدَّةُ قَلِيلَةٌ فَاعْتُبِرَ جِنْسُ الْكُفْرِ وَغَالِبُهُ. (وَثَانِيهَا) أَنَّ الْكُفْرَ يَقَعُ لِلشُّبُهَاتِ فَيَكُونُ فِيهِ عُذْرٌ عَادِيٌّ، وَلَا يُؤْثِرُ أَحَدٌ أَنْ يَكْفُرَ لِهَوَاهُ قُلْنَا، وَلَا يَزْنِي أَحَدٌ إلَّا لِهَوَاهُ فَنَاسَبَ التَّغْلِيظَ. (وَثَالِثِهَا) أَنَّ الْكُفْرَ لَا يَتَكَرَّرُ غَالِبًا وَجِنَايَاتُ الْحُدُودِ تُكَرَّرُ غَالِبًا فَلَوْ أَسْقَطْنَاهَا بِالتَّوْبَةِ ذَهَبَتْ مَعَ تَكَرُّرِهَا مَجَّانًا وَتَجَرَّأَ عَلَيْهَا النَّاسُ فِي اتِّبَاعِ أَهْوِيَتِهِمْ أَكْثَرَ، وَأَمَّا الْحِرَابَةُ فَلِأَنَّا لَا نُسْقِطُهَا إلَّا إذَا لَمْ نَتَحَقَّقْ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَالْجِهَةِ وَالْمَكَانِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَشَوِيَّةِ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ اسْتِحَالَةُ جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَفِي تَكْفِيرِ الْحَشَوِيَّةِ بِذَلِكَ قَوْلَانِ وَالصَّحِيحُ عَدَمُ التَّكْفِيرِ.
وَأَمَّا سَلْبُ الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ تَجْوِيزِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُسْتَحِيلَاتِ كَالْجِهَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ أَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ الَّذِي هُوَ الْجِسْمِيَّةُ وَنَحْوُهَا فِيهِ عُذْرٌ عَادِيٌّ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَنْشَأُ عُمُرَهُ كُلَّهُ وَهُوَ لَا يُدْرِكُ مَوْجُودًا وَهُوَ جِسْمٌ أَوْ قَائِمٌ بِجِسْمٍ إلَّا فِي جِهَةٍ فَكَانَ هَذَا عُذْرًا عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يُضْطَرَّ الْإِنْسَانُ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ إلَى الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ وَنَحْوِهَا فَكَمْ مِنْ مَوْجُودٍ فِي الْعَالَمِ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ كَالْأَمْلَاكِ وَالْأَفْلَاكِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَالْبِحَارِ فَلَمَّا انْتَفَتْ الشُّبْهَةُ الْمُوجِبَةُ لِلضَّلَالِ انْتَفَى الْعُذْرُ فَلِذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى التَّكْفِيرِ فِي هَذَا الْقِسْمِ، وَاخْتُلِفَ فِي التَّكْفِيرِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ.
(وَالسَّابِعُ) الْجَهْلُ بِقِدَمِ الصِّفَاتِ لَا بِوُجُودِهَا وَتَعَلُّقِهَا كَقَوْلِ الْكَرَّامِيَّةِ بِحُدُوثِ الْإِرَادَةِ وَنَحْوِهَا وَفِي التَّكْفِيرِ بِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلَانِ الصَّحِيحُ عَدَمُ التَّكْفِيرِ.
(وَالثَّامِنُ وَالتَّاسِعُ) الْجَهْلُ بِمَا وَقَعَ أَوْ يَقَعُ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ الصِّفَاتِ وَهُوَ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا كُفْرٌ إجْمَاعًا وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا كَجَهْلِ الْفَلَاسِفَةِ، وَمَنْ تَابَعَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ بِعْثَةَ الرُّسُلِ، وَأَرْسَلَهُمْ لِخَلْقِهِ بِالرَّسَائِلِ الرَّبَّانِيَّةِ وَكَجَهْلِهِمْ بِبِعْثَةِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِحْيَائِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَجَزَائِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ عَلَى التَّفْصِيلِ الْوَارِدِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
(وَثَانِيهِمَا) مَا لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ كَالْجَهْلِ بِخَلْقِ حَيَوَانٍ فِي الْعَالَمِ أَوْ إجْرَاءِ نَهْرٍ أَوْ إمَاتَةِ حَيَوَانٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ نَعَمْ قَدْ يُكَلِّفُ الشَّرْعُ بِمَعْرِفَةِ بَعْضِ الصُّوَرِ مِنْ ذَلِكَ لِأَمْرٍ يَخُصُّ تِلْكَ الصُّورَةَ لَا لِأَنَّ الْجَهْلَ بِهِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
(وَالْعَاشِرُ) الْجَهْلُ بِمَا وَقَعَ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ الصِّفَاتِ وَهُوَ تَعَلُّقُهَا بِإِيجَادِ مَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ لِلْخَلْقِ هَلْ يَجُوزُ هَذَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا فَأَهْلُ الْحَقِّ يُجَوِّزُونَهُ، وَأَنْ يَفْعَلَ لِعِبَادِهِ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهُمْ، وَأَنْ لَا يَفْعَلَهُ كُلُّ ذَلِكَ لَهُ تَعَالَى فَكُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ وَالْخَلَائِقُ دَائِرُونَ بَيْنَ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] .
وَالْمُعْتَزِلَةُ لَا يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ وَيُوجِبُونَ عَلَيْهِ تَعَالَى الصَّلَاحَ وَالْأَصْلَحَ وَفِي تَكْفِيرِهِمْ بِذَلِكَ قَوْلَانِ وَالصَّحِيحُ عَدَمُ تَكْفِيرِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ وَبِتَفْصِيلِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ عَلَى مَا ذَكَرَ تَبَيَّنَ مَا هُوَ كُفْرٌ مِنْهَا مِمَّا لَيْسَ بِكُفْرٍ.
وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجُرْأَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ الْمَجَالُ الصَّعْبُ فِي التَّحْرِيرِ؛ لِأَنَّ مُخَالَفَةَ أَمْرِ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ فِي جَمِيعِ الْمَعَاصِي صَغَائِرِهَا وَكَبَائِرِهَا جُرْأَةٌ عَلَيْهِ كَيْفَ كَانَ فَتَمْيِيزُ مَا هُوَ كُفْرٌ مِنْهَا مُبِيحٌ لِلدَّمِ مُوجِبٌ لِلْخُلُودِ فِي النَّارِ مِمَّا لَيْسَ كَذَلِكَ هُوَ الْمَكَانُ الْحَرِجُ فِي التَّحْرِيرِ وَالْفَتْوَى فَمِنْ هُنَا اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْفَرْقَ بَيْنَ السُّجُودِ لِلشَّجَرَةِ وَالسُّجُودِ لِلْوَالِدِ بِأَنَّ الْأَوَّلَ كَيْفَ يَكُونُ كُفْرًا دُونَ الثَّانِي، وَالسَّاجِدُ فِي الْحَالَيْنِ يَعْتَقِدُ مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَا يَسْتَحِيلُ، وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ التَّشْرِيكَ فِي السُّجُودِ وَهُوَ يَعْتَقِدُ بِذَلِكَ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَالَيْنِ وَقَدْ قَالَتْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] .
وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْكَبِيرَةِ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَفْسَدَةِ وَالنَّهْيِ وَالتَّحْرِيمِ إنَّمَا هُوَ بِعِظَمِ الْمَفْسَدَةِ وَصِغَرِهَا، وَلَمْ يَظْهَرْ عِظَمُهَا هُنَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ عَنْ السُّجُودِ كَانَ مَفْسَدَةً، وَإِنْ أَمَرَ بِهِ كَانَ مَصْلَحَةً؛ لِأَنَّ هَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ الدَّوْرُ؛ لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ حِينَئِذٍ تَكُونُ تَابِعَةً لِلنَّهْيِ مَعَ أَنَّ النَّهْيَ يَتْبَعُ الْمَفْسَدَةَ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَابِعًا لِصَاحِبِهِ فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ، بَلْ الْحَقُّ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ يَتْبَعُهَا النَّهْيُ، وَالنَّهْيَ يَتْبَعُهُ الْعِقَابُ، وَمَا لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ لَا يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَلَا مُعَاقَبًا عَلَيْهِ وَاسْتِقْرَاءُ الشَّرَائِعِ يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ
الْمَفْسَدَةَ بِالْقَتْلِ أَوْ أَخْذِ الْمَالِ أَمَّا مَتَى قَتَلَ قُتِلَ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ الْأَوْلِيَاءُ عَنْ الدَّمِ، وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَجَبَ الْغُرْمُ وَسَقَطَ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ حَدٌّ فِيهِ تَخْيِيرٌ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ مُحَتَّمٌ وَالْمُحَتَّمُ آكَدُ مِنْ الْمُخَيَّرِ فِيهِ.
(السَّابِعِ) أَنَّ التَّخْيِيرَ يَدْخُلُ فِي التَّعَازِيرِ مُطْلَقًا وَلَا يَدْخُلُ فِي الْحُدُودِ إلَّا فِي الْحِرَابَةِ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ فَقَطْ.
(تَنْبِيهٌ) التَّخْيِيرُ فِي الشَّرِيعَةِ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أَشْيَاءَ أَحَدِهَا: الْإِبَاحَةُ الْمُطْلَقَةُ كَالتَّخْيِيرِ بَيْنَ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَتَرْكِهَا. وَثَانِيهَا: الْوَاجِبُ الْمُطْلَقُ كَتَصَرُّفَاتِ الْوُلَاةِ فَمَتَى قُلْنَا الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي صَرْفِ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ فِي أُسَارَى الْعَدُوِّ أَوْ الْمُحَارِبِينَ أَوْ التَّعْزِيرِ فَمَعْنَاهُ أَنَّ مَا تَعَيَّنَ سَبَبُهُ وَمَصْلَحَتُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ وَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ فَهُوَ أَبَدًا يَنْتَقِلُ مِنْ وَاجِبٍ إلَى وَاجِبٍ كَمَا يَنْتَقِلُ الْمُكَفِّرُ فِي كَفَّارَةِ الْحِنْثِ مِنْ وَاجِبٍ إلَى وَاجِبٍ غَيْرَ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ يَهْوَاهُ فِي التَّكْفِيرِ، وَالْإِمَامُ يَتَحَتَّمُ فِي حَقِّهِ مَا أَدَّتْ الْمَصْلَحَةُ إلَيْهِ لَا أَنَّ هَاهُنَا إبَاحَةٌ أَلْبَتَّةَ، وَلَا أَنَّهُ يَحْكُمُ فِي التَّعَازِيرِ بِهَوَاهُ وَإِرَادَتِهِ كَيْفَ خَطَرَ لَهُ، وَلَهُ أَنْ يَعْرِضَ عَمَّا شَاءَ وَيَقْبَلَ مِنْهَا مَا شَاءَ هَذَا فُسُوقٌ وَخِلَافُ الْإِجْمَاعِ بَلْ الصَّوَابُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَثَالِثِهَا تَخْيِيرُ السَّاعِي بَيْنَ أَخْذِ أَرْبَعِ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسِ بَنَاتِ لَبُونٍ فِي صَدَقَةِ الْإِبِلِ فَإِنَّ الْإِمَامَ هَاهُنَا يَتَخَيَّرُ كَمَا يَتَخَيَّرُ الْمُكَفِّرُ فِي كَفَّارَةِ الْحِنْثِ غَيْرَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ هَذَا تَخْيِيرٌ أَدَّتْ إلَيْهِ الْأَحْكَامُ وَفِي الْحِنْثِ تَخْيِيرٌ مُتَأَصِّلٌ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ التَّخْيِيرَاتِ.
(الثَّامِنِ) أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ مَعَهُ، وَالْجِنَايَةُ وَالْحُدُودُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ فَاعِلِهَا فَلَا بُدَّ فِي التَّعْزِيرِ مِنْ اعْتِبَارِ مِقْدَارِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
عَمَّا فِيهِ مَفْسَدَةٌ وَعَدَمُ النَّهْيِ عَمَّا لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ السَّرِقَةَ لَمَّا كَانَ فِيهَا ضَيَاعُ الْمَالِ نَهَى عَنْهَا، وَأَنَّ الْقَتْلَ لَمَّا كَانَ فِيهِ فَوَاتُ الْحَيَاةِ نَهَى عَنْهُ، وَأَنَّ الزِّنَا لَمَّا كَانَ فِيهِ اخْتِلَاطُ الْأَنْسَابِ نَهَى عَنْهُ، وَأَنَّ الْخَمْرَ لَمَّا كَانَ فِيهِ ذَهَابُ الْعُقُولِ نَهَى عَنْهُ وَأَنَّ الْعَصِيرَ لَمَّا كَانَ لَا يُفْسِدُ الْعَقْلَ لَمْ يَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَأَنَّ الْخَمْرَ إذَا صَارَ خَلًّا انْتَفَى عَنْهُ فَسَادُ الْعَقْلِ فَذَهَبَ عَنْهُ النَّهْيُ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمَفَاسِدَ وَالْمَصَالِحَ سَابِقَةٌ عَلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَأَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ تَابِعٌ لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَمَا فِيهِ مَفْسَدَةٌ يَنْهَى عَنْهُ فَإِذَا فَعَلَ حَصَلَ الْعِقَابُ وَمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ أَمَرَ بِهِ فَإِذَا فَعَلَ حَصَلَ الثَّوَابُ فَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ فِي الرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ، وَالْمَفْسَدَةُ وَالْمَصْلَحَةُ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى فَلَوْ عَلَّلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَزِمَ تَقَدُّمُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ بِرُتْبَتَيْنِ فَقَوْلُ الْأَغْبِيَاءِ مِنْ الطَّلَبَةِ مَصْلَحَةُ هَذَا الْأَمْرِ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهِ غَلَطٌ.
وَحَيْثُ عَلِمْتَ ذَلِكَ فَالطَّرِيقُ الْمُحَصِّلُ لِلْحَدِّ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ أَعْلَى رُتَبِ الْكَبَائِرِ مِنْ أَدْنَى رُتَبِ الْكُفْرِ هُوَ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ حِفْظِ فَتَاوَى الْمُتَقَدِّمِينَ الْمُقْتَدَى بِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ وَيَنْظُرَ مَا وَقَعَ لَهُ مِنْ النَّوَازِلِ هَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا أَفْتَوْا فِيهِ بِالْكُفْرِ أَوْ مِنْ جِنْسِ مَا أَفْتَوْا فِيهِ بِعَدَمِ الْكُفْرِ فَيُلْحِقَهُ بَعْدَ إمْعَانِ النَّظَرِ وَجَوْدَةِ الْفِكْرِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ أَوْ وَقَعَتْ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ لِقُصُورِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّوَقُّفُ، وَلَا يُفْتِي بِشَيْءٍ فَهَذَا هُوَ الضَّابِطُ لِهَذَا الْبَابِ.
وَيُوَضِّحُهُ ثَلَاثُ مَسَائِلَ. (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) أَنَّ السُّجُودَ لِلشَّجَرَةِ إنَّمَا اقْتَضَى الْكُفْرَ دُونَ السُّجُودِ لِلْوَالِدِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي نَعْلَمُهَا مَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ دُونَ السُّجُودِ لِلْوَالِدِ إذْ الشَّجَرَةُ لَيْسَتْ مِنْ الْمَقْصُودِ بِالتَّعْظِيمِ شَرْعًا وَقَدْ عُبِدَتْ مُدَّةً بِخِلَافِ الْوَالِدِ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَقْصُودِ بِالتَّعْظِيمِ شَرْعًا، وَلَمْ يُعْبَدْ مُدَّةً وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَسَجَدُوا لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ قِبْلَةً عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَلْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّعْظِيمِ بِذَلِكَ السُّجُودِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ هُنَالِكَ بِمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ الْكُفْرِ، وَلَا أَنَّهُ أَبَاحَ الْكُفْرَ لِأَجْلِ آدَمَ، وَلَا أَنَّ فِي السُّجُودِ لِآدَمَ مَفْسَدَةً تَقْتَضِي كُفْرًا، لَوْ فَعَلَ مِنْ أَمْرِ غَيْرِ رَبِّهِ فَافْهَمْ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) قَالَ الْأَصْلُ: اتَّفَقَ النَّاسُ فِيمَا عَلِمْتُ عَلَى تَكْفِيرِ إبْلِيسَ بِقَضِيَّتِهِ مَعَ آدَمَ عليه السلام، وَلَيْسَ مُدْرَكُ الْكُفْرِ فِيهَا الِامْتِنَاعَ مِنْ السُّجُودِ، وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ مَنْ أُمِرَ بِالسُّجُودِ فَامْتَنَعَ مِنْهُ كَافِرًا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَلَا كَانَ كُفْرُهُ لِكَوْنِهِ حَسَدَ آدَمَ عَلَى مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ حَاسِدٍ كَافِرًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَا كَانَ كُفْرُهُ لِعِصْيَانِهِ وَفُسُوقِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عِصْيَانٌ وَفُسُوقٌ، وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ عَاصٍ وَفَاسِقٍ كَافِرًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَقَدْ أَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ مُدْرَكَ كُفْرِهِ فِيهَا إنَّمَا هُوَ بِنِسْبَةِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى الْجَوْرِ وَالتَّصَرُّفِ الَّذِي لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ كَمَا ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْ فَحْوَى قَوْلِهِ {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] ، وَمُرَادُهُ أَنَّ إلْزَامَ الْعَظِيمِ الْجَلِيلِ بِالسُّجُودِ لِلْحَقِيرِ مِنْ التَّصَرُّفِ الرَّدِيءِ وَالْجَوْرِ وَالظُّلْمِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ نَسَبَ اللَّهَ تَعَالَى لِذَلِكَ فَقَدْ كَفَرَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْجُرْأَةِ الْعَظِيمَةِ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) قَالَ الْأَصْلُ: أَطْلَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُمْ الْكُفْرَ عَلَى السَّاحِرِ وَأَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا قَرِيبٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ غَيْرَ أَنَّهُ عِنْدَ الْفُتْيَا فِي جُزْئِيَّاتِ الْوَقَائِعِ يَقَعُ فِيهِ الْغَلَطُ الْعَظِيمُ الْمُؤَدِّي إلَى هَلَاكِ الْمُفْتِي، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قِيلَ لِلْفَقِيهِ مَا هُوَ السِّحْرُ، وَمَا حَقِيقَتُهُ حَتَّى يُقْضَى بِوُجُودِهِ عَلَى كُفْرِ فَاعِلِيهِ يَعْسُرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ جِدًّا فَإِنَّكَ إذَا قُلْتُ: لَهُ السِّحْرُ
الْجِنَايَةِ وَالْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ.
(التَّاسِعِ) أَنَّ التَّعْزِيرَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ فَرُبَّ تَعْزِيرٍ فِي بِلَادٍ يَكُونُ إكْرَامًا فِي بَلَدٍ آخَرَ كَقَلْعِ الطَّيْلَسَانِ بِمِصْرَ تَعْزِيرٌ وَفِي الشَّامِ إكْرَامٌ وَكَشْفُ الرَّأْسِ عِنْدَ الْأَنْدَلُسِ لَيْسَ هَوَانًا وَبِالْعِرَاقِ، وَمِصْرَ هَوَانٌ. (الْعَاشِرِ) أَنَّهُ يَتَنَوَّعُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الصِّرْفِ كَالْجِنَايَةِ عَلَى الصَّحَابَةِ أَوْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِلَى حَقِّ الْعَبْدِ الصِّرْفِ كَشَتْمِ زَيْدٍ وَنَحْوِهِ، وَالْحُدُودُ لَا يَتَنَوَّعُ مِنْهَا حَدٌّ بَلْ الْكُلُّ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى إلَّا الْقَذْفَ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ إمَّا أَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ حَدًّا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَتَارَةً يَكُونُ حَقًّا لِآدَمِيٍّ فَلَا يُوجَدُ أَلْبَتَّةَ.
(الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِتْلَافِ بِالصِّيَالِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِتْلَافِ بِغَيْرِهِ) اعْلَمْ أَنَّ الصِّيَالَ يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مِنْ إسْقَاطِ اعْتِبَارِ إتْلَافِهِ بِسَبَبِ عِدَاهُ وَعُدْوَانِهِ وَيَقْوَى الضَّمَانُ فِي غَيْرِهِ عَلَى مُتْلِفِهِ لِعَدَمِ الْمُسْقِطِ، وَلَهُ خَصِيصَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ السَّاكِتَ عَنْ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى يُقْتَلَ لَا يُعَدُّ آثِمًا، وَلَا قَاتِلًا لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ لَوْ مَنَعَ مِنْ نَفْسِهِ طَعَامَهَا وَشَرَابَهَا حَتَّى مَاتَ فَإِنَّهُ آثِمٌ قَاتِلٌ لِنَفْسِهِ، وَلَوْ لَمْ يَمْنَعْ عَنْهَا الصَّائِلَ مِنْ الْآدَمِيِّينَ لَمْ يَأْثَمْ بِذَلِكَ وَبَسْطُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ أَوْ غَيْرَهُ صَالَ فَدَفَعَ عَنْ مَعْصُومٍ مِنْ نَفْسٍ أَوْ بُضْعٍ أَوْ مَالٍ دَفْعًا لَا يَقْصِدُ قَتْلَهُ بَلْ الدَّفْعَ خَاصَّةً، وَإِنْ أَدَّى إلَى الْقَتْلِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِالْقَتْلِ فَيَقْصِدُ قَتْلَهُ ابْتِدَاءً لِتَعَيُّنِهِ طَرِيقًا إلَى الدَّفْعِ فَمَنْ خَشِيَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَدَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَهُوَ هَدَرٌ لَا يُضْمَنُ حَتَّى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَكَذَلِكَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَالرُّقَى وَالْخَوَاصُّ وَالسِّيمْيَا وَالْهِيمْيَا وَقُوَى النُّفُوسِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَكُلُّهَا سِحْرٌ أَوْ بَعْضُ هَذِهِ الْأُمُورِ سِحْرٌ وَبَعْضُهَا لَيْسَ بِسِحْرٍ فَإِنْ قَالَ الْكُلُّ سِحْرٌ يَلْزَمُهُ أَنَّ سُورَةَ الْفَاتِحَةِ سِحْرٌ؛ لِأَنَّهَا رُقْيَةٌ إجْمَاعًا، وَإِنْ قَالَ بَلْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ خَاصِّيَّةٌ تَخْتَصُّ بِهَا فَيُقَالُ بَيِّنْ لَنَا خُصُوصَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَمَا بِهِ تَمْتَازُ وَهَذَا لَا يَكَادُ يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُعْتَرِضِينَ لِلْفُتْيَا، وَأَنَا طُولَ عُمُرِي مَا رَأَيْت مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ فَكَيْفَ يُفْتِي أَحَدٌ بَعْدَ هَذَا بِكُفْرِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ أَوْ بِمُبَاشَرَةِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ سِحْرٌ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ السِّحْرَ مَا هُوَ، وَلَقَدْ وُجِدَ فِي بَعْضِ الْمَدَارِسِ عِنْدَ بَعْضِ الطَّلَبَةِ كُرَّاسَةٌ فِيهَا آيَاتٌ لِلْمَحَبَّةِ وَالْبُغْضِ وَالتَّهَيُّجِ وَالنَّزِيفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي تُسَمِّيهَا الْمَغَارِبَةُ عِلْمَ الْمُخِلَّاتِ فَأَفْتَوْا بِكُفْرِهِ، وَإِخْرَاجِهِ مِنْ الْمَدْرَسَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ سِحْرٌ، وَأَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ وَهَذَا جَهْلٌ عَظِيمٌ، وَإِقْدَامٌ عَلَى شَرِيعَةِ اللَّهِ بِجَهْلٍ وَعَلَى عِبَادِهِ بِالْفَسَادِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ فَاحْذَرْ هَذِهِ الْخُطَّةَ الرَّدِيئَةَ الْمُهْلِكَةَ عِنْدَ اللَّهِ وَسَتَقِفُ فِي الْفَرْقِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا عَلَى الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. اهـ
كَلَامُ الْأَصْلِ وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ إلَى عَدَمِ صِحَّةِ قَوْلِهِ بِالْتِبَاسِ الْكُفْرِ بِالْكَبَائِرِ قَالَ فَإِنَّ قَوْلَهُ أَنَّ النَّهْيَ يَعْتَمِدُ الْمَفَاسِدَ إنْ أَرَادَ الْمَفَاسِدَ بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْكُفْرَ أَعْظَمُ الْمَفَاسِدِ، وَمَا عَدَاهُ مِنْ الْمَعَاصِي تَتَفَاوَتُ رُتْبَتُهُ عَلَى أَنَّهُ كَيْفَ يَلْتَبِسُ بِهَا وَالْكُفْرُ أَمْرٌ اعْتِقَادِيٌّ وَالْكَبَائِرُ أَعْمَالٌ وَلَيْسَتْ بِاعْتِقَادٍ سَوَاءٌ كَانَتْ أَعْمَالٌ قَلْبِيَّةٌ أَوْ بَدَنِيَّةٌ، قَالَ: وَلَيْسَ الْكُفْرُ انْتِهَاكَ حُرْمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ إذْ لَا يَصْدُرُ عَادَةً مِمَّنْ يَدِينُ بِالرُّبُوبِيَّةِ بَلْ يَتَعَذَّرُ عَادَةً مَعَ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْجَهْلِ بِهِ تَعَالَى فَالْكُفْرُ إمَّا الْجَهْلُ بِوُجُودِ الصَّانِعِ أَوْ صِفَاتِهِ خَاصَّةً عِنْدَ مَنْ لَا يُصَحِّحُ الْكُفْرَ، وَإِمَّا الْجَهْلُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ جَحْدُهُ عِنْدَ مَنْ يُصَحِّحُ الْكُفْرَ عِنَادًا قَالَ: وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُجَرَّدَ رَمْيِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ كُفْرٌ بَلْ رَمْيُهُ فِيهَا إنْ كَانَ مَعَ الْجَهْلِ فَالْكُفْرُ هُوَ الْجَهْلُ لَا عَيْنُ رَمْيِهِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ مَعَ التَّكْذِيبِ بِهِ هُوَ كُفْرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ غَيْرُ كُفْرٍ.
وَلَا أَنَّ مُجَرَّدَ السُّجُودِ لِلصَّنَمِ كُفْرٌ بَلْ إنْ كَانَ مَعَ اعْتِقَادِ كَوْنِهِ إلَهًا فَهُوَ كُفْرٌ، وَإِلَّا فَلَا بَلْ يَكُونُ مَعْصِيَةً إنْ كَانَ لِغَيْرِ إكْرَاهٍ وَجَائِزًا إنْ كَانَ لِلْإِكْرَاهِ وَلَا أَنَّ مُجَرَّدَ التَّرَدُّدِ إلَى الْكَنَائِسِ فِي أَعْيَادِهِمْ بِزِيِّ النَّصَارَى، وَمُبَاشَرَةِ أَحْوَالِهِمْ كُفْرٌ بَلْ لَيْسَ هُوَ بِكُفْرٍ إلَّا أَنْ يَعْتَقِدَ مُعْتَقَدَهُمْ قَالَ وَجَحْدُ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ الْمَعْلُومِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كُفْرٌ إنْ كَانَ جَحَدَ بَعْدَ عِلْمِهِ فَيَكُونُ تَكْذِيبًا، وَإِلَّا فَهُوَ جَهْلٌ وَذَلِكَ الْجَهْلُ مَعْصِيَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ بِإِزَالَةِ مِثْلِ هَذَا الْجَهْلِ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكْفِي الِاقْتِصَارُ عَلَى اشْتِرَاطِ شُهْرَةِ ذَلِكَ الْأَمْرِ مِنْ الدِّينِ بَلْ لَا بُدَّ مَعَ اشْتِهَارِ ذَلِكَ مِنْ وُصُولِ ذَلِكَ إلَى هَذَا الشَّخْصِ وَعِلْمِهِ بِهِ فَيَكُونُ إذْ ذَاكَ مُكَذِّبًا لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ فَيَكُونُ بِذَلِكَ كَافِرًا أَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ الْأَمْرَ وَكَانَ مِنْ مَعَالِمِ الدِّينِ الْمُشْتَهِرَةِ فَهُوَ عَاصٍ بِتَرْكِ التَّسَبُّبِ إلَى عِلْمِهِ لَيْسَ بِكَافِرٍ بِذَلِكَ، وَمَا يُفِيدُهُ كَلَامُ الشِّهَابِ مِنْ نَقْصِ شَرْطِ عِلْمِ الشَّخْصِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ الْمُشْتَهَرِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، قَالَ: وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ انْتِهَاكٌ لِحُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا هِيَ جُرْأَةٌ عَلَى مُخَالَفَةٍ تُحْمَلُ عَلَيْهَا الْأَغْرَاضُ وَالشَّهَوَاتُ.
قَالَ وَبِنَاءُ الشَّخْصِ الْكَنَائِسَ لِيَكْفُرَ فِيهَا إنْ كَانَ الِاعْتِقَادُ رُجْحَانَ الْكُفْرِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَهُوَ كُفْرٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لِكَافِرٍ إرَادَةُ التَّقَرُّبِ إلَيْهِ وَالتَّوَدُّدُ لَهُ بِذَلِكَ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ لَا كُفْرٌ وَقَتْلُ الشَّخْصِ نَبِيًّا مَعَ اعْتِقَادِهِ صِحَّةَ رِسَالَتِهِ لِيُمِيتَ شَرِيعَتَهُ لَا يَتَأَتَّى فَرْضُ كَوْنِهِ كُفْرًا إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ الْكُفْرَ عِنَادًا، وَإِشَارَةُ الشَّخْصِ عَلَى مَنْ أَتَى لِيُسْلِمَ عَلَى يَدَيْهِ بِتَأْخِيرِ الْإِسْلَامِ لَا تَكُونُ كُفْرًا إلَّا إنْ كَانَتْ لِاعْتِقَادِهِ رُجْحَانَ الْكُفْرِ أَمَّا إنْ كَانَتْ لِكَوْنِهِ لَا يُرِيدُ لِهَذَا
الْبَهِيمَةُ لِأَنَّهُ نَابَ عَنْ صَاحِبِهَا فِي دَفْعِهَا وَهُوَ سِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ فَإِنَّ الْمُتْلِفَ ابْتِدَاءً لَمْ يَنُبْ عَنْ غَيْرِهِ فِي الْقِيَامِ بِذَلِكَ الْإِتْلَافِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: أَعْظَمُ الْمَدْفُوعِ عَنْهُ النَّفْسُ، وَأَمْرُهُ بِيَدِهِ إنْ شَاءَ أَسْلَمَ نَفْسَهُ أَوْ دَفَعَ عَنْهَا وَيَخْتَلِفُ الْحَالُ فَفِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ الصَّبْرُ أَوْلَى تَقْلِيلًا لَهَا أَوْ هُوَ يَقْصِدُ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ فِتْنَةٍ عَامَّةٍ فَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَإِنْ عَضَّ الصَّائِلُ يَدَك فَنَزَعْتَهَا مِنْ فِيهِ فَقَلَعْتَ أَسْنَانَهُ ضَمِنْتَ دِيَةَ الْأَسْنَانِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ فِعْلِك وَقِيلَ لَا تَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ أَلْجَأَك لِذَلِكَ، وَإِنْ نَظَرَ إلَى حَرَمٍ مِنْ كَوَّةٍ لَمْ يَجُزْ لَك أَنْ تَقْصِدَ عَيْنَهُ أَوْ غَيْرَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا تُدْفَعُ الْمَعْصِيَةُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَفِيهِ الْقَوَدُ إنْ فَعَلْت وَيَجِبُ تَقَدُّمُ الْإِنْذَارِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فِيهِ دَفْعٌ وَمُسْتَنَدُ تَرْكِ الدَّفْعِ عَنْ النَّفْسِ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «كُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ» وَلِقِصَّةِ ابْنَيْ آدَمَ {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ} [المائدة: 27] ثُمَّ قَالَ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [المائدة: 29] وَلَمْ يَدْفَعْهُ عَنْ نَفْسِهِ لَمَّا أَرَادَ قَتْلَهُ وَعَلَى ذَلِكَ اعْتَمَدَ عُثْمَانُ رضي الله عنه عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ؛ وَلِأَنَّهُ تَعَارَضَتْ مَفْسَدَةٌ أَنْ يَقْتُلَ أَوْ يُمَكِّنَ مِنْ الْقَتْلِ، وَالتَّمْكِينُ مِنْ الْمَفْسَدَةِ أَخَفُّ مَفْسَدَةً مِنْ مُبَاشَرَةِ الْمَفْسَدَةِ نَفْسِهَا فَإِذَا تَعَارَضَتَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْمَفْسَدَةِ الدُّنْيَا بِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الْعُلْيَا فَهَذَا أَقْرَبُ الْفُرُوقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَرْكِ دَفْعِ الصَّائِلُ، وَبَيْنَ تَرْكِ الْغِذَاءِ وَالشَّرَابِ حَتَّى يَمُوتَ أَنَّ تَرْكَ الْغِذَاءِ هُوَ السَّبَبُ الْعَامُّ فِي الْمَوْتِ لَمْ يُضِفْ إلَيْهِ غَيْرَهُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُضَافَ فِعْلُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الشَّخْصِ الْإِسْلَامَ لِحِقْدٍ لَهُ عَلَيْهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَعْتَقِدَ الْمُشِيرُ رُجْحَانَ الْكُفْرِ فَلَا تَكُونُ كُفْرًا قَالَ وَيُوَافِقُ قَوْلُنَا فِي مَسْأَلَةِ الْإِشَارَةِ بِتَأْخِيرِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِكُفْرٍ مِنْ أَنَّهُ جِهَةٌ لَمْ يُشِرْ بِذَلِكَ عَلَيْهِ إلَّا لِقَصْدِ إثْبَاتِهِ لَا لِاعْتِقَادِهِ رُجْحَانَ الْكُفْرِ قَوْلَ شِهَابِ الدِّينِ، وَلَا يَنْدَرِجُ فِي إرَادَةِ الْكُفْرِ الدُّعَاءُ بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ عَلَى مَنْ تُعَادِيهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ إرَادَةُ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا فِيهِ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ إذَايَةُ الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: وَلَيْسَ مِنْهُ أَيْضًا اخْتِيَارُ الْإِمَامِ عَقْدَ الْجِزْيَةِ عَلَى الْأُسَارَى الْمُوجِبِ لِاسْتِمْرَارِ الْكُفْرِ فِي قُلُوبِهِمْ عَلَى الْقَتْلِ إلَى قَوْلِهِ وَقَعَ بِالْعَرَضِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ اسْتِبْقَاءَ الْأُسَارَى وَضَرْبَ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ لَا يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ إيثَارٌ لِاسْتِمْرَارِ الْكُفْرِ وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كُفْرًا وَأَمَّا مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ مَأْمُورٌ بِهِ عِنْدَ تَعَيُّنِ مُقْتَضِيهِ فَنَقُولُ كَذَلِكَ يَكُونُ لَوْ تَعَيَّنَ الْمُقْتَضِي، وَمَتَى يَتَعَيَّنُ عِنْدَنَا وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ مَا عَاقِبَةُ أَمْرِ الْأَسِيرِ.
قَالَ: وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ السَّاجِدِ لِلشَّجَرَةِ وَالسَّاجِدِ لِلْوَالِدِ إنْ سَجَدَ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ الْمَسْجُودَ لَهُ شَرِيكٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كُفْرٌ، وَإِنْ سَجَدَ لَا مَعَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ بَلْ تَعْظِيمًا عَارِيًّا عَنْ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ لَا كُفْرٌ، وَإِنْ سَجَدَ السَّاجِدُ لِلشَّجَرَةِ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ شَرِيكٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَسَجَدَ السَّاجِدُ لِلْوَالِدِ لَا مَعَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ بَلْ تَعْظِيمًا فَالْأَوَّلُ كُفْرٌ وَالثَّانِي مَعْصِيَةٌ غَيْرُ كُفْرٍ أَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ فَبِالْعَكْسِ.
وَأَمَّا إذَا قُلْنَا إنَّ مُجَرَّدَ السُّجُودِ لِلشَّجَرَةِ كُفْرٌ؛ لِأَنَّهَا عُبِدَتْ مُدَّةً، وَمُجَرَّدَ السُّجُودِ لِلْوَالِدِ لَيْسَ بِكُفْرٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْبَدْ مُدَّةً قَالَ: ذَلِكَ يَفْتَقِرُ إلَى تَوْقِيفٍ قَالَ، وَمَعْنَى تَبَعِيَّةِ الْأَمْرِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ الْوَاجِبِ مَثَلًا لِمَصْلَحَتِهِ وَالْمُرَادُ بِهَا أَنَّهُ لَوْلَا الْقَصْدُ إلَى حُصُولِ الْمَصْلَحَةِ مَا شُرِعَ، وَمَعْنَى تَبَعِيَّةِ الْمَصْلَحَةِ لِلْأَوَامِرِ وَالْمُرَادُ بِهَا أَنَّهُ لَوْلَا شَرْعِيَّةُ الْأَمْرِ الْبَاعِثِ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ مَا حَصَلَتْ فَالْمَأْمُورُ بِهِ تَابِعٌ لِلْمَصْلَحَةِ وُجُوبًا، وَالْمَصْلَحَةُ تَابِعَةٌ لَهُ وُجُودًا وَحِينَئِذٍ فَلَا غَرْوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ تَابِعًا لِلْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ وَيَكُونَ الْآخَرُ تَابِعًا لَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ كَمَا أَنَّ الشَّجَرَةَ تَابِعَةٌ لِلثَّمَرَةِ وُجُوبًا أَيْ لَوْلَا الْقَصْدُ إلَى تَحْصِيلِ الثَّمَرَةِ مَا زُرِعَتْ الشَّجَرَةُ وَالثَّمَرَةُ تَابِعَةٌ لِلشَّجَرَةِ وُجُودًا أَيْ لَوْلَا زَرْعُ الشَّجَرَةِ مَا حَصَلَتْ الثَّمَرَةُ فَصَحَّ مَا قَالَهُ الْأَغْبِيَاءُ مِنْ الطَّلَبَةِ مِنْ أَنَّ الثَّوَابَ هِيَ الْمَصْلَحَةُ وَهِيَ تَابِعَةٌ وُجُودَ الْفِعْلِ الْوَاجِبِ وَفِعْلُ الْوَاجِبِ تَابِعٌ وُجُوبًا بِالتَّحَيُّلِ الْمَصْلَحَةَ، وَبَطَلَ مَا ادَّعَاهُ الشِّهَابُ مِنْ الدَّوْرِ الْمُمْتَنِعِ، وَإِنَّمَا الْمُوجِبُ لِتَوَهُّمِهِ هُوَ الْغَفْلَةُ عَنْ تَغَايُرِ جِهَتَيْ التَّبَعِيَّةِ فَانْزَاحَ الْإِشْكَالُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ذِي الْمَنِّ وَالْأَفْضَالِ قَالَ وَكَلَامُ الشِّهَابِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَقْسَامِ الْجَهْلِ الْعَشَرَةِ يَقْتَضِي الْجَزْمَ بِأَنَّ هُنَاكَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الصَّنْعَةُ لَكِنَّنَا لَا نَعْلَمُهَا فَإِنْ أَرَادَ أَنَّا لَا نَعْلَمُهَا لَا جُمْلَةً، وَلَا تَفْصِيلًا فَقَدْ تَنَاقَضَ كَلَامُهُ فَإِنَّ مَسَاقَ كَلَامِهِ يَقْتَضِي الْجَزْمَ بِثُبُوتِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْلَمُهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّا لَا نَعْلَمُهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، وَإِنْ عَلِمْنَاهَا عَلَى الْجُمْلَةِ كَانَ قَوْلُهُ ذَلِكَ دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَقَوْلُهُ عليه السلام لَا أُحْصِي إلَخْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ لَا أَسْتَطِيعُ الْمُدَاوَمَةَ وَالِاسْتِمْرَارَ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَيْك لِلْقَوَاطِعِ عَنْ ذَلِكَ بِكَالنَّوْمِ وَشِبْهِهِ قَوْلُ الصِّدِّيقِ الْعَجْزُ إلَخْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الْعَجْزَ عَنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى جَمِيعِ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ تَعَالَى اطِّلَاعٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْمَرْبُوبِ وَالْمَالِكِ وَالْمَمْلُوكِ وَالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَذَلِكَ هُوَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ وَصَحِيحُ الْإِيقَانِ.
قَالَ: وَهَذَا الْمَقَامُ مِمَّا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَضِي كَلَامُهُ أَنَّهُ لَا صِفَةَ وَرَاءَ مَا عَلِمْنَاهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَضِي كَلَامُهُ أَنَّ هُنَاكَ صِفَاتٌ لَا نَعْلَمُهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَضِي كَلَامُهُ الْوَقْفَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ بِإِزَالَةِ هَذَا الْجَهْلِ، وَلَا مُؤَاخَذَةَ
الصَّائِلِ لِلتَّمْكِينِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَرْكِ الْغِذَاءِ أَنَّهُ يَحْرُمُ وَبَيْنَ تَرْكِ الدَّوَاءِ فَلَا يَحْرُمُ أَنَّ الدَّوَاءَ غَيْرُ مُنْضَبِطِ النَّفْعِ فَقَدْ يُفِيدُ وَقَدْ لَا يُفِيدُ وَالْغِذَاءُ ضَرُورِيُّ النَّفْعِ، وَوَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْفَحْلَ الصَّائِلَ وَالْمَجْنُونَ وَالصَّغِيرَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُبَاحُ لَهُ الدَّفْعُ وَيَضْمَنُ وَاتَّفَقُوا إذَا كَانَ آدَمِيًّا بَالِغًا عَاقِلًا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ. لَنَا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الضَّمَانِ. الثَّانِي الْقِيَاسُ عَلَى الْآدَمِيِّ. الثَّالِثُ الْقِيَاسُ عَلَى الدَّابَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْأَذَى أَنَّهَا تَقْتُلُ، وَلَا تُضْمَنُ إجْمَاعًا، وَلَا يَلْزَمُنَا إذَا غَصَبَهُ فَصَالَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ هُنَالِكَ بِالْغَصْبِ لَا بِالدَّفْعِ، وَإِلَّا إذَا اُضْطُرَّ لَهُ لِجُوعٍ فَأَكَلَهُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْجُوعَ الْقَاتِلَ فِي نَفْسِ الْجَامِعِ لَا فِي نَفْسِ الصَّائِلِ وَالْقَتْلُ بِالصِّيَالِ مِنْ جِهَةِ الصَّائِلِ احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ الْأَوَّلِ أَنَّ مُدْرِكَ عَدَمِ الضَّمَانِ إنَّمَا هُوَ إذْنُ الْمَالِكِ لَا جَوَازُ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي قَتْلِ عَبْدِهِ لَمْ يَضْمَنْ، وَلَوْ أَكَلَهُ لِمَجَاعَةٍ ضَمِنَهُ. الثَّانِي أَنَّ الْآدَمِيَّ لَهُ قَصْدٌ وَاخْتِيَارٌ فَلِذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ وَالْبَهِيمَةُ لَا اخْتِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فَطَرَحَ إنْسَانٌ نَفْسَهُ فِيهَا لَمْ يَضْمَنْهُ، وَلَوْ طَرَحَتْ بَهِيمَةٌ نَفْسَهَا فِيهَا ضُمِنَتْ وَجِنَايَةُ الْعَبْدِ تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ وَجِنَايَةُ الْبَهِيمَةِ لَا تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهَا. الثَّالِثُ قَوْلُهُ عليه السلام «جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ» فَلَوْ لَمْ يَضْمَنْ لَمْ يَكُنْ جُبَارًا كَالْآدَمِيِّ وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الضَّمَانَ يَتَوَقَّفُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْفِعْلِ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّيْدَ إذَا صَالَ عَلَى مُحْرِمٍ لَمْ يَضْمَنْهُ أَوْ صَالَ عَلَى الْعَبْدِ سَيِّدُهُ فَقَتَلَهُ الْعَبْدُ أَوْ الْأَبُ عَلَى ابْنِهِ فَقَتَلَهُ ابْنُهُ لَا يَضْمَنُونَ لِجَوَازِ الْفِعْلِ وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْبَهِيمَةَ لَهَا اخْتِيَارٌ اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ لَوْ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
بِبَقَائِهِ كَمَا قَالَ الشِّهَابُ قَالَ وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثَيْنِ عَلَى مَا نَقَلَهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي عَنْ شِفَاءِ عِيَاضٍ نَظَرٌ فَإِنَّهُ مَوْضِعُ قَطْعٍ لَا يَكْفِي فِي مِثْلِهِ الظَّوَاهِرُ مَعَ تَعَيُّنِ التَّأْوِيلِ فِي الْحَدِيثَيْنِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِّي بِنَفْيِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى تَارَةً قَادِرًا أَوْ تَارَةً غَيْرَ قَادِرٍ وَلَيْسَ ظَاهِرُهُ نَفْيَ أَنَّهُ قَادِرٌ بِقُدْرَةٍ وَكَذَلِكَ ظَاهِرُ حَدِيثِ السَّوْدَاءِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُسْتَقِرٌّ فِي السَّمَاءِ اسْتِقْرَارَ الْأَجْسَامِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُجْمَعٍ عَلَى أَنَّهُ كُفْرٌ إلَّا أَنَّهُ بَاطِلٌ قَطْعًا لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ أَقَرَّهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ فَتَعَيَّنَ التَّأْوِيلُ هُنَا؛ لِأَنَّ إقْرَارَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْبَاطِلِ لَا يَجُوزُ، قَالَ، وَمَا قَالَهُ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ صَحِيحٌ وَكَذَا مَا قَالَهُ فِي الْقِسْمِ الرَّابِعِ غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ بَاقٍ بِغَيْرِ بَقَاءٍ لَمْ يُرِدْ مَنْ عَبَّرَ بِهِ ظَاهِرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّنَاقُضِ بَلْ مُرَادُهُ أَنَّ الْبَقَاءَ لَيْسَ بِصِفَةٍ ثُبُوتِيَّةٍ، وَمَا قَالَهُ فِي الْقِسْمِ الْخَامِسِ صَحِيحٌ وَكَذَا مَا قَالَهُ فِي السَّادِسِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ الْأَوْلَى لَهُ إبْدَالَ قَوْلِهِ جَهْلٌ يَتَعَلَّقُ بِالذَّاتِ بِقَوْلِهِ جَهْلٌ بِالصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ، وَأَنْ يَحْذِفَ قَوْلَهُ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِوُجُودِهَا فَإِنَّهُ فِي كَلَامِهِ كَالْمُتَنَاقِضِ مَعَ أَنَّ الْجَهْلَ بِسَلْبِ الْجِسْمِيَّةِ لَيْسَ مَذْهَبَ الْحَشَوِيَّةِ بَلْ مَذْهَبُهُمْ إثْبَاتُ الْجِسْمِيَّةِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا إلَّا أَنْ يُطْلِقَ عَلَى كُلِّ مَذْهَبٍ بَاطِلٍ أَنَّهُ جَهْلٌ فَذَلِكَ لَهُ وَجْهٌ، وَمَا قَالَهُ فِي الْقِسْمِ السَّابِعِ صَحِيحٌ، وَكَذَا مَا قَالَهُ فِي الثَّامِنِ.
لَكِنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْجَهْلِ عَلَى الْمَذْهَبِ الْبَاطِلِ لَا عَلَى خُصُوصِ مَذْهَبِ الْفَلَاسِفَةِ، وَإِلَّا فَمَذْهَبُهُمْ الْجَزْمُ بِأَنْ لَا بَعْثَةَ لِلْأَجْسَامِ وَالْجَهْلُ فِي التَّاسِعِ إنْ أَرَادَ بِهِ الْجَهْلَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ شَيْئًا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الْمَوْجُودَاتِ الْمَعْلُومِ وُجُودُهَا فَذَلِكَ كُفْرٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْجَهْلَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ حَيَوَانًا لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ فَذَلِكَ لَيْسَ بِكُفْرٍ، وَلَا مَعْصِيَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِرَاجِعٍ إلَى الْجَهْلِ لِتَعَلُّقِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ بَلْ بِوُجُودِ هَذَا الْمُتَعَلِّقِ وَبَعْضِ الصُّوَرِ الَّتِي قَدْ يُكَلِّفُ الشَّرْعُ بِمَعْرِفَتِهَا مِنْ ذَلِكَ لِأَمْرٍ يَخُصُّهَا إنْ أَرَادَ بِهَا مِثْلَ السِّحْرِ الَّذِي يَكْفُرُ بِهِ فَذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا أَدْرِي مَا أَرَادَ، وَمَا قَالَهُ فِي الْعَاشِرِ نَقْلٌ وَتَرْجِيحٌ، وَمَا قَالَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجُرْأَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ التَّكْفِيرَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِقَاطِعٍ سَمْعِيٍّ، وَمَا ذَكَرَهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا مُعَوَّلَ عَلَيْهِ، وَلَا مُسْتَنَدَ فِيهِ فَمَا قَالَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى جَوَابًا عَمَّا اسْتَشْكَلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ كَوْنِ السُّجُودِ لِلشَّجَرَةِ كُفْرًا وَالسُّجُودِ لِلْوَالِدِ لَيْسَ بِكُفْرٍ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى تَوْقِيفٍ وَتَقَدَّمَ مَا يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ فَلَا تَغْفُلْ، وَمَا قَالَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ لُزُومِ الْكُفْرِ لِكُلِّ مُمْتَنِعٍ مِنْ السُّجُودِ وَلِكُلِّ حَاسِدٍ وَلِكُلِّ عَاصٍ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْنَعُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ تَعَالَى حَسَدًا مَا وَامْتِنَاعًا وَعِصْيَانًا مَا دُونَ سَائِرِ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ كُفْرًا إذْ كَوْنُ أَمْرٍ مَا كُفْرًا أَوْ غَيْرَ كُفْرٍ أَمْرٌ وَضْعِيٌّ وَضَعَهُ الشَّارِعُ لِذَلِكَ فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ كُفْرُهُ لِامْتِنَاعِهِ أَوْ لِحَسَدِهِ، وَمَا قَالَهُ فِي مُدْرَك كُفْرِ إبْلِيسَ فِي قَضِيَّتِهِ مَعَ آدَمَ هُوَ الظَّاهِرُ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ كُفْرُهُ لِامْتِنَاعِهِ أَوْ لِحَسَدِهِ أَوْ لَهُمَا أَوْ مَعَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّجْوِيرِ أَوْ لِلتَّجْوِيرِ خَاصَّةً إذْ لَا مَانِعَ مِنْ عَقْلٍ وَلَا نَقْلٍ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا قَالَهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ صَحِيحٌ لَكِنْ لَا بِمَا عَلَّلَهُ بِهِ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْجُرْأَةِ الْعَظِيمَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ الْجَهْلِ الْعَظِيمِ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ التَّصَرُّفِ الرَّدِيءِ وَالْجَوْرِ وَالظُّلْمِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّهِ عَقْلًا وَسَمْعًا، وَمَا قَالَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ صَحِيحٌ إنْ كَانَ مَا بَنَى عَلَيْهِ كَلَامَهُ صَحِيحًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ كَلَامُهُ مُلَخَّصًا. قُلْتُ: وَمُرَادُهُ بِمَا بَنَى عَلَيْهِ كَلَامَهُ قَوْلُهُ فَإِنْ قَالَ الْكُلُّ سِحْرٌ يَلْزَمُهُ أَنَّ سُورَةَ الْفَاتِحَةِ سِحْرٌ وَقَدْ عَلِمْت مِمَّا مَرَّ عَنْهُ أَنَّ هَذَا اللُّزُومَ وَنَحْوَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ إذْ لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا جَعْلُ نَوْعٍ مِنْ الرُّقَى سِحْرًا دُونَ مَا عَدَاهُ بَلْ سَيُصَرِّحُ الْأَصْلُ بِالْفَرْقِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا بِذَلِكَ فَافْهَمْ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ